منذ ثلاث سنوات، عندما انعقد اللقاء الأول من "ثلاثاء شعر"، كان السؤال كبيراً حول مآلات النص الشعري لغة وأسلوباً. ماهو النص الذي نريد؟ وما هي احتمالات إنجازه على مساحات المعجم الحالي؟. كيف يمكن ألا تتشابه القصائد وتقع في أفخاخ الحظر والاتهام "النقدي" والتكفيري؟. في الوقت نفسه كيف يمكن أن تنجو النصوص من التغريب وتقليد الترجمات العالمية التي راحت تستلب الخصوصيات المحلية؟.
للأسف، اللغة العربية أصبحت ضيقةً على الفكر والشعور، ولابد بالتالي من تغييرها وتعديلها ونسفها بعض الأماكن!. تلك العملية لابد أن تتم بكثير من المكاشفة والجرأة وسيادة العقل، بغض النظر عن عناصر الشرطة الكثيرين الذين يستنفرون من أجل حماية هذه اللغة التي تحولت إلى صنم غير قادر على الحركة والإنجاز.
تحطيم المعجم أصبح ضرورة للكتابة الإبداعية في كل أنواع الفنون المتصلة باللغة وليس على صعيد الشعر فحسب. وإذا ما تحدثنا عن الفلسفة، فإن الفكر لم يعد بإمكانه القيام بمهام الإصلاح الفكري ومناقشة القضايا بحرية كاملة باللغة نفسها التي ساهمت في تكريس السطوات الكثيرة على العقل وتقييده، فاللغة العربية اليوم جزء من كتيبة العسس التي يمسك أفرادها الهراوات ويقفون على باب الانفعالات والتفكير من أجل ألا يمر من البوابة أي أسلوب جديد أو فكرة مختلفة!. النص الجديد يحتاج عقلاً جديداً وروحاً جديدة وهذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن معجم جديد.
لقد وضع النص الغيبي خاتمة للغة منعت تطورها مثلما وضع خاتمة للرسالات السماوية، وليس بالإمكان اليوم حدوث تطورات جوهرية في الفنون الكتابية إلا عبر نسف المعجم اللغوي وإعادة تركيبه وإغنائه.. هذا التطوير والرفد يمكن أن يتم بالعودة إلى اللغات الأم التي تطورت العربية منها وهي السريانية والآرامية والأوغاريتية وغيرها، فما نقوله عن النسف والتغيير والإضافات مرتبط بالعودة إلى الجذور من أجل التقاط الأنفاس وامتلاك أسباب التطور التي ألغاها النص الديني ولاحقاً النص الاستبدادي، ومحاولة الانطلاق باحتمالات جديدة يحملها المعجم الجديد.. لا نقول إن الأمر سيتم عبر التغريب واستيراد الألفاظ الإنكليزية أو الفرنسية أو حتى استخدام الكلمات العامية ومزجها بالفصحى عندما قال البعض بلغة ثالثة. بل إن العودة إلى اللحظة التي سبقت تشكّل اللغة الحالية غير القادرة على التطور، يمكن أن يعيد فتح الخيارات أمام المعجم من أجل متابعة النمو الطبيعي الذي قُطع منذ 1400 سنة تقريباً، لنرجع إلى قاعدة تطور اللغات تاريخياً مثلما حدث في الأكادية والبابلية والآشورية وصولاً إلى أبجدية أوغاريت.
تاريخياً، يعتبر التطور في اللغات أمراً طبيعياً يرتبط بتطور المجتمعات، وكما أسلفنا فإن اللغات القديمة في سورية الطبيعية قد خضعت لهذا القانون وبالتالي تم اكتشاف أول أبجدية في التاريخ.. المشكلة أن هذه العملية توقفت لاحقاً بسبب سطوة النص الغيبي الذي حسم بقطع الطريق على التطور اللغوي، كأنه بنى جداراً قوياً في وجه اللغة من أجل ألا تنقض عليه مستقبلاً عبر الإبداع والفكر الفلسفي، لذلك لابد من العودة خطوة إلى الوراء من أجل امتلاك أسباب هذا التطور قبل أكثر من 1400 سنة من اليوم، أي قبل دخول الغزوات الإسلامية إلى منطقتنا وقيام النص الديني بالسيطرة على اللغة وإنتاج لغة عصية على التطور، ومتواطئة مع هذا النص بل إنها إحدى أدواته في السيطرة!.
في الفلسفة والفكر السياسي والإصلاح الثقافي والاجتماعي، لم يعد التطور ممكناً دون نسف المعجم اللغوي الذي تواطأ في تجميده النص الغيبي يسانده في ذلك كل عوامل التخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.. ويكفي هنا أن نذكّر بما فعله شكسبير باللغة الإنكليزية عندما أضاف إليها الكثير من المفردات والتعابير والمصطلحات التي أغنتها، فهناك ثلاثة آلاف كلمة وعبارة جديدة وردت للمرة الأولى في أعمال شكسبير ومسرحية هنري الخامس مما يمكن أن يشار إليه في هذا الصدد.. لاشك أن تطوير اللغة يقع على عاتق المبدعين بشكل أساسي وليس من مسؤولية النحويين فقط.
أحاول هنا تقديم ملامح لمشروع بحثي نقدي كبير سيصدر في كتاب قريباً، وتتركز الرؤيا على إمكانية تطوير نص يعود إلى الوراء قليلاً من الناحية اللغوية كي يحيي اللغات القديمة ومنها السريانية والآرامية والأوغاريتية، فيجلب معجماً كاملاً إلى العربية التي نتحدث بها الآن ليصبح هذا المعجم مصدراً للكتابة، والأمر سيتم على خطوات وبالتراكم من قبل كثير من الكتاب والمؤلفين، فنصل إلى مزيج يجمع اللغات القديمة مع عربية اليوم، يمكن تسميته بالمعجم الجديد الذي يفلت من براثن النص الغيبي الثابت وغير القادر على التطور، أي نحصل على (معجم متحرك مقابل نص غيبي ثابت لا يمكنه اللحاق به)، بحيث يكون من أهم ميزات هذا المعجم اللغوي الجديد: التبدل والتغير والاستزادة من خزان اللغات الأمّ القديمة التي تعتبر من أمهات اللغة التي نتحدث بها الآن.. لاشك أن تبديل المعجم وتطويره على هذا النحو وإن كان الأمر سيتم على مراحل، سيربك النص الغيبي الذي يستخدم اللغة من أجل السيطرة على الذهنية والمخيلة، ما يعني إتاحة الفرصة أمام اللغة والشعور والفكر من أجل التطور ومواكبة الثقافات العالمية.. إن المشكلة في أحد أوجهها الخطيرة لغوية بسبب موت المعجم وتحوله إلى جثة هامدة، ومهمة المبدعين اليوم هي شق عصا الطاعة على كل الثقافات الصحراوية التي تمسك أهم الأسلحة بيديها وهي اللغة!.
سيقول البعض إن الجهل باللغات القديمة سيكون عائقاً أمام تطوير من هذا النوع. لكن وجود المراجع بالإضافة إلى دورات اللغات القديمة في معهد اللغات بجامعة دمشق، يمكن أن يتيح لمن يرغب الاستزادة والاطلاع على آفاق لغوية جديدة أعتقد أنه سيفتح الآفاق المختلفة أمام النص الشعري على نحو خاص لأنه محور اهتمامنا العالي. في الوقت نفسه فإن ما نفعله عبر هذه الخطوة ليس إلا الخطوة الأولى التي تعلن انطلاق عملية تغيير المعجم وهي عملية طويلة ومضنية ومليئة بالمطبات والإشكاليات النقدية وربما الاتهامات التي لا مفر من استيعابها إذا أردنا تحمل عبء تغييرٍ بهذا الحجم!.
نعم، مازلنا ومنذ أمد بعيد، نكتب غير ما نلفظ، ولا نجرؤ أن نجهر بما نشعر أو نفكر.. والسبب في جزء كبير منه يرتبط باللغة التي لابد أن تتحطم الآن!.