في أوائل القرن العشرين، كانت بريطانيا تبسط سيطرتها على معظم شبه الجزيرة العربية، في حين كانت مصر لا تزال تحت السيطرة العثمانية. تغير الوضع مع انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة السلطنة العثمانية، وساد الانتداب البريطاني معظم المشرق.
المؤامرة البريطانية التاريخية الأولى في المشرق: اتفاقية سايكس- بيكو
بين نوفمبر 1915 وأيار 1916، عُقدت مفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي "فرنسوا جورج بيكو" والبريطاني "مارك سايكس" (بعِلْم الإمبراطورية الروسية وقتها) بهدف تقسيم دول المشرق إلى مناطق نفوذ لها، ليتم تنفيذها في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي كان واضحاً في حينه، هزيمة السلطنة العثمانية فيها.
تم الكشف عن الاتفاق في أعقاب وصول الشيوعيين إلى الحكم في روسيا عام 1917 على جناحي الثورة البولشفية. لكن بنود الاتفاق لم تُنفّذ إلاّ بعد انتهاء الحرب الأولى، وتم تثبيتها في مؤتمر سان ريمو عام 1920، وأقرت "عصبة الأمم" وثائق الانتداب في 24 حزيران 1922.
تلا ذلك توافق المُنتَدِبين مع تركيا بعد قيام ثورة أتاتورك في إطار "معاهدة لوزان" عام 1923 بالتنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا، مقابل اعتراف تركيا بالانتداب الفرنسي على سوريا.
وهكذا تم ضم المناطق السورية شمال الخط الحديدي بين اسطنبول وبغداد إلى تركيا وتضم: مرسين، طرسوس، قيليقية، أضنة، مرعش، عينتاب، كيليس، البيرة، أورفة، حران، ديار بكر، ماردين، نصيبين، وجزيرة ابن عمر، كما قُسمت مدينتا جرابلس ورأس العين بين تركيا وسوريا. مجموع هذه الأراضي حوالي 18 ألف كلم مربع.
المؤامرة البريطانية التاريخية الثانية في المشرق: دولة قومية للصهيونية العالمية
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، أصبحت بريطانيا الدولة المُنتدِبة في مصر، إضافة إلى الأردن، فلسطين والعراق.
لم تتأخر بريطانيا في وضع أسس المؤامرة المستقبلية الأكبر ضد المشرق، حتى قبل انتهاء تلك الحرب: الإعلان عن دعم بريطانيا لإنشاء "وطن قومي" لليهود على أرض فلسطين التاريخية، والذي عُرف بوعد بلفور. وقد تم توثيق الإعلان في مراحل متتالية، منها مرحلتان موثقتان بالخرائط.
1. في 2 نوفمبر 1917، كُشِف النقاب عن الوعد المشؤوم في رسالة خطية أرسلها آرثر جيمس بلفور إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يؤكد دعم "حكومة الجلالة" إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين:
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح".
2. في 24 نيسان 1920، نشرت الحكومة البريطانية خارطة "الانتداب البريطاني لفلسطين" بالتزامن مع عقد مؤتمر سان ريمو. (الخارطة رقم – 1). هذه الخارطة تقترح أن التفكير الأولي لبريطانيا والحركة الصهيونية هو شمول فلسطين والأردن بوعد بلفور بمساحة تبلغ 120.466 ألف كلم مربع.
خارطة رقم – 1
3. في 23 تموز 1922، ومع نشر الخرائط الرسمية لمعاهدة سايكس- بيكو، نشرت الحكومة البريطانية خارطة جديدة (خارطة رقم – 2)، تظهِر الانتداب البريطاني لفلسطين، لكن هذه المرة بعد فصلها عن الأردن، لتشمل مساحة 28.166 كلم مربع. الفارق الثاني عن الخارطة السابقة هو إطلاق التسمية الصريحة: "فلسطين اليهودية".
خارطة رقم – 2
بعد تلك المراحل التي تُعلِن وتُثبّت تبني بريطانيا لإنشاء "فلسطين اليهودية"، استخدمت بريطانيا وجودها العسكري في فلسطين لتسهيل الخطوات التنفيذية لذلك الإعلان عبر مسارين أساسيين: تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين المُنتَدَبة، وتكوين التنظيمات اليهودية العسكرية مموّهة ضمن القوات البريطانية.
أ. تسهيل هجرة 570 ألف يهودي من أنحاء العالم بين 1922 و1948
سكان فلسطين – عرب ويهود بين 1922 و1948
—————————————————
السنة عرب % عرب يهود % يهود
1922 —— 668258—— 88.8———-83790——- 11.2
1925 —— 725513—— 85.6———-120725—– 14.4
1928 —— 784295—— 83.8———-151656—– 16.2
1931 —— 858708—— 83.1———-174106—– 16.9
1935 —— 952955—— 72.8———-355157—– 27.2
1940 —— 1080995—- 69.9———-463535—– 30.1
1945 —— 1255708—- 68.4———-579227—– 31.6
1948 —— 1508400—- 69.8———-650000—– 30.2
ب. تدريب بعض الميليشيات الصهيونية والتغاضي عن نشاط غيرها:
الفيلق اليهودي في القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى: تألف من خمسة كتائب، مجموع تعدادها 6400 جندي. انضم عدد كبير منهم إلى صفوف الهاغاناه عند تأسيسها.
الهاغاناه: تأسست عام 1920. عملت في داخل فلسطين بين 1921 و1948
الآرغون: انشقت عن الهاغاناه عام 1931.
شتيرن: انشقت عن الآرغون عام 1940
وصل تعداد هذه الميليشيات أكثر من 50.000 مقاتل عام 1947، في ظل الانتداب البريطاني لفلسطين، في الوقت الذي كانت تُقمع فيه انتفاضات وثورات الشعب الفلسطيني احتجاجاً على توسّع الاستيطان اليهودي، من قبل قوات الانتداب بمساعدة تلك الميليشيات.
المؤامرة البريطانية التاريخية الثالثة في المشرق: إنشاء المملكة العربية السعودية
——————————————————————————-
في 15 يناير 1902، بدأ حراك إنشاء الدولة السعودية الثالثة بعد أن نجح الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في احتلال الرياض، ثم شرع في توحيد مناطق نجد وتمكن من إنجاز ذلك في 2 نوفمبر 1921، حين أعلن قيام "سلطنة نجد". حصل كل ذلك بتغاضٍ إذا لم يكن بتسهيل من المندوب السامي البريطاني.
في صيف 1921، أعلن علماء الوهابية مبايعة الأمير على أنه "سلطان نجد"، واعترف المندوب السامي البريطاني بهذه المبايعة للأمير ومن يخلفه من ذريته في 2 سبتمبر 1921.
الملفت هو أن المقاتلين الذين قادهم الأمير عبد العزيز في 1902 كانوا يُعرفون بـ"المجاهدين"، وفي 1911 اندمج هؤلاء مع مقاتلي قبائل أخرى. أُطلق على القوة الجديدة اسم "الإخوان"، ووصل عددهم في 1925 إلى 76.500 مقاتل.
كانت هذه بداية المؤامرة التاريخية الثالثة للاستعمار البريطاني. هؤلاء "الإخوان" كانوا نواة تمدد حكم "سلطان نجد" ليتمكن الأمير عبد العزيز من إتمام احتلال الحجاز ودخول مكة والمدينة، ومن ثم إعلان إنشاء المملكة العربية السعودية في 23 سبتمبر 1932… فأعلن سلطان نجد نفسه "جلالة ملك المملكة العربية السعودية"… طبعاً بمبايعة مشايخ الوهابية ومباركة المندوب السامي البريطاني ورعايته.
وصل حجم قوات "الإخوان" عند إعلان المملكة، ما يزيد على 400.000 مقاتل.
المؤامرة البريطانية التاريخية الرابعة في المشرق: الإخوان المسلمون
———————————————————————
… وأيضاً في تلك الأثناء وبعد أن ثبتت بريطانيا انتدابها في مصر، كانت نشأة تنظيم الإخوان المسلمين في 22 آذار 1928. التشابه في الاسم مع "إخوان" السعودية كان ملفتاً، ويضاف إلى الاسم أيضاً المحتوى العقائدي: العمل على تأسيس الخلافة الإسلامية عن طريق "الجهاد".
"إخوان" السعودية اعتبروا أنهم الفرقة الوحيدة المُحقّة في الإسلام، والباقون – بمن فيهم أصحاب المذاهب السنية الأربعة الذين يشكلون 95% من المسلمين السنة – هي إما مرتدون إلا إذا بايعوا الخليفة الوهابي (ابن سعود)، أو روافض كفرة إذا كانوا من المذهب الشيعي أو مشتقاته. بذلك تكون غزواتهم جهاداً في سبيل الله، وقتل المسلمين الآخرين "واجب" لأنهم يُحَرّفون الإسلام ويُسيئون إليه، ولا يترددون في التعاون مع أعداء الإسلام ضده.
أي إن المسار العقائدي والميداني الذي اتبعه "المجاهدون" ثم "الإخوان" في السعودية لإيصال "خليفة" إلى الحكم في السعودية عام 1932… وكل ذلك برعاية بريطانية عبر مندوبها السامي و"مستشاريها"، هو نفسه المسار والعقيدة التي قال بها الإخوان المسلمون، مع تخفيف النظرة إلى اعتبار المذاهب السنية الأخرى "مرتدة".
وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في أعقاب انتفاضات "الربيع العربي" في تونس، مصر، ليبيا، واليمن كان البرهان القاطع على التشابه والتناغم العقائدي مع فحوى العقيدة الوهابية، إذ تميّزت ممارستهم بالاستئثار وإبعاد القوى الأخرى – حتى الإسلامية منها – عن المشاركة في الحكم، وتعيين معظم المراكز الحساسة في الدولة من الإخوان على حساب الكفاءة.
هذا المسار الاستئثاري في الحكم كان السبب الأساسي في تعثرهم في كل البلدان التي استلموا حكمها وتراجع نفوذهم واصطدامهم العنفي مع القوى الأخرى في تلك البلدان.
صعود القومية العربية – غيبوبة الإسلام السياسي / الجهادي
————————————————————–
تبنّي الاستعمار البريطاني لنشاط الحركة الصهيونية في استحضار المهاجرين اليهود إلى فلسطين كان الدافع القوي لانتشار الفكر القومي العربي الذي تجاوز الأديان، واتخذ هوية مشرقية شاملة.
قيادات الحركات القومية العربية تكونت من رجال دين كبار ومثقفين مسلمين ومسيحيين، وشمل نشاطها العراق، سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن، مصر، اليمن، ودول المغرب العربي الأخرى.
قامت ثورات وحراكات ذات طابع قومي، في وجه الانتدابات الغربية في المنطقة، في الوقت الذي ذهبت القوى الإسلامية التي ابتدعها الاستعمار البريطاني في سبات منهجي، شمل بشكل خاص شبه الجزيرة العربية (ما عدا اليمن)، الأردن، وتنظيم الإخوان المسلمين الذي أظهر عداءً علنياً للوجود البريطاني (لكن مع تنسيق وثيق معه، على الأقل مع عدد من القيادات). لكن موقف الإخوان من الحركات القومية العربية، كان أكثر عدائية وعلنية.
وهكذا استقل العراق عام 1932، لبنان عام 1943، سوريا والأردن عام 1946، وقامت الثورة المصرية عام 1952، وانطلقت الثورة الجزائرية عام 1954 لتُتوّج بالنصر والتحرير من فرنسا عام 1962.
في حين تم تسليم فلسطين لقبضة الميليشيات الصهيونية بعد أن سهّل الانتداب البريطاني هجرة أكثر من نصف مليون يهودي من أوروبا، وانتظمت القوات اليهودية التي كانت تقاتل في صفوف الجيش البريطاني في قوات صهيونية زاد تعدادها على 60.000 جندي في الهاغاناه، إضافة لأكثر من 15 ألف مسلح في عصابات الآرغون وشتيرن وغيرهما.
مع إعلان الكيان الصهيوني عام 1948، قويت شوكة الحركات القومية، وتمكنت خلال عشر سنوات، من انتزاع الحكم في عدد من الدول العربية: مصر، سوريا، العراق، اليمن، والجزائر.
لكن الضرر التاريخي كان قد تجذر:
– تقسيم سوريا الكبرى إلى دول متعددة، وتسليم شمال سوريا إلى تركيا
– زرع بذور عميقة للإسلام المتطرف في السعودية التي أسهمت الثروة النفطية ومردوداتها الهائلة في إعادتها إلى واجهة السياسة العربية خاصة بعد وفاة جمال عبد الناصر
– تحول إسرائيل برعاية غربية إلى قوة عسكرية إقليمية كبيرة تمكنت من هزيمة جيوش مصر، العراق وسوريا في ثلاث حروب كبيرة بين 1948 و1973.
– تبلور تنظيم الإخوان المسلمين إلى قوة في داخل الدول التي تحكمها التنظيمات القومية العربية، وساعدهم في ذلك، عدم تمكن تلك الدول من بلورة حركات جماهيرية واسعة ومتماسكة.
مع انتهاء حرب أكتوبر عام 1973، كان توقيع معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل في 1976 نقطة تحول رئيسية في تاريخ المنطقة، والتي أنذرت ببدء سقوط الحركات القومية العربية، وصعود نجم التطرف الإسلامي من جديد في إطار ورعاية المشروع الغربي.
انطلاقة هذا الحلف الغربي مع الإسلام المتطرف كانت مدوية في رعايته لحركة "المجاهدين" في أفغانستان ضد الدخول السوفياتي (1980 – 1988) ونجاحه في دفع صدام حسين في خوض حرب دامية ضد إيران (1981-1988)، ثم في استخدامه الدول الحاضنة للإسلام المتطرف كمنصة لمهاجمة العراق في 1991 ثم لاجتياحه بالكامل في 2003.
الاحتلال الأميركي– الأطلسي للعراق، فكك بالكامل أحد أقوى الجيوش العربية ذات العقيدة المعادية لإسرائيل، واستخدم التركيبة الديمغرافية للعراق لإطلاق المرحلة التالية من مسار دفن الحراكات القومية العربية، واستغلال الفوالق المذهبية في الإسلام لتفعيل الفتن السنية- الشيعية في كامل المشرق، من خلال دورٍ بارز للحركة الإسلامية المتطرفة التي نمت وتثبتت برعايته: الوهابية، وواجهتها السياسية المتمثلة بحكم آل سعود.
داخل أتون احتلال العراق، تجمّعت قوى التطرف الوهابي وركزت اهتمامها على محاربة الشيعة بدلالة المقولة الشهيرة لأبي مصعب الزرقاوي، المؤسس والأب الروحي لـ"الدولة الإسلامية في العراق":
"عملنا يجب أن يتركز ضد الشيعة، فهكذا نشد عصب أنصارنا، ونضع أهل السنة أمام خيار وحيد: الاحتماء بنا والالتفاف حولنا. وكلما ازداد الشقاق المذهبي، قويت حركتنا".
أوليس هذا الكلام مطابقاً لأدبيات المحافظين الجدد واسرائيل؟ إنها العنصرية والتطرف في كل الأديان، تتوحد في العقيدة التكفيرية، الممارسة العنصرية، والأسلوب اللاإنساني في التعاطي مع باقي البشر.
وهكذا، كبرت كرة التطرف الإسلامي وتعاظمت… لنشهد ما نعيشه اليوم.
لإعطاء المزيد من التفاصيل حول ذلك النشاط البريطاني، نورد مقتطفات من مقدمة كتاب للكاتب البريطاني مارك كيرتس: "عمليات سرية: التواطؤ البريطاني مع الإسلام المتطرف".
ما يتم سرده في تلك المقدمة هو الاستنتاجات المبنية على الوثائق والمراجع الواردة في فصول الكتاب، والتي لا مجال للخوض فيها هنا. المهم هو أن ما يقوله الكاتب في مقدمته ليس مجرد رأي شخصي، إنه وقائع مبنية على حقائق موثقة واردة في كتب ودراسات رسمية تم الكشف عنها بحكم مرور الزمن (كشف كامل عند 50 عاماً وجزئي عند 25 عاماً).
===========================================================
عمليات سرية: التواطؤ البريطاني مع الإسلام المتطرف
Secret Affairs: Britain’s Collusion with Radical Islam
By Mark Curtis – May 2011 (Paperback Mar 2012)
مقتطفات من مقدمة كتاب لـ"مارك كيرتس" – صدر في أيار 2011
ترجمة: د. حافظ الزين، 18 نوفمبر 2015
——————————————————————-
أثناء الانتفاضات الأخيرة في الشرق الأوسط، التي عُرفت بـ"الربيع العربي"، تجاهلت الصحافة الرئيسية ناحية هامة في السياسة الخارجية البريطانية: تواطؤها مع ممثلي الإسلام المتطرف لخدمة أهدافها الاستراتيجية النفطية وغيرها من الأهداف التجارية.
هذه السياسة السائدة منذ زمن طويل، ساهمت ليس فقط في صعود الإسلام المتطرف، لكن أيضاً الإرهاب العالمي الذي تصنّفه استراتيجية الأمن الوطني للحكومة البريطانية كأكبر المخاطر التي تتهدد البلاد.
بريطانيا، مثل دول أخرى كثيرة، تواجه خطر المجموعات الإسلامية المتطرفة. تفجيرات تموز 2005 في لندن التي قتلت 52 شخصاً، كانت أول هجوم ناجح للإسلاميين في بريطانيا، كما حكمت المحاكم البريطانية على 80 شخصاً بتهم التخطيط لقتل مواطنين بريطانيين.
كيف وصلنا إلى هنا؟ لماذا يتحول مواطنون بريطانيون إلى العنف الإرهابي ويتكون لديهم الاستعداد لتفجير أنفسهم؟
عنصريو اليمين عادة يلومون الثقافة الليبرالية وغياب القوانين الصارمة التي تقتلع التطرف، أو يُلقون اللوم على التعددية الحضارية التي منعت تحدي أصحاب الديانات المختلفة.
أما الآخرون، خاصة من اليسار السياسي، فيرون بأن التهديد الإرهابي أوقدت شرارته التدخلات العسكرية البريطانية في العراق وأفغانستان، إضافة للانحياز التام إلى جانب إسرائيل في احتلالها للأراضي الفلسطينية.
هذه بالتأكيد كانت عوامل أساسية: في نيسان 2005. هذا ما قالته اللجنة الأمنية المشتركة في تقرير تم تسريبه في 2006، أن "حرب العراق فاقمت خطر الإرهاب العالمي، وهذا التهديد سيستمر لزمن طويل. الإرهابيون الذين ارتكبوا تلك الاعتداءات ضد الغرب تعزز تصميمهم وقدراتهم، كما حفّزوا آخرين جدد".
هذا التحليل، يؤكّد ما قالته اللجنة في تقارير سابقة بأن مسلمي بريطانيا يعتقدون بأن سياسة بريطانيا الخارجية في أماكن مثل العراق، أفغانستان، كشمير، والشيشان، هي بالطبع "معادية للإسلام".
لكن ما ينقص تلك التقارير هي فكرة مركزية: هل ساهمت بريطانيا بشكل مباشر في صعود هذا الخطر الإرهابي؟ هنا تكمن الحقيقة الصادمة: الحكومات البريطانية، عماليّة أو محافظة، بهدف تأمين ما أسمته "المصلحة العليا"، تواطأت لعقود مع قوى الإسلام المتطرف، بما فيها التنظيمات الإرهابية.
لقد تآمرت معهم، عملت معهم جنباً إلى جنب، وأحياناً دربتهم وموّلتهم، بهدف ترويج أهداف محددة في السياسة الخارجية. الحكومات قامت بذلك في محاولة يائسة للحفاظ على نفوذ بريطانيا الدولي، والذي كان يتآكل في أنحاء عدة من العالم. المسألة في النهاية تتعلق بالنزعة الإمبريالية لبريطانيا وسعيها لنشر نفوذها.
مع بعض تلك القوى الإسلامية المتطرفة، عقدت بريطانيا تحالفات استراتيجية ثابتة لتأمين أهداف محورية طويلة الأمد في سياستها الخارجية. مع آخرين، كانت تقاطع مصالح مؤقت للحصول على مكاسب قصيرة الأمد.
العديد من المراقبين أظهروا كيف ساهمت الولايات المتحدة في نشأة ونمو أسامة بن لادن والقاعدة، لكن دور بريطانيا في رعاية الإرهاب الإسلامي لم يتناوله أحد في حيثيات نشاة هذا الإرهاب.
بعض التقارير المتفرقة التي نُشرت في الصحف الرئيسية تحدثت عن الروابط بين الاستخبارات البريطانية والمسلحين الإسلاميين المقيمين في لندن. بعض هؤلاء يعملون كمخبرين أو عملاء بريطانيين أثناء انخراطهم بالإرهاب في الخارج، وتقوم المخابرات في حمايتهم من ملاحقة أجهزة مخابرات الدول الأخرى.
هكذا نشاط، مع أهميته، ليس سوى جزء صغير من الصورة الكبيرة المتعلقة بالسياسة الخارجية البريطانية. جهاز المخابرات تعامل تاريخياً مع نوعين من الناشطين الإسلاميين، وهذان يتمتعان بعلاقات وثيقة فيما بينهما.
التبنّي البريطاني الأول: الدول الحاضنة لإرهاب الإسلام المتطرف
——————————————————————
النوع الأول هم الدول الحاضنة للإرهاب الإسلامي، والدولتان الأبرز من بين هؤلاء هما حليفان استراتيجيان أساسيان لبريطانيا منذ زمن بعيد: باكستان والسعودية. مخططا السياسة الخارجية تعاونا دائماً في الخفاء مع السعودية وباكستان على أنهما حلفاء فيما يوصف اليوم بأنه "حرب على الإرهاب".
هذا في الوقت الذي يبلغ دعم هاتين الدولتين للإسلام المتطرف في أنحاء العالم يفوق بأشواط بعيدة دولاً أخرى هي رسمياً "أعداء" مثل إيران أو سوريا.
السعودية، خاصة بعد الصعود الكبير في أسعار النفط، وفّرت لها إمكانات مالية سمحت لها بمد تأثيرها في كل العالم، فضخّت مليارات الدولارات لنشر الفكر الإسلامي المتطرف، ومنه المنظم والمسلح، في أنحاء العالم. تنظيم القاعدة، هو على الأقل جزئياً، ربيب السعودية حليفة بريطانيا، وعلاقته مع المخابرات السعودية تعود إلى الثمانينيات، مع بدايات الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان.
أما باكستان، فكانت الراعي الكبير لمجموعات إرهابية عدة منذ استلام الجنرال ضياء الحق السلطة في انقلاب عسكري عام 1977، وهذا تضمن التدريب، والتزويد بالسلاح وتوفير الملجأ الآمن. الكثيرون من إرهابيي بريطانيا هم نتاج عقود من التبنّي الباكستاني لهذه المجموعات. اليوم، الشبكات الإرهابية التي تتخذ من باكستان مركزأ لها، تُشكّل أكبر خطر لبريطانيا، وبعضها يتبلور ليكون أكثر تهديداً من القاعدة نفسها.
السعودية وباكستان، هما أنظمة أنتجتها بريطانيا: السعودية في العشرينيات مع الغزو الدموي الوهابي المدعوم من بريطانيا بالسلاح والسياسة؛ وباكستان التي انفصلت عن الهند في 1947 بمساعدة المخططين البريطانيين.
هذه الدول، مع أنها مختلفة في مجالات كثيرة، لا شرعية لها سوى أنها "دول إسلامية". والثمن الذي يدفعه العالم لتبنّيهما للإرهاب الإسلامي – والدعم البريطاني لهذا الدور – كان ضخماً بالتأكيد.
في ظل تحالفهما مع بريطانيا، ليس مستغرباً أن القادة البريطانيين لم ينادوا بقصف إسلام أباد أو الرياض، مثلما فعلوا مع كابول وبغداد. هذا يعني أن "الحرب ضد الإرهاب" ليست حرباً فعلية، بل هي في الواقع حرباً ضد أعداء تقوم واشنطن ولندن بتحديد هوياتهم.
هذا هو بالضبط ما جعل التشكيلة العالمية للإرهاب متماسكة وفاعلة، وبالتالي تشكّل أخطاراً جسيمة ضد بريطانيا والعالم.
التبنّي البريطاني الثاني: التنظيمات الإرهابية بلباس الإسلام المتطرف
——————————————————————
المجموعة الثانية من الناشطين الإسلاميين التي تواطأت معها بريطانيا هي الحركات والمنظمات المتطرفة. أهم تلك المجموعات هي الإخوان المسلمين التي أوجِدت في مصر عام 1928، و"الجامعة الإسلامية" التي أوجدت في الهند البريطانية عام 1941، وتحولت إلى قوة سياسية وايديولوجية أساسية في باكستان.
كما عملت بريطانيا سرّاً مع حركة "دار الإسلام" في إندونيسيا، التي ترعى معظم النشاطات الإرهابية في ذلك البلد.
على الرغم أن بريطانيا تعاونت في الغالب مع منظمات إسلامية سنّية، لكنها دعمت أيضاً قوى شيعية متطرفة في إيران في الخمسينيات، وبعد استلام الثورة الإسلامية الحكم في 1979.
التنظيمات المتطرفة الجهادية التي دعمتها بريطانيا هي من أكثرها تخلّفاً دينياً وسياسياً، وغالباً ما استهدفوا المدنيين في عملياتهم الإجرامية. البداية كانت في أفغانستان عام 1980 بالتعاون مع الولايات المتحدة، السعودية وباكستان، بهدف هزيمة الاحتلال السوفياتي للبلاد.
بعد أفغانستان، تابعت بريطانيا التعاون مع حركات إرهابية مسلحة مثل "حركة الأنصار" في باكستان، الحركة المجاهدة الإسلامية في ليبيا، وجيش تحرير كوسوفو، إضافة لتنظيمات أخرى في آسيا الوسطى، شمال أفريقيا وأوروبا الشرقية… وجميعها ترتبط وثيقاً بأسامة بن لادن.
هذا التعاون الاستخباري البريطاني مع الإسلام المتطرف لا يزال مستمراً حتى اليوم في الشرق الأوسط. المخططون لم يقتصر مجهودهم على التنسيق الخاص مع الرياض وإسلام أباد، فهم يواصلون تآمرهم مع الإخوان المسلمين في مصر وإسلاميي ليبيا.
جذور هذا التواطؤ البريطاني مع الإسلام المتطرف في الشرق الأوسط تعود لسياسة "فرّق تسد" التي اعتمدتها في أيام امبراطوريتها، حين ساندت الحركات الإسلامية لمواجهة المد الوطني والقومي التحرري الهادف إلى مواجهة الهيمنة البريطانية في المنطقة.
المخططون البريطانيون ساعدوا في خلق الشرق الأوسط الحديث أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى بفرض التقسيمات الإدارية على القوى الحاكمة. كما عملوا على إعادة "الخلافة" إلى السعودية لتستلم قيادة العالم الإسلامي، في ظل السيطرة البريطانية… وكان لهذه الاستراتيجية أهمية فائقة في تبلور الأحداث المستقبلية في السعودية وباقي العالم.
بعد الحرب العالمية الثانية، واجه المخططون البريطانيون وضعاً جديداً تسوده قوتان عظيمتان، لكنهم كانوا مصممين على الحفاظ على ما أمكن من نفوذ بريطانيا السياسي والتجاري في العالم. على الرغم من أهمية جنوب شرق آسيا كمصدر للمواد الأولية، لكن الأهمية الكبرى كانت للشرق الأوسط ومخزونه الهائل من النفط، فكان موضع تركيز السياسة البريطانية.
في هذا الوقت، برز عدو رئيسي تمثّل بصعود القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر في مصر، الذي عمل على سياسة خارجية مستقلة وعلى إنهاء اعتماد دول الشرق الأوسط على الغرب.
=============================================================
لمواجهة هذا الخطر، عمل الغرب، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، على مساندة الملكيات والقيادات الإقطاعية، وتعاونوا مع الحراكات الإسلامية، خاصة الإخوان المسلمين، لزعزعة استقرار الحكومات القومية والإطاحة بها.
=============================================================
مع سحب بريطانيا لقواتها من الشرق الأوسط في أواخر الستينيات، استندت إلى النظام السعودي والإخوان المسلمين كأدوات للحفاظ على المصالح البريطانية في المنطقة، يعملان على إضعاف ومحاربة الأنظمة القومية، ويكونان بمثابة "عضلات" مساندة للحكومات اليمينية المتعاونة مع بريطانيا.
مع حلول السبعينيات، كانت القومية العربية قد هُزِمت كقوة سياسية بفضل المواجهة الإنجلو- أميركية، لتحل مكانها قوى الإسلام المتطرف، خاصة في مصر والأردن.
بعد حرب أفغانستان في الثمانينيات، تصاعدت العمليات العنفية للإسلام المتطرف، بما فيه القاعدة، في الدول الإسلامية بداية، ثم لينتقل بعدها إلى الدول الغربية في التسعينيات. لكن بريطانيا تابعت علاقتها ودعمها لتلك الحراكات في مناطق مثل بوسنيا، ليبيا، آذربيجان وكوسوفو.
في هذه الفترة، وجدت العديد من تلك التنظيمات الجهادية ملاذاً آمناً لها في بريطانيا، وبعضها أعطي حق اللجوء السياسي، فيما هم مستمرون في نشاطهم الإرهابي في الخارج.
===========================================================
المخابرات البريطانية لم تتغاضَ فقط، بل شجعت على نشأة "لندن- ستان "كمركز تخطيط وتجميع للمجموعات الجهادية، وبهذا أعطت الضوء الأخضر لتلك التنظيمات، وقامت عمليّاً بتشجيع نشاطها الإرهابي
===========================================================
هذه المجموعات المتمركزة في لندن، كانت مصدر معلومات للمخابرات، ونُظِر إليها على أنها مفيدة للسياسة الخارجية البريطانية، خاصة في إدامة وبلورة النزاعات في الشرق الأوسط، وكوسيلة ضغط للتأثير على سياسات الحكومات الخارجية.
قوى الإسلام المتطرف أفادت الاستخبارات البريطانية في خمسة مجالات:
1. كقوة دولية مضادة للايديولوجيات القومية العلمانية والشيوعية
2. كقوى حاكمة محافظة في باكستان والسعودية لقمع الحراكات الوطنية
3. كقوة ضاربة تستخدم في إضعاف حكومات مستهدفة والإطاحة بها
4. كأداة قتالية بـ"الإنابة" تخوض معارك لصالح الغرب
5. كأدوات ضغط سياسي لفرض مواقف مؤاتية لبريطانيا على الحكومات
علاقة بريطانيا مع السعودية وباكستان كانت استراتيجية وطويلة الأمد. لكن علاقتها مع التنظيمات المتطرفة لم تكن كذلك. تعاونها مع تلك القوى الإسلامية كان مسألة مصلحية مؤاتية، لكنها تواصلت لتكون شبه دائمة.
=============================================================
بريطانيا كانت على دراية كاملة بأدبيات تلك القوى المعادية للإمبريالية والغرب، وخلوّ مبادئها الاجتماعية من الفكر الحر والديمقراطي. الاستخبارات البريطانية لم تعمل مع هذه التنظيمات لأنها تتفق معها في المبادئ… بل فقط لأنها كانت مفيدة لها في ظرف محدد. والواضح أن تلك التنظيمات تعاونت مع بريطانيا لنفس الأسباب: تسهيل حركتها ونشاطها، وكراهية القومية العلمانية.
=============================================================
الأهم هو أن التواطؤ البريطاني مع الإسلام المتطرف، ساهم في تحقيق هدفين أساسيين للسياسة الخارجية. الأول هو فرض السيطرة والتأثير على مصادر الطاقة الرئيسية التي تحتل الأولوية في سياستها الشرق أوسطية. الثاني هو الحفاظ على دور أساسي لبريطانيا في النظام المالي الدولي المساند للغرب.
السعودية قامت بتوظيفات ضخمة في المؤسسات الاقتصادية والمصرفية في الولايات المتحدة وبريطانيا، وبالمقابل، لدى الدولتين الغربيتين استثمارات وتجارة ضخمة مع السعودية. هذا ما تحميه العلاقة الاستراتيجية مع الرياض.
منذ مرحلة 75-1973، أقام المسؤولون البريطانيون مجموعة صفقات سرية مع السعودية، لتوظيف مردودات النفط في بريطانيا. وكما سنرى (في أحد فصول الكتاب)، كان هناك عهد إنكليزي- أميركي- سعودي للحفاظ على هذا النظام المالي. بالمقابل، تغض لندن وواشنطن النظر، عن أي شيء آخر تصرف السعودية المال فيه.
وهكذا، ضخت السعودية أموالاً ضخمة إلى الإسلاميين وقضاياهم الجهادية، ورافقتها سياسة خارجية غربية تقوم على استمرارية حكم العائلة السعودية، بغض النظر عن نشاطاتها تلك.
التعاون بين الولايات المتحدة وبريطانيا كان ثابتاً في دعم هذه الاستراتيجية نحو السعودية. لكن مع تقلص القوة البريطانية، تحولت هذه الخطة المشتركة من شراكة حقيقية، إلى كون بريطانيا شريكاً ثانوياً، حيث تقوم الاستخبارات البريطانية والقوات الخاصة السرية التابعة لها، بمهام تحددها واشنطن.
في بعض الأحيان، تحركت بريطانيا كذراع ميداني للحكومة الأميركية، تقوم بالمهام القذرة التي لم تكن واشنطن قادرة على تنفيذها (أو لا تريد ذلك!).
استخدام بريطانيا للقوى الإسلامية يعود لأيام الإمبراطورية، أي لما قبل هذا التعاون مع الولايات المتحدة. وبعد الحرب العالمية الثانية، تحركت الاستخبارات البريطانية بشكل مستقل أحياناً، كمثل محاولة انقلاب ضد عبد الناصر في الخمسينيات، ورعاية "لندن-ستان" في التسعينيات.
أنا لا أقول إن الإسلام المتطرف والعنف الجهادي هما صنيعة بريطانيا أو الغرب، ففي ذلك تضخيم للنفوذ الغربي في مناطق مثل الشرق الأوسط أو جنوب-شرق آسيا، حيث عوامل كثيرة محلية وعالمية ساهمت، ولأمد طويل، في تكوّن هذه القوى.
لكن السياسة البريطانية ساهمت في تكوّن الخطر الحالي للإرهاب، على الرغم من إنكار البيئة البريطانية العامة لذلك. في أفغانستان، هناك تركيز أكبر على الدور الأميركي وليس البريطاني (مع أنه كان كبيراً). وبعد أفغانستان، فإن الإعلام يسوده صمت كامل حول الدور البريطاني، شبيه بالتعتيم حول المشاركات البريطانية الحديثة في العراق وليبيا.
في هذا الكتاب، "الجهاديون" هم من يستخدمون العنف للتوصل إلى إحقاق الدولة الإسلامية. اعتمدت في هذا الكتاب على عدد كبير من الوثائق السرية التي كُشفت بمرور الزمن، والمختصة بالسياسة البريطانية نحو بلدان العالم الإسلامي.