منير خوري، المناضل في صفوف النهضة، والأكاديمي وخبير التنمية الريفية غادر دنيانا لكنه ترك لأبناء الحياة ميراثاً من الصدق والعطاء والقدوة الإيحائية لاينفد
منير خوري من الجامعة إلى الحزب إلى السجن إلى الأمم المتحدة مفعماً بالأصالة والإيمان والرؤية».
لبث منير خوري 1920-2014 (حائز وسام المعارف 1988) يبحث عن القدوة الإيحائية في المجتمع حتى وجدها في نفسه ورأيناها فيه. ورجال التاريخ هم الذين أوحوا واستوحوا وكانوا القدوة. لو قدر لي أن أختصر هذه الحياة بكلمتين لقلت: العطاء والحب
ولد منير خوري في طرابلس ودرس في مدرسة طرابلس للصبيان ثم أكمل دراسته في اميركا حيث نال شهادة الدكتوراه من جامعة كورنيل نيويورك. أعطى منير خوري في المجال التربوي الجامعي فدرّس في الجامعة الاميركية 1956-1960 وفي الجامعة اللبنانية وفي الجامعة اللبنانية الاميركية وترأس قسم العلوم الأجتماعية فيها عام 1970 واستمر حتى تقاعد في العام 1995 وتخّرج على يديه عشرات التلاميذ والباحثين.
أعطى في مجال التنمية الريفية وفي رابطة انعاش القرى في عكار والبقاع والجنوب وكان أحد رواد التنمية الريفية. ولكن التجربة توقفت للأسف بعدما أحرِق بيته ونُسف في أحداث 1958 ولكن شغفه بالتنمية الريفية استمر من خلال المؤتمرات والدراسات حتى عينته الأمم المتحدة خبيراً إقليمياً لها في حقل التنمية الاجتماعية والريفية 1961-1962.
أعطى في المجال الحزبي مناضلاً في صفوف النهضة وكان عضواً في المجلس الأعلى للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي وافق على المحاولة الانقلابية ليل 1961-1962 (عهد فؤاد شهاب) وحُكم عليه بالسجن لثماني سنوات. ثم تبوأ رئاسة الحزب مع عصام محايري في الثمانينيات.
له دراسات ومؤلفات نذكر منها: «الواقع والمصير (1982)»، «ما هي علة لبنان» بالانكليزية والعربية (1990)»، «سفينة حياتي (2000)»، «حدود المجتمع (2005)»، « Fate of Lebanon (بالانكليزية 2008)»، «في التنمية الريفية (نظرة في المفاهيم والاشكالات (2009)»، إضافة الى العديد من المقالات والمحاضرات. وقد حملت كتبه ودراساته دائماً الاضافة المعرفية والتجديدية النابعة من المعاناة الذاتية والموضوعية.
وفي ظني أنه ما كان له ليحقق كل ذلك لولا الحب. حب الآخر، حب المجتمع، شغف النهضة، حب قيم الحق والخير والجمال. أعطى بحب فوق ما أخذ بكثير ولم يعرف الأخذ. ولم يطلب أمراً لنفسه من أمور الدنيا وظل نقياً شفافاً وصاحب سيرة عطرة من الولادة حتى الوداع.
عاش منير خوري حياة حقيقية مثقلة بالخير مليئة بالأمل والكفاح والمرارة والألم. أرادها متمسكاً بناصية العقل، بالالتزام بقضايا المجتمع، بالعمل لتحقيق الإنجازات. وما أراد ان يقوله فعله
حوّل سجن القبة في طرابلس إلى خلية منتجة فكراً وثقافة وصناعة وفناً وغلالاً. وصار المساجين يساعدون أهاليهم مادياً. وكانت تجربة رائدة في السجون اللبنانية فأستدعاه العقيد غابي لحود وسأله كيف استطعتم ان تصلوا الى هذا المستوى من التنظيم والإنتاجية؟ فأجابه: «الفضل يعود الى الروح النظامية ولاعتناقهم العقيدة القومية الاجتماعية». وتوقف الحوار. كانت لديه القدرة على الخروج من نفسه بالحب للقاء الإنسان الآخر والأحلام المشتركة، وكل ما يعود بالخير على الإنسان والمجتمع.
كان مع المعرفة العلمية ولكن مع التطبيقات الاخلاقية السليمة لها. كان مع الحقيقة ولكن ان تُعلن وتُقال ويُعمل بمقتضاها. كان مع الاختصاص ولكن مع الاخلاص في ممارسته. كان مع التغيير ولكن مع التقدم لأنه أمر أخلاقي. كان مع التربية كقيمة تربوية لا كسلعة تجارية توصلنا بالنهاية الى الانفصام الحضاري. كان مع التنمية ولكن القائمة على الإنسان وعلى التوازن الشامل والمنطلقة من الجذور في القرى.
وفي مجمل صفاته كان بناءً وانصرف للتعبير باسم الجميع باسم الصواب والحق والرأي.
وظل يشير إلى الجرح ويُشهر الوعي ويدل الآخرين الى الطريق، الى الينبوع ليشرب الحائر والظمآن. وعينه كانت على الغد وذرى الفكر، على الاصلاح والتنوير والتقدم
ظل منير خوري يقود سفينته الى اللحظة التي بانت فيها الحياة بدون جدوى. دخل بيت الصمت ووضع أمام الموت كأس حياته المترعة وكل حصاد الكروم وسنابل القمح وليالي التعب والكد والعذاب
في آخر الأيام لبث طيباً نقياً وأمام الطيبة لا يملك المرء سوى الاستسلام. سنظل نذكر الصفات والمزايا والرؤى التي جعلت حياته تنهض دائماً لأجل هدف وغاية وأمل.
لعل الأمثولة التي تركها لنا منير خوري أن الحياة تصنعها القضية، وأننا لا نستحق الحياة إذا لم نصنعها كما نريد من اولها حتى آخرها. وأن الصدق والتفاني والإخلاص يخلق الفرص. وان ليس التاريخ كل ما تملكه البشرية فهناك ميراث الكلمة وميراث القيم، وأحلام البشر ومحبتهم.
سنظل نرنو للعطاء ينهض بنا وننهض به، نغتبط للحب، نأسى للمرض الذي ظلمك وظلمنا في السنوات الأخيرة. ولكن الأيقونة ستظل تتوهج وتبزغ كالأمل، كالأصالة، كحلم النهضة، كالبيرق المستحيل.