تشده النظرة النخبوية إلى الثقافة على دور المبدعين والإعلام المرموقين من تلك الفئة الاجتماعية التي تتميز بإنتاج الأفكار والفنون ونشرها في أوساط معينة أو في المجتمع بصفة عامة. ولكن الفهم الصحيح، الموضوعي والعادل، للثقافة بمعناها الواسع، لا يتأمّن بهذه النظرة، بل بالنظرة التواصلية التي لا تسقط من الاعتبار أدوار أولئك الذين يساهمون إلى جانب المبدعين والأعلام الكبار، في تنشيط الفكر وتغذيته وتعزيزه بجهودهم الخاصة أو بواسطة المؤسسات المتخصصة، وذلك في إطار مذاهب واتجاهات مستقرة يعملون بهديها ومستلزماتها وإيحاءاتها. إننا نستخدم كثيراً مصطلح الإبداع في حرثنا عن الثقافة والمثقفين، ونوظفه في محله وفي غير محله. ولو تنبّهنا إلى أهمية مفهوم العمل الثقافي كما تطرحه النظرة التواصلية إلى الثقافة، كانت نظرتنا إلى الشؤون الثقافية وطريقة تقديرنا للجهود المبذولة في نطاقها، على مختلف أصعدة الإنتاج والانتشار والتداول والتأثير، أقرب إلى الموضوعية والإنصاف، وأنجع في التخطيط والمطالبة والتمكين والتطبيق.
في ضوء هذا التمييز بين النظرة النخبوية والنظرة التواصلية إلى الثقافة، لا أتردد في القول بأن منصور عازار كان من القلائل عندما الذين فهموا بوعي تام، ومن دون مرور بدروس علم اجتماع الثقافة، أن العمل الثقافي الملتزم شرط أساسي في عملية بناء الثقافة وتطويرها وترقيتها.
ولا شك في أن المرجع والمحرك لما كان يعنيه منصور عازار بالثقافة والعمل الثقافي الملتزم إنما كان بصورة علنية طيلة حياته، مرجعاً عقائدياً، يتمثل بالتحديد في العقيدة السورية القومية الاجتماعية التي اعتنقها في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما كان يُتمّ دراسته الثانوية في مدرسة الحكمة في بيروت. ولكن حبّه للثقافة لم يكن في أي مرحلة من حياته، محكوماً بنزعة دوغماوية.
فمن يقرأ مذكراته كما صدرت في "أوراق من الماضي" وفي "التحية الأخيرة"، يدرك بسهولة أنه كان صاحب موقف وقضية، ولكنه كان بالقدر نفسه يحبّ التفاعل الفكري والحوار الإيجابي والنقاش العقلاني، للاستزادة من المعرفة والخبرة، سواء في إطار الحركة القومية التي التزم بها أم في إطار النشاط الثقافي العام في لبنان وبلدان الاغتراب.
تقول تلك المذكرات إن الحياة الفكرية الحقة مرتبطة بالموقف الذي يتخذه الفرد من وقائعها واتجاهاتها وإمكاناتها، واللاموقف نفسه هو موقف، أي موقف هروب واستسلام لفكر الغير وإرادته، ولذلك كان مفهوم منصور عازار للعمل الثقافي مؤطراً بعاملين: عامل عقائدي من جهة، وعامل تفاعلي منفتح من جهة ثانية. بعبارة أخرى، لم يكن نشاطه الثقافي مجرد وسيلة للتبشير بعقيدته، ولم يكن أيضاً مجرد وسيلة لمواكبة حركة الأفكار والقطف العشوائي من ثمارها. كان يؤمن بصحة عقيدته، ولكنه كان أيضاً عميق الاقتناع بأن الحياة تنتج العقائد وتتحداها وتتجاوز ما لا ينتصر منها على التحدي.
يتوقف منصور عازار في "أوراق من الماضي" عند بعض التجارب التي مرّ بها في شبابه، ويعلق عليها فيقول: "هذه التجارب تعلّم الإنسان الصلابة والمجابهة والتصدي للخوف، كما تعلم العقيدة الجرأة وتثبّت فيه طلب العلم. فلقد كنت متفوقاً على زملائي في الفلسفة، ليس السبب ذكائي آنذاك، بل لأنني كنت مطلعاً على العقيدة، وتفوّقي يعود إلى الدفع الذي تعطيه الأفكار الجديدة لتحتكّ بغيرها من الأفكار. وليس الفكر إلا نتاج صراع الأفكار… ليتها تعود تلك الأيام التي كانت من أخصب الأيام على صعيد الإبداع والصدق مع الذات والآخرين". (أوراق الماضي، ص.ص. 150-151).
يتضمن هذا التعليق، في تقديري، التصوير الأساسي الذي يكمن في خلفية ما قام به منصور عازار وما كان يحلم بأن يقوم به من أعمال ثقافية. ثمة شيء مركزي في حياة الفكر اسمه العقيدة. هذا الشيء لا يتماهى على التمام مع العلم، ولكن لا معنى للعلم من دونه. فالعقيدة تشكل رؤية شاملة متماسكة إلى الانسان والمجتمع والسياسة، وتقوم على هذا الأساس بوظائف معرفية ونفسية وعملية متشابكة، ومن بينها وظائف تعليمية. العقيدة تعلم الجرأة في التفكير وتدفع الى طلب العلم للدفاع عنها وتطويرها، وبالتالي إلى الاحتكاك بغيرها والتفاعل معه. وهي تفعل ذلك بصورة مضاعفة عندما تكون أفكارها أفكاراً جديدة، لأن الأفكار الجديدة تثير المجادلة والمعارضة والمقارنة مع غيرها من الأفكار القديمة أو الحديثة، فينشأ جراء ذلك، صراع الأفكار، وتتوالد الأفكار من هذا الصراع، بما فيها الأفكار العلمية والأفكار الفلسفية. هذه القناعة تحاربت في شخصية منصور عازار الشاب مع نزعته إلى التمرّد التي أيقظتها كتابات جبران والريحاني، وترسخت بدراسة الحقوق في الجامعة اليسوعية. والأهم هو أنها أبعدت صاحبها عن الانطوائية والإذعانية، والرومانسية، والانتهازية. ولئن شابها شيء من المبالغة من جهة التقليل من دور الذكاء في إنتاج الأفكار، فإنها في المقابل تتماشى مع نزعة أخلاقية واضحة تؤكد على قيمة ثمينة جداً في الحياة الفكرية والاجتماعية، وهي قيمة الصدق، "الصدق مع الذات والآخرين".
كان منصور عازار يعتقد جازماً أن العمل والنجاح متلازمان. (العمل ضروري للنجاح، فلا نجاح بلا عمل، والنجاح ثمرة طبيعية للعمل، إلا إذا طرأ ما ليس في الحسبان. والحق أن الأمر كان من نظره أكثر من تلازم، بمعنى أنه كان فلسفة للحياة، ومن هذه الفلسفة ينبثق تشديده على "صراع الأفكار". الحياة عمل وكدّ، وليست نزهة، ولا تسلية. الحياة مغامرة جديّة، وليست لهواً واستمتاعاً رخيصاً. هذا الاعتقاد له جذور في تعاليم الرؤية النهضوية التي كان منصور عازار يتبناها، ولكنه اكتسب أبعاداً جديدة في الممارسة الاقتصادية، التي خاضها ووظف فيها اعتقاده بقيمة العمل توظيفاً استثنائياً، كما يشهد جميع عارفيه. "قرّرت أن أنجح في حقل الأعمال، ولو كنتُ أشعر بأنني مدعوّ لأكون رجل فكر وقلم وحوار عقائدي وفكري" (أوراق من الماضي، ص.ص. 230). كان هذا القرار خياراً صعباً إلا أنه كان هو لا غيره ما يتجاوب مع طموح صاحبه إلى الأعمال النهضوية الحاسمة في الظروف التي عرفها لبنان في أعقاب اضطرابات العام 1958.
وكان ما كان من مشاريع اقتصادية، صناعية وتجارية، في بلدان افريقيا الغربية. ولكن من الواضح في تصور منصور عازار لحياته النضالية أن انخراطه في المشاريع الاقتصادية الكبرى، وما صادفه فيه من نجاحات باهرة ومن نكبات وأزمات صحيّة، لم يمنعه من التطلع دوماً إلى توظيف بعض جهوده في مجال العمل الثقافي الذي كان يميل إليه اصلاً. وكانت القاعدة التي التزم بها في المجالين الاقتصادي والثقافي، كما في المجال السياسي، هي قاعدة العمل المشترك بواسطة المؤسسة. والحق أن مطالعة مذكراته تضع القارئ على الدوام أمام إشكاليتين متداخلتين: إشكالية التجاذب بين العمل الاقتصادي والعمل الثقافي بهدف العمل السياسي، وإشكالية توطيد العمل المنتظم بواسطة المؤسسة. وهذه الإشكالية الأخيرة كانت، في نظر منصور عازار إشكالية ثقافية بامتياز.
يقول في هذا الصدد: "بخلاف الكثير من أبناء الجالية، كنت رجل مؤسسات. فقد ولدت على هذا الاعتبار، واعتمدته سلوكاً في حياتي. وقد جاءت عقيدة سعاده لتعزز هذه النزعة المبثوثة فيّ، كنت لا أطيق العمل الفردي، وأسعى إلى المشاركة دائماً في أي عمل أو نشاط. وكنت أحياناً كثيرة أضحّي بمصالحي ومركزي ومالي وشخصي من أجل المصلحة العامة". (أوراق من الماضي، ص. 174).
يثير هذا القول قضية من أخطر القضايا في حياتنا الاجتماعية. المؤسسات نسيج المجتمع، وفلسفة المؤسسات هي فلسفة تنظيم العلاقات التعاونية بين أعضاء المجتمع. فهي في جوهرها فلسفة نقد للنزعة الفردية الأنانية. إلا ان المؤسسات تحتاج بدورها إلى نقد وعناية وإصلاح حتى لا تتحول إلى أدوات قمع وخنق للأفراد المنتمين إليها. كان منصور عازار يدرك ذلك جيداً في ضوء انتمائه إلى عقيدة انطون سعاده وحزبه السياسي. ولذلك كان توازن في تعامله مع المؤسسات، بين ضرورة التمسك بها لمنع النزعة الفردية الأنانية من اجتياح العلاقات الاجتماعية اجتياحاً كاملاً، وبين ضرورة إصلاحها باستمرار لمنع تجمّدها وتصلبها وعجزها عن تأدية وظائفها بحسب ما تقتضيه طبيعتها وتطورات التاريخ.
وكان يعرف ان توازناً كهذا أمر صعب المنال، إذ إنه كان يدرك أن ثقافة العمل المنتج والتعاون المنظم في إطار المؤسسات ثقافة اجتماعية، عقلية ونفسية وأخلاقية، أرقى بكثير في التمدّن من ثقافة القبيلة من جهة، ومن ثقافة الأنانية من جهة أخرى.
كان منصور عازار، إذن انطلاقاً من ثقافته الاجتماعية، "رجل مؤسسات"، وفقاً لعبارته، وانطلاقاً من حبّه للعمل الإنشائي. حاول أن يسهم في العمل الثقافي بإنشاء مؤسستين، لكل واحدة منهما هدف إنمائيّ خاص. الأولى، وهي "مكتب الدراسات العلمية"، تأسّست في بيروت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. وهدفها المساهمة في تعزيز الثقافة العلمية والدراسات العلمية التي يقتضيها العمل الإنمائي لقطاعات المجتمع اللبناني.
والثانية، وهي "شركة المنبر الفرنسية للطباعة والنشر"، تأسست في باريس، في أواسط الثمانينيات، وهدفها العناية بالشؤون الاقتصادية والثقافية للمغتربين اللبنانيين في العالم، وبخاصة في إفريقيا. ولا أدري كيف كان منصور عازار يقيّم النتاج الصادر عن هاتين المؤسستين.
ولذلك اكتفي بالإشارة إليهما، مع التنويه بانسجامه مع الاتجاهات والنجاحات الرئيسية التي كان المجتمع اللبناني يختبرها بعد المرحلة الشهابية من تاريخه السياسي. وكلما تذكرتهما، أتذكّر عفواً "دار الطليعة" التي أسسها في المرحلة نفسها، الدكتور بشير الداعوق، وألحق بها مجلة "دراسات عربية"، لتعزيز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية. ولا شك عندي في أن المؤرخ الذي سيكتب تاريخ الثقافة والعمل الثقافي في لبنان، من النصف الثاني من القرن الماضي، سيفرد فصلاً طويلاً لمؤسسات الطباعة والنشر والمجلات الملحقة بها، وسيعطي رجال الطباعة والنشر من أمثال منصور عازار وبشير الداعوق حقهم من الاعتبار والإنصاف، ولعلي لا أخطئ إذا قلت من الوجهة نفسها. لكن على صعيد آخر، أن المفكرين المصلحين الذين سيتحملون مسؤولية إعادة التفكير في الميثاق الوطني اللبناني، عاجلاً أم آجلاً، سيجدون كثيراً من الفائدة في الرجوع إلى ذلك العدد الخاص من مجلة "المنبر"، الذي صدر في شهر أيار من العام 1988، تحت عنوان "ميثاق جمهورية لبنان الثانية"، وفيه بعد افتتاحية منصور عازار، مقالات دسمة بأقلام مالك سلام وحليم أبو عزالدين وعصام كرم وحسين القوتلي وعصام نعمان وعصام خليفة وأحمد بيضون ورضوان السيد وانطوان مسرة ووجيه كوثراني وجورج ناصيف ومسعود ضاهر وسامي عون وعارف العبد
تشهد مذكرات منصور عازار على أنه كان ثاقب النظر في تصوّره لأهمية العمل الثقافي والنضال العقائدي من أجل الخروج بلبنان ومحيطه من عصور الانحطاط والتخلف إلى عصور الحداثة والازدهار، كما تشهد على عمق اقتناعه بأن نقل الأفكار الجديدة الكبيرة إلى حيز التطبيق والسلوك يتطلب صراعاً يمتد بأشكال متجددة على أجيال وأجيال. وهذا ما يفسر رفضه للتقاعد، ودأبه على الكتابة في مجلة "تحولات"، وإصراره على عقد ندوات فكرية، في دارته، ضمن نشاطات "مكتب الدراسات العلمية"، حتى آخر لحظة من عمره، وقد جاوز التسعين.
لقد شاركت في بعض تلك الندوات، ويطيب لي أن اقول إن أجواءها الحوارية الدافئة كانت تعكس وجه منصور عازار المشعّ حباً وتفاؤلاً، على الرغم من وطأة التسعين.
ولكن، من الواضح أن التقدير العلمي الشامل لقيمة إسهامه المديد في الحقل الثقافي لا يكتفي بهذه المذكرات، بل يتطلّب الرجوع إلى مقالاته ورسائله التي يلمّح إليها في مواقع عدة من مذكراته. فهل يتجنّد الورثة والأصدقاء الأوفياء لجمع تلك المقالات والرسائل ونشرها وفقاً لأحدث قواعد التوثيق والنشر؟