التقيتُ في لندن العام 1984، رجل الأعمال منصور عازار بُعَيد خضوعه لعملية جراحية كبيرة في القلب. وضمّ اللقاء النقيب محمد البعلبكي ورجل الأعمال واصف فتال. وأصرّ في كل مرة، أن يتمحور الحوار على الثقافةبعيداً عن شؤون القلب وشجونه. وكانت ثمرة اللقاءات عملية "جراحية" موازية للعملية القلبية، وهي صدور مجلة "المنبر" الباريسية الاغترابية الثقافية، بشراكة واصف فتال، ومباركة النقيب.
ولأن درهم الوقاية خير من قنطار العلاج، فقد أسس المنصور في سبعينيات القرن الماضي "مركز الدراسات العلمية" في محلّة سن الفيل – المتن الشمالي، فكانت بواكير نتاجه كتب عدة، منها كتاب للأباتي بولس نعمان، وثانٍ للأديب ألبير ضوميط، وثالث للدكتور ربيعة أبي فاضل، إلخ. وكانت الورشة الأخيرة من أعمال المركز الثقافية، اشتراكه مع بلدية ديك المحدي، في رعاية ندوة حول كتابي "أمين الريحاني – كشكول الخواطر"، حيث تكلّم فيها الدكتوران محمود شريح وربيعة أبي فاضل، والدّاعي. وإذا علمنا أن الندوة قد جرت بعد حوالي أربعين سنة من تأسيس مكتب الدراسات، وتخلّلتها عشرات الندوات والمحاضرات التي جرت في القاعة التراثية الجميلة التي تقع في الطابق الأرضي من منزل صاحب المكتب في بيت الشعار، أدركنا مدى إيمان أبو ميشال بالثقافة كدواء فعّال على المستوى المجموعي لداء أمية المتعلمين المتجلية عبر أعراض السطحية والتقليد الببغائي والادعاءات الفارغة. وبالمناسبة، فأميّة المتعلمين عندنا – ولا أقول المثقفين – منتشرة على نطاق واسع، وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي الكومبيوتري في تعميقها واتساع دائرتها.
أما فعالية هذا النوع من البنسلين على المستوى الفردي، فالنتائج في المختبر العازاري، كانت ناجحة جداً. لقد خضع منصور عازار لأكثر من عملية في القلب، طيلة ثلاثين عاماً، ناهيك عن التداعيات المرضية التي نجمت عن العمليات القلبية و"داء" الشيخوخة.
ولكن إدمان المريض على تعاطي بنسلين الثقافة بشكلدوري، وبمعدل ست حبات يومياً، حيث يقرأ مقالة – أو فصل من كتاب – قبل الأكل وثانية بعده، ساهم في إطالة عمره لدرجة تخطّيه عتبة التسعين بسنوات ثلاث. وبالطبع، لم يمضِ سنوات المرض مستلقياً على ظهره في غرفة النوم التي تتحول عادةً إلى مستوصف منزلي، بل معتلياً صهوة الثقافة رغم تحذيرات الأطباء، ومتوجهاً نحو ضهور الشوير وقصر الأونيسكو لحضور الندوات والمحاضرات وبخاصة النهضوية منها، وكان آخرها الندوة الريحانية الكشكولية التي جرت في قاعة دير طاميش. وبالمناسبة، فإني لا أنسى زيارتي له بمعية الصديق المشترك شربل عقيقي، في غرفة العناية الفائقة في مستشفى الجامعة الأميركية، منذ سنوات عدة. وقتذاك أبلغ الأطباء أهله ورفقاءه وأصدقاءه بأنه على قاب قوسين أو أدنى من الرحيل. ولقد تأكّد لي في بداية الزيارة دقة التوقع الطبي، حيث كانت أمواج صدره في علوٍّ وهبوط مخيفين، وشبيهين بالأمواج التي قتلت معظم ركاب سفينة التيتانيك التي قيل إنها "لاتحرق ولاتغرق". ولكنّ أبا ميشال تغلّب على أمواج صدره كما تغلّب الأخوان بلطجي على الأمواج التي واجهت سفينة الشامبوليون الفرنسية وأنقذا ركابها الذين أوشكوا على الغرق قرب شاطئ المنارة، في خمسينيات القرن الماضي. والجدير ذكره أن فرق الانقاذ الفرنسية بغواصاتها و"لنشأتها" عجزت عن إنقاذ ركاب السفينة
فجأة، فتح عينيه وقال لي بصوت متقطع ما حرفيته: بعد خروجي من المستشفى،"سأكثّف حراكي الثقافي". وفي تلك اللحظة أيقنت أن توقعات الأطباء لم تكن في محلّها. فحبة البنسلين الثقافية التي بلعها في تلك اللحظة وفّرت له فرصة تكثيف ورشات نشاطه الفكري والأدبي لعامين إضافيين.
يبقى أن عدّاد الكلمات الصارم في مطبخ تحرير "تحولات" حال دون التوقف عند دواء عازاري ثانٍ لا يقلّ فعالية عن بنسلين الثقافة، وهو الضّحك. لذلك لم يستعر منصور عازار يوماً شوارب هتلر ولحية المير بشير. فكان يضحك للنكتة الموفقة من كل قلبه. ولكن، حين تُقلب الصفحة على سعاده، تصبح الجدّية سيدة الموقف. وفي كل مرة كنت أردّد على مسامعه أن سعاده هو مجموعة عبقريات بمعنى أنه كان عالم اجتماع وفيلسوفاً ومؤرخاً وأديباً وخطيباً مفوهاً وباحثاً في الأديان وفي الفنون وبخاصة الموسيقى منها، يندر تجمّعها في شخص واحد، يرفق ببرقية الموافقة، ملَحقاً ينوّه فيه بسيرة مؤلف "نشوء الأمم" التي هي أقرب إلى سيرة الأنبياء منها إلى سير العباقرة.