لا أدعي معرفة وطيدة بمنصور عازار، ولكن ما أعرفه عنه وما تراكم نتيجة تعاوننا الأدبي و إسهامه الحثيث في يقظة الأمة بالندوات والدراسات ترك في وجداني أثراً لا يُمحى وفسحة كبرى من الصعب أن يوفيها حقها من التقدير والإعجاب شخص مثلي كلما اقترب من إيفاء الواجب زاد الأمر مشقة.
حمل لواء القضية وهو في السادسة عشرة من العمر وعندما استشهد سعاده كان منصور عازار في السابعة والعشرين، إبن الجيل الذي سيحفظ الأمانة ويكرس لها وجوده بانتظار استكمال الدعوة الى العقيدة التي وجّهها سعاده تلقائياً ساعة استشهاده لأجيال لم تولد بعد. وكالعديد من أقرانه كان منصور عازار من طينة الرجال الذين وعوا المرحلة فاعتصموا وكأن النصر صائر غداً، واستأخروا وكأن النصر لن يصير غداً. وكان يجد تعزية في القول: "إن الليل محاصَرٌ دائماً بنهارَين… ومن داخل المأساة تولد شهقة الأمل".
مجالات عدة تميّز مسيرة منصور عازار. على الصعيد العقائدي فقد جعل الوجدان القومي الأولوية التي وجّه بها كفاحه، قال: "لقد سمّوه الإثم الكنعاني، إنه إثمي أيضاً… فحيثما كنت، كانت تلك القرية بساحتها معي… صدّقوني كل مغترب يترك وطنه يحمل معه مجموعة من الحقائب التافهة وحقيبة كبيرة في قلبه مليئة بالذكريات لا يفتحها إلا عندما يُصاب بنوبات الشوق. اليوم… أنا واقف على عتبة السبعين، يراودني حلم أن أعود إلى البيت لأقرأ وحدي وبصمت، أيام تلك الطفولة".
والمؤسف أن عاطفته القوية لم تجد لها مكانا في حقيبته، لفرط ما استحضر فيها من موضوعات تتصل بسلامة القضية، وهي المجال الثاني المميز لمسيرته، فاستبدل النوستالجيا بسؤال موجه الى المسؤولين: "ما الذي فعلتم بالحزب؟ لو تمثل كل مسؤول حزبي بسعادة وأصرّ أن يقف وقفة العز وأن يصمد في وجه الانحرافات، بدلاً من أن يطلب السلامة، هل كنا نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم؟". تألّم لمرارة الانسلاخ الروحي والجسدي عن الوطن، أحس بالوجع الجسدي. "كنت أتمزّق مثل جريح مطروح بلا مساعدة… حتى الآن لم أشفَ من هذا المرض".. ويستذكر منصور عازار مأتم ذوقان بو كامل يوم بكى رفيق له على خلفية شقاق حزبي قائلاً:
"بكيتْ دمعة ع فراقك يا رفيق
ودمعة ع حالي عندما ينهي الطريق
بدل ما النهضة تكرّم جندها
بتسمعش إلا همس: من أيا فريق؟" (انتهى النص)
لقد حاول منصور عازار، الأمين والرفيق والصناعي ورجل الأعمال والصحافي والمغترب، لكن ما من شيء تغيّر في هذا الكون. مرض يطرح الزمن خطورته. الموت وحده يبدو العلاج.
الميزة الثالثة في اهتمامات منصور تجسيده للعقيدة القومية الاجتماعية في حياته الشخصية، وسعيه لتوحيد المغتربين. كان، رحمه الله، رب عائلة كبيرة، حفظها الله، متعدّدة الطوائف والمذاهب، وقد أثبت هو، والعديد من رفقائه في العقيدة، أن نظرية سعاده في المجتمع الواحد هي العلاج الأمثل لبلد متعدد منقسم لا تهدأ حروبه الأهلية حتى تبتدئ من جديد. وهو الماروني الذي لم تحُل عقيدته الاجتماعية دون عقد زواجه كنسياً بكامل واجباته الدينية. فالعلمانية التي يلتزم بها لا تعني إطلاقا الابتعاد عن الكنيسة ومقاطعتها. إنها تعني القبول الكلي والتام بالآخر. وممّا لا شك فيه أن مقالته عن "المارونية الحضارية" ( المنبر ، تشرين ، 1986) من أفضل ما يمكن للمرء قراءته: "انطاكيتنا هي الأصل، وأن روما هي الفرع.. السريانية هي الأصل والمارونية هي الفرع". وتليها مقالته عن "الإسلام الحضاري" (المنبر، آذار، 1988) التي قال فيها: "سبحانك ربي، أنا المسيحي الماروني اللبناني، الذي فتح عيني على تاريخي العربي، في أرض العرب الطاهرة فقرأت في بداياته باسم ربي الذي خلق آية نزلت على رسوله الكريم، في أرض العرب الطاهرة وما زلت أقرأ باسمه حتى الآن، فبِه كانت بدايتي وإليه ستؤول نهايتي".
وكانت الميزة الرابعة، ولعلها الأولى، دماثة خلقه وشفافيته، شخصيته المحبة والمحببة، صدقه وإيمانه، إخلاصه لقضيته وللناس، الثقة التي يوحيها، رؤيته عن بُعد، نجاحه في ميدان العمل ومناعته ضد الغرور.