ليس لأن الجسم مُضنى قليلاً بالروح، وليس لأنه دخل باب الصمت، وليس لأن الزمن توحّد في أجزائه. بل لأنه يستحق التحية اليوم وأمس وغداً. المفكر النبيل منح بك الصلح نستضيء بثقافته وحكمته وتجربته وشهامته. منذ زمن أطلّ على الناس في بيروت ولبنان ودنيا العرب مع المروءات والمناقب بأدب وسياسة وعلم وثقافة وأصالة المحتد والمنبت، وستظل ذكراه بعد رحيله عابقة بالنبل عينه.
أدرك أن أجزل ما يقدّم للناس هو بعض من القلب وبعض من العقل وبعض من المبادئ – المواقف، ولم يبخل أبداً. في رأس بيروت نشأ وترعرع والتي أسماها بيروت الثالثة الأخرى غير الشرقية او الغربية، التحق بكل المدارس البروتستانتية فيها من مدرسة "المس أمينة" وصولاً الى الجامعة الأميركية حتى أطلق على نفسه تحبباً "السني البروتستانتي". انهمك في العمل بالشأن العام والنضال والكتابة وفي أكثر من اتجاه ومراحل لإصلاح شأن المجتمع والإنسان. وكل ذلك في حياة مثقلة بالخير من حق صاحبها علينا أن يطمئن الى استمراره حديثاً طيباً، وديمومة سائرة، ومثالاً يُحتذى.
طوّع في ثقافته الحساسية الوطنية والقومية والإنسانية. وفيه من الأنا والجماعة والآخر الكثير فلا عجب أن يكون الراوي والحدث والشاهد على زمن لبناني وعصر عربي مفتوح على كل الجهات والمفارقات والأسئلة.
تنويري، نهضوي، إصلاحي، ميثاقي، عروبي، حضاري، لبناني منفتح، حواري، تواصلي. ولعله في الإصلاح خير من رسم وجه لبنان والعرب. جاهز دائماً للصداقة والألفة والودّ. أخوي وأبوي وصديق ومعلم في آن. ذاكرة ناصعة دقيقة ناطقة بالأمكنة والأشخاص والأحداث من دون أن يسمح لك بإدراك الفارق بين مترادفات الزمن ومصائر الأقدار. يُصغي إليك بتواضع ودماثة المحبّ ثم يستدرجك لأسئلة عميقة تقودك إلى حكمة وثقافة وأفق طالع من قلب النسيج. ثقافة حياة وإنسانية ومعرفة وتاريخ. لذلك كل فكر حبسه بالكلام ظهر بالأفعال بكلمات جبران. يحب منح بك الصلح العودة إلى الينابيع، كلما استطاع الى ذلك سبيلاً، الى الكبار في ثقافتنا وتاريخ بلادنا. وفي ظني أنه كان يأنس لهم مثلما يأنسون إليه.
حريص على صون الذاكرة العامة، وفي بناء رؤية للمستقبل مهما كان الحاضر هشاً، ومهما تكاثرت الخيبات. فمفكر الأمل يراهن على الأمل، يراهن على الربط بين المسألة القومية والمسألة الديمقراطية، ويعرف كيف يمدّ عناصر الهوية بمكوّناتها الثقافية والوطنية والقومية. ولكن إذا عزّ الظرف وتراكمت الأخطاء والخطايا وغدت الطريق دونها أهوال لجأ الى السخرية – وطرُفه المتناثرة على الأفواه مثل الفاكهة الذكية الممتعة – لجأ الى السخرية التي لم تكن خياره الأول بقدر ما كانت حجته ضد كل هذا العبث وذاك الخواء، وطريقته المميزة في اختيار برج للرصد والتحليل، ونقطة للوقوف على مسافة نقدية واحدة من الخصم والقدر والصديق والحليف.
تغيّرت الأزمنة، وهذا صحيح، ولكن ما نفع الزمان بلا فكر، وما نفع المكان بلا وطن، ما نفع الجغرافيا بلا تاريخ، ما نفع الأمم بلا أخلاق، وما نفع الحب اذا غدا بلا أوان ولم يزدد بريقاً وتوهجاً مع الأيام.
منح الصلح يملك إشعاع الرمز في الزمن، إشعاع الفكر والحق والحب والوطن نحييه كمثل ما نحيي الجواهر والدرر في جبين الأمة وضمير الناس. ونظلّ نستلهم من توهّجها زاد الطريق ليصح العزم ويتضح السبيل.