الديوان الوحيد لماجدة داغر اسمه "آية الحواس", ويصير عمره في شهر آذار من العالم الجاري 2014 خمس سنوات, فقد صدر عن دار المفيد, بيروت, في آذار من العام 2009 , والآية في اللغة العلامة والدليل, وهي ذات أصل ثيولوجي ديني, طالما اقترنت الكتب المقدسة, فالآية "هي من التنزيل" كما ورد في ابن منظور, وآيات الله معجزاته. (لسان العرب الجذر أيا). وحتى لو استعملت استعمالات غير مقدّسة, كما ورد في سيرة ابن اسحق الممتلئة بالإسرائيليات, بتقسيمه الآيات إلى رحمانية وشيطانية, فإن حرف الكلمة عن اصلها يبقى في إطار ديني مضاد…
لكن , ليس هذا على وجه التحديد , موضوعنا الليلة. إن موضوعنا هو ديوان "آية الحواس" وذلك أن الشعراء وسّعوا فيما بعد , بما يملكون من سلطة اللغة , معنى "الآية" الى اماكن اخرى , وأوصلوها الى الأنهار والرياح والعناصر كما اوصلوها إلى الجمال وإلى الحواس , فكتبت الشاعرة ديواناً بهذا العنوان , وثبتت النسبة بقولها: "غداً عندما تصدح المئذنة / ثبتني في ابتهالات عينيك / أيها المصليّ في آية الحواس" ( قصيدة حواس ص 60 ). لكن , مهما امتد شأو هذا الاتساع اللغوي وتنوّع , فإنه يبقى متصلاً بأصل ديني أو يومئ إليه. وهنا ربما تكوّنت بين يدينا كيمياء خاصّة في التسميات اللغويّة للشعر , حيث يجتمع المادي والروحي معاً في وقت واحد , والمحسوس الملموس الذّي المعاين من ناحية الحواس , بالأثيري النفسي الروحي المرموز إليه بالإحساس , وإلا فكيف إذن حين تصدح المئذنة , تطلب العاشقة من المعشوق أن يثبتها في ابتهالات عينيه , هو المصلّي.. أين؟
– في آية الحواس.
سأدخل مباشرةً في اللعبة التي حاولتها ماجدة داغر في قصائد " آية الحواس". يلوح لي أننا أمام نشيد طويل في العشق , بمحطات مختلفة ( آيات أو قصائد) , يغلب عليه بل يتحكّم به الخطاب الأنثوي للعاشقة في المعشوق. ثمة قصيدة واحدة في الديوان يكون فيها الخطاب ذكورياً موجهاً للأنثى , وهي القصيدة الثانية ( أتسمّر في مشيئة ظلك ) وشذرات متفرقة هنا وهناك , لكنّ القصائد الباقية , هي كما أشرنا خطاب أنثوي للعاشقة في المعشوق الذي هو ( أي المعشوق ) كائن ما , بين الرجل والإله. وهي بذلك تعيدنا إلى شيء من العبارات المقدّسة القديمة حيث يلبّس الذكر والإله. وأنا شخصياً شاهدت في مدينة أثرية في الشمال الأفريقي. ( ليبيا ) تماثيل من العهد الروماني الونثي , تشخّص عبادة المرأة للرجل الذكر الإله , في شواهد لا تزال حاضرة حيّة محفورة في الصخر وفي تعاريج مياه الذكورة فيه.. لذلك , ومن آثار هذه العبادة بقيت لنا في اللغة كلمة " بعل " كتسمية للزوج وهو السيّد والإله.
نحن حين نتكلّم على الشعر ملزمون على الأرجح من أجل استحضار صورته بمناخ من بخور الدين والأسطورة.
ويقع السحر والهذيان والإشارات وطقوس الكلمات والأصوات والهيئات وحتى الاقنعة في مكانٍ ما بين هذين النبعين للقصيدة, أعني الدين والأسطورة.
وقد حاولت ماجدة داغر من البداية ان تشدّ انتباهنا إلى هذه الناحية بمفتتح حلاّجي ( نسبة للحسين بن منصور الحلاّج (858 م – 922 م / 244 ه – 309 ه ) شهيد العشق الإلهي في الإسلام , حيث ثبتت في أول صفحة من ديوانها بيته القائل:
"منالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب"
وهو المتصوّف الذي مثله شطحه في بغداد كما هو معروف.
وفي هذا الشطح شيء من وحدة الوجود والشهود فيه حلولية قريبة من الحلولية المسيحية للإله في الجسد, كحلول الخمرة الصافية في الكأس الصافية, على ما يقول الشاعر:
" رقّ الزجاج وراقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر
إن هذا المفتتح الحلاّجي مجرّد إشارة على طريق القصائد وهي طريقة مراوغة على مرأى هي متاهة.. تيه.. والتيه مقام كما تعلمون.
سيكون من التبسيط اعتبار مفتتح حلاّجي, ذريعة لتعودنا الكاتبة إلى ما لا يزيد أو لرؤية ما لا نرى. فنحن إذ نقرأ عنوان " قفير في الجسد المقصول" حيث المتكلّم في القصيدة " انثى " والمخاطب صورة مائية " وجهك المائي يغرق في الدوائر / كلما سقطت في المحيط حبّة عنّاب".. ثم يحملنا الاستطراد إلى "ماء الزهر في ريقك / كصمغك الممزوج بالسرو".. فإننا نكاد نفتقد الجسد المقصول الذي هو جسد حلاّجي لنستغرق في القفير وحبّة العنّاب والزهر والصمغ الممزوج بالسرو.
وهي مفردات رعوية من وقت رعوي قديم ذكرت مثله أساطير بلاد ما بين النهرين وسورية القديمة بل لعله زمن طيني إذا صحّت العبارة, متصل بطقوس بعيدة أبعد من زمن الحلاّج بآلاف السنوات وغارق في رحم الأسطورة.
إنّ الوجه الذي تبتهل إليه العاشقة وجه عناّبي كما تقول, مغلي بالقرفة, جميل كسهول الضوء وفيه إضافات مائية من دوار البحر والملح وغناء النورس وارق البحارة والزبد الطافح في الرغبات. لقد ابتعد إذن الحلاّج بوجهه المدمّى كثيراً عن حقل النص ليحلّ محلّه وجه آخر قريب من هنا وأعني من هذا الجبل وغاباته ومن البحر القديم الممتدّ على اقدامه.. المتوسّط عاقد قران الأبدية بينه وبين المجهول. ثانيةً تمهر الشاعرة الوجه بالعسل البري والعنّابة المنتشية , أما الجسد المقصول فإنه ينأى ويختفي وراء النصّ.
وكجواب عن سؤال , تأتي القصيدة التالية لتكمل هذه الدورة , لكأنه حوار ( هي / هو ) الذي يستأنف حيث يقفل الرجل صوته في نهاية القصيدة ليبقى صوتها هي يتمدّد على كامل جسد الكتاب. فهو في قصيدة " أتسمّر في مشيئة ظلّك " قوي ومنتشر في هشاشتها الأزليّة , ومذرور في نثارها كفضّة. ليس في الإمكان هنا وفي هذا المقام , إغضاء الطرف عن استمرار نباتات البريّة في التدفّق على ساحة النصّ , حيث العطر والزوفى وتوت العليق , ولا عن القمر ونناره , وبخاصّة عن التذكير بطبيعة خام تتلاصق فيها الذئاب والغزلان في الغابات. يقول هو في خطابه لها : " انت الطالعة من بال ذئابٍ تلثغ بعوائها " ص 22 ".. لكن ما تلبث ان تطلّ في القصيدة فكرة توحّد العاشقين من خلال قوله : " أنا أكثرك وأقلّك كلك وبعضك / أمضي منثوراً في حلقات الذكر / مردوماً في ثغرك البكر / ممسوساً بهشاشتك الأزليّة "..
هنا يكاد يخرج النصّ عن سياقه الرعوي , لولا تكرار " هشاشتك الأزليّة " , تأتي بعد " حلقات الذكر ". نكاد نقول إنّ الشاعرة أدخلت بذلك بحراً على بحرٍ آخر وتركت البحرين يختلطان.
في قصيدة " سارية اللون والشوك " تستأنف الأنثى خطابها للمعشوق مع لمسة من شبق جسدي واضح, " يأتي المساء وله شبق عينيك , وأهم ما تستخدمه في القصيدة وفي سواها التشبيه من خلال الحرف " ك " " رغباتك المستديرة كالهذيان , ومفردات الرغبة الجنسيّة : " تراود الوردة عن عطرها ".. وهي المتكلمة في القصيدة التالية " رحيق " تواصل تغزلها الرعوي الأنثوي به , وفي المساء وضوء القمر والصباح وروائح الغمام والقمح النابت. تقول "لذراعيك رائحة القمح النابت قي أضلعي حين أضمّك"..
ثم تأتي بعد ذلك بصورة عن النشوة الجسدّية من خلال رصد لهاث النشوة بين العاشقين في قولها : " تلك المتسلّقة لهاثك ( ص 41 )… تمهيداً لكتابة تشبه ما ورد في نشيد الأناشيد من ابتهالات إيروتيكية أو ترددات إبروتيكية بين بني عاشق (هو سليمان بن داوود النبي) وأنثى الغابات المعشوقة المفتونة بجمال نبيّها وقوته الخارقة وقدرته على إشباع الأنثى الشبقية فيها.
لا تفلت ماجدة داغر من هذه اللحظات الإنشادية المغمّسة بالنشوة الجسدّية. تقول بلسان المعشوق : " ناديني بأسماء الكواكب / اصرخيني بكل ما أوتيت من نساء / لأنثاك في ذكري أصوات مدجّجة بالصراخ " ( ص47 من قصيدة أنشودة للضوء المكسور ).. ويفيض بعد ذلك , او ينداح هذا الخطاب الشعري في سائر القصائد , حيث يختلط دعاء الجسد الأنثوي بدعاء عناصر الريف الطبيعية. الآلهة والنساء. المطر والتراب. الحيوان والحيوان. الحيوان والإنسان. أنصاف الآلهة وأنصاف النساء. كل ذلك يحدث في عالم ٍ بكر أوّل مباح وغير محظور. عالم فردوسي.. صاغته لنا أجمل صياغة الأساطير والأشعار.
إن لنا في طقوس الأعراس في فلسطين وسورية القديمة والأناشيد والاحتفالات التي كانت تمثل بسبعة أيام بلياليها, حيث يسمى العريس بالملك.. نبعاً لا ينضب لأناشيد الحب والعشق المباح. ومع ذلك , نقول إنّ ربط خطاب حصل في ثنايا قصائد ماجدة داغر بين العشق الرعوي الذي وصفته لنا أساطير كثيرة تسللت إلينا من خلف جدران الزمن , في سورية القديمة , وبلاد سومر وأكاد , وفي الجزر اليونانية , وبين انخطافات المتصوّفة المسلمين الذي جمعوا بين العشق الإلهي ووحدة الوجود.. وإدخال هذا في ذاك هو الجديد الذي حاولته الشاعرة وهي كمحاولة خطيرة على ما أرى , ووضعها في محور القصيدة أشدّ خطورة ً نظراً لما تتطلبه القصيدة من تقنية وتأليف لغوي وصوري خاص هو أشدّ تعقيداً من مع أجساد الأساطير مع أحوال المتصوّفة. على هذا الأساس نستطيع أن نفهم قولها: " جسدي لوثنيتك / جسدي لنصلّي… جسدي ظلّ آنامك على بقع النهار " ( ص 75 / نقطة من وجهك نغم من جسدي ) وقوله في القصيدة ذاتها : " لم أرسلت أمطارك إلى جوفي ؟ "… فالتوليف بين الشبق الجسدي للأنثى والانخطاف الروحي توليف صعب. ولعلّ ما يمكن تقديمه في هذا المقام ليس مثال رابعة العدويّة (100 ه – 180 ه / 717 م – 796 م) مؤسسة العشق الإلهي في الاسلام التي انتقلت, على ما رواه العطار النيسابوري في تذكرة الأولياء من حال الانغماس في الشهوة الجسديّة والخمرة والغناء إلى حال العبادة واضعة ٍحداً فاصلاً بين زمانين لا يبغيان بل الأولى تنسيب هذه القصائد (قصائد ماجدة داغر) إلى زمن اختلط فيه الجنس بالكهانة في عصور وثنيّة متنوعة. إن كاهنات الهيكل بشكل أو بآخر كنّ يرفضن ويقدمن المتعة الجسديّة للكهّان والعشاق مغلفة ببخور القداسة.
وفي هذا المقام من لاهوت الجسد يصبح الجنس مقدّساً. لعل ّماجدة داغر , وقد كشفت في كتابها " بيت الذاكرة " ( الصادر 2012 عن دار الفارابي , بيروت ) بنفسها الغطاء عن بعض من سيرة الشاعرة الأولى في التاريخ وهي " إن هيدو آنا " السومريّة التي كانت الكاهنة الكبرى في معبد أور من بلاد ما بين النهرين , في الألف الثالث قبل الميلاد , تأثرت بهذا الكشف كان ذلك يحدث في زمن ما من عمق التاريخ الوثني في هذه البلاد، حيث سادت عبادة الشمس والقمر والنجوم والعناصر واختلط الآلهة بالناس وتماهى الملك مع الإله , وغالباً ما هو عاشق وفاتح حربي أو مقاتل وإليه تبتهل العذارى العاشقات.
لقد فكّ الأثري البريطاني صموئيل كريمر في كتابه " ألواح سومر " الكثير من الكتابات المسمارية المحفورة في رقم الطين في بلاد مابين النهرين… ومن بينها قصيدة كانت تغنيّها المغنية السومرية " بلبالة " تقول فيها " أيها العريس الحبيب إلى قلبي / جمالك باهر حلو كالشهد / أيها الأسد الحبيب إلى قلبي / لقد أسرت قلبي فدعني / أقف في حضرتك وأنا خائفة ومرتعشة / أيها العريس / ستأخذني إلى غرفة نومك / دعني أدللك /فإن تدليلي أطيب وأشهى من الشهد / نم في بيتنا حتى انبلاج الفجر / ولأنك شهواني / هبني بحقك شيئاً من تدليلك وملاطفتك /ووصفك جميل حلو كالشهد / فضع يدك عليه / قرب يدك عليه كرداء " ( ص20 ).
ولم تكتف ماجدة داغر بالتذكير بأول عاشقة كاهنة سومرية في التاريخ بل كتبت فصلاً آخر عن الشاعرة الإغريقية سافو ((saprho أو "الصوت النقي" التي عاشت بين القرنين السادس والسابع ق.م. وهي تنشد قصائدها المحترقة بالبخور لإيمروس الهابط من السماء مرتدياً عباءة جندي بلون الأرجوان. وهي غالباً ما تمزج بين تداخل حسي مفرط وروحاني مسرف. إنها "سافو" الجميلة كما ناداها سقراط صاحبة قصيدة "لا العسل تشتهي نفسي ولا النحل" وتلك التي تمنى صولون الحكيم أن يحفظ شعرها قبل أن يموت. سافو التي تصف نفسها بأنها قليلة الجمال, ولكنها الأكثر إتقاناً لفن الهوى.
ملاحظات حول ديوان آية الحواس لماجدة داغر
127
لاهوت الجسد الأنثوي
المقالة السابقة