فرغتُ للتوّ من مراجعة كتاب "رأي النهضة" الصادر العام الماضي عن "دار النهضة" للزميل جان دايه، وأعجبت بمستوى النقاش الذي عالج فيه مشكلة "المقالات الضائعة" وسبل معالجتها. والمقصود بها مقالات سعاده غير الموقعة والتي تختلف الآراء بشأنها.
مما لا شك فيه أن إصدار مجموعات مؤلفات تعود الى ازمنة مبكرة يصطدم بكثير من الشكوك والتساؤلات حول صحة تاريخ بعض الأعمال المجهولة وأبوّة تأليف بعضها الآخر، وفي الفصل بين خلافات الملكية الأدبية والنزاعات الحقوقية والتثبت من شتى الادعاءات التي يزدحم بها عالم الأدب. ويدور جدل كبير اليوم حول عدد من المقالات المنسوبة الى سعاده تمهيداً لإدراجها او عدم إدراجها في الطبعات الجديدة أو الإصدارات المزمع إصدارها. وقد اختار داية نشر 241 نصاً "مجهولاً" اعتماداً على ثلاثة معايير أولها وجود إشارة واضحة من سعاده إلى أنه كاتب النص، والثاني أن تكون النصوص منشورة في واحد من ركنين من ابواب الجريدة، والثالث أن يحمل النص بصمات سعاده.
ونظراً الى تعقيدات الأمر وأهميته في آن فإن المعايير الثلاثة وحدها ليست كافية لتجيب على كل المسائل المطروحة أو على الأقل وجوهها المتنوعة سعياً وراء الجواب الحاسم. ناهيك عن عدم الاتفاق على ما يصح اعتباره اشارة واضحة من سعاده الى انه الكاتب. ومن المعروف ان سعاده كثيراً ما كان يكتب بتواقيع مختلفة.
جوهر الأمر ان الواقع يتطلب معايير عديدة للفصل في مثل هذه القضايا المعقدة.. وهو ما يوفره نظام على غرار "علم الإحصاء الأسلوبي" (stylometry).
وعلم الإحصاء الأسلوبي، الذي نحن بصدده، يبحث في الخصائص التركيبية للأسلوب (أدباً وفناً وموسيقى) وتحليل الأساليب اللغوية وصفات المؤلفين. من الوجهة التقنية البحتة تؤخذ العناصر التالية بعين الاعتبار: أسلوب الكاتب، طول الجمل وطول الكلمات، أهي تميل الى الإيجاز أم إلى الإطالة. استكشاف أي تغيير مفاجئ في الأسلوب، معدل استخدام الاسم والفعل والنعت. إن تحديد معدلات أطوال الجمل قد يكون ذا صفة عامة تكاد تشمل غالبية الكتّاب. كما وأن طريقة توظيف اللغة (معرفية أو تواصلية أو تعبيرية أو تمثيلية أو اجتماعية) تعكس بدورها ميولاً خفيّة لدى المؤلفين تختلف بين مؤلِف وآخر. المفردات وطريقة استخدامها وهذا يحتاج بالطبع الى ثقافة واسعة وعميقة وتكوين عينة دقيقة واضحة الأطراف تجري عليها الاختبارات. وقد وضع أسس هذا النظام الفيلسوف البولوني "لوتوستاوسكي" لإعادة كتابة محاورات افلاطون، حسب تسلسلها الزمني.
تعود أشهر تطبيقات هذا الأسلوب الى القرن الخامس عشر حينما تمّ بواسطته أثبات أن "مرسوم" هبة "الامبراطور قسطنطين" التي بموجبها تنازل (كما تدّعي الوثيقة) عن كل الإمبراطورية الرومانية الغربية إلى ملكية الكنيسة الكاثوليكية، مزور. وكان مفتاح الاكتشاف العثور في نص الوثيقة على عبارة لم تكن قيد التداول في الفترة الزمنية المنسوبة الى الوثيقة.
وكان اللاهوتيون الألمان في القرن التاسع عشر قد أعربوا عن اعتقادهم بأن تحليل مضمون رسائل بولس الرسول يوحي بأن الرسائل المنسوبة إليه لم يكتبها شخص واحد، فجرى اختبار هذه النظرية في منتصف القرن العشرين وقد تبين أن عدد كتّاب الرسائل هم 6 أشخاص على الأقل وأن الرسائل المنسوبة الى القديس بولس لم يكتبها هو بل 4 أشخاص آخرين، أما ما كتبه هو فكان خمس رسائل من الرسائل الأربع عشرة المنسوبة اليه، وهي الرسالة الى أهل رومية والرسالتان الأولى والثانية الى أهل كورنثوس والرسالتان الى أهل غلاطية والرسالة الى أهل فلمون. وبحسب تصريح الدكتور ليفيسون، رئيس دائرة الكمبيوتر في كلية بيربيك في داترون، امام الجمعية البريطانية لتقدّم العلوم، فإن كلمة "كاي" (واو العطف) اليونانية التي استخدمت كحجة دامغة لدراسة الرسائل البولسية، أثبتت، أن القديس بولس لم يكتب جميع الرسائل المنسوبة إليه.
ومن التجارب اللافتة الحلقة الدراسية التي أجريت في إطار "حلقة المسيح الدراسية" (The Jesus Seminar) التابعة لمعهد (Westar Institute) ومقره سانتا روزا بكاليفورنيا، بهدف الإجابة على السؤال التالي: "ما الذي قاله المسيح فعلاً". سؤال يقع ضمن مجموعة التساؤلات التي تبحث عن المسيح التاريخي وتشغل بال علماء اللاهوت. وقد صدرت حصيلة الدراسة العام 1993 بعد بحوث استمرت ست سنوات في مجلد ضخم عنوانه "الأناجيل الخمسة" (الأربعة التقليدية إضافة الى انجيل توما).
وقد قام الفريق بأبحاثه بطريقة مبتكرة. بداية ثم وضع لائحة بجميع النصوص القديمة التي لا تزال موجودة وتتضمن أقوالاً منسوبة الى السيد المسيح ثم جرى تفحّص النصوص الأصلية لما تضمنته من هذه الأقوال (وقد بلغ عددها حوالى 1500 كلمة مفتاحية) مع ترجمة جديدة كاملة لجميع الأناجيل المعتمدة وصدرت في مجلد أطلق عليه اسم "نسخة الدارسين" ثم جرت مناقشة مقدار ما يمكن نسبته الى يسوع. وقد تم اختيار اللون الأحمر لفئة الكلمات والأقوال المرجّحة بشدة كونها تعود ليسوع، واللون الزهري لأقواله وقد تعرضت للتعديل اثناء تناقلها عبر العصور، واللون الاسود للكلمات التي وردت على لسان محبيه وأعدائه، واللون الرمادي للكلمات التي أسقطت لأنها لم تنشأ معها حتى لو كانت تعبر عن أفكاره (بمعنى أضيفت في وقت لاحق). ثم تم جمع ما صنف تحت الأحمر والزهري بصفتها الأقوال الحقيقية التي لفظها السيد المسيح واطلق على الكتيب اسم Q Bible من Quelle الألمانية وتعني الينبوع الذي يتضمن الكلمات الأصلية التي تفوه بها المسيح.
وبدخول الكمبيوتر ساحة الأدب وميدان البحث الفكري أصبح من المتناول تحليل النصوص كمبيوترياً. وفي حين كانت البحوث في الماضي تعتمد على توافُر أدلة واضحة في ما تحمله من تناقضات خفيّة، فقد أصبح الآن بالإمكان استخدام التقنيّات المعاصرة اعتماداً على أجزاء بسيطة ونصوص من الكلام الشائع، بل وقادرة على تحليل عناصر البحث حتى ضمن الكلام الدارج. ولكن صعوبة الأمر لا تقف عند هذا الحد فالمصطلحات تتبدل وكذلك التعابير وتكتسب أحياناً معاني جديدة، كما وان الأساليب الكتابية تتبدل بسبب تبدل الأذواق والثقافات.
… كل ذلك يجعل الاختبارات هذه مهمة دقيقة جداً. وليراجع على سبيل المثال المعنى الواسع والتبدلات التي لحقت بمفهومي العلمانية والاشتراكية.
أعتقد أن الخطوة الاولى هي في تأليف لجنة تضمّ خيرة علماء الاختصاصات اللازمة، متخصصة مهمتها وضع مخطط عام للمشروع بمراحله المتعددة واولى هذه المراحل وضع بطاقة ادبية فكرية لمؤلفات سعاده وتطور أسلوبه ومفاهيمه وسيكون ذلك عملاً تاريخياً لائقاً. وعلى أن تأخذ اللجنة بعين الاعتبار الحرص على الأولويات التاريخية المثبتة مرجعياً وإعطاؤها اولوية في الإسناد، ومتابعة التطورات الأدبية واللغوية التي تلقي الضوء على مسيرة الأدب واشتقاقاته، وأخيراً متابعة التجانس العقائدي للكاتب مع نظريته العامة.