في الدروبِ البعيدةِ
تذوب خُطانا كثلجٍ على جمرِ المسافاتِ شوقاً
نذوبُ في كأسِ الغيابِ لحظةً.. لحظةً
نغيبُ في محطاتِ الانتظارِ فينسحبُ العُمرُ من رمادِ الذكرياتْ
ونذوبُ سويّاً في الدروبِ البعيدةِ كقطعةِ سُكَّرٍ في مياهِ الحنينِ إلى إطارِ الصورةِ؛
– الصورةُ اليوم فرديةٌ؛ لكلٍّ منا صورته
– الصورةُ جماعية في الشتاتِ؛ لكلِّ منا تفاصيلُ رحلتهِ في الغروبْ
في الدروبِ البعيدةِ
نذوي في طرقاتِ التيهِ..
وننأى في المكانِ المكبلِ بالحدودِ
نلملمُ بعضَ بَعْضِنا كرملٍ في راحةٍ ملساءْ
في الدروبِ البعيدةِ
نتعربشُ داليةَ الحكايةِ ونلهو بها كقطٍّ يطاردُ ذيلهُ
نتوارى خلف أصابعنا كَصِبْيَةٍ يلعبون بظلالهم.
في الدروبِ البعيدةِ
نتكاثرُ في رَحمِ التَّعبِ/
نتناقصُ حَبَّةً حَبَّةً في جوفِ المنفى
نتضاءلُ في المرآةِ،
نفتشُ عمَّا تبقى لنا من جهاتِ القلبِ؛
عن كسرةِ خُبْزٍ/
فيء شجرةٍ/
سماء بلا طائراتٍ/
أرضٌ بلا مقابرَ/
مقابرَ ليست جماعية/
حدائق معمورةٌ بالضحك/
مقاعدَ صالحةٌ للجلوسِ/
شوارع مكتظَّة بالمشاةِ/
إشارةُ مرورٍ تنظمُ السيرَ..
بساتين مزدانةٌ بالورودِ/
تراب/ كرومٌ/ مَشافٍ/ مدارسَ/ مبانٍ/ دكاكين،
وشمس لا تحجبها سُحبُ الدخان.
في الدروبِ البعيدةِ
البوصلةُ معطلةٌ..
الوقتُ خارجَ الوقتْ
الخرائطُ ممحيةٌ
والعيون مغلقةٌ على المذبحة؛
أيتها الحربُ..
خذي بساتينَ العُمرِ
واتركي لنا قليلاً من الوردِ؛
فثمةَ مسافةُ دفءٍ لما تبقى من صغارِ العائلةْ
صراخ
السياسيُّ يصرخُ على الشاشةِ مبتهجاً بانتصاراتهِ
العسكريُّ يصرخُ مزداناً بقتلاهْ
الجنديُّ يصرخُ تنفيذاً للأوامرِ
المذيعُ يصرخُ على الجمهورْ
الجمهورُ صامتٌ.. لأن الحربَ صرختْ
الحربُ لم تصرخ.. لأنها أولُ صرخةٍ للموتْ
صمت
الجثثُ الصامتةُ تحولت إلى لوحةٍ تفيضُ بالصرخاتِ؛
الطفلُ يصرخُ ألماً دون أن يدري ما حدثْ
الأمُ تصرخُ ألماً على طفلها،
الزوجُ يصرخُ على حالهِ:
لقدَ ضاعَ كلُّ شيءٍ في غمضةٍ
ما تبقى
وسط المجزرةِ
نَفْسٌ تغمغمُ بما تبقى لها من روح
تصرخُ لحظةً ثم يسودُ الصمتُ؛
الصمتُ آخرُ آثارِ المجزرةْ..
صورة
نتناقصُ فرداً، فرداً؛
بالأمسِ كانت صورةً جماعيَّةً
اليوم..
صارت إلى الذكرى
الشوارعُ عاريةٌ من الإسفلت
في البلادِ التي ارتحلت في حَربِ الحروبِ..
قطعة قطعةً، ثمةَ بقيةٌ، لشوارع خالية من المارَّةِ..
لا أحدَ بها إلا هرَّة ضلَّت طريقها فأردتها الرصاصةُ في المزبلةْ
**
الشوارعُ تصرخُ فيها الريحُ؛
فهي هادئةٌ تماماً لولا أنينُ الطينِ في الأذنينْ
**
الشوارعُ هرستها الدباباتُ وسوتها بالأرضِ تراباً؛
عاريةٌ من الإسفلتِ بلا أرصفةْ.
هرولة
الشوارعُ..
هرولت فوقَ أكتافِ الرَّصيفْ
الشوارِعُ تتعرَّى من الخُطا،
فيا لشارِعنا النَّظيفْ؛
لا شيءَ في الممراتِ سوى أوراقِ الخريفْ
لا شيءَ يعبُرُ الماضي سوى عيونِ موتانا
تثقبُ الجسدَ القتيلْ
لا شيءَ لشيءٍ سوانا
وردةٌ
وسكينٌ
وعربيدٌ شريفْ.