الملاية
الصباح باردُ جداً، وغيوم بيضاء تلفّ السماء، وكأنما اغتسلت بعد ليلة حافلة بالأمطار الغزيرة.
– اعتصرت طفلي أحتمي بدفء جسده الصغير من برد الصباح، ورفعت الغطاء إلى فوق أذنيّ.
كان في نيتي ألا أنهض من الفراش ذاك اليوم، حتى يتغيّر الجو قليلاً، ولا بد أن يفعل عند الظهيرة أو قد تمنّ الشمس ولو بحزمة واحدة من أشعتها الحنونة ترسلها على تلك القرية، وحبذا لو وجهتها إلى بيتي، فأنا ضيفة، وإكرام الضيف واجب. بينما أحلم بحزمة الشمس الدفيئة صرخ طفلي فصحوت على صوت طرق شديد على الباب.
نهضتُ وأنا أعرف من الطارق، إنها شرجيّة ولا مجال لتراجعها، فستبقى تطرق الباب بشدة حتى أفتحه أنا.
اندفعتُ خارج الغرفة. صفعني الهواء البارد بشدة وكأنه ينتظر خروجي بفارغ الصبر. ليفرغ غيظه من كسلي واختبائي داخل الغرفة المحكمة الإغلاق.
كانت شرجية على غير عادتها قد اكتسى وجهها بالجدية وإن حافظ على احمراره ولمعانه.
– ( صباح الخير.. ما تريدون ميّ؟)
– بلى. ونظرت في البرميل.. كان الماء المتبقي داخله متجمداً عند السطح.
تركتها تستدير خارجةً لتأتي بالماء، واندفعت داخل الغرفة أغلق بابها، وأضم طفلي بقوة إلى صدري، قرّبتُ وجهي أكثر من أنفاسه الحبيبة، ابتسم متلذذاً بضمي له بقوة، وابتسمت لسعادته وللدفء الذي أشاعه في جسدي وروحي.
كافأته بإرضاعه رضعة إضافية، فراح يرفس برجليه الصغيرتين بسعادة ومرح.
صوت إفراغ الماء في البرميل كان أبطأ من كل مرة! هكذا خيِّل إلي، فعزوت ذلك للبرد الشديد وخصوصاً أن شرجية لم تكن مبتسمة عندما حضرت. أنّبتُ نفسي كوني طلبتُ منها ملء البراميل في يوم كهذا، هممت بأن أقول لها: كفى لا تستمري، لكنني تراجعت فذاك مصدر رزقها الذي تسعى إليه وترحّب به، فعدلتُ عن الفكرة، ودعوت لها من كل قلبي بالصحة والقوة والرزق الوفير.
– تلك المرأة أنقذتني من مشكلة الماء طوال فترة وجودنا في القرية، وأسعدتني بأحاديثها البسيطة أحياناً كثيرة.
حتى ضحكتها الهستيرية العالية التي تأتي على غير توقّع، قد اعتدتُ على سماعها، وألفتُها.
دعوت لولديها (سحر وعنّاب الصغيرين بأن يحفظهما الله) فهما كطفلي هذا، وإن كان حظهما أقل من حظه في العناية بسبب انشغال والدتهما.
شردت بي أفكاري وملأني شعور شديد بالذنب، كوني أجلس فب الدفء وشرجية في العراء في مثل هذا الجو القارس، وطفلي بين أحضاني بينما طفلها.. الله وحده يعلم أين أودعته.
– الطفل يغفو في جحري – تسري عدوى الإغفاء إليّ – للحظة غفلت عيناي.. ثم خيّل إلي أني أسمع صوتا
في الخارج يشبه صوت (بابور الكاز) ظننته حلماً، لكن الصوت موجود وقريب جداً.. إنه في صحن الدار!.
تسمرت برهة. ما هذا الصوت؟! هل هو صوت حيوان جريح؟ أم صوت آلة ما؟ وما الذي جاء به إلى الدار؟!
وضعت الصغير في فراشه واقتربت من باب الغرفة في حذر.. فتحته قليلاً – لم أرَ شيئاً! لكن الصوت ما زال موجوداً.. فتحت الباب أكثر، فكان ما رأيته منظراً تقشعرّ له الأبدان. كانت شرجية ملقاة على ظهرها، والصوت هو صوت شخير صادر عنها، والزبد الأبيض يتراكم على زاويتي فمها وقد تصبب العرق غزيراً من جبهتها وازداد وجهها احترماً.
– خُيّل إلي أن جسدها يملأ المكان، وما زال الماء يهتز داخل الإناء، وقد سال قليلاً منه على الأرض، إذ يبدو أنه وُضِعَ على عجل.
صعقني المنظر.. نفضت رأسي لأتأكد بأنه ليس كابوساً هذا الذي أراه.
اندفعت إلى الخارج مسرعة – ناديت بأعلى صوت ممكن:
– أم الأسود – سودة – سارة.
أقبلت أم الأسود بعد شرح سريع وتراكضت خلفها الجارات بمجرد أن رأينها تركض.
البيت يغص بالنساء والأطفال، وأصوات تختلط لا أفهم منها شيئاً – / أم الأسود / – صرختُ بقوة، أرجوك استدعي الطبيب وزوجي بسرعة.
• الغرفة دافئة – زوجي والطبيب وأم الأسود بي. ترى ما الذي حدث؟ إنني في الفراش!
للحظة لم أكن أذكر أي شيء.. لمحَ زوجي السؤال في عيني فأجابني:
– لقد أغمي عليكِ في الصباح عندما.. البقية في حياتكِ.
آه لقد ماتت إذن! وانفجرت بالبكاء.
– قال الطبيب: دعوها تبكي.. البكاء سيريح أعصابها.
• الصباح بارد لا روح فيه، وفراغ كبير داخل نفسي، شعور غريب لم أشعره من قبل، أظنه يشبه شعور طفل تائه، طفلي بين يدي يبكي – يسكت – يبتسم – يناغيني، كأنه يحاول اختلاق أسلوب لإخراجي مما أنا فيه.
(زيق) صوت الباب الخارجي الكبير – قرع خفيف على باب الغرفة وتدخل أم الأسود.
– صباح الخير – ها انشالله اليوم زينة؟!
– الحمدلله. شكراً لك.
– الله يرحمها ماتت قهر.. وسردت أم الأسود قصة شرجية رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
كانت متزوجة من ابن عمها مداح.. الذي تربّت في بيت والده بعد أن توفيت والدتها معسرة بها فعاشت في حضن زوجة عمها.
قضت سنين عمرها مع مداح. لعبت معه طفلاً وأحبته شاباً، وبادلها حباً بحب، وهي الجميلة الفارعة الطول، ثم زُفّت إليه عروساً وعاشا معاً خمس سنوات كأسعد زوجين، حتى ظنّ الجميع أن مداح سيخرق تقاليدهم ولا يتزوج بامرأة ثانية، أما هي فقد كانت على يقين من ذلك، وقد أثمر زواجها منه طفلين، هما (سحر وعنّاب) حتى اختيارها لأسماء أبنائها كان يحمل معاني الحب الكبير، والأمل، والاخضرار، والقوة، وتجدد المواسم وعطائها.
إلى أن كان اليوم الذي أفاقت فيه على حقيقة مُرّة، وهي رغبة مداح بالزواج، وقد جاء ليخبرها بنفسه فكانت الصدمة الكبرى في حياتها، فرفضت الوضع الذي سيكون، وحاولت التسوية بأقل الخسائر. فقد طلبت من زوجها أن يتركها لأطفالها ويعيش مع عروسه بعيداً عنها، فهي لن تقبل وضعها كزوجة احتياط.
لكنه رفض بحجة أنه لا يستطيع فتح بيت آخر، وستعيش مع ضرتها مثل كل نساء القرية.
لكن شعورها بذاتها كان غير شعور كل نساء القرية، فهي تحمل امتيازات كانت تظن أنها تحميها، فهي متميزة بجمالها.. متميزة بحبها الكبير الذي رافق عدد أيام عمرها وساعاته، فاصرّت على الرفض، وطلبت الطلاق كما لم تطلبه امرأة ريفية من قبل. وافق مداح على الطلاق، ليس استهانة بها، لكنه كان على ثقة بأنها ستندم وتتراجع عن موقفها، عندئذ سيردها إلى عصمته.
لكنها أصرّت على موقفها، واستمرّت عليه، ورفضت حتى أن تدعه يصرف على أولادها قرشاً واحداً، وباعته كما باع حبها الكبير، وقد ابتدعت مهنة "الملّاية " التي لم تكن موجودة في القرية من قبل من وحي حاجتها إلى عمل تصرف منه على طفليها، وتكفي نفسها مذلة قبول النفقة.
المسؤولية كانت كبيرة، والحياة قاسية، لكن شرجية صمدت وقاومت ضغوط الحياة المادية والنفسية والاجتماعية، إذ كان أهالي القرية يلقون اللوم عليها في موقفها هذا لأنها لم ترضَ بما فرض عليها وتعيش كبقية النساء أمثالها.
قاومت كل تلك الضغوط وحاربتها بإنائها الكبير ومشيتها السريعة، وخبلها الذي تحتمي خلفه كلما ازداد الضغط النفسي إلحاحاً عليها.
عادت بي الذاكرة إلى اليوم الذي سألتها فيه عن زوجها، من باب المجاملة لا غير، فكان خبل مفاجئ وموقف غريب، وكلام غير مترابط، هو جوابها عن سؤالي.
مسيرة صعبة، وأيام ثقيلة كأنما صدئ دولابها.. كانت أيامها، إلى أن كانت ليلة ولادة ضرتها صبياً جميلاً، وقد تناقل أهالي القرية الخبر، فارتسم أمام عينيها مداح يداعب زوجته وسن الذهب يلمع في فمه فرحاً، وقد احتضن صغيره بين ذراعيه اللتين طالما احتضن بهما أطفالها.
صور من حياتها معه مرّت غائمة مضرجة بدموعها.
ليلة هي عمر بأكمله.
فاجأها تكثّف الفجر، فتحاملت على نفسها وأمسكت بإنائها ظناً منها بأنه سيفعل مفعوله السحري وينسيها همومها ككل مرة، والصباح قد تجمّدت عروقه وغارت عيونه.
لكن الجسد المتعب الذي استهلكه العمل الشاق، والنفس الشفافة التي جُرحت منذ زمن، لم يستطيعا احتمال الحدث الذي نكأ كل الجراح، فضعفت هذه المرة، ونزفت حياتها دفعة واحدة. رحمك الله يا أم سحر.. غريبة عشت، وغريبة متِّ.
وسألت نفسي وقد وصلت ملوحة الدموع إلى فمي.. ترى هل علم مداح بموتها أم أن صراخ طفله قد أصاب أذنيه بالصمم؟!
اللوحة
صعد الدرجات المؤدية إلى السطح مسرعاً.
بحث عنها بعينيه. كانت تتمشى وحيدةً بفستانها الجلناري الواسع الذيل، وقد احتضنت نفسها بيديها ورفعت وجهها إلى السماء بمواجهة القمر، وقد التهب لونه واقترب منها، فكانا كعاشقَين يتناجيان أو يتعاتبان.
ما زالت عيناها معلّقتين به، عندما وصلت إلى نهاية حدود السطح فاستدارت بتوأدة لتقع مباشرةً في أحضانه. قهقه ضاحكاً وقد أصابها بالرعب، فتخلصت من ذراعيه. نظرت إليه بتمعّن – رفع بصره إلى وجه القمر – نقله إلى جهة أخرى بعيدة حيث شعلة كبيرة من النار تتلاعب بها نسمات الهواء فتزيدها جنوناً، وتغيّر في تشكّلها.
وجّه كلامه إليها:
– لماذا لا ترقصين؟
نظرت إليه باستغراب.
– انظري إلى النار كيف ترقص ببراعة راقصة اسبانية.
ردّت بشيء من الحدة:
– إنها تشتعل.
– وما الفرق!
– الفرق أنها تحرق من يقربها.
– أحب أن أحترق.
نظرت إليه ولم تقل شيئاً، إذ ما زالت ثمّةَ آثار لغضبتها منه يوم أمس.
– أنا متأكد أن حبيبها إلى جانبها.
هزّت كتفيها وأدارت رأسها وابتعدت وهي تتمتم:
// أن تحترق لا يهم.. المهم أن ترقص //.
عاود النظر إليها بتمعّن وقد برقت عيناه.
نقل بصره بينها وبين القمر والنار المتراقصة.
أعاد الكَرّة.
استدار يقفز الدرجات بسرعة جنونية.
عاد بحاملة لوحاته وثلاثة ألوان.
نصب حاملة اللوحات بحركات تمثيلية.
اتجه إليها. حملها بين ذراعيه وأجلسها على الحائط المنخفض.
حرّكَ وجهها بأصابعه حتى صار في مواجهة القمر.
ابتسم وصفر صفرة طويلة ملحنة.
جثا على ركبتيه يفرش فستانها الجلناري على أرضية السطح. قام واقفاً، نظر إلى الدخان الأسود المتكاثف فوق الشعلة. أدخل أصابعه في ليل شعرها الطويل. رفعه عالياً ونفض يديه بقوة مشرداً إليه في الهواء.
دار من حولها. رفع يديها بحركات راقصة. إبقي كما أنت – لا تتحركي – لا تـ. ـتـ.. ـحـ .. ـر.. كي.
لم تكن قد ابتسمت بعد.
قالت له: أنت مجنون.
جلس قبالتها – لامس أنفه أنفها، وأمسك بيديها الراقصتين.
بالله عليكِ ألا يعجبك أن تكوني زوجة مجنون؟
هزت رأسها وسعادة خفية قد أضاءت عبوسها.
بلى.. وأنارت ابتسامتها كونه وكيانه.
راح يخرج ألوانه ويصفر مستكملاً معزوفته. عندما نظر إلى الفضاء كان القمر قد انسحب بعيداً، والنار قد استهلكها رقصها العنيف.
ترك ألوانه مبعثرة.
حملها بين دقات قلبه وذراعيه.
دار بها حول نفسه.
نزل درجات السطح.
قالت له بمكر:
– واللوحة!
أجابها بطريقة مسرحية:
– // تؤجل إلى القمر القادم //.