ما أكثر ما كنتَ تُريدهُ!
شيءٌ من الأندلسِ يُدعى فلسطين، وطنٌ في أمةٍ. ما أكثر ما كنتَ تُريدهُ! شعبٌ وأرضٌ بالتمام والكمال، إسهام في حضارة، كتابةُ تاريخٍ، موطىء تحت الشمس، ثم حقٌ وخيرٌ وجمال.
فماذا كان حصادُ أحلامك؟
كان الأمامُ الذي أمامك، حالكاً ومن سراب.
ولكنك كنت مختلفاً عنا جميعاً. لا أثر ليأسٍ عندك. حتى أنك نسيت أن تعُدَّ سنوات عمرك. بلغت التسعين في غفلةٍ عنكَ، وفيها كنت تضربُ المواعيد الصعبة، كأنك بعدُ في المراهقة. أحلامك بقامة أزمنة. راهنت، ولكنك لم تيأس ولم تبلغ الحافة أبداً. يكفيك أن الزمن الذي غلبك منذ شهرين، كنت قد غلبته مرارا.ً مؤمناً بأن الصباح دين المتفائلين.
ما أكثر ما كنتَ تُريده! كنت تريدُ أمةً تامةً. صدقت العقيدة. رأيت رُؤية معلمك. وصرت كشاوول مهتدٍ بنهضة، نصها من دمٍ، سُفك ذات غدرٍ، على رمال بيروت، وما خفت.
كنتَ تُريدُ وطناً. حظيت بالمأساة. تذررت الأمة كلّها اليوم. ذبحت وطعنت وسحلت وأُبسلت. وها أنت قد غادرتنا، والأمة قد سبقتك في الرحيل. لم يبقَ منها غير أشلائنا.
كنت تُريدُ فلسطين. ببهاء روحها وعطاء ترابها. جلجلتها لم تزدك إلا إيماناً بيوم الأحد. كنت تُريدها كُلها، من البحر إلى النهر. ماذا كانت حصتك وحصتنا منها؟ حظيت بالنكبة والنكسة والمنفى واللجوء وعواء الخيام في رياح الأرض. فلسطين هذه، حتى الله، كل الله، صار لاجئاً من دونها.
إلا أنت، عند كل خسارة، لم ينطفىء قلبك ولا وهنت لك عزيمة. فمن أين أتيت بكل هذا الزيت لمصباح قلبك؟
وكنت تُريدُ لبنان وطناً حقيقياً، لا ملجأ خائفاً أو جماعات مخيفة في جوارٍ مذعور. كانت حصتك منه أنك غادرته إلى إفريقيا، ومرة هربت منه. فأنت من سلالة الأوطان الطاردة لأبنائها، من بلد يُفاخر بالهجرة، ويقيم تمثالاً يُحتذى، للمهاجر الأول، وهو يُدير ظهره لبلده، ويبتسم لطريق الموج والبحر. يا صديقي، لقد ذهبت صرخة رفيقك فؤاد سليمان رُذاذاً. قال:"رُدهم يا بحر". نداء في خواء. بحرنا لا يسمع وأرضنا صماء.
كنت تُريدُ لبنان منارةَ فكرٍ وحريةٍ وإبداع. ساهمت بعقلك ومالك، وما جنيته في غُربتك، فأنشأت مؤسسات صحفية ودراسية وعلمية. أشعلت شُموعاً كثيرةً: "المنبر" في باريس فبيروت، "مكتب الدراسات العلمية" قديم جددته. كتبتَ وحاضرتَ ودعوت الآخرين إلى المساهمة. وكانوا مطواع رغبتك وطموحك. كانت حصتك وحظك في النهاية، أنك صارعت تنين الجهل والتعصب والتنابذ الذي صرع الأمة كلها.
ما أصعب ما كنت تُريدهُ!
كنت تُريدُ حزبك حزباً فلم…، كنت تُريدُ المغتربين روافد لوطن يحتاجهم فلم…، كنت تُريدُ أشياء كثيرة، فغبنا عنها جميعاً باستثناء واحدة، تحققت وكنت فيها منصوراً جداً.
نيالك يا منصور، لقد عاصرت تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. وعاصرت صمود المقاومة في عدوان تموز. وأنت كنت على عهد بذلك، فبلغت الوعد.
ماذا بعد؟
لقد غادرتنا. ولكننا سنُبقيك معنا. سيحرصُ الصديق سركيس أبو زيد والعائلة من كبارهم حتى الأحفاد إرثك وإنتاجك. إن الإقامة معك في غيابك، استعادة لذكريات، ونعدك أن لا تخوننا الذاكرة. ونكون أمناء على "أمانتك".