سيدة بيلاي:
حين شاهدتك، عبر الشاشةِ الصغيرة، تتحدثين عن وجود إثباتاتٍ دامغة على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية وأن المسؤولية تقع مباشرة على الرئيس السوري حصراً دون سواه لم أُفاجأ، فهذا ما ترددينه منذ العام 2011.
لقد شعرت بأنني كإنسانٍ، وكمجتمع، مستهدَف بعدوانٍ من قبلك فيما نحن بأمسّ الحاجة لوضع حدًّ لعدوان البربرّية التي تستهدف مدنيتنا ووجودنا كبشر وثقافةٍ وتاريخٍ واقتصادٍ وآثار، بربريةٌ أثبتت أنها من أشرس أسلحة الدمار الشامل التي استخدمت حتى اليوم، بعد هيروشيما ونكازاكي.. طبعاً.
إن أول ما صعقني، لحظة انتهاءِ تصريحك، أنك تجاوزت جرائم الاغتصاب الجماعي، خصوصاً أن الإجتهاد الذي صدر عنك بهذا الخصوص أعطاكِ دفعاً معنوياً ومهنياً لا يُستهان به. فحين كنتِ في محكمة "رواندا" صدر عنك اجتهادٌ راقٍ جداً، إذ اعتبرت أن جريمة الاغتصاب، المتعددة، توازي جريمة "الإبادة الجماعية" genocide، وبالتالي هي جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية تستوجب إحالة الفاعلين والآمرين إلى محكمة دولية مختصة.
لذا، يا سيدة بيلاي، من المستغرب جداً، بل ومن الفاضح، والفاقع، أنك لم تشيري إلى مرتكبي جرائم "الإبادة الجماعية" هذه، إلاّ إذا كنتِ تعتبرين أن الرئيس السوري هو الذي يرتكب هذه الجرائم أيضاً. يعني أنه في نظركِ، ثمة مصدر واحد لكل الجرائم المرافقة لعملية التدمير الشامل الذي تتعرض له سورية. وهذا ما ينزع عنكِ صفة الحيادية الملازمة لصفة النزاهة. وهنا الخطورة في الأمر.
سيدة بيلاي، إن تجاوزكِ للاجتهاد المرموق الذي صدر عنكِ في رواندا، وأصبح مرجعاً قانونياً – فقهياً، هو أخطر طعنة توجّه إلى هذا الاجتهاد، وبالتالي يسيء إلى المرأة في بلادنا إساءة فظيعة. ألا يكفي المرأة في بلادنا، أو في بعض الأوساط من مجتمعاتنا، ما تعانيه من مظالم مستدامة، حتى تأتيها أنت بظلم تجاوز اجتهادٍ يعود إليكِ بالأساس؟!…
إن هذا يسمح لي بأن أسألك: هل تعترفين بوجود وسائط مرئي ومسموع، منها الـ youtube مثلاً؟.. أنصحك بأن تتابعي قليلاً ما تنقله هذه الشبكة، بالصورة والصوت، من اجتهادات تحطّ من قيمة المرأة، بوحشية ما مثلها وحشية، وآخرها "زواج النكاح"، وهو يعطي شرعية للاستيلاء على نساء الغير، الاستيلاء على الأم والزوجة والإبنة والأخت، كـ "حقٍ للمجاهدين في أرض الجهاد". هذا ما تقوم به جحافل الوحوش البشرية التي جرى ويجري تجنيدها وتسليحها وتدريبها، ومنها مَن هو خبير أصلاً في الحروب، وبالتالي نقلها إلى الداخل السوري عبر حدود لبنان وتركيا والعراق والأردن ومنطقة الجولان السورية المحتلة من إسرائيل.
ألا تفترض النزاهة، والعدالة، والحرص على "حقوق الإنسان"، وأنتِ في موقع "المفوضة السامية لحقوق الإنسان" التابعة للأمم المتحدة، ألا تستحق النزاهة أن يعتمد هذا الاجتهاد لحماية المرأة السورية ومعها الأسرة السورية والنسيج الاجتماعي السوري وبالتالي المدنيين السوريين؟!… غريب هذا التصرف الصادر عنكِ يا سيدة بيلاي. ولا عذر لكِ في إدّعاء عدم الإطلاع على هذه الحقائق لأنها موجودة ومنقولة عبر وسائط المرئي والمسموع.
ليس عندي أي رغبة بإلصاق التهم جزافاً بكِ، لكن لا بُدّ للإنسان العاقل أن يطرح علامات استفهام عدة على هذا السلوك، وأولها: هل تتجنّبين تناول هذا الملف خوفاً من أن يوصلك إلى المسؤولية المباشرة للمنظمات التكفيرية الإرهابية عن هذه "الإبادة الجماعية"، وبالتالي عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، خصوصاً أن ذلك يتناقض مع تركيزك على شخص الرئيس السوري حصراً؟… أليس تجنبك فتح هذا الملف هو للتهرب من توجيه أصابع الاتهام إلى هذه المنظمات نفسها عن المجازر الجماعية، واحتفالات ذبح البشر، بمن فيهم الأطفال، وقطع رؤوسهم وأكل أكبادهم وسط التكبير والأهازيج وشعارات النصر، عملاً بالاجتهادات التي تصدر باسم الدين؟..
سيدة بيلاي. تعلمين جيداً أنكِ لا تحتاجين إلى عناءٍ للتحقق من هذه الجرائم، فمرتكبوها يتباهون بارتكابها ويظهرون أمام الشاشات ويعترفون بجرائمهم ويقدمونها للناس على أنها "فضائل إنسانية" وإصلاح للبشرية، عملاً طبعاً بالاجتهادات المسماة زوراً "دينية"، فيما الدين منها براء.
بكل براءةٍ، أقول لكِ أنه لا بُدّ للإنسان العاقل أن يتساءل لماذا تغضيّن الطرف عن ذلك؟… هل لأن ترويج ثقافة الإرهاب التكفيري، والإجرام والإبادة الجماعية، سيقود إلى تحقيقات ترتبط معها خيوط الجرائم حتى تصل إلى مسؤولين كبار في الحكومات الراعيةِ لهذا الإرهاب، فيما هذه الحكومات مرضي عنها من قبل واشنطن وإسرائيل وبالتالي لا يجوز لـ "المفوضة السامية لحقوق الإنسان"، التابعة للأمم المتحدة، أن تطالب بإدانة وبتحويل هؤلاء المسؤولين الكبار أمام "المحكمة الجنائية الدولية" المختصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية؟؟؟…
تزامن مع معلولا ومحاكمة فابيوس
واللافت أكثر، في ظهورك الإعلامي ـ المشهدي الأخير أنه تزامن بالضبط مع عودة البرابرة إلى اجتياح مدينة معلولا المقدسة، الرمز الكبير من رموز ثقافتنا الدينية والقومية والإنسانية والتاريخية، حيث يتحدث أهلها لغة السيد المسيح الآراميةِ ـ السريانية. عادوا إليها ليستبيحوها من جديد، ويدمروا ما تبقى من كنائسها التي تكتنز ما هو من أجمل ما في ذاكرتنا القومية والدينية والثقافية والإنسانية، ويخطفوا الراهبات، ملائكة الرحمة. الواضح أنهم كرروا ارتكاب جرمهم في معلولا لكونهم استقووا بالتواطؤ الدولي مع اجتياحهم الأول لهذه المدينة المقدسة. ومن البديهي أن يشعروا بمداخلتك الأخيرة ما يشجعهم على المضي في ممارساتهم البربريّة إذ لم تشيري أنتِ إلى معلولا. فها هم يتابعون الاستباحة فيما أنتِ توجهين الاتهام إلى رئيس الدولة. غريبٌ هذا، أليس كذلك؟…
كما أن اللافت أيضاً، في ظهورك الإعلامي ـ المشهدي الأخير، أنه يتسابق مع التظاهرة الحقوقية القضائية التي يقوم بها عددٌ من المحامين الدوليين الشجعان في سياق الدعوى القضائية، الموثقة بدقة متناهية، التي رفعوها ضد لوران فابيوس بتهمة الحضّ على ارتكاب جرائم حرب في سورية من خلال تشجيعه العلني للإرهابيين التكفيريين. وهذا ما فهمه بوضوح المحامون الرافعون لهذه الدعوى إذ استغربوا ظهورك المفاجئ وتردادك للتصريح نفسه الذي تدلين به منذ 2011 وكأن لا تغيّراً ولا تبدلاً يطرأ على المشهد السوري، وكأن الأمر هو محض مواجهة ما بين أكثريةٍ شعبيةٍ ديمقراطية مسالمةٍ وحاكمٍ مستبدٍّ يقطع الرؤوس ويغتصب النساء ويدمر المواقع الأثرية ويفكك المصانع ويهربها إلى تركيا ويرتكب المجازر تلو المجازر ويهجّر شعبه… و"مجتمع دولي" هو موضع إدانة لأنه لم يعاقبه ولو بتدخلٍ عسكريًّ مباشر..
المحامون، هؤلاء، نظموا الإدعاء على وزير خارجية فرنسا بمهنيةٍ رفيعة يصعب على القضاء أن يتجاوزها ما لم يلجأ إلى "العدالة الانتقائية"، تماماً كما أنت تلجئين إلى "الاتهام الانتقائي". لذا يعتبر المحامون، حسب ما أعلنه الناطق باسم تجمعهم، البروفسور بسام طحان، الأكاديمي والقانوني المرموق والموثوق، أنك قد قمتِ بعمل استباقي لحجب تحركهم ومحاولة إفشاله، فقال بصريح لسانه إن تحرككِ هذا كان يمكن أن يحمل شيئاً من المصداقية لو تسلّحت بالمهنية والتجرّد وتناولت في اتهاماتك المنظمات الإرهابية التفكيرية وجرائمها التي باتت تفوق الخيال، ومشاركة عتات الإرهابيين في قيادتها، بدءاً من منظمة "القاعدة" ومتفرعاتها وبناتها وأحفادها من الحركات التكفيرية التي تتوالد وتتكاثر كالفطريات وتحظى بغطاءٍ ودعمٍ من حكوماتٍ عدّة، فأشار إلى وجوب ملاحقة السيد أردوغان و"حمدَيْ قطر" وغيرهم….
لن أعدّد لكِ ما يقوله تجمع المحامين الدوليين الرافعين للدعوى القضائية ضد الوزير الفرنسي فابيوس، والمفترض بها حسب البروفسور طحان أن تفتح الباب أمام مسلسل من الملاحقات التي قد تطال العديد من المسؤولين الحكوميين في الدول المشاركة مباشرةً في حماية وتسليح وتمويل منظمات الإرهاب التكفيري.
سيدة بيلاي. ليس في استطاعتك أن تغضّي النظر عن هذه المنظمات الإرهابية الإجرامية، خصوصاً أن ثمة معطيات مادية تتعمّدين تجاهلها مثل التصريح الرسمي الصادر عن موفد الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي الذي أعلن منذ شهر نيسان الماضي أن عدد "الجهاديين" الأجانب الذين يقاتلون في سورية، منتهكين كل القوانين الدولية والمعاهدات الخاصة بمكافحة الإرهاب الدولي، قد تجاوز الأربعين ألف مقاتل تكفيري يجاهرون صراحة برغبتهم في تدمير البنى الاجتماعية ـ الثقافية ـ السياسية ـ الاقتصادية للدولة السورية وينفذون هذه الرغبة. أنت ِإذاً أمام شبكات تنفذ جرائم منظمة لكنكِ تتغاضين عنها. وهذا أمرٌ خطيرٌ يشكل إدانة لسلوككِ المفترض به أن يكون عنواناً للنزاهة والتجرد. للأسف، فعلاً للأسف.
خان العسل وخطف الرهائن
ومن الواضح وضوح الشمس أنكِ تتجاهلين أيضاً نتائج التحقيق الذي أجرته القاضية الدولية السيدة كارلا دلبونتي في شأن استخدام السلاح الكيماوي في خان العسل إذ أعلنت السيدة دلبونتي، وهي ليست أبداً من أصدقاء الرئيس السوري، ثبوت استخدام هذا السلاح المحظور دولياً من قبل المسلحين "وليس من قبل النظام". وجاء ذلك في تصريح لها موثق بالصوت والصورة. لماذا تتجاهلين تحقيقات كارلا دلبونتي؟
يضاف إلى ذلك ثبوت تورط حكومَتَي قطر وتركيا، وربما غيرهما أيضاً، في تغطية بعض خاطفي الرهائن، كما في شأن رهائن اعزاز. وخطف الرهائن المدنيين مصنَّف كجريمة ضد الإنسانية بيد أنكِ تتجاهلين ذلك. وهذا ينزع الحد الأدنى المتبقي من الصدقية التي كان يفترض أن تتحلى بها "المفوضية السامية لحقوق الإنسان"، التابعة للأمم المتحدة.
الأمم المتحدة. آهٍ من الأمم المتحدة. يبدو أن حضرتك لا تشكلين استثناءً عن القاعدة التي أشار إليها بشكلٍ تفصيلي الدبلوماسي السابق في الخارجية الأميركية، الباحث ويليام بلوم، في كتابه الشهير الذي يحمل عنوان "الدولة المارقة"، بخصوص الاتفاق السري الموقع في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي بين الإدارة الأميركية والأمين العام للأمم المتحدة آنذاك السيد "ترجفي لي" والقاضي بأن تعطي واشنطن موافقتها المسبقة قبل تعيين أي مسؤولٍ كبير في الأمم المتحدة أو في الهيئات الدولية التابعةِ لها. وحضرتك، يا صاحبة السعادة، تم تعيينك في هذا المنصب "السامي" بقرارٍ من سعادة الأمين العام السيد بان كي مون، وارتضيت لنفسكِ البقاء في هذا المنصب حتى بعد أن كشفت الأمينة العامة المساعدة للأمم المتحدة، الدبلوماسية النزيهة، المشهود لها بنظافة الكف، السيدة اينجي بريت ايهلينيوس، عن إقدام الأمين العام على التصرف غير المشروع بمالية الأمم المتحدة. سأكتفي بذلك، إذ ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يشير فيها أحدٌ إليكِ عن هذه الأمور.
سيدة بيلاي. الموضوع السوري شديد التعقيد لكن مقاربته القانونية ليست صعبة على الإطلاق. فمن كانت العدالة همّه الوحيد لا يمكن أن يضيع في الملف السوري. ثمة لعبة أممٍ قاسية، ضارية. وأنت المولجة بموضوع حقوق الإنسان ليس مقبولاً منكِ المطالبة بتدخلٍ عسكري دولي، خصوصاً أن منطقتنا شهدت هذا النوع من التدخل في العراق وليبيا، بالإضافة إلى أفغانستان، حيث لم يتورع المتدخلون من استخدام الصواريخ المزودة باليورانيوم المنضب الذي أحدث ويحدث كوارث إنسانية كان يفترض بـ"مفوضيتك السامية لحقوق الإنسان" أن تشجبها بقوة وأن تطالب بإحالةِ المسؤولين الأميركيين أمام "محكمة الجنايات الدولية" كمجرمي حرب… لكنكِ امتنعتِ عن القيام بواجبك دفاعاً عن حقوق الإنسان. سمعناكِ كثيراً تطالبين بالتدخل في ليبيا، باسم حقوق الإنسان، فحصل ما حصل من قبل الحلف الأطلسي، وباتت ليبيا في الوضع الذي هي عليه، فإذا بك تلوذين بالصمت، الصمت المدّوي. هذا مؤسف. هذا معيب. هذا مخجل، يا سيدة بيلاي.
لن أطيل عليكِ أكثر من ذلك. ولولا كل هذه النواقص في أدائك، لكنت اليوم قد بدأت رسالتي إليكِ وأنت من جنوب أفريقيا واختبرت معنى الظلم، بتقديم أحرّ التعازي بوفاة الرجل العظيم نلسون مانديلا، وهو خير قدوةٍ لنا ولأحرار العالم وللمؤمنين حقاً بحقوق الإنسان والسلام والديمقراطية والتنمية، ولكن…