"أصعبُ النقدِ نقد النقد". عبارةٌ صدّرت بها "خالدة السعيد" أحدَ فصول كتابها "البحث عن الجذور". والعبارة – على صحتها – فيها شيء من التعميم إنْ لم أقُلْ فيها تعميمٌ قاطع. فمسألة الصعوبةِ والسهولة في النقد مسألة نسبية، لا تقررها قواعدُ عامةٌ وثابتة فحسب، بل يشارك في تقريرها الذوقُ الفني، الذي مهما تقارب بين أصحاب الآراء من نقاد وقرّاء، ومهما بُني على أسس فنية، فيبقى يترجّح على كفّة الذوق الشخصي، وإنْ يكنِ الذوقُ الشخصيُّ نفسُه معجوناً بكمٍّ من الثقافة الفنية. من هنا يبدو لي أن الأصعب – والمسألة نسبيةٌ كما سبق القول – محاولةٌ جديدةٌ للكلام على رسالة أُشبعت نقداً وتحليلاً وبات البحث فيها مجدداً من غير طائل ربما…، ولكنَّ الأملَ في تطفُّل هذه اليدِ معززاً بأن الهدف من المحاولة محصورٌ في إطار محدد يجدر الخروجُ منه برأيي قد لا يُضيف إلى الآراءِ السابقة جديداً، بقدر ما سيبدو نظرة خاصة إلى رسالة رمَتْ على صدر صاحبها لقباً علمياً ومنحته درجة جامعية.
والكتاب المعنيُّ هو "شعر الفداء والانبعاث (عند يوسف الخال، وخليل حاوي، وجبرا ابراهيم جبرا، وبدر شاكر السياب، وأدونيس، وفؤاد رفقة، ونذير العظمة، وفايز خضّور، وكمال خير بك)، للدكتور الزميل لؤي زيتوني؛ عنوان مقصود لدراسة حدّدتَ غايتَها منذ البداية. يقول صاحبُها في مقدمة الصفحة الأولى: "(…) ولعل السببَ في اختيار موضوع الدراسة هو إلقاءُ الضوء على الخط الفكري التموزي في حياتنا المعاصرة من خلال شعر الحداثة".
بهذه السطورِ الوجيزة اختصر الباحث هدف الدراسة، أي بمعنى آخر الإشكالياتِ التي اعتزم الإجابةَ عنها، والتي تطالعنا بدءاً من سيميائية العنوان الذي طرحت العلاقة الجدلية بين عقيدتيْ الفداء والانبعاث، وعلاقتَهما بالاتجاه التموزي والميثة التي رأى فيها شعراء الحداثة قالباً فنياً يصلح للتعبير عن مواقفهم الوجودية حيال التحولات الحضارية والصناعية إثر الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من تطورات طرحت قضايا وجودية ووطنية عالجها شعراءُ الحداثة تارة من خلال الرمز، وطوراً من خلال الميثة والأسطورة اليونانية التي جعلوها مشجباً علّقوا عليها آراءهم حيال الموت، والحياة، وحتمية الوجود، والفداء، والتضحية والانبعاث، والتغيير؛ وبعضهم توسّل الرموزَ الدينية المسيحية، فرأوا في رمز ولادة السيد المسيح بِشراً لولادة أوطان حرّة ولخلاصها، وفي معموديته بالماء والزيت رمزاً لغسل هذا الشرقِ من صدئه ومن نتنه؛ وفي صلبه وجلجلته وموته وقيامته تجسيداً للفعل الاستشهادي الذي سينهض بهذا الشرق وسيُخرجه من ظلاميته.
ومن يتصفّح هذه الدراسةَ، يظن – خطأً – سهولة الكلام على شعر الفداء والانبعاث، وبخاصة إذا كان هذا الشعرُ لمجموعةِ شعراء عدّهم النقادُ – خلال مرحلة غيرِ قصيرة – روادَ الشعر العربي الحديث المقاوِم، ومن جملة شعراءَ معاصرين تميّزت حياتهم بالتقلبات، فمنهم من قضى حياته قريباً من الأخوان المسلمين ومن الشيوعيين حيناً، وحيناً آخر من الناصريين والقوميين العرب؛ وجاء وقتٌ كان النقّاد والثوريون ينظرون إلى شعرهم بصفته نموذجاً للشعر الجديد الذي يحلمون به.
ومما يزيد الأمر صعوبة أن الشعراء الذين شملتهم الدراسة لم يكنْ شعرهم تعبيراً عن الموات والانبعاث، عن الخصب والجدْب، عن الخراب أو إعادةِ تشكيل الحياة، عن الفداءِ أو الاستشهاد فحسبُ، بقدَر ما كان شعرُهم خلقاً للحياة ولأحلام الحرية التي قضوا عمرهم يلهجون باسمها، بتوقيعات أضفت على شعرهم نفحة حزينة، إن لم نَقُلْ سوداوية، وصولاً إلى محاولة هؤلاء الشعراء تخطّي الهموم الذاتية والاجتماعية لخلق الشعر الذي يجسّد المعاناةَ الإنسانيةَ بأقصى أبعادها، ويحقق بالتالي العملية الشعرية من خلال قصائدَ لهم مبثوثةٍ في دواوينهم، واضحةِ العناوين عبّرت عن مواقفهم حيال أحداث عايشوها، كيوم الاستقلال الفعلي لمصر، والعدوانِ الثلاثي، ومعاركَ غزّة، وأزمةِ الحرية بعد الاستقلال بسنوات 1959 والتي أدت إلى اعتقال الكثيرين وقتلهم، وما تلا ذلك من بداية انهيار المدّ الوطني بالانفصال المصري السوري سنة 1961، إلى جانب الانتصارات التي تحققت بإعلان مبدأ الاشتراكية التي ظلّت مجرد شعارات، على رأسها العداءُ للاستعمار بشكله التقليدي، وصولاً إلى سنة 1954 وهي المدى الزمني الذي انطلق منه الباحث لرسم حدود دراسته، والتي سوّغها على أنها "السنة التي شهدت بدءَ عدد من الشعراء الطليعيين بالتوافد من دمشق إلى بيروت بسبب ظروف قاسية تتعلّق بالانتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ويمتد هذا المدى في الرسالة ليصل إلى سنة 1982، السنةِ المأساوية التي بلغت فيها عملية الموات – على حد قول الباحث – حدها الأقصى بالاجتياح الإسرائيلي لبيروت، الأمرُ الذي جعلنا نشعر بحاجتنا إلى هذه الدُّفعة الانبعاثية، وهي السنة التي فقدنا فيها خليل حاوي، وقد شكّل هذا العام مصدراً خصباً للإنتاج الشعري التموزي".
بهذه العباراتِ رسم الباحث حدود الدراسة الزمنية، وهي دراسة يمكن أن نعدَّها نموذجاً نطمئنُّ إليه في إطلاق تسمية "شعر الفداء والانبعاث" على شعر هؤلاء الشعراء، وذلك لِما تميّز به من تحليل موضوعي للأشعار، وظّف فيه الباحث تقنية "التناصّ" التي ظهرت بوضوح في تحليل خطابه الشعري والذي تجادلت فيه النصوص وتعدّدت فيه الأصوات، إذ استعاد الباحث النصوص الشعرية وأعاد إنتاجَها داخل نص جديد مكتفٍ بذاته، مكتملٍ بدلالالته، مستثمراً الموروتَ الشعري والتاريخي والفكري والأيديولوجي والأزماتي، مدعماً بفسيفساءَ من الاستشهادات والتسريبات والتحويلات والاقتباسات والمرجعيات والإحالات، جسّدتها ديناميةٌ في الكتابة كشفت عن "إنتاجية" جديدة أعادت توزيعَ اللغةِ عبر التقاءِ القارئ بالنص، فأنتجَ النصُّ نفسَه بنفسِه، من خلال استقراءٍ جزئي لشعر الفداء والانبعاث أدى إلى استخلاص مزايا الكل من الجزء دونما تعسّف أو افتعال؛ فانطلق الباحث من منهج التحليل الداخلي للأشعار، أعانه منهج موضوعاتي استفاد من منهج بنيوي وسيميائي أضافا أبعاداً دلالية ومعجمية وموسيقية وفكرية وأيديولوجية ووطنية وجمالية وفنية على العمل، فالتقت التجربة الانطباعية مع النظرة الموضوعية يسلكهما خيط واحدٌ جعل من الرسالة عملاً متكاملاً ووثيقة صارمة يعتدُّ بها كلُّ صاحبِ فكرٍ منهجي وعقل نيـّر.
واجتماعُنا اليومَ لا لتقييمٍ أو لنقدٍ، فهذه ليست غايتُنا؛ لأنّ الرسالةَ غنيةٌ بإرهاصاتها وإشكالياتها ونتائجها، بل للإجابة عن السؤال الوجودي: مَنْ نحن؟ وما شرطُنا الإنساني؟ وذلك من خلال العلاقة الجدلية بين الجوابِ الفكري والجواب الشعريّ.
لقد عمل الباحث جاهداً على إيجاد الكلمة الأولى لهذه العلاقة التي أوجدها شعراء الفداء والانبعاث، بعدما تطوّروا من مرحلة المباشَرة والتقرير والهتاف، إلى مرحلة التجربة الصادقة والامتزاجِ العميق الحار بين التجربة الشخصية والقضية الوطنية القومية العامة، أو مرحلة اكتشاف همزة الوصل الفريدة بين الشاعر وعالمه؛ لأن همزةَ الوصل هذه هي ذلك الشيءُ الفذُّ الذي لا يستطيع أن يُعلن عن نفسه إلا في الشعر.
فسؤالنا اليوم ليس أكثرَ من انعكاس لأسفٍ في النَّفس على شعراء باتوا في أواخر حياتهم لا يفاضلون بين فكر وفكر، وفرد وفرد، فالأفكارُ عندهم فقدت بريقها، وصار الناسُ بين ذكيٍّ وغبي، وأخلاقي وشريرٍ، وتقدّمي ورجعي. رحلوا غيرَ مكرهين، فاستسلموا للموت استسلام عاشق لا استسلام مُرْغَمٍ، وكأنهم وجدوا في الموت حياةً تنقذهم من عالم الناس في بلادهم؛ وحدّقوا ورأَوا، ولكنْ هل رأوا شيئاً أكثرَ من غيابِ الضوء في عيونهم؟!.