قرنٌ كاملٌ من الزمن مرَّ على اتفاقية سايكس – بيكو، وواقع الدول العربية يتراجع من سيئٍ العام 1916 إلى ما هو أسوأ بكثير في العام 2016.
أضعف الإيمان أن تحصل جردةُ حساب، كاملة شاملة، إذّ إن الأعوام المئة التي مرّت على هذا الاتفاق فأوصلت إلى التردي المريع الذي نتخبط فيه، تميزت بأمرين: هيمنة مطلقة أحياناً، وشبه مطلقة أحياناً، للاستعمار الذي صنع اتفاقية سايكس – بيكو، يُواكبها انصياعٌ مطلقٌ على الدوام من قِبَل الصهيونية العربية.
إن جردة الحساب ضرورية لنتخذ قراراً واعياً مفاده ما إذا كان علينا أن نستمرّ في نهج الانصياع أو أن نضع حداً نهائياً له بحيث نبدأ رحلة الحفاظ على ما تبقى من وجودنا واستعادة كرامتنا كأحرار بدلاً من أن نستمرّ في التصرف كعبيدٍ رِقْ.
هذان الأمران، أي الهيمنة والانصياع، أوصلا إلى حالة التردي التي نحنُ فيها. فالاستعمار اختلفت وجوههُ بين حينٍ وآخر لكنه استمر، هو كما هو، والصهيونية العربية، بدورها، استمرت صهيونيةً متكاملةً مع المشروع الإسرائيلي الاستعماري بل حاميةً له حمايةً حيويةً من دونها ما كانت الصهيونية الإسرائيلية لتقف أساساً على قدميها ثم ترتدي رداء دولة فتتوسّع وتسير من انتصار إلى انتصار.
قد تكون هذه الاتفاقية اللعينة من أكثر الأحداث التاريخية التي أُسيئ فهمها وتقدير أسباب استمرارها. وعلى هذا الصعيد ضرب العرب أرقاماً قياسية في سوء التشخيص لها وبالتالي، ونتيجة لسوء التشخيص هذا، صارت الحكومات العربية في حقبة الاستقلالات تُعطي تقييماً ملتبساً لمواقف دول الاستعمار بحيث أن هذه الحكومات، وهي شديدة الغباء، يُقيم بعضها، أو معظمها، علاقات صداقة مع المستعمر الجلاد، يتبعها تفضيلٌ وتمييزٌ بين قوةٍ وأخرى من قوى الاستعمار.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر، دُرجَ على اعتبار أن اتفاقية سايكس – بيكو التي تجسدت مفاعيلها على أرض الواقع من خلال وعد بلفور، في العام 1917، أنها اتفاقيةٌ بريطانية – فرنسية فقط فيما الحقيقة أن وعد بلفور كان وعداً بريطانياً – فرنسياً – أميركياً.
كيف تمّ ذلك؟… وأين مكمن الخطأ؟
إن وعد بلفور ما كان ليحصل لولا المساندة الفرنسية لبريطانيا ثم للضغط الأميركي على الحكومة البريطانية. هذا ما يفتح صفحةً للحديث عن الدور الأميركي حصراً، في هذا السياق، والذي كان هو الحاسم.
إن الوقائع التاريخية تبرهن بما لا يقبل الجدل على أن وعد بلفور لقي معارضة شديدة من قِبَلِ منابر يهودية مرموقة في بريطانيا. وحجة هذه المنابر يومها أن الإمبراطورية البريطانية تهدف إلى إقامة قاعدةٍ عسكريةٍ لها على أرضِ فلسطين مُهمتها متعددة الأبعاد:
أولها تأمين السيطرة على طريق الهند، أيّ البلاد التي أسموها "دُرّة التاج البريطاني". فهي بلاد الخيرات، والعبيد، التي تمدّ الامبراطورية البريطانية بأعدادٍ لا تُحصى ولا تُعد من الجنود الذين تستخدمهم حكومات لندن المتعاقبة في حروبها التوسعية وتطويعها البلدان والشعوب بالإضافة إلى امتصاص خيراتها بما يُوفر المكاسب المادية الهائلة لذوي الثروات ويُسهم في بناء رخاءٍ اقتصادي اجتماعي مُطلق لا تنعَم به باقي الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية.
ثانيها للسيطرة على موارد الطاقة في منطقة شبه الجزيرة العربية وسوراقيا.
ثالثها للتحكم بالعقدة الجغرافية الاستراتيجية التي تربط بين القارات الثلاث أوروبا وآسيا وافريقيا.
رابعها أن مشروع إقامة "وطن قومي لليهود" هو أفضل ما يُكسب هذه القاعدة العسكرية مناعةً وديمومة من خلال إيجاد بُعدٍ عقائدي – ديني – غرائزي للعنصر البشري الذي ستتكون منه هذه القاعدة. فلو كانت مجرد قاعدة عسكرية لحماية المصالح الامبراطورية لكان من الممكن أن يضمحل عنصرها البشري لأنه يفتقر إلى قضية، خصوصاً أن مجازر فظيعة واجب إحداثها لانتزاع الأرض من أهلها الأصليين الفلسطينيين ورميهم في الشتات، مع ما ينتج عنها من مآسٍ وفظائع. أما إن كان جنود القاعدة يحملون تعاليم تقول لهم إن أرض القاعدة هي أرضهم وإنها وديعة الله لهم، وإنها أرضُ الميعاد لهم، لا بد من أن يعودوا إليها، وبالتالي هي جزءٌ لا يتجزأ من دينهم… فتنشأ آنذاك عندهم عصبيةٌ تتخطى بحدتها وصلابتها أي انضباطٍ يتوفر عند أي جيش نظامي في أية قاعدة عسكرية مهمتها ارتكاب الجرائم ونشر المآسي والفظائع. فكان اختيار ما يُسمى بالوطن القومي لليهود كعملٍ إنساني تقوم به الإمبراطورية الاستعمارية.
يومها قالت تلك المنابر اليهودية في بريطانيا إنه من غير الضروري أبداً تعريض اليهود لهذا النوع من الأخطار. لذلك كانوا يرفضونها، خلافاً لرأي "المؤسسة" السلطوية الصهيونية التي يتحكّم بها آل روتشيلد وهم جزءٌ من البنية الاقتصادية – المالية للإستعمار.
ونتيجةً لهذا الخلاف داخل الصف اليهودي في بريطانيا، تمهّلت الحكومة البريطانية قبل إصدار الوعد، فما كان من الرئيس الأميركي ولسن إلا أن وجّه إنذاراً للحكومة البريطانية مفاده أن البيت الأبيض جاهزٌ تماماً لشن حربٍ تدميرية ضد الجنيه الاسترليني ما لم يُصَر إلى إصدار الوعد حالاً.
قلّةٌ نادرةٌ من المؤرخين ذكروا هذه الحقيقة المفصلية. وتبين أن الإرادة الأميركية، بل الإرادة الإنغلو – سكسونية الجامعة، أبدت حرصاً على حجب هذه الحقيقة، وكذلك فعل آل روتشيلد وأصدقاؤهم آل روك فيلر في الولايات المتحدة بهدف تمرير الخدعة الكبرى.
ما هي الخدعة الكبرى؟؟؟…
الخدعة الكبرى تجسّدت بتقديم الولايات المتحدة كبديلٍ عن الاستعمار البريطاني الفرنسي أمام أعين الشعوب العربية التي كان من المتوقع أن تظهر حقداً على البريطانيين والفرنسيين يرافقه اطمئنانٌ إلى الولايات المتحدة، خصوصاً أن ولسون كان يُحضر لطرح مشروعٍ دولي ظاهره أخلاقي ومناهض للاستعمار. هذا المشروع طُرح بالفعل في شهر كانون الثاني من العام 1918 وحمل اسم "مبادئ الرئيس ولسن" لتحرير الشعوب وإقامة العدل بينها وبناء عالم يسوده السلام وينعم بالعدالة. هذه المبادئ عددها /14/. المبدأ الثاني عشر منها ينص على وجوب تسهيل مهمة الشعوب التي تتوق إلى الاستقلال بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية.
في السادس من شباط من العام 1919 وفي جلسةٍ من جلسات ما عُرف بمؤتمر الصُلح المنعقد في باريس ظهرت الخدعة بما لا يقبل أي جدلٍ، وذلك حين دخل الوفد السوري برئاسة الأمير فيصل ابن الحسين وطالب بتطبيق مبادئ الرئيس ولسن، خصوصاً المبدأ الثاني عشر ظناً من الأمير وأعوانه القادة الوطنيين السوريين أن هذا المطلب سوف يُحرج موقف البريطانيين والفرنسيين ويجعل الولايات المتحدة تقف إلى جانب الحق السوري بالسيادة والاستقلال. لقد ظنّ الأمير وأعوانه أنهم بذلك يشقون المعسكر الاستعماري في النصف وينجون من خطر استبدال الاستعمار العثماني بالاستعمار الأوروبي. وإذا بالطامة الكبرى تقع حين نظر ولسن إلى الأمير وقال له: "هل هذا يعني أنكم تفضلون أن تنتدبكم دولة واحدة او مجموعة دول؟؟؟…!!!". وكان ذلك بمثابة ضوء أخضر للفرنسيين والبريطانيين للقيام بغزو سوريا الطبيعية كُلّها واقتسامها
وما يُثير الدهشة والاستغراب أن التيارات الوطنية والقومية في العالم العربي ظلت تنظر إلى مبادئ ولسن بإيجابية متناسيةً، وربما جاهلةً، ما حدث في مؤتمر الصُلح من خداعٍ أميركي ما مثله خداع. حتى أنه في بدايات عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغن "1981-1989" قام وزيرا خارجية المملكة السعودية والجمهورية العربية السورية، سعود الفيصل وعبد الحليم خدام، بزيارة مشتركة إلى البيت الأبيض، اعتبر خدام في تصريحٍ أدلى به على مدخل القصر الرئاسي الأميركي أنه يؤدي عملاً دبلوماسياً راقياً جداً حين قال: "نأمل من الولايات المتحدة في عهد فخامة الرئيس ريغن أن تقتدي بمبادئ الرئيس ولسن"!!!… إلهي، يا له من جهل. هذه عيّنة عن الانحراف العقلي الفظيع عند المسؤولين الحكوميين في الدول العربية الذين لم يتعلّموا شيئاً مما فعلته السياسات الأميركية بحق بلادنا على امتداد عشرات السنين… وكذلك يفعلون.
إن الولايات المتحدة أظهرت حرصاً شديداً على احترام تقسيمات سايكس – بيكو لا يقل عن احترام الأوروبيين لهذه التقسيمات. ولم تمس بهذه التقسيمات إلا بعد أن قضت نهائياً على استقلالية وسيادة الدول الأوروبية التي فقدت كياناتها الامبراطورية. هذا الزحف الاميركي الذي أسقط الدول الأوروبية، الامبراطورية سابقاً، تحت سلطان الأحادية بدأ عملياً بواسطة الاحتلال العسكري لأوروبا من خلال منظومة اسمها حلف شمال الأطلسي، واكبها مشروع بناء السوق الأوروبية المشتركة الذي تحوّل في ما بعد إلى اتحاد أوروبي. ولم تلحظ الدبلوماسيات العربية أن الأميركيين هم الذين كانوا خلف مشروع السوق الأوروبية المشتركة وأن الاتحاد الأوروبي في تركيبته المؤسسية هو بمثابة نظام جديد يقوم على قطع العلاقة بشكل شبه كامل بين الشعوب الناخبة وحُكامها المنتخَبين. أي أمركة النظام الأوروبي.
وعلى مدى عشرات السنين ظلت الحكومات العربية، أو بعضها، يراهن على الخيار الأوروبي كبديل غربي للسياسة الأميركية. وهو بديلٌ كان من المستحيل أساساً أن يتحوّل واقعاً. لكن الانحراف العقلي عند الحكومات العربية جعلها لا ترى الواقع، وبالتالي تعبث مسبقاً بما كان يمكن لها أن تحصده من مكاسب لو أنها أظهرت صدقاً في العلاقة مع الاتحاد السوفياتي.
منذ وعد بلفور والكيانات العربية توظّف نفسها بشكل أو بآخر في خدمة جلاّديها من الأوروبيين، وخصوصاً منهم الانكليز والفرنسيين. فعندما حصلت المواجهة مع الحقيقة في مؤتمر الصُلح آنف الذكر كان أهل الجزيرة العربية ومن ثم أهل الهلال السوري الخصيب قد انقسموا في معظمهم بين ولاءين لبريطانيا: ولاء لبريطانيا متمثل باتخاذ جاسوسٍ انكليزي اسمه لورانس مرشداً سياسياً لنهضتهم التي اتخذت اسم "الثورة العربية الكبرى"… وتجاه يتبع الإنكليز أيضاً وقد اتخذ لنفسه مرشداً هو الجاسوس الإنكليزي الآخر فيلبي الذي اعتنق الإسلام وصار اسمه الشيخ عبدالله فيلبي. الأول يوجّه الشريف حسين والثاني يوجّه ابن سعود الوهابي والإثنان أشرفا على الحرب الأهلية في الجزيرة العربية وانتقلت العدوى إلى الهلال السوري الخصيب بواسطة الذين تجاوبوا مع الأمير عبدالله، بصفته ابن الشريف حسين وبالتالي ابن الثورة العربية الكبرى.
وحدها الثورة السورية التي اندلعت في العام 1925 كانت تُعبّر فعلياً عن الثورة الإستقلالية على امتداد سورية الطبيعية. هذه الثورة أتت بمثابة أول حرب تحرر وطني ضد النظام الإمبريالي الغربي في الكرة الأرضية جمعاء. حتى أن عدداً من الأوساط النخبوية في الغرب الأوروبي، وكذلك في الاتحاد السوفياتي الناشئ رأوا فيها ظاهرةً تُعادل بأهميتها الثورتين الفرنسية والبولشيفية.
من نكد القدر على أهل سورية الطبيعية أنهم لم يتمسّكوا بمفاهيم ومبادئ الثورة السورية الكبرى التي كان من أبرز شِعاراتها شعار "الدين لله والوطن للجميع"؛ فأصبحت هذه الثورة العظيمة مجرد فاصلٍ زمنيٍّ بين هلالين، قبلها انحطاطٌ وبعدها انحطاط، وما أحداث الزمن الذي نحنُ فيه اليوم إلا دليلٌ على أهمية مبادئ هذه الثورة.
عند محطة حرب التحرر الوطني هذه، أيّ ثورة 1925-1927 لا بد من التوقف والتأمل. ففي كيان كالكيان اللبناني اضطر المستعمر الفرنسي، لأن يُقدمَ للبنانيين دستوراً علمانياً حديثاً سنة 1926، وذلك خلافاً لاستراتيجية المستعمر الفرنسي القاضية بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية. لماذا أقدم الفرنسيون على هذه الخطوة في العام 1926؟… الجواب البسيط هو لأن الثورة السورية الكبرى أوجدت في منطقة الهلال السوري الخصيب مناخاً وطنياً لم يسمح للاستعمار بأن يتجاهله أو يقفز عليه. ولكن بعد توقف هذه الثورة، وبالتالي هزيمة هذه الحرب التحررية الوطنية، عاد المستعمر وانقضّ على الدستور العلماني فعلّقه في العام 1932 لمجرد أن اللبنانيين، وبجزءٍ كبيرٍ منهم، كانوا قد عقدوا العزم على تجاوز الموضوع الطائفي والمذهبي في شأن رئاسة الجمهورية مما كان سينسحب على بنية الدولة ككل لو طُبق دون انحراف. وجاءت خطوة المستعمر لتُزكي النعرة الطائفية وتُعزّزها بالانحراف الغرائزي. هكذا سار الاتجاه نحو الوطنية المطلقة أمراً مُحارباً من الاستعمار، فيما الاتجاه الطائفي مطلوب ومُشجع عليه حتى لو تضمن رفضاً للاستعمار إذ إن رفض الاستعمار من منطلق طائفي يختزن في جوهره انقسامات بين أهل البلاد الأصليين تخدم بدورها مخططات التجزئة الاستعمارية. لقد صار الاتجاه الطائفي هو المطلوب استراتيجياً وإن كان جنوحه ضد الاستعمار، بين حين وآخر، مرفوضاً من هذا الاستعمار تكتيكياً. وهذا الاتجاه ما زال معتمداً حتى يومنا هذا على اعتبار أن قدر الطائفية ان تستفحل. وبناء عليه حدث مؤخراً الانزلاق من الطائفية إلى المذهبية.
وبما أن التيارات السياسية والفكرية التي استقرّت في دائرة اللعبة الطائفية والمذهبية عجزت عن تقديم أي حلٍ للقضايا الاجتماعية والوطنية فإن الدوائر الاستعمارية راحت تبني عليها نظريات اجتماعية سياسية تزيد تدريجياً من استفحالها وتعتبرها قدراً محتوماً لا يمكن تجاوزه. وجرى البناء على هذه الحالات باسم "الواقعية السياسية" التي تُشكل في حقيقة الأمر نقيضاً فاضحاً للواقعية. وهذا ما عزّز الانحراف السياسي والوطني. على صعيد المثال وليس الحصر، أنه جرى تصوير الاتجاه الإسلامي على أنه الممثل الفعلي والواقعي لنهج المناهضة للاستعمار، وبالتالي صار تظهير الحالة المسيحية على أنها قريبة من الاستعمار وقابلة للتفاعل معه والانخراط في مشاريعه. وفي هذا السياق أيضاً جرى تقديم هذا الأمر على أنه جزءٌ من الواقعية فيما هو انحراف عن هذه الواقعية.
هذه التركيبة الأيديولوجية هي في أساس المفهوم الخاطئ الذي جرى ترويجه ومفاده أن الغرب مسيحيٌّ وأن الشرق مسلم. دائماً باسم الواقعية السياسية المنحرفة عن الواقع الفعلي الذي تتوضح فيه الصورة الحقيقية بأن لا الشرق مسلم، بالمفهوم الديني للإسلام، ولا الغرب مسيحيٌ بالمفهوم الديني للمسيحية.
أليست هذه هي المشكلة التي تعيشها الآن بلادنا، من ضمن باقي المشاكل وما أكثرها؟… وبناءً عليه، جرى ترويج المفاهيم الخاطئة القائلة بأن إسلام هذه البلاد يرفض المشروع الصهيوني فيما تقبله مسيحية هذه البلاد. وكُلّها نظريات تافهةٌ فاسدةٌ كاذبةٌ الهدف منها تدمير المجتمع من الداخل. ولقد أتت المأساة الفلسطينية، وهي مأساةٌ قوميةٌ في الصميم، لتُكذب هذه النظريات التي روّج لها الاستعمار وتلقفها الطائفيون والمذهبيون في بلادنا على خلاف اتجاهاتهم، أكانوا رافضين للاستعمار أو قابلين للتفاعل معه. وفي خطٍ موازٍ لذلك كان الاستعمار، ومنذ سايكس – بيكو ووعد بلفور، يُحضر الإثنيات لتكون هي صاعق تفجير كيانات سايكس – بيكو لاحقاً، وبالتالي أداةً لتقسيم المقسّم من منطلق التحالف الظاهري أو الضمني مع قاعدة إسرائيل العسكرية. وعلى هذا الصعيد أيضاً روج الاستعمار لسياسة الاستثمار في الفروق الإثنية، أو بالأحرى التنوّع الإثني، واعتبارها عقبات لا يمكن تجاوزها إلا بالقمع الديكتاتوري. أي أن الانتماء الإثني يجب أن يُرفع إلى مستوى "كيان"، وذلك طبعاً باسم الواقعية السياسية ما يعني أن الديمقراطية المعتمدة في الغرب لا تصح في بلادنا ما لم تستقل الكيانات الإثنية عن كيانات سايكس – بيكو، وأن هذا يتطابق مع "الواقعية السياسية". فلو أخذنا مثالاً مشاريع الاستعمار للإثنية الكردية لوجدنا أنها تعمل على التقسيم باسم مبادئ سامية وشعاراتٍ كاذبة تُخالف واقع الإثنية أو بالأحرى الإثنيات الكردية التي وزعتها تقسيمات سايكس – بيكو على كيانات عدة تتحكم بها قيادات عدة.
هنا أيضاً جرت وتجري عملية تزوير ثقافي وطني مذهل. يتمثل بتصوير الكُرد كـ "جسمٍ منفصلٍ" عن المجتمع. وهذا ما كذبته الوقائع السورية منذ قرون، خصوصاً منذ قيام نظام سايكس – بيكو – بلفور. فالسوريون، من الإثنية الكردية، ثاروا على الاستعمار الفرنسي كسوريين، وطنيين – مواطنين، وتحوّل بعضهم إلى رمز للقومية السورية وللعروبة الثقافية الحضارية. ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر منابر كبيرة الشأن مثل حامي حمى اللغة العربية محمد كُرد علي. "والمفارقة أن والده كان من الإثنية الكردية وأمه من الإثنية الشركسية"، وهو الذي أسس مجمع اللغة العربية وبالتالي له فضلٌ كبير في حماية اللغة العربية. وساطع الحصري كبير مُنظّري ما عُرف بالقومية العربية العلمانية، وابراهيم هنانو أحد ألمع الوجوه القائدة للثورة على الاستعمار الفرنسي إلى جانب سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي وفارس الخوري وغيرهم الكُثر من أبناء هذه الإثنية ممن ارتبط اسمهم بالفكر النهضوي الوطني الاستقلالي الحديث، وفي مقدّمتهم جميعاً البطل القومي السوري العظيم الشهيد يوسف العظمة رمز معركة ميسلون المباركة، معركة الفداء الاستشهادية. لكن الانحراف العقلي الذي عمل الاستعمار على بنائه واستثمر فيه يتعمّد تجاهل هذه الحقائق.
ماذا نرى اليوم وبعد مئة سنة على سايكس – بيكو – بلفور؟…
نرى مَن باسم الإثنية الكردية، وبالتعاون مع الاستعمار، يحاول إعادة الحياة إلى المشروع الاستعماري، وذلك كالمشروع الذي طُرح منذ فترة قريبة بعنوان "فيدرالية في الشمال السوري"، وهو مشروع يحمله حزب يقول بالهوية الكردية المستقلة، ويقدّم نفسه كجسم منفصل عن المجتمع السوري بينما هو لا يمثل السوريين الذين هم من إثنية كردية، بل هو مجرد تيار سياسي يُظّهره الإعلام الاستعماري على أنه يختصر السوريين من الإثنية الكردية.
إن من فظائع الانحراف العقلي الذي أحدثته ثقافة سايكس – بيكو – بلفور هو أن المأساة الفلسطينية الفظيعة تكتمل فصولها وتستمر مع الزمن بسبب ثقافة الطائفيات والمذهبيات، سواء في المحيط الفلسطيني الضيق أو في المحيط القومي الكبير.
إن أبناء البلاد هم الذين يساعدون الاستعمار على بعث الحياة في ثقافة سايكس – بيكو – بلفور إذ، يكفي القليل من التفكير واستخدام العقل، لتلافي الجنوح في مسارات التناقضات الطائفية والمذهبية والإثنية.
أليس من المدهش أن يكون أهل فلسطين، وبعد 68 سنة من عمر النكبة، منقسمين على أنفسهم، عاجزين عن طرح مشروع موحّد لمواجهة البربرية الصهيونية التي تجاوزت بوحشيتها كل ما عرفته الإنسانية سابقاً من ظواهر التوحش والبريرية؟؟؟…!!!….
إن عدم الاستفادة من التجارب يعكس انحرافاً عقلياً ما مثله انحراف. ومن الأمثلة المذهلة أيضاً هو أن الاستعمار تمكّن باسم الدين الإسلامي، وآخر همه الدين الإسلامي طبعاً، أن يُجند الدول العربية في مشروع "الحلف الإسلامي" في الستينيات من القرن الماضي كتعبير عن رفض العلاقة مع المعسكر السوفياتي، وذلك بحجة أن هذا المعسكر يُمثل الإلحاد. وأيضاً كوسيلة لمواجهة معسكر عدم الانحياز. وحقيقة الأمر أن المقصود من مشروع "الحلف الإسلامي" كان لمواجهة المد الناصري الوطني التحرري المناهض للاستعمار الغربي. هكذا جرى تجيير الحالات الإسلامية في سياق خدمة المشاريع الاستعمارية. وكان البريطانيون قد استبقوا ذلك برعايتهم لانطلاق ظاهرة "الإخوان المسلمين" في أواخر العشرينيات من القرن الماضي. ومع هذا التيار برزت ظاهرتان: الأولى أن هذا التيار الإسلامي يعادي الغرب من منطلق ثقافي، والثاني أن هذا التيار يتبع الغرب من الناحية السياسية، أي أنه يُعادي الثقافة الغربية لكنه، في الوقت نفسه، يتبع المشروع الاستعماري الغربي. والظاهرة مستمرة حتى اليوم. فما من منعطف تاريخي إلا وكانت هذه الحالة مادة استغلال من قبل المعسكر الإنغلوساكسوني. ولقد بلغ الانحراف حداً أن أحد المرشدين لهذا التيار، والذي أمتنعُ عن تلويث هذه الافتتاحية باسمه الكريه، لم يتردّد في القول مع بداية الحرب الدولية الاستعمارية لتدمير سورية:
"لو عاد الرسول، عليه الصلاة والسلام، لَتحالف مع الناتو"!!!…
فبعد عشرات السنين من سايكس- بيكو- بلفور، وعلى أبواب المئوية الأولى لهذا الاتفاق والوعد، تمكن الاستعمار من السطو، أو بالأحرى من الاغتصاب، لشرائح واسعة من الجماهير التي جعل منها كُتلاً بشريةً غاضبةً، عنيفةً، تُساند منظمات الإرهاب التي يتبين من خلال حرب تدمير سوراقيا أنها مصنوعةٌ ومدعومةٌ ومستخدمةٌ من قبل المعسكر الإنغلوساكسوني. فدورها الأبرز هو المذابح والفتن بين المسلمين أنفسهم باسم الإسلام. قرن كامل من الزمن وتياراتٌ سياسيةٌ ترفع الدين شعاراً وهي تتبع جلاديها. فهل المطلوب أفضل من ذلك للإنتقال إلى تقسيماتٍ جديدة؟…
ولكن، مقابل هذه الموجات التكفيرية المعادية للوطن وللإنسان وللدين وللثقافة وللحضارة وللتاريخ، تقف تياراتٌ وطنيةٌ وقوميةٌ وديمقراطيةٌ، تقف مدافعةً عن وحدة الأرض والمجتمع بينما على أرض فلسطين المعذبة، يظهر إنسان جديد ابن ثمانِ سنواتٍ أو عشر يُهاجم بصدره العاري دبابات الميركافا الصهيونية بلا خوفٍ ولا رادعٍ. هذا الإنسان وتلك التيارات هم الذين يُخيفون المستعمر وقاعدته العسكرية إسرائيل فيطلق عليهم المستعمر وحوشه التكفيرية ليدمرهم ويدمر إرادة الحياة عندهم، لكنهم يصمدون ويكتبون بصمودهم صفحات جديدة من التاريخ قد يكون النصر حليفهم إن هم تابعوا ولم ينهزموا.
لذا لا يجوز أن نقفل الذكرى المئوية لسايكس- بيكو- بلفور من دون الاعتراف بوجود مقاومة فعلية تتصدى لهذا الانحطاط المدعوم من المستعمر ومن قاعدته العسكرية إسرائيل ومن الصهيونية العربية اللعينة.