في رواية "ارض وسماء" تختم سحر خليفة ثلاثيتها بعد روايتي "أصل وفصل" وحبي الأول"، كما تختتم بحثها عن ماض يجيب على أسئلة تؤرقها حول الأسباب التي أدت إلى ضياع فلسطين وإلى الفوضى التي تضرب اليوم المفاهيم والقيم وتعيث خراباً وانقساماً في المجتمع. فسحر خليفة التي واكبت في رواياتها السابقة حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، نضالهم والأزمات التي يعيشونها، آثرت، في هذه الثلاثية أن ترجع إلى الأصل، أن تنظر إلى المسببات التي أدت إلى هذا الحاضر المأزوم، أن تلجأ إلى التاريخ باحثة عن وجوه رجال قادوا ثورات ورهنوا حياتهم للنضال في سبيل تحرير الوطن ورقيه، ولكنهم كانوا ضحية للجهل والانقسامات والمؤامرات، ضحية لمتزعمين يخافون على مناصبهم ومكاسبهم أكثر من خوفهم على الوطن، فيرفضون أن يمدوا يد العون لهؤلاء المناضلين الذين يقودون ثورات محكومة بالفشل، لا يتوخون منها إلا وقفات العز والمثال الذي قد تقدمه للأجيال الآتية… أسباب داخلية وأخرى خارجية لشعب لا يراد له أن يدرك النهضة وهو لا يعرف كيف ينهض. لذلك لجأت إلى النوع الأدبي الذي يخدم تلك الأهداف، ألا وهو الرواية التاريخية التي تمزج بين الحدث الواقعي المأخوذ من التأريخ وبين أحداث متخيلة، بين شخصيات تاريخية عاشت وكتب عنها المؤرخون وكتاب السير الذاتية وشخصيات من نسج خيال الكاتب.
في ملتقى القاهرة للإبداع الثقافي، عام 2008 لخصت خليفة الاسئلة التي تشكل الحافز الفكري الذي تنسج حوله رواياتها بقولها: "لدينا سؤال، لديّ سؤال. أنا المحتلة لديّ سؤال. أنا المهزومة لديّ سؤال. أنا المأزومة لديّ سؤال. وسؤالي هو: لماذا هُزمتُ؟ أين القوّة ونقاط الضعف؟ مَن أنا، مَن هم، مَن يعرفني؟ والسؤال الأهم: هل أعرفني؟" وتضيف: "هذا ما أسعى لتحقيقه. لأني قبل أن أكون فنّانة، أنا إنسانة، بنت البيئة، والاحتلال، والهزيمة. وفنّي هذا لخدمة ذاتي، دفاعا عنها، ذاتي الكبرى في مجتمعي، لأني محروقة من الداخل ومن الخارج، ولا يُمكنني أن أغضّ النظر عن هذا الوجع وآلامه".
في "أرض وسماء"، يلقى القارئ الشخصيات المتخيلة التي رافقها منذ الرواية الأولى، فيتجدد ارتباطه بها كصداقة قديمة نسج معها، على مدار الصفحات، علاقات وطيدة. فنضال مثلاً، الراوية، عرفناها طفلة، منذ رواية "أصل وفصل"، تتعلق بثوب جدتها وتستمع إلى حكاياتها وتنبؤاتها، تنقل روايات عن المغامرات التي يعيشها أفراد عائلتها، منذ اندلاع ثورة عام 1936 في فلسطين وخيار الخال الأكبر وحيد في الانضمام إلى أفواج المقاتلين ضد الانتداب البريطاني مع عز الدين القسام، ثم الخال الثاني أمين الذي انضم إلى الجهاد المقدس مع عبد القادر الحسيني في ال48، ومعه ربيع، الشاب الذي كان حبها الأول. كانت فتاة صغيرة في رواية "حبي الأول" تسترق النظر من خلف الباب لترى ما يجري خلال اجتماع خالها مع رفقائه، وتذهب مع جدتها لملاقاة الثوار في الجبل وتنسج قصة حب طفولية مع الفتى ربيع الذي يرافق الثوار. وها نحن نلقاها امرأة سبعينية، وقد عادت إلى دار العائلة في نابلس بعد أن طافت بلداناً عديدة وأصبحت رسامة مشهورة، ونستقبل ربيع الذي غدا كهلاً يأبى أن يكبر ويقتات من فضلات الماضي، يكتب رسائل نصية لنضال ليخبرها كم ما زال يحبها ويطلب عشرات المرات يدها للزواج، فبالنسبة إليه قد توقف الزمن عند حدود ذكرياته الإنتقائية. يصبح البحث عن الماضي الذي يتماهى مع الفردوس المفقود ضرورة حيوية تعطي معنى لحياتهما. لتنفيذ هذا الغرض، تعمل الشخصيات في الحكاية على التنقيب في الرسائل وعلى تداول الرواية، وتعمل الكاتبة من جهتها، كما فعلت في رواية حبي الأول، على التنقل بين زمنين، الزمن الراهن الذي يتطابق مع زمننا الحاضر، والماضي المستعاد، أي عامي 1948 و1949.
تغدو استعادة الزمن المفقود هي الشغل الشاغل لهاتين الشخصيتين المحاصرتين في منزل آل القحطان في نابلس بحصار الإسرائيليين الذين يفرضون منع التجول في المدينة وبحصار العمر الذي تقدم بهما دون ان تصلا إلى استنتاجات واضحة حول ما مر بهما وبالوطن من نكسات. وتنضم إليهما شخصية ثالثة في البحث عن الماضي، لارا، إبنة أمين القادمة من بيروت والتي عاشت في فرنسا بعيدة عن والدها، فارادت أن تتعرف إليه أكثر وهو يشارف على الموت وأن تساعده في كتابة مذكراته، فجاءت إلى بيت العائلة في نابلس لتبحث عن الرسائل التي كان قد خبأها في القبو.
كما تسير الرواية على وقع خطوات الشخصية التاريخية التي اختارتها لتكون المحطة النهائية لثلاثيتها: أنطون سعاده، مؤسس وزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي. معه تطرح أسئلتها الصعبة، تواجه الإشكاليات، وتنسج، بواسطة السرد، معبراً للأجيال الآتية.
سوف نبحث في الجزء الأول من دراستنا في مسألة الاصوات الروائية وتداول الرواية، بينما ننظر في الجزء الثاني في خصائص الرواية التاريخية واستعادة الماضي.
أ- الأصوات الروائية.
في المستوى الاول، يأتي صوت الراوية الأولى، نضال القحطان، التي تروي ما يحصل معها في زمن القص أي الزمن الحاضر، تحكي عن علاقتها بالشخصيات الأخرى، وعن سعيهم إلى تدبر أمورهم في ظل الحصار، عن انقطاع الماء الذي يسرقه المستوطنون واستعادته من قبل مجموعة من الشباب…و تسترجع، في رواية تكرارية بعض المقاطع التي سبق وروتها في رواية "حبي الأول"، لكي تعيد ربطها بزمن القص، ولكنها هنا رواية ملخصة، تكتفي بالضروري من الأحداث. هي الراوية الأولى، تلك التي توزع دور الرواية على الرواة الآخرين، تتولى إدارة الروايات المختلفة، فهي، بحكم طبعها وتجاربها، تدرك أن "الأمور ليست محددة ببعد واحد" ، وأن لكل راو إضافته على الماضي الذي يسعى الجميع إلى سبر أغواره. هي، في زمن القص، راوية_ذاتية، أي أنها تروي أحداثاً تكون هي الشخصية الرئيسية فيها، ولكنها، كما كل الشخصيات الرئيسية في الرواية العربية الحديثة، مولجة بطرح الأسئلة، لا بعرض قناعات مطلقة، خطابها "ينسج علاقاته البنائية، راو شاهد، دوره الإيحاء إلى مجرد مسار، أو الإشارة إلى مجرد راهن، وبلورة أسئلة، حائرة أحياناً، أو مضمرة أحياناً أخرى، لكنها تطلب التأمل والمجادلة والبحث عن حقيقة معرفية قابلة لأن ترفض." ، كما تصبح نضال، مجرد شاهد في كل ما يتعلق بزمن الحكاية، أي الماضي الذي لم تلعب فيه دوراً فاعلاً، فنضال في ذلك الزمن، لم تكن موجودة مع خالها أمين وربيع اللذين، بعد النكبة والخروج من فلسطين، التحقا بأنطون سعاده في ضهور الشوير. كانت شابة صغيرة أودعها خالها في دير للراهبات في القدس لكي تكمل تعليمها، كما غابت بعدها عن التطورات التي لحقت بالمجتمع في فلسطين المحتلة بسبب سفرها ودورانها بين المعارض والمؤتمرات ونوادي الفن. لم تكن في فلسطين ولا كانت في لبنان. تقول: "عشت أجواء أنستني حقيقة بلدي وعمق جذوري" . عليها إذن، لكي تعوض الغياب وتزيل الغموض عن الماضي، بهدف التصالح معه أو ايجاد بعض الإجابات على أسئلتها، أن تلجأ إلى رواة ثانويين يفصحون عن رؤيتهم للحكاية وتتحول هي إلى مستمعة تتلقف روايتهم.
في المستوى الثاني، رواة ثانويون بعضهم تنطلق حكايته من زمن القص لتسترجع الماضي، وآخرون رووا في الماضي واطلعت الراوية الأولى ، بالإضافة إلى الشخصيات التي ترافقها، على رواياتهم من خلال رسائلهم المخبأة في قبو البيت. وجدوها في عمود سرير، أو في فراش عتيق أو في قعر صندوق…
الرواة الذين يروون انطلاقاً من زمن القص هم: ياسمين الجارة التي تحكي، في رواية ملخصة تكرر مشهداً في حبي الأول، قصة الولد سعد الذي هرب من اليهود وخبأته هي خلف الخزانة، لارا التي تخبر ما حصل لوالدها بعد غيابه عن أهله طوال السنين الماضية، كاهن الكنيسة السامرائية الذي يخبر عن هجوم المستوطنين اليهود على الكنيسة وتنكيلهم بأحد كهنتها الذي رفض المغادرة، وأخيراً ربيع الذي يتقاسم مع أمين رواية الماضي، يسد بعض الثغرات الموجودة في رسائل أمين، يحكي وجهة نظره ليبرر هروبه وتركه لنضال ولكل المبادئ التي بنى عليها أحلامه، كما يروي بشكل خاص عن ليزا، رفيقة الثورة، كأنه يريد أن يدافع عنها في مواجهة اتهامات لارا وحقدها. تقول نضال في عبارة تظهر فيها مسوغات تداول الرواية: "في المساء، حكى لي ربيع قصة ليزا وما رآه بأم عينيه."
أما الأصوات الروائية الآتية من الماضي فهي أولاً صوت أمين الذي يحكي في رسائله التنازع الذي يعيشه من جراء حبه لليزا التي لا تبادله المشاعر بل تكن حباً مجنونا لأنطون سعاده وشعوره بالغيرة تجاه زعيم الحزب الذي انتمى إليه والذي يكن له في نفس الوقت مشاعر الإعجاب والتقدير. يكتب: "العقل بواد والقلب بواد وأنا كورقة معلقة على غصن خريفي ناشف والبرد شديد" .
ليزا أيضاً راوية ثانوية، يأتي صوتها من الماضي عبر رسائلها إلى ربيع صديقها، رسائل تشرح له فيها عمق النزاع الذي تعيشه هي الأخرى بين إعجابها بسعاده وتقديرها لزوجته جولييت ومشاعر الغيرة التي تنهشها، فسعاده الذي تخطى قصة حبهما القديمة بعد أن رفضت أن تكون إلى جانبه في رحلاته كما في نضاله، تزوج في الغترب وعاد مع زوجته وبناته إلى الوطن ليعمل على بناء حزبه وأدركت ليزا أنها ما زالت تحبه وراحت تجري المقارنات بينها وبين زوجته، فتكرهها حيناً وتعجب بها أحياناً.
هكذا تعمل روايتا ليزا وأمين على أنسنة سعاده، الشخصية التاريخية الرئيسية في الرواية، إذ تظهرا صورته ليس من خلال لوحة تاريخية جامدة بل عبر قصص الحب والغيرة التي تركز على الجانب الإنساني منه وتجعله أقرب إلى القارئ.
أما سعاده، فيغدو هو الآخر راو ثانوي حين يروي، خلال قصة الحب التي جمعته بليزا، ما يحصل معه في رسائل إلى ليزا، أودعتها هذه الأخيرة لدى ربيع.
ولكن الرواة الثانويين لا يتفردون بدورهم في الرواية، وقد يمنحون التداول إلى رواة من المستوى الثالث ليخبروا أحداثاً غابوا هم عنها أو ليتركوا لهم أن يبدوا وجهة نظرهم في الحكاية. فقصة إعدام سعاده يرويها الكاهن الذي عرفه ورافقه في اللحظات الأخيرة لأمين وربيع اللذين يرويانها لنضال، وليزا قد تتحول راوية من المستوى الثالث حين تحكي قصتها لربيع الذي يحكي بدوره القصة لنضال.
مستوى خاص تتبوأه جولييت المير سعاده التي تروي حياتها في المغترب القسري مع سعاده إلى ليزا التي تنقل هذه الحكاية إلى ربيع الذي يخبرها إلى نضال، فهي إذاً راوية من المستوى الرابع وهو مستوى يندر أن نجده في الرواية وفق جيرار جونيت.
في الحكاية استعادة للماضي وفي استعادة الماضي مزيج من الفرح والألم، فرح استذكار أيام الصبا التي حملت آمالاً كباراً ومشاعر حب ترفع الشخصيات فوق صعوبات الواقع، وألم إدراك التناقض الحاصل بين الزمنين، بين الماضي المبارك والحاضر المأزوم. تقول نضال وهي تستمع إلى ربيع: "حين يحكي أنسى مرضه وأعود صبية تتلهف على كلمة حب قد تنسيني نكبة بلدي وفراق الأهل؟"
يصبح فعل القص وسيلة لتملك ماض يهرب من الشخصيات، وسيلة لإدراك التاريخ وعبره إدراك الذات، بالإضافة إلى كون التداول الروائي يمنح القصة شرعية ومصداقية، بالأخص حين تلجأ الكاتبة إلى أسلوب افتتحته مع رواية "أصل وفصل" وهو أسلوب التوثيق الذي يشكل جسر عبور بين الرواية والتاريخ.
ب- الزمن المستعاد.
تمزج الرواية التاريخية بين الأحداث المتخيلة والأحداث الحقيقية، بين شخصيات متخيلة وأخرى تاريخية. وغالباً ما تحتل الشخصيات المتخيلة الصف الأول، بينما تكون الشخصيات التاريخية شخصيات ثانوية. في رواية "أرض وسماء"، الشخصيات المتخيلة الرئيسية هي نضال وربيع وأمين ولارا وسعد وياسمين، أما ليزا، فهي أيضاً شخصية متخيلة نسجتها الكاتبة منذ رواية "حبي الأول" ولكنها استعارت لها بعض الرسائل من تلك التي أرسلها سعاده إلى إدفيك جريديني شيبوب في الفترة التي شهدت قصة حبهما قبل رحيله إلى المغترب. الشخصية التاريخية الرئيسية هي شخصية أنطون سعاده، وهناك شخصيات تاريخية تلعب دوراً أقل أهمية كجولييت المير سعاده وحسني الزعيم، بالإضافة إلى بعض الشخصيات الحقيقية التي تعبر الرواية بسرعة، دون أن يكون لها تأثير يذكر في الحكاية .
إن وجود أنطون سعاده في الرواية هو تكملة لرحلة البحث التي بدأتها الكاتبة مع "أصل وفصل" عن قادة تاريخيين خاضوا المعارك في سبيل الذود عن الوطن وحملوا في نفسهم نقاء القادة الحقيقيين، كما هو استكمال لاستقصائها حول خطة نخشون -الخطة حملت اسم نخشون وهو أول جندي يهودي وصل إلى فلسطين- التي تقضي بالقضاء على القادة العرب في سبيل سحق مقاومة الشعب. في رواية "حبي الأول" يكتب أمين بعد معركة القسطل: "ذهب القائد فتيتمنا."
بعد النكبة، بحث ربيع عن سبيل جديد لتحرير فلسطين، فرافق أمين، شقيق رفيقه ومربيه وحيد الذي استشهد في القسطل مع الحسيني، إلى لبنان للالتحاق بصفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي لذي كان أمين عضواً فيه. فسعاده الذي، كما تقول الرواية، كان أول من حذر من الخطر الحدق بفلسطين."حين كتب عن فلسطين في سان باولو، سبق من كانوا في قلب القدس." سعاده كان سبيلهما للعودة إلى الكفاح في سبيل استعادة أرضهم المسلوبة.
وظيفة أمين الأولى تتجلى في ربط التجربة التي يعيشونها مع سعاده بالتجربة التي عاشوها مع الحسيني للوصول إلى استنتاجات حول أسباب الخسارة، فتجري روايته على وقع الاسترجاع. هذه التقنية تعود بأمين إلى زمن القسطل وموت القائد هناك، كما يحصل حين يسمع سعاده وهو يتناقش مع المسؤولين في حزبه الذين، وفق أمين، لا يقدرون تعقيدات الواقع، بل ينجرون وراء أحلامهم، وهذا ما يعيده إلى أسباب فشل ثورة الحسيني. قد ينطلق الاسترجاع من رائحة، تعيد إليه الزمن المفقود، كما في تجربة "المادلين" لمارسيل بروست. "سماء بيروت تتضوع برائحة البحر وزهر البرتقال وكعك بسمسم. رائحة بيروت تخدرني وتذكرني بشاطئ يافا وحواري القدس. بيروت أدفأ من القدس لأنها تمتد على الساحل وضفاف البحر." ووفق توارد الخواطر، يعود أمين إلى مشهد قائد القوات جيش الإنقاذ وهو يسأل الحسيني إن كانت القدس ليست مدينة ساحلية، فلماذا يولونها كل هذا الاهتمام، ويرفض مدهم بالسلاح لكي يدافعوا عن تلك المدينة التي تبدو لهم أقل أهمية من يافا. تظهر تقنية الاسترجاع بشكل مكثف في ذكريات أمين بحيث لن نحصيها كلها في دراستنا هذه، لذلك سنكتفي بإضافة مثال أخير على ما أوردناه وهو ربطه خيانة حسني الزعيم لأنطون سعاده بخيانة الزعماء العرب للحسيني واستنتاج العناصر المشتركة بين التجربتين أعني بذلك الخيانة في مواجهة الصدق، التكتيك في مواجهة الأحلام والحنكة في موجهة المناقب وعزة النفس، القوة الفعلية في مواجهة أناس مؤمنين لم يسمح لهم باقتناء السلاح الفعال. ويخلص أمين إلى القول إن سعاده، كما أبو كمال، كما الحسيني، كان يعرف مصيره ولكنه اختار طريقه. يضيف: "كلهم استجاروا بالعروبة وخذلتهم. مال وسلاح في المخازن ونحن نقاتل بلحم الأجساد والأظافر. هكذا اجتهد الحسيني في ذلك الوقت، كما اجتهدنا وسعاده. هذا ما كان." ربيع أيضاً يلجأ إلى الاسترجاع في روايته ليبرر هروبه إلى كندا في الساعات الأخيرة من الثورة، فهو لم يستطع تحمل فكرة تكرار التجارب المريرة وفشل الثورة وموت القائد: "تراءت لي صورة سعاده خلف القضبان، وربما تعذيبه وإعدامه. وتذكرت القسطل وفجيعتنا، وسقوط القسطل ثانية، ثم دير ياسين وكل القرى في محيط القدس، وما تلا ذلك من فجائع وهزائم."
وقد تلجأ الكاتبة أيضاً إلى تقنية الاستباق التي تشير إلى راو عليم يفتح سبيلاً لمعرفة مستقبل الأحداث، ثم يعود بعدها إلى حيث انقطع حبل الرواية فبينما يروي أمين مشهد الأول من آذار والخطاب الذي طلب منه سعاده أن يلقيه في المناسبة، ينطلق بنا نحو مستقبل يعرفه هو كراو عليم يحيط بالحكاية بكاملها ويجهله القارئ والشخصيات في تلك المرحلة من الرواية، انطلاقاً من وصفه للتعابير التي ارتسمت على وجه سعاده، فيشير إلى تفوقه المعرفي على الشخصيات قائلاً: "ما كان يعرف ما كان ينتظر ذاك الآذار، آخر آذار، له ولنا ولكل الرفاق. من منهم عاش ومن منهم مات، من منهم بقي لأحزانه ووخز ضميره، من منهم هرب إلى الخارج…" ويعود بعدها الراوي إلى المكان الذي انقطع فيه حبل الرواية، وينزل عن المنبر ويتلقى التهنئة من سعاده. ونسمع من ربيع رواية عن مشاهدته لرجل غريب بزي الضباط السوريين يزور حسني الزعيم بشكل سري وتساؤله عن هذا الرجل. وبواسطة الاستباق، يأخذنا إلى فترة زمنية مستقبلية يكون خلالها في كندا ويتعرف على الرجل من خلال صورة له عل غلاف صحيفة التايمز، فإذا هو موشي شاريت، وزير خارجية إسرائيل.
في رواية سحر خليفة ليس التاريخ مجرد خلفية للوحة تظهر في مقدمتها الشخصيات المتخيلة التي تتفاعل مع الحدث، بل يتحول التاريخ إلى محور للحكاية وللقصة، كما للتفكير. تدور حياة الشخصيات ووظائفهم حول استعادة التاريخ بواسطة القصة لاستخلاص العبر ايصالها إلى الأجيال الآتية التي تحمل الأمل الهارب من الماضي والذي غاب عن الحاضر المحاصر بالأزمات.
ج- الزمن الدائري
حين لا يتعلم المجتمع من أخطائه، يعيد التاريخ نفسه حاملاً نفس المعاناة ونفس الفشل، ولعل أفضل ما يدل على المسار الدائري للزمن الأغنية التي اختارتها نضال لتكون رنة لهاتفها الجوال: "نلف بدواير والدنيا بتلف بينا، ودايماً ننتهي لمطرح ما ابتدينا…" لكن تلك الدوائر لا تحاصر إلا من استسلم لدورانها العقيم، بينما يجد البعض له منفذاً إلى خارجها. هذا البعض هو بالدرجة الأولى الجيل الجديد، المنفتح على الماضي دون أن يتبنى بالضرورة كل خيارات من سبقوه، فالفتى سعد مثلاً، الذي يختار مواجهة المحتل، يرفض عرضاً للسفر إلى كندا ليكمل تعليمه، مخالفاً مثال ربيع الذي هجر من يحب وانقلب على ما آمن به ورحل. ولعل في موقفه من أزمة انقطاع الماء دلالة واضحة على تبنيه لخيار الصراع.
تتجلى في الحاضر أزمة انقطاع الماء من نابلس التي كانت في ما مضى تعوم فوق "بحيرة من الماء العذب يكاد لغزارته يتفجر بمجرد الحفر عدة أقدام" . حين يسرق المستوطنون الماء، يتعرضون له ليس فقط كمصدر للحياة بل كرمز للطهارة، إذ عندما يعود الفلسطينيون ليشتروه منهم، يرسلونه مليئاً بالأوساخ، مثيراً للقرف. كما الأرض التي اغتصبها الإسرائيليون والتي يساوم البعض اليوم ويعقد الصفقات ليستجدي جزءاً ضئيلاً منها. إن انقطاع الماء في الزمن الراهن هو من نتائج الأخطاء التي ارتكبتها الأجيال الماضية والتي أدت إلى ضياع الماء والأرض، ولكن استردادها من قبل مجموعة من الشباب الفلسطينيين الذين لا يتوانون عن تفجير المضخات والأنابيب التي تنقلها إلى الإسرائيليين دليل على أن الخلاص منوط بهذه الأجيال التي تودعها الكاتبة كل آمال جيلها المتعب من الأخطاء والهزائم. عطش أهل المدينة هدد حياتهم، فما كان رد فعلهم؟ "كبارنا تبلدوا واستكانوا وتكلسوا بمرور الوقت، لكن الشباب هبوا فجأة، وقاموا بعملية نوعية، ونسفوا مضخات وأنابيب مستوطنة كريات شالوم." لارا شخصية تنتمي أيضاً إلى هذا الجيل الجديد، تطرح الأسئلة، تفكر، تقارن بين الماضي والحاضر وتأخذ خياراتها بحرية ووعي. كذلك أولاد ليزا الذين أكملوا النضال، ولكن على طريقتهم، طريقة قد لا يفهمها أهلهم. سعاده، الشخصية التاريخية في الرواية، راهن على الأجيال الآتية، لذلك كان مصراً، قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام، أن يحمل أمين خلاصة تجربته ووصيته: "قال إن الحرب مد وجزر، وما هي إلا المحاولة الأولى، ومنها نستفيد ونتعلم، هي الثورة القومية الأولى وستتلوها العديد من الثورات، إن لم نكن نحن من يقوم بها، فآخرون يتعلمون من تجربتنا ويتفادون أخطاءنا ويقطفون الثمار. إن لم يكن جيلنا، أجيال أخرى ستقطفها." تقدم الرواية على لسان جولييت المير مثالاً يضفي معنى على تداول الرسالة من جيل إلى جيل، وهو مثال طيور البطريق التي، إذا ما شعرت بالخطر، ترسل استشهاديين يضحون بأنفسهم في سبيل المحافظة على حياة فراخها. وفي خاتمة الرواية، يبدو مشهد يجمع الأجيال، وهو مشهد تخرج لارا في الجامعة الأميركية في بيروت، حين يعود الزمن بربيع ونضال إلى أيام شبابهما عبر المشاركة في الغناء. "لكن الغد صار فيهم، في هذا الشباب على المسرح، والنشيد البديع، وغناء الجمهور مع الكورس."
الصفة المشتركة بين أبناء هذا الجيل وبين جميع من نجحوا في التخلص من الدائرة هو قهرهم للخوف. فالعدو لا يمكن أن ينتصر إلا عبر بث الخوف في النفوس. تلك كانت سياسته منذ الفظائع التي ارتكبتها العصابات اليهودية في ال48 ومجزرة دير ياسين والمجازر الأخرى. ولكن المرء، حين يتغلب على شعور الخوف من الموت يتجاوز كل ما يمكن أن يعيق مساره نحو الغرض الذي يسعى إليه. سعاده واجه الموت دون خوف. ما أذهل أمين الذي كان يكلمه عبر جدار السجن أنه استطاع أن يغفو وهو مدرك لحكم الإعدام الذي اتخذ بحقه قبل محاكمته، كما ظهر تغلبه على الخوف في رواية الكاهن الذي رافقه في اللحظات الأخيرة قبل إعدامه، إذ طلب إزالة الحصى من تحت قدميه وشكر الجندي الذي قام بذلك.
من جهته، لا يخشى كاهن كنيسة بئر السامرية المستوطنين الذين يحاولون دفعه إلى الرحيل عبر السعي إلى بث الرعب في قلبه بأعمالهم العدوانية وعنفهم المدروس. يقول عنه راعي العهدة إنه يعرف أنه سيموت وقد استعد لذلك فبنى قبره، "، هو بانتظار ساعة دفنه". أية قوة يمكن أن تنتصر على إنسان تخطى خوف الموت؟ فبدل أن يكون الخوف عائقاً، يصبح تخطيه قوة مساعدة للخروج من متاهة الأخطاء والفشل، ولكن، بالإضافة إلى القوة المعنوية، يحتاج الثوار إلى القوة الفعلية، فهي، كما قال سعاده، "القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره." يقابل هذا القول في رواية "أصل وفصل" عبارة لعز الدين القسام : " كيف نقاوم؟ بالمظاهرات؟ بالمؤتمرات؟ بالعرائض؟ لا أرى إلا السلاح طريقاً ينفعنا." وتسوق الرواية، في زمن القص، مشهداً يثبت بطلان فعالية الحلول السلمية مع العدو، إذ يقترح الملحق الثقافي الكندي على نضال ولارا والكاهن أن يزوروا الراباي الأعظم الذي يتعالى على الشؤون السياسية والعسكرية للطلب منه بالتوسط لدى مستعمرة كريات شالوم للوصول إلى حلول سلمية لمسألة سرقة الماء. أمام الراباي يتكلم الملحق عن الفلاحين الفلسطينيين البسطاء الذين لا هم لهم إلا عيش بسيط خال من المشاكل، فيجيبه الراباي أن هؤلاء لا حق لهم أصلاً في الأرض التي يعيشون عليها وأنهم ليسوا إلا بدو رحل وليس عليهم إلا الرحيل. خلال الزيارة تظاهرت نضال ولارا أنهما أجانب، لذلك يشعر الراباي بحرية الإفصاح عن أفكاره ويصفهم بأنهم حيوانات يجب تنظيف البيت اليهودي منهم. القوة هي التي تتحكم بالعلاقات بين الشعوب لا المنطق، كما أخبرنا لا فونتين في قصيدته حول الذئب والحمل.
القوة النفسية يجب إذن تقترن بقوة فعلية تفرض منطقها على الصراع، ولكن الكاتبة لا تنسى المقاومة الفكرية التي تقضي بالدرجة الأولى بمتابعة المؤامرة الإسرائيليىة التي تعمل على تشويه التاريخ الفلسطيني، لأن زج تاريخ لليهود في منطقتنا يبرر استيلاءهم على الأرض. الكاهن في الكنيسة السامرائية حذر من هذا الخطر واستخف بالجهود التي يدعي القادة السياسيون أنهم يبذلونها، عاقدين الصفقات والمعاهدات، وهم غافلون عن الخطر الحقيقي المتمثل في تزوير التاريخ. قال: "إننا كنعانيون، يعني الجذور والأصل لهذه البلاد المنكوبة، فكيف نسمح للعبرانيين بمسخ تاريخنا وادعاء أنهم كانوا الأقدم؟" وأخبرهم كيف يهدمون البيوت القديمة والمعابد ويأخذون حجارتها ويعيدون بناءها من جديد ليدعوا أنها بقايا حضارتهم. وفي مشهد الزيارة إلى مدرسة الراباي الأكبر يتجلى دليل على قوله هذا، إذ يدعي الراباي أن المدرسة كانت كنيساً يهودياً في الزمن الغابر ويكتشف الكاهن كتابة بالأحرف الكنعانية على أحد الحجارة التي بنيت منها المدرسة.
إن تشويه التاريخ والعمل على محو الذاكرة هما من الأهداف الرئيسية للحرب التي يشنها العدو على شعبنا. يعاونه في ذلك بعض القادة الغارقين في المصالح الضيقة والشعب الغارق في الصعوبات اليومية والمعيشية التي وجدت خصيصاً لإلهائه عن السعي وراء ما يجب أن يكون هدفه الأول، ألا وهو الدفاع عن تاريخه والعمل على استعادة الماضي المهدد.
"في وجع اليوم، تنسى التاريخ ومن راحوا وتركز بشكل كابوسي ومعقد على ما تراه أمام عينيك والوجع المتجدد في قلبك. ربما لهذا لم نتعلم من دروس الأمس. ربما لهذا تاه كثيرون ممن رحلوا واختبأوا عنا في ظلال اليوم. وربما، بل الأكيد، أن عدد الباحثين قل ونقص، وطريقتنا في البحث صارت أفتر."
لهذه الأساب كان الغرض الأول لسحر خليفة في ثلاثيتها هو عكس المسار المؤدي إلى فقدان الذاكرة وبالتالي فقدان الهوية. طريقتها بالبحث لم تفقد حرارتها وايمانها لم يصبح "أفتر". اكتشفت في السبيل الذي سلكته شخصيتها التاريخية، أنطون سعاده، منفذاً من الدائرة المفرغة التي غرق فيها أبطال روايتها كما غرق جيل كامل من المناضلين الذين حالت الفوضى والمؤامرات بينهم وبين هذا القائد الذي جاء للأمة برؤية متوهجة تعيد إليها ألقها وتحرر نفوس أبنائها من كل مظاهر الضعف والعبودية. كشفت خليفة في روايتها أبعاداً ربما يجهلها من هم من غير الحزب السوري القومي الاجتماعي عن المؤامرة التي أدت إلى إعدام سعاده، مؤامرة استمرت بعد استشهاده من خلال السعي إلى تغييبه عن الذاكرة الوطنية وحصر كل ذكر لحياته أو فكره ضمن أدبيات أعضاء حزبه. أمضت خليفة أكثر من سنتين في قراءة كل ما كتبه سعاده وما كتب عنه قبل أن تشرع في كتابة الرواية، جالت في الأماكن التي عاش فيها وتحدثت مطولاً إلى أناس عرفوه، حتى أحست أنها غدت مدركة لكل شأن من شؤون فكره أو حياته… ولكنها ما زالت إلى اليوم تعجب لما يلقاه هذا "المفكر العظيم" كما تسميه من اضطهاد ما زال يلاحقه حتى بعد مماته. وهي تعزو ذلك إلى سيطرة العصبيات المذهبية والطائفية واستغلالها من قبل القوى التي تسعى إلى تفتيت مجتمعنا وهدمه. لهذا السبب اطلقت على روايتها عنوان "ارض وسماء" وصدرتها بعبارة لسعاده: "إقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض". كتبت إلي في إحدى رسائلها حول نقاش دار بينها وبين أحد قراء مسودة الرواية: " أنا حكيت ما لدي حول الموقف التقليدي المبيت من سعادة وهو الذي تنبأ بما يدور الآن في العالم العربي من تمزق أساسه التحزب الديني والطائفية، وأن على اللبنانيين أن يفخروا بذاك المفكر العظيم لا أن يستمروا بشكل أعمى باضطهاده حتى بعد مماته… سعادة سيعود لأن عطاءه خالد. "
"أرض وسماء" لم تكن مجرد رواية بالنسبة لسحر خليفة، بل غدت "تجربة فكرية على أعلى المستويات" لهذا، كان كل ما يتعلق بسعاده مأخوذاً من مصدر موثق لكي تكتسب الرواية مصداقية تسمح لها بتأدية الرسالة التي من أجلها كُتبت وأُدرجت ضمن الثلاثية: تذكير الامة بالفرص التي أضاعتها من خلال رجال عظام لم تستفد من عطاءاتهم بسبب الجهل والانقسامات وأنانية متنفذيها وأمية الشعب الذي منعوا عنه المعرفة الحقيقية.
"أرض وسماء" أكثر من رواية، هي رسالة من كاتبة لا تأبه بالتيارات الأدبية الرائجة والصيحات التي تسعى إلى نيل الجوائز الأدبية (وهي على ذلك نالت عدداً كبيراً منها)، رسالة من كاتبة لا تعمل إلا من أجل الحق والخير والجمال في وطنها وفي العالم العربي.