أربعون عاماً حافلة بالأحداث التّاريخيّة والمصيريّة على المستوى السّياسيّ والاقتصاديّ، كانت مؤثّرةً في تغيير مسار التّاريخ ودفعه نحو تقلّباتٍ لم تكن في الحسبان. إلاّ أنّ هذه التّقلّبات لم تقف عن الحدود السّياسيّة والاقتصاديّة فحسب، بل شملت أحداثاً على المستوى الثّقافيّ الأدبيّ بعامّة، والمشرقيّ منه على وجه الخصوص. تقلّبات لم تكن ذات اتجاهٍ واحد، بل بأوجهٍ متنوّعةٍ، وربّما بوجهات متناقضة؛ ونظراً لكثافتها، لا يمكن حصرها وتحديدها بشكلٍ دقيق، كما أنّ منها ما كان أثره محدوداً أو مقيّداً بإطارٍ زمنيٍّ معيّن. ومع ذلك، يمكننا قراءة تلك التّحوّلات داخل المشهد الأدبيّ في المشرق المتوسّطيّ، على نحوٍ جليّ.
بعد التّطوّرات التي شهدها الشّعر في الخمسينيات والسّتينيات من القرن الماضي، على يد مجموعة مجلّة «شعر» في بيروت بشكلٍ خاصّ، والتّغيير الذي طرأ على المفاهيم المحوريّة الخاصّة به، في ضوء عملية التّجريب التي شرعوا فيها؛ ظهر شعراء السّبعينيات ليكملوا مرحلة التّجريب تلك، مع الالتزام بجعل الإيقاع بعداً تعبيريّاً داخل القصيدة. وفي هذا السّياق نقع على تجارب مميّزةٍ تفيد من نموذج قصيدة النّثر وتعمل على تطويره، كما تركّز على المنحى الوجوديّ وطرح الأسئلة الكيانيّة في حياة الانسان ومصيره. فمن القصائد ما أخذ يطرح مواضيع تتعلّق بوجود الإنسان بشكلٍ عامّ، أو في حالاتٍ محدّدة، وتراوحت بين الطّابع التّفاؤلي والطّابع التّشاؤميّ؛ إضافةً إلى استمرار القصائد المعبّرة عن المسألة الفلسطينيّة. ولا بدّ من الإشارة إلى تعالي الأصوات التي تنتفض على الرّومانسيّة القوميّة التي سادت على مدى ما يفوق العقدين.
من ناحيةٍ أخرى، نقع على محطّات شعريّة مفصليّة في تاريخ القصيدة العربيّة تتواءم مع الأحداث التاريّخيّة التي مرّت بها الأمّة. ومن هذا المنطلق نرى نماذج من مثل قصيدة «خطاب في سوق البطالة» لسميح القاسم التي ولدت في ضوء العمليّة النّوعيّة التي قامت بها مجموعة دلال المغربي ويحيى سكاف في عمق الأراضي المحتلّة عام 1978، وقد شكّلت مفصلاً في شعر المقاومة، ليس لكونها شدّدت على الفعل المقاوم فحسب، بل لقدرتها على المواءمة بين لهجتها الخطابيّة وبين لغتها الإيحائيّة الرّمزيّة، وذلك من خلال مخاطبتها لـ «عدوّ الشّمس» وتحدّيها لعمليّات الخنق التي مارسها المحتلّ الإسرائيليّ ضدّ الفلسطينيّ، وانتهائها بحال قياميّةٍ تتجلّى في تجسيد حتميّة العودة بفضل الإصرار على المقاومة.
ولا ننسى في هذا المجال ذكر قصائد الحصار التي ولدت في ضوء الحصار الذي شهدته بيروت عام 1982 إبّان الاجتياح، مع أدونيس في «كتاب الحصار» أو محمود درويش في قصيدة «مديح الظلّ العالي»، أو نذير العظمة في قصائد الحصار. وفيها نقد لاذع للواقع «العربي» الذي أسهم في عمليّة السّقوط الكيانيّ، حتّى أنّ «كتاب الحصار» وصل إلى حدّ التّلميح بإنكار ما يسمّى بالهويّة العربيّة. ونشير في هذا السّياق إلى أنّ حال السّقوط المتجليّة في ذلك الاجتياح أدّت إلى احتدام الصّراع النفسيّ لدى الشّاعر خليل حاوي، ما أوصله إلى وضع حدٍّ لمسيرة حياته بيده، لأنّ روحيّته التي امتلأت بالفعل الانبعاثيّ لم تطق أن ترى انهياراً على هذا المستوى.
على أنّ التّحوّلات الشّعريّة لم تقف عند هذا الحدّ، بل أخذت تتبلور اتجاهات تتعلّق بتجربة المقاومة اللّبنانيّة وما أنتجته من عمليّاتٍ استشهاديّةٍ ونوعيّة أفضت إلى شعرٍ متأثّرٍ بتلك العمليّات التي اتّخذت بعداً قياميّاً تكفي الإشارة فيه إلى القصائد التي كُتبت عن الشّهيدة سناء محيدلي، أذكر منها قصيدة للشّاعر عصام العريضي، أحدثت تغييراً في طبيعة تركيب الصّورة الشّعريّة، إذ جعلت من الشّمس تتخلّى عن اسمها واختارت اسم سناء لأنّه «أجمل الأسماء اسم لصبيّة، علمّت العالم درساً في الفداء، جاء في حجم القضيّة».
ولا بدّ من التّنويه إلى أنّ التّجارب الشّعريّة لكبار الشّعراء استمرّت في التّطوّر. لكنّنا نقع، في هذا المجال، على نموذجٍ شعريٍّ جدليٍّ أنتجه أدونيس تحت عنوان «الكتاب: الخطاب، الحجاب»، ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي. وجدليّة هذا العمل أتت من طبيعة الشّكل الذي توزّع على ثلاثة مسارات ودمج بين الإطار السيريّ واللّغة الشّعريّة، إذ كان كلّ مسار يمثّل صوتاً أو موقفاً نحو حدثٍ معيّن. كذلك نرى جدليّته في القراءة الجديدة التي وُجِّهت للتّراث الدّينيّ العربيّ والإسلاميّ، لا سيّما ما يتعلّق بالمسلّمات فيه، وهو الأمر الذي أحدث صراعاً وهجومات على الشّاعر وأفكاره.
على صعيدٍ آخر، نجد أنّ الرّواية أخذت تبرز تطوّرات متسارعة على صعيد الأسلوب والأفكار على حدٍّ سواء، وهي ارتبطت بموضوعات تتعلّق بصراعات الإنسان الوجوديّة على مختلف المستويات. منها صراع الذّات المتّحد المدينيّ والمتّحد القرويّ كما نرى في روايات إميلي نصر الله على سبيل المثال. كذلك صراعها داخل الانقسام الطّبقيّ الحادّ، كما لدى زكريّا تامر. إضافةً إلى الصّراعات التي نشأت في ضوء الحرب اللّبنانيّة والاحتلالات، وهو ما نعثر عليه لدى حنان الشّيخ في رواية «حكاية مريم» التي تجسّد حال الإنسان داخل مجتمعٍ متخلخل داخليّاً وداخل حربٍ عبثيّة، وحال المرأة داخل المجتمع نفسه. أيضاً نراه فيه لدى إميل حبيبي في رواية «المتشائل» التي تعالج الصّراع الدّاخليّ حول مسألة العمالة، إلى جانب الحال التي يعاني منها الإنسان الفلسطينيّ تحت الاحتلال. وهذا من دون أن ننسى التّجارب التي تدخل في إبرازٍ لحال الصّمود والمقاومة، في ظلّ الضّغوط والأخطار المتنوّعة التي تحيط بتلك الحال أو الإرادة، ولعلّ هذا ما يمكن أن نقرأه في روايات سحر خليفة، والتي تُوِّجَت بثلاثيّتها الرّوائيّة «أصل وفصل، حبّي الأوّل، وأرض وسماء».
هنا نطّلع على مجموعة من الأعمال التي أحدثت صدًى في العالم العربي، وتلفتنا هنا رواية «شرق المتوسّط» لعبد الرّحمن منيف التي أثارت الكثير من الجدل حول علاقة المواطن بالسّلطة في مجتمعاتنا، وطبيعة الفارق الجذريّ بينها وبين المجتمعات الغربيّة، إذ أنّ علاقة الفرد الذي يبحث عن إنسانيّته بالسّلطة تتمثّل بالسّجن أو المعتقل، لكنّ هذه العلاقة تؤدّي إلى الهجرة نحو الغرب، وهذا ما يولّد الصّراع بين السّجن الواقعيّ في الوطن وبين سجن الغربة في بلاد المهجر الغربيّة. وهنا يرى مصير الإنسان في منطقة شرق المتوسّط سوداويّاً، لأنّ نتائج الصّراع كيفما كانت قاتلة.
فضلاً عن ذلك، نرى التّجارب النّسائيّة قد أخذت بالتّطوّر على نحو كبير وجريء في هذه المرحلة. ولكن أكتفي في هذا المجال بالإشارة إلى أعمال نوال السّعداوي التي شكّلت النّموذج الأكثر جرأةً في العالم العربيّ، إذ أنّ هاجسها في تحرير المرأة أوصلها إلى التّجرّؤ على انتقاد النّظام الاجتماعيّ الذي ولّده الفكر الإسلاميّ ونقضه بالكامل. وعلى هذا الأساس أثارت أفكارها الجريئة جدالاً حادّاً في الأوساط الثّقافيّة، وحتّى الشّعبيّة.
ولا يمكننا أن نقصر التحوّلات في مجال السّرد على ما سبق ذكره، فقد أخذت التّحوّلات بالتّبلور والارتقاء على مستوى طرح الموضوعات الجديدة والموحية في الوقت نفسه. وفي هذا السّياق، تبرز أمامنا رواية «عزازيل» للكاتب يوسف زيدان، التي تربط أحداثها بمرحلةٍ لم تُطرَق في الروايات العربيّة من قبل، وبإطارٍ لم يكن من المألوف النّظر إليه في التّراث العربيّ الإسلاميّ. ولا ننسى الإيحاءات الدّلاليّة التي يمكن إسقاطها على الواقع المعاصر من ناحية عوامل التّعصّب الدّيني والتّفكير الإلغائيّ التّكفيريّ وصراعه ضدّ العلم والمنطق الحواريّ والمتسامح.
ومن المفيد في هذا المجال الإشارة إلى أنّ التّطوّر الذي بلغه الأدب في بلادنا، خلال هذه المرحلة، دفعت الغرب للنّظر بشكلٍ أكثر عمقاً نحوه؛ وهذا ما يبدو من خلال الاعتراف بجودة هذا الأدب على المستوى الرّسميّ، وذلك بمنح جائزة نوبل لأول مرة إلى أديب يكتب بالعربيّة، وأعني نجيب محفوظ، في العام 1988. كما أنّ الكثير من الجوائز العالميّة مُنحت لأسماء شعراء وكتّاب باللّغة العربيّة، منها جائزة البحر المتوسّط للأعمال الأجنبيّة في باريس، أو جائزة غوته في فرانكفورت، ومن الفائزين بهما نذكر الشّاعر أدونيس. إضافةً إلى أنّ التّطوّر اللافت للأدب المكتوب بالعربيّة قد دفع بالمؤسّسات الغربيّة الكبرى التي تعنى بهذا الجانب والتي تمنح جوائز للآداب المكتوبة بالإنجليزيّة أو الفرنسيّة إلى تخصيص نسخ للأعمال العربيّة أو المشرقيّة، ومنها جائزة البوكر Booker البريطانيّة المخصّصة للرواية العربيّة، أو جائزة غونكور Goncourt المخصّصة للرّوايات التي تعنى بالشّأن المشرقيّ.
استناداً إلى ما تقدّم، نلاحظ أنّ الأدب المشرقيّ في العقود الأربعة الأخيرة قد أخذ يتطوّر بشكلٍ سريع ونوعيّ، وذلك على المستوى الفنّيّ أو على مستوى الجرأة في طرح الموضوعات. ومن الملاحَظ في هذا المجال، أنّ هذا التّطوّر دفع الأوساط الثّقافيّة الغربيّة للاعتراف بجودة هذا الأدب، وتخصيص الجوائز القيّمة له. إضافةً إلى أنّ هذا الأدب تأثّر بالأحداث التي طرأت على المنطقة، إلاّ أنّ هذا التّأثر لم يكن سلبيّاً انعكاسيّاً بل كان رؤيويّاً بامتياز لأنّه بيّن أنّ الأدب لم يكن مجرّد تعبيرٍ أو انعكاس إنّما منارة. مع ضرورة الإشارة إلى أنّ ما تمّ ذكره هنا لا يغطّي السّاحة الثّقافيّة الأدبيّة بالكامل، وبالتّالي فإنّ الكثير من الإنجازات على المستوى الأدبيّ لا يمكن أن تتسع لها هذه السّطور، وتحتاج إلى دراسات أوسع
وبعيداً عن هذا وذاك، لا يمكن أن نغفل بقاء النّظرات التّقليديّة الموروثة للأدب حاضرةً على المستوى الشّعبيّ وفي الأوساط التّعليميّة، والتي بقيت تقصر الشّعر على مفهوم النّظم الذي يتحكّم به الوزن والقافية، والتّركيز على جانب التّوقيع الصّوتيّ بوصفه المحدّد لجودة الشّعر، إلى جانب التّمسّك بالمقولات التي فرضها الكلاسيكيّون بوصفها منتهى الوعي بالأدب. ولعلّ هذا من أهم الجوانب التي تشكّل تحدّياً لأدبنا الحديث في العقود المقبلة.