تشكّل أعمال أدونيس المتقدّمة منها، كما المتأخّرة، نماذج جدليّةً محرّضةً على إعمال الفكر وعلى فتح آفاقٍ متنوّعةٍ للبحث والدّراسة. غير أنّ هذا ليس وقفاً على جيلٍ عاصره أو اطّلع على شعره، أو حتّى استفزّته الآراء الصّادرة عنه. فقد تحوّل نتاجه، كما نتاج غيره من شعراء مجلّة "شعر"، إلى وجهٍ من وجوه التّراث الثّقافيّ في بلادنا؛ لذلك وجب أن يكون تراثاً للأجيال. ومن هذا الباب، وجب علينا أن نجعل من عمله الشّعريّ مادّةً للدّراسة النّقديّة على يد الجيل الآتي، ليس على سبيل تناولها بمنحى حياديّ، بل على سبيل إبداء الرّأي النّقديّ الخاصّ بها، بمعزلٍ عن أي ضغوطات اجتماعيّة أو سياسيّة أو غيرها، وما أكثرها في مجتمعنا… كما بمعزلٍ عن الآراء المسبقة التي قد تصدر أحكاماً أبعد ما تكون عن الدّقة بفعل التّأثير الإعلاميّ، وما أكثر ما يُعمِل هذا المؤثّر سلطته في أذهان المتلقّين عموماً، والمنتمين منهم إلى بيئتنا على نحوٍ خاصّ.
وفي هذا السّياق، وضمن إطار العمل التّطبيقيّ على المنهج السّيميائيّ الذي يعمد إلى مقاربة النّصوص الأدبيّة وفق دراسةٍ حديثة منطلقها العلامات النّصّيّة نفسها لا المؤثّرات الخارجيّة، قامت مجموعة من طلبة الأدب العربيّ في الجامعة اللّبنانيّة-الفرع الرابع بالعمل على مشروعٍ يهدف إلى دراسة نصوصٍ شعريّةٍ من ديوان "أغاني مهيار الدّمشقيّ" للشّاعر أدونيس حسب الوجهة البنيويّة السّيميائيّة، وذلك تحت إشراف الدّكتور لؤي زيتوني. وفيما يأتي، قد تمّ اختيار ثلاث دراسات منها لثلاث طالبات، كانت الأكثر قدرةً على مقاربة النّصوص من نحوٍ منطقيّ، إذ استطاعت أن تصل إلى رؤيةٍ عميقةٍ وخاصّة في التّحليل والاستنتاج، وبالتّالي الوصول إلى بواطن الشّعر الأدونيسيّ، مع ما فيه من غموض.
الشّاعر أدونيس والحجر
الأرض، الوعي والانتماء
الطالبة: ريتا وديع التنوري
"حجر"
أعشقُ هذا الحجرَ الوداعا
رأيتُ وجهي في تقاطيعِهِ
ورأيتُ فيهِ شعرِيَ الضّائعَا
أوّلاً: إضاءة على النّصّ:
"أغاني مهيار الدّمشقيّ" عنوان ديوان شعرٍ للشّاعر السّوري "علي أحمد سعيد اسبر"، المعروف باسمه المستعار أدونيس، الّذي خرج به على تقاليد التّسمية العربيّة منذ العام 1948 تيمّناً بأسطورة أدونيس الفينيقيّة.
فتح هذا الدّيوان الباب على مصراعيه للشّعر الحديث، فقد استطاع أدونيس بلورة منهجٍ جديدٍ في الشّعر العربيّ يقوم على توظيف اللّغة على نحوٍ فيه قدر كبير من الإبداع، يسمو على الاستخدامات التّقليديّة دون أن يخرج أبداً عن اللّغة العربيّة الفصحى ومقاييسها النّحويّة.
شاعر الحداثة أضفى ميزةً رمزيّةً إلى قصائده، جسّد من خلالها مفاهيم ورؤى جديدةً انطلق منها بخيالٍ واسعٍ. وقد اقتطف ثمار هذه المفاهيم من أرض الواقع، حاملاً إيّاها إلى بحر الخيال وحلم القصيدة. فهو يصيّر الحياة زبداً ويغوص فيه، يحوّل الغد طريدةً ويعدو وراءها، وكلّ ذلك بهدف عبور حدود التّقليد إلى الرّمز في شعره.
شخصيّة "مهيار الدّمشقيّ" غريبةٌ، حائرةٌ، يائسةٌ، ثائرةٌ ورافضةٌ، تماماً كشخصيّة الشّاعر الّذي يتمرّد على الأشكال التّقليديّة وصولاً إلى مرحلة الخلق والإبداع، حيث يجسّد أفكاره بأسلوبٍ إبداعيٍّ جديدٍ يتميّز برمزيّته الإيحائيّة.
ثانياً: سيميائيّة العنوان:
يستوقفنا الشّاعر أدونيس، من خلال قصيدته "حجر"، الّذي يحمل صورةً ملخّصةً عن موضوع النّصّ.
فالحجر لغةً يحمل عدّة معانٍ، منها:
– الحَجَرُ الأوّل على وزن (فَعَل) قد يعني كسارة الصّخور أو الصّخور الصّلبة المكوّنة من تجمّع الكسارة والفتات وتصلّبهما، كما أنّه يعني الأحجار الكريمة أي النّفيسة والثّمينة كالياقوت.
– الحَجِرُ الثّاني على وزن (فَعِل) يستخدم للأماكن الكثيرة الحجارة.
– الحَجْرُ الثّالث على وزن (فَعْل) له دلالات عديدة، منها:
الحجر في الشّرع أي المنع من التّصرف لصغرٍ أو سفهٍ أو جنونٍ.
الحجر من الإنسان يعني حضنه.
ويقال: هو في حجره أي في كنفه وحمايته.
كما تستعمل بصيغة "حجر العين" أي ما يدور بها.
– الحُجُرُ الرّابع على وزن (فُعُلُ) يعني ما يحيط بالظّفر من اللّحم.
– الحِجْرُ الأخير على وزن (فِعْل) يعني القرابة، وقد يدلّ على العقل.
أمّا "الحجر" في الاصطلاح، فلا يبتعد كثيراً عن بعض معانيه اللّغويّة، وقد اكتسب دلالةً تضمينيّةً ليعبّر عن الأرض والوطن الحاضن والانتماء.
الإنسان ينتمي إلى أرضٍ، لا تلبث أن تصبح وطنه وملجأه الّذي يحميه ويضمّه ويكسبه هويّةً، إضافةً إلى التّعلّق بهذا الوطن والدّفاع عن استقلاله وصموده وديمومته. ولا شكّ أن أدونيس يتوجّه إلى "سوريا الطّبيعيّة" الّتي ولد وعاش فيها وخصّص ذكرياتٍ له بين أحضانها. فكيف له أن يهمل وطناً أكسبه هويّةً وانتماءً وقوميّةً، وهو الّذي ينتمي إلى فكر "أنطون سعاده" أي الفكر السّوري القومي الاجتماعي، وقد ساهمت جميعها في تعزيز شخصيّته ومعتقداته؟!
كما أنّ "الحجر" جزءٌ من الأرض والتّربة، وقد ساهم العلم في اكتشاف حقيقة تحوّل جسد الإنسان إلى ترابٍ بعد زوال آخر نفسٍ منه. فالدّلالة التّضمينيّة الثّانية الّتي تكتسبها مفردة "حجر" هي تعلّق الإنسان بأرضه، وطبيعة العلاقة القائمة بينهما بسبب السّمة المشتركة بينهما والرّابط الّذي يجمعهما. وطبعاً، علاقة "أدونيس" بأرضه تتجاوز حدود سوريا اليوم لتضمّ سوريا الطّبيعيّة كلّها.
فما هي الإشكاليّة الّتي يطرحها ويعالجها أدونيس في هذه القصيدة؟ وما هي الفكرة الّتي أراد إيصالها لنا من خلال هذا العنوان؟
ثالثاً: حركة تشكّل النّصّ والأنماط السّائدة:
يمكن تقسيم هذه القصيدة الشّعريّة إلى ثلاث فقراتٍ:
الفقرة الأولى: "أعشقُ… الوداعا".
الفقرة الثّانية: "رأيتُ… تقاطيعه".
الفقرة الثّالثة: "ورأيتُ… الضّائعا".
– في الفقرة الأولى، افتتحَ أدونيس قصيدته باعترافٍ وجدانيٍّ يكشف عمّا يتخبّط بداخله من مشاعر وأحاسيسٍ جيّاشةٍ. فالعشق يسمو بالإنسان إلى درجاتٍ رفيعةٍ، يحمله على جناحيه ويعبر به حدود الواقع. أمّا الطّرف الآخر الّذي يبادله هذا الشّعور، فهو الحجر أي الوطن أو الأرض الّتي ضاعت وفارقت أبناءها، أو بالأحرى الّتي خسرها أبناؤها متأمّلين تفكّكها دون مللٍ ولا كللٍ.
– في الفقرة الثّانية، يؤكّد الشّاعر فكرة انتمائه إلى هذه الأرض، لأنّه أينما دار فيها وجد نفسه بين زواياها وفي شوارعها وداخل بيوتها ومع أهلها وحتّى في جميع لحظاتها الفرحة الجيّدة والحزينة السّيّئة.
– وأخيراً، في الفقرة الثّالثة، مجرّد ذكر شعره يؤكّد على أنّه إنسانٌ حسّاسٌ وعاطفيٌّ، يحنّ إلى وطنه ويغرق في دهاليزه حتّى يولد الشّعر ضائعاً تائهاً يتيماً، تماماً كالوطن الّذي فُقِدَ شيئاً فشيئاً والّتي ساهمت عوامل كثيرةٌ في إضلاله، ما يعكس حالة الشّاعر النّفسيّة والصّراع الّذي ينشأ في داخله، إذ يشعر أنّه يجب أن ينتمي إلى أرضٍ لكنّ هذه الأرض ما عادت موجودةً.
في الفقرتين الثّانية والثّالثة، نقع على ظاهرة الانحلال، أكثر منها انعكاساً، كأنّ الشّاعر والوطن والشّعر غدوا كياناً واحداً ونفساً واحدةً. أمّا نقطة الاختلاف بينهما، فهي الطّبيعة المادّيّة الّتي تبرز في الفقرة الثّانية، ما تلبث أن تتحوّل إلى وجدانيّةٍ مجرّدةٍ في الفقرة الثّالثة، والفعل "رأيتُ" ساهم في إبراز هذه الثّنائية لأنّه يحمل بذاته معنى النّظر بالعين والقلب والعقل. فالإنسان ذو طبيعتين كما الوطن كما الشّعر.
والعلاقة الّتي تجمع الشّاعر بأرضه تتعدّى الحدود الجغرافيّة والمساحات إلى مراكز السّموّ والعلاء. فأدونيس يفتح باباً على الأرض، يشعل نار الحضور، خالقاً وطناً من رماد الجذور، وطنٌ تسكنه قصائد حروفها خيالٌ، سطورها لحنٌ، ومعانيها دوائر زمانيّةٌ تتجاوز المكان والإنسان.
بالنّسبة إلى النّمطين الموجودين في هذه القصيدة، فأبرزهما هو النّمط الوصفيّ لأن الشّاعر يصف لنا مشاعره وحالته النّفسيّة بأسلوبٍ غير مباشر. فقد استعمل بعض الصّفات بهدف إغناء وصفه ودعم صوره، معبّراً عن وضع أرضه التّائهة المفقودة، محوّلاً هذا الوضع المأساويّ المتشائم إلى حالةٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ متفائلةٍ، بهدف إنعاش الطمأنينة في النّفوس وحثّها على السّعي من أجل الوصول إلى ما تصبو إليه، فتطير وتحلّق في الفضاء الرّحب حتّى تسمو البشريّة.
كما أنّ الفعل "رأيتُ"، أي وجود إحدى الحواس الخمس، يُعتبر مؤشّراً من مؤشرات النّمط الوصفيّ، وكما ذكرنا سابقاً، الرّؤية في هذه القصيدة هي بالعين والقلب والعقل. فالشّاعر جمعها لتكون رؤيته كاملةً، لا ينقصها أدنى التّفاصيل، بهدف استنارة العقل البشريّ والتّحرّر من الموروثات والمعتقدات والتّقاليد.
إضافةً إلى النّمط الوصفيّ، نقع على بعض مؤشّرات النّمط السّرديّ، لأنّ الشّاعر يسرد لنا المراحل الّتي مرّ بها والّتي تتخابط في داخله، بدءاً من انتمائه وتعلّقه وعشقه لوطنه، فانعكاس وانحلال هذا الوطن مع ذات الشّاعر، وصولاً إلى تأثيره عليه وبالتّالي على شعره.
رابعاً: المستوى اللّغوي:
ويتضمّن المستويات الثّلاثة: المعجميّ، الصّرفيّ والنّحويّ.
– المستوى المعجميّ والدّلاليّ:
يستوقفنا في هذه القصيدة تكرارٌ للفعل "رأيتُ"، أي النّظر بالعين والقلب والعقل. كما أنّه قد يكتسب معنى الاعتقاد والبصيرة.
أدونيس ينظر إلى وطنه نظرةً عاطفيّةً نابعةً من أعماقه، حيث ذكريات طفولته وشبابه واللّحظات الّتي تُحفر في القلب، وينظر إليه نظرة قلقٍ وتأمّلٍ لواقعٍ يعيشه شعبٌ مرغمٌ على احتماله والانصياع له، كما ينظر له نظرةً حكيمةً نقديّةً تسعى إلى الإصلاح والانقلاب على الواقع المشؤوم الّذي فُرض علينا. فالشّاعر يسعى إلى تغيير هذا الواقع وازدهاره، بالإضافة إلى التّخلّي عن المعتقدات والموروثات الّتي تربّينا عليها والّتي تحدّ من وسع آفاقنا وآمالنا.
ونلاحظ ورود حقلين معجميّين ودلاليّين:
الحقل الأول يندرج تحت المجرّد اللّيّن الحسّاس (أعشق– الوداعا– شعري)، والثّاني يختصّ بالحسّيّ الملموس الصّلب (الحجر– وجهي– تقاسيمه). فالإنسان مؤلفٌ من نفسٍ وجسد،ٍ والعلاقة بينهما هي علاقةٌ جوهريّةٌ. كما أنّ علاقة الفرد بوطنه هي كذلك، فغياب أحد الطرفين يفرض غياب الآخر ووجود أحدهما يفرض وجود الآخر. لذا، العلاقة بين الأفراد وأرضهم يجب أن تكون صلبةً متينةً للحفاظ عليها، وهذه العلاقة تساهم في خلق عاطفةٍ جماعيّةٍ تسهم في تعلّق الشّعب بوطنه والدّفاع عن استقلاله، بالإضافة إلى الوعي النّاتج عن بصيرةٍ حكيمةٍ تتلقّى فتحلّل وتعالج.
فالحقلان متساويان، ما يعني أنّ على الإنسان أن يساويَ بين عقله وعاطفته فلا يطغى أحدهما على الآخر.
– المستوى الصّرفيّ:
يطالعنا في القصيدة حضورٌ لثلاثة أفعالٍ، وهي: "أعشقُ" و"رأيتُ" مكرّر مرّتين. الفعل الأوّل منها هو في صيغة المضارع الّذي يدلّ على الاستمراريّة واللّازمنيّة. فأدونيس يحبّ أرضه الّتي ينتمي إليها، ويفضّل لو أنّها حافظت على حدودها الجغرافيّة السّابقة، ولكنّ هذا العشق لم يضع، إنّما ما زال موجوداً ربّما لأنّه يعطيه فسحة أملٍ بعودة وطنه إلى عزّه السّابق، وإن لم يرجع فسيظلّ يمدح ذاك الماضي متمنّياً له العودة السّليمة.
أمّا الفعل الثّاني "رأيتُ"، فتكرّر مرّتين وجاء بصيغة الماضي للدّلالة على تفضيل الشّاعر وطنه السّابق الّذي كان مزدهراً.
من ناحيةٍ أخرى، فقد برزت صفتان، وهما: "الوداعا– الضّائعا"، وكلتاهما تدلّان على الفراق وتجسّدان الواقع الّذي يحياه الشّاعر بسبب تفكّك سوريا الطّبيعيّة وتقسيمها إلى دولٍ متعدّدةٍ، كأنّها بهذا التّقسيم تاهت وفقدت.
– المستوى النّحوي:
من الواضح أنّ الفاعل في هذا النّصّ غائبٌ وهو "أنا"، أي الكاتب نفسه، وقد برز هذا الغياب من خلال الأفعال المستخدمة، وهذا يصف واقع الشّاعر الّذي يحياه وغياب الفرد الفاعل الّذي يحدث تغييراً ملحوظاً.
كما نلحظ استتار الفاعل، ممّا أعطى للفعل قوّة اللّمح، للدّلالة على أهميّة عمل الفعل وليس من يقوم بالفعل. وبرز حرف الجرّ "في" للدّلالة على المكان.
نلمح أيضاً تحريك أوخر الكلمات، إمّا بالفتح أو بالكسر: فالفتحة للكشف عمّا موجود في الدّاخل والتّخلّص منه بهدف الرّاحة والطّمأنينة، كما أنّها نوعٌ من صرخةٍ يطول صداها لتعبر الشّعب العربيّ، فتترك أثراً فيه حتّى يثور على هذا الواقع وهذه التّقاليد والمعتقدات الّتي ورثها عن أجداده. والكسرة تعبّر عن السّكينة والهدوء والطّاعة، وتوحي بالطّمأنينة لأنّ الشّاعر يشعر بالفرح والرّاحة إذ ما يزال يحافظ على قضيّته ويسعى إلى تطبيقها، وهو عارفٌ أنّ الوطن موجودٌ في داخله وأنّه حاضرٌ في كلّ زاويةٍ من زواياه.
خامساً: الرّموز والشّيفرات الثقافيّة:
يتضمّن هذا النّصّ بعض الإشارات المرتبطة بالجذور الحضاريّة والثقافيّة والقوميّة، المتعلّقة برؤى الشّاعر وأحلامه. فهو يسعى إلى عودة سوريا الطّبيعيّة الّتي فقدت، وقد استخدم المفردتين "الوداعا– الضّائعا" للدّلالة على ذلك.
كما برزت بعض الشّيفرات الثّقافيّة من خلال العبارتين الآتيتين: "الحجر الوداعا– شعري الضّائعا". فالحجر هو الأرض والوطن الّذي يؤمّن لنا الانتماء والهويّة، ولولاهما لعاش الفرد بضياعٍ وعذابٍ دائمٍ. و"الشّعر" يعتبر ظاهرةً من ظواهر الحضارة، يجمع بين العاطفة والخيال، ويعلو بالإنسان نحو درجات السّموّ والعلاء. أمّا "الضّائعا" فتمثّل عدم الاستقرار واللّاوجود، ما يعاكس الثّبات والانتماء الّلذين يحتاج إليهما كلّ إنسانٍ وكلّ وطنٍ كي لا يزولا في آخر المطاف.
استنتاج:
من حبّ الوطن يخرج أدونيس، شاعراً ممتطياً عتبة الكلمة، ممتشقاً سيف المعنى، سابحاً في عمق المبنى، ومفتتحاً مدائن الشّعر الّتي تموج عرائسها بألوانٍ شتّى، وتصرخ من داخلها موسيقى تسيل أنغامها وتنساب معانيها إلى الأعماق، مؤتلفةً مع مشاعر القارئ، متناغمةً مع أحاسيسه، موقظةً ما كان غافياً من خيالاتٍ وأساطير. إبداعات أدونيس الشّعريّة هذه تكرّس شهادةً للعطاء الإنسانيّ المتجدّد في مساحات معاني ومباني الكلمة العربيّة. أدونيس القادم من الماضي، المتّشح بالحاضر، هو مهيار الدّمشقيّ الّذي يحيا في ملكوت الرّيح ويملك في أرض الأسرار.
دعوة أدونيس إلى القراءة الجديدة للحياة
في قصيدة "رؤيا"
الطالبة: إيمان برو
"رؤيا"
ألمح بين الكتب الذليله
في القبّة الصفراء
مدينة مثقوبة تطير
ألمح جدراناً من الحرير
ونجمةً قتيله
تسبح في قارورة خضراء
من خزف الأشلاء والرّكوع
في حضرة الأمير
أولاً: إضاءة على النّصّ:
هذه القصيدة هي للشاعر "أدونيس"، وهو شاعر الحداثة الّذي يحاول أن يعطي صفة خاصّة لقصائده، وقد استعمل في صوره عنصراً مهمّاً من عناصر القصيدة في الشكل والمضمون، وقد تجاوز الشّاعر ليعبر حدودها ويصل إلى أوج الصورة الرّمزيّة أو الإيحائيّة.
ومن خلال هذه الصور الرمزيّة، يجسّد الشاعر مفاهيم ورؤى جديدة ينطلق منها بأخيلة واسعة عبر الواقع الّذي يعيشه إلى الخيال متجاوزاً التّقليد، ليمثّل الرّمز والإيحاء، ولأنّ الشّعر عند "أدونيس" هو الرّحيل الدائم إلى المجهول. فهو يحاول أن يرحل إلى أفق جديد مجازفاً في بثّ المعاني والألفاظ الرّمزيّة الّتي يقتطف ثمارها من شجرة الحياة، ليصل بها إلى بحر الخيال أو إلى حلم القصيدة الّتي يكتبها، فهو يقول:" أنا مع الحلم، وأريد أن تكون القصيدة حلماً"، أي إنّه يجعل من القصيدة حلماً يسافر إليه عبر ألفاظها ومعانيها.
فهو إذاً يحاول أن يعبر حدود التّقليد إلى الرّمز في الشّعر، لأنّ الشاعر عليه أن يتمرّد على الأشكال التّقليديّة، وهو بذلك يصل إلى مرحلة الخلق أو الإبداع التّوليديّ، فيكتب حينها الأشياء بطبيعة إبداعيّة جديدة، وتأخذ منحى تصويريّاً رمزيّاً إيحائيّاً.
ثانياً: سيميائيّة العنوان:
يستوقفنا الشاعر "أدونيس" من خلال العنوان "رؤيا"، والّذي يحمل صورة ملخّصة عن طبيعة النّصّ، وبهذا يحدّد "أدونيس" الشّعر الجديد على أنّه رؤيا، وهذه الرؤيا هي قفزة خارج المفاهيم المعهودة والمعروفة.
فالرؤيا لغة تتضمّن معنيين: الرؤيا الأولى والّتي هي على وزن "فعلى" أي ما يراه الإنسان في منامه وحلمه، بينما الرؤية بالهاء فهي تعني العين ومعاينتها للشيء، وتأتي أيضاً بمعنى العلم. فهذان المعنيان يتضمّنان معنى الفعل" رأى"، الّذي يفيد معنى النّظر بالعين والقلب، فالرؤية بالعين بصريّة، أمّا الرؤية بالقلب فهي يقينيّة معرفيّة. (أي البصيرة والتبصّر).
أما الرؤيا في الاصطلاح فلا تخرج عن المعنى اللّغويّ، وتحمل معاني أخرى منها: الحلم، والإلهام، والوحي وغيرها. فالإلهام يكون في اليقظة بينما الرؤيا تكون في النوم، أمّا في الحلم والرؤيا، أنّ الحلم هو ذلك الأمر الفظيع الّذي يريه الشيطان للمؤمن ليكدّر عيشه ويحزنه، بينما الرؤيا هي رؤية الأمر الّذي يسرّ. بينما في الرؤيا والوحي والّذي يقول عنه" ابن فارس": "إنّه إشارة ورسالة وكتابة كلّ ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه"، فالوحي هو باب الوعد ويلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى، والفرق بينه وبين الرؤيا واضح، ورؤيا الأنبياء وحي. ولكن الرؤيا مع "أدونيس" هنا أخذت أبعاداً أخرى ألا وهي النّظرة المستقبليّة، فالشاعر برأيه لا يمكن أن يكتب التاريخ وأن يكتب ما لايراه الآخرون.
فما هي الإشكاليّة الّتي يعالجها "أدونيس" في هذا النّصّ؟ وما هي الفكرة الّتي أراد إيصالها إلينا من خلال هذا العنوان؟.
ثالثاً: حركة تشكّل النّصّ والأنماط السائدة:
يمكن تقسيم هذه القصيدة الشّعريّة إلى ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى: "ألمح بين… تطير".
الفقرة الثانية:" ألمح جدراناً… خضراء".
الفقرة الثالثة:" ألمح تمثالاً… الأمير".
ففي الفقرة الأولى، يعرّف الشّعر الجديد على أنّه رؤيا تغيّر في نظام الأشياء، أمّا في الفقرة الثانية والّتي تنصّ على معرفة القوانين الخاصّة بالشّعر الجديد، والّتي تكشف عن جوهر الإنسان وذلك كلّه عن طريق الحلم والخيال. أمّا فيما يتعلّق بالفقرة الثالثة والأخيرة، وهي تخلّي الشّعر الجديد عن الرؤية الأفقيّة، والكشف عن كلّ ما هو غير مألوف، أي أن يبتعد عن الجزئيّة إلى رؤيا للعالم وبذلك يكون الشّعر الجديد كشفاً ورؤيا.
وكما ذكرنا سابقاً بأنّ الشّعر الجديد هو رؤيا، بذلك يكون نظاماً يتمرّد على الشّكل الشّعريّ التّقليديّ القديم، فالشّعر قوامه المعنى التّوليديّ الإبداعيّ وليس السرد والوصف. ومن خصائص هذا الشّعر الجديد هو التّعبير عن القلق الأبديّ للإنسان، فالشاعر يخلق أسطورة الإنسان كما قال "سارتر"، ويستقطب المشكلات الّتي يجابهها الإنسان في الكون.
وهكذا يصبح الشّعر الجديد نوعاً من المعرفة، قانونها متميّز عن قانون العلم، إنّه الإحساس والكشف عن جوهر الإنسان ليس بالعقل والمنطق، ولكن بالحلم والخيال.
ولأنّ الشّعر الجديد هو عالم غير متواضع ومتّفق عليه، فهو إذاً اكتشاف ما لم يكن معروفاً، إنّه "كيفيّة الوجود وكيفيّة التّعبير".
فالقصيدة الرؤيا هي كشف ورؤيا وتمرّد على الأشكال الشّعريّة القديمة والّتي منبعها الحرّية والنبوءة. وهذا الشّعر الجديد يتجاوز التّصوير إلى الكشف عن واقع الشاعر النّفسيّ والحضاريّ والاجتماعيّ والتنبؤ بالمستقبل. إذ تحوّل الشاعر عن الوسائل التّقليديّة لعدم مناسبتها حياته المتغيّرة في مضمونها، ليربط بين أدوات تعبيره الخاصّة الّتي يحياها.
يضعنا "أدونيس" أمام إشكاليّة القصيدة "الرؤيا، والّتي ليست تغييراً في مفهوم الشّعر فحسب، وإنّما هي تغيير في علاقة الإنسان بذاته والعالم من حوله. فالقصيدة تتّجه عاموديّاً بدلاً من ملامسة السّطح لأنّ العالم الّذي تخلقه هو عالم الكشف واستشراف المستقبل، فتحمل في ثناياها قدراً كبيراً من الألم… وقصيدة "الرؤيا" هي قصيدة الأسئلة، لأن من يقرأها يطرح أسئلة كثيرة، إذ إنّها لا تقدّم إجابات بقدر ما تبذر الرّيبة والشّك في كلّ شيء، وبسبب ذلك، فإنّها تفتح عيني الإنسان على الطبيعة، وتعمّق الجرح الوجودي. وهذه القصيدة تصف وصفاً إيمائيّاً، فكلامها القليل هو بمثابة رموز وإشارات يلوّح بها الشاعر من أرض عزلته، حيث تتلاطم العتمات وتقف اللّغة خرساء وعاجزة عن سرد الكارثة.
الفقرة الأولى: (ألمح) هذا يعني أنه يرى من بعيد (رؤيا مستقبلية)، و"الكتب الذليله" فالكتب تحتوي على شعر ذليل فقير يأخذ ولا يعطي، و"القبّة الصفراء" فالقبّة هي أعلى شيء كما أنّها مظلّة الرؤوس الشامخة، أمّا "القبّة الصفراء" فهنا اللّون الأصفر علامة للموت، وهنا جمع الشاعر رؤيته للشّعر الحاضر بأنّه ذليل ينازع وهو مصفرّ، وبالنسبة إلى "مدينة مثقوبة تطير" فهي حضارته في مدينته المثقوبة وهذا برأيه عيب في الحضارة.
والفقرة الثانية: "ألمح جدراناً من الحرير" وهنا أبدع الشاعر حين جعل مادّة الجدران حريراً، حيث الأصل هي مادّة الجدران القاسية الصّلبة كالصخرة، وذلك كلّه ليبيّن خدعة الجدران بنعومتها، و"نجمة قتيله" النجمة هي عبارة عن آلة الهداية، ولكن قاتلها مجهول، و"تسبح في قارورة خضراء"، وهذه النجمة تسبح في قارورة خضراء، واللون الأخضر علامة الحياة.
أمّا بالنسبة للفقرة الثالثة والأخيرة: "ألمح تمثالاً من الدّموع"، عادة التمثال هو تجسيد لشيء صلب وجامد وكما أنّه دلالة الخلود لصاحبه، أمّا أن يزاوج الشاعر بين التمثال والدّموع فتصبح مادّة الدّموع تمثالاً يرمز من خلاله إلى الحزن الدائم وإلى البكاء الدائم أيضاً على ماض، لأنّ الإنسان لا يبكي على مستقبل، وأضاف الشاعر مادّة أخرى لتشكيل الدّموع هي "خزف الأشلاء والرّكوع"، الأشلاء دلالة على الموت، والرّكوع تدلّ على الانصياع والانقياد، "في حضرة الأمير"، كلمة الأمير تدلّ على المقام العالي وعلى المركز المهمّ، أي السموّ والعلوّ والازدهار، أي خضوع الشّعر لسلطان الأمير (العرف، والواقع، والتقليد…). من خلال تحليلنا لهذه الفقرات يتبيّن لدينا تباعاً أنّ النّصّ منقسم إلى محورين رؤيا وواقع، أو موت وحياة، أو الحاضر والمستقبل، فالحاضر عنده هو القديم، أمّا المستقبل فهو الحداثة.
يندرج هذا النّصّ ضمن الشّعر النّقدي، وهذا الشّعر هو على شاكلة المقالة، وعادة الشّعر يشرح السّلبيّات والإيجابيّات، وهنا الشاعر "أدونيس" يطرح رؤيا مستقبليّة للشّعر، وهنا طرح هذه العناصر بنصّ شعري، الرؤيا، والنّمط المهيمن هو النّمط الوصفيّ في هذه القصيدة، فالشاعر هنا يصف لنا أحداثاً ولكنّه يطمح في تغيير الأحداث المحزنة إلى أحداث مفرحة وأن يبعث التّفاؤل في النّفوس المتشائمة، ويحثّها على السّعي من أجل الوصول إلى ما تصبو إليه، وأن تطير وتحلّق في الفضاء الشّاسع من أجل سموّ البشريّة، فهو إنسان حالم يجمح بأجنحته إلى الأعالي من أجل تغيير الواقع المرير إلى عالم الخيال والرؤى، وكلّ ذلك من أجل استنارة العقل البشري والتحرّر من التقاليد والمعتقدات.
رابعاً: المستوى اللّغويّ:
يتضمّن المستويات الثلاثة: المعجمي، والصرفي، والنحوي.
أ. المعجمي والدّلالي: تستوقفنا في هذا النّصّ بعض المفردات الّتي تتعلّق بالرؤيا: "الرؤيا- الكتب الذليله- القبّة- مدينة- جدراناً- نجمة- قارورة- تمثالاً- وخزف". وهذه الكلمات تتعلّق بالحقلين المعجمي والدّلالي على السواء. ولعلّ في هذه المعاني دلالة واضحة في التمرّد على الواقع المعاش، لأنّنا من خلال هذه المعاني نستطيع أن نستخرج الثّنائية المسيطرة أو المستخرجة من هذا النّصّ ألا وهي: ثنائية "الحاضر والمستقبل" أو "رؤيا وواقع"، ومن المفردات الدالّة على هذا تكرار للفعل "ألمح"، فمن خلال هذا الفعل يلمح الشاعر ويجتاز بالرؤيا لأنّها هي الخلاص الوحيد للهروب من عالم الواقع إلى عالم الخيال، وهنا فعل "ألمح" أخذ أبعاداً أكثر من فعل "الرؤية"، لأنّ "ألمح" لم تعد تدلّ فقط على فعل الرؤية في الحاضر بل في المستقبل، فالفعل "ألمح" هو مفتاح في رؤية "أدونيس"، والّتي تدلّ على بعد نظره، وكذلك ذكر الفعل "تطير" أي إنّ أحلامه تحلّق بالأعالي هرباً من الأفكار التّقليديّة، والفعل "يسبح" أي يسبح ويغوص بأفكاره الجديدة في أعماق البشر من أجل تغيير واقعهم المعاش.
نلاحظ في هذه القصيدة وجود حقلين معجميّين ودلاليّين، فالحقل الأوّل يدلّ على الانهزام والموت والألم، ومن المفردات الدالّة على ذلك: "الذليله- الصفراء- قتيله- الدّموع- الأشلاء- الرّكوع"، أمّا الحقل الثاني فيدلّ على الرّفاهية والازدهار، والتّقدّم، والحياة، ويبدو ذلك جلياً واضحاً من خلال استعمال المفردات الآتية: "جدراناً من الحرير- قارورة خضراء- رؤيا- خزف- حضرة الأمير". ونلاحظ هنا أنّ الحقل الأوّل هو المسيطر "الرؤيا"، والّذي من خلاله يطمح ويحلم من تغيير الحزن والألم والدّموع إلى الفرح والبسمة والحياة.
ب. الصرفي: يطالعنا في النّصّ حضور لثلاثة أفعال وهي: "ألمح، وتطير، وتسبح"، وهذه الأفعال هي في صيغة المضارع، وهذه الصيغة تدلّنا عادة على الحركيّة والاستمراريّة، ولكنّها هنا تدلّنا أحياناً على الانكسار والانهزام والسقوط مرّة والموت أيضاً، ثمّ تعود مرّة جديدة لتبعث فينا الحياة والنهوض والسمو والرفعة. ولأنّ الشاعر كما لاحظنا كان كلّ همّه من هذه الرؤيا هو التغيير من العالم الواقع المعاش إلى عالم أكثر حضارة وأكثر ثقافة.
من ناحية أخرى، فقد برزت صفات وهي: "الذليله- صفراء- قتيله- خضراء"، فبعض هذه الصّفات تدلّ على الضعف والذّلّ، والشحوب والموت وكلّها عبارة عن الواقع المعاش، أمّا كلمة خضراء فهي الحياة. وقد قصد بها الشاعر التّغيير والتجديد أي الخيال والحلم والرؤيا.
ت. النّحويّ: نلاحظ في هذا النّصّ غياب للفاعل الّذي هو الضّمير "أنا" أي الكاتب نفسه، وقد برز غياب هذا الضّمير أو ذات الشاعر من خلال الفعل "ألمح"، وفي ذلك يصف الشاعر واقعه وعالمه، لأنّ الرؤيا هي اتّجاه الخيال والحلم نحو اكتشاف مفهوم تحوّل الواقع العربي نحو التجديد.
كما نلمح أيضاً تسكيناً في أواخر بعض الكلمات مثل: "الذليله، وتطير، والحرير، والدّموع…" واستعماله هذه الكلمات المسكّنة ليس للضرورة الشّعريّة، وإنّما السبب الحقيقي هو الإيحاء والوصول إلى الرؤيا الحقيقيّة والّتي تدعو إلى نسيان كلّ ما هو ماضٍ، والّذي يذكّرنا بالموت والألم والانهزام، وأن يبثّ فينا العزيمة والأمل من أجل التّقدّم والنّهوض والحريّة.
وهنا نرى استتار الفاعل بفعله ممّا أعطى للفعل قوّة اللّمح، وللدلالة على أهميّة عمل الفعل وليس على من يقوم بالفعل، كما كثرت في هذا النّصّ حروف الجرّ نذكر منها: "في القبّة، جدراناً من الحرير، تسبح في قارورة، تمثالاً من الدّموع، من خزف الأشلاء، في حضرة" وهذه الحروف لها مدلولان: بيان نوع مثل: جدراناً من الحرير، والمدلول الآخر تحديد ظرف مثل: في القبّة الصفراء.
خامساً: المستوى المجازي: تستوقفنا في هذه القصيدة الكثير من المفردات الّتي تحمل في طيّاتها خروجاً عن الواقع المعاش إلى الواقع المجازي الإيحائي، فالشاعر قد توسّل في هذه القصيدة العديد من الأساليب المجازيّة التضمينيّة الإيحائيّة، وقد برز ذلك جليّاً من خلال الاستعارات والتشبيهات والكنايات.
ففي مطلع القصيدة يطالعنا (تشبيه) وهو: "ألمح بين الكتب الذليله"، فقد شبّه الشاعر الكتب بأنها ذليلة كالإنسان الأمّيّ أو الّذي لا يتمتّع بصلاحيّاته في الحياة، وحينها يشعر بالذّلّ والإهانة لأنّه غير قادر على إفادة مجتمعه. وهنا أسند كلمة "الذليله" إلى الكتب، وهذه الكلمة انزاحت عن معناها الحقيقيّ والأصلي إلى معنى آخر، وهذا ما يسمّى بالانزياح. ويمكننا أن نعتبر هذه الجملة أيضاً استعارة، لأنّ الذّلّ عادة يكون للإنسان وللأشياء المحسوسة وليست للأشياء الجامدة ولكنّه استعاره هنا للكتاب للدلالة على قلّة قيمته، إن لم يحمل ما يفيد البشريّة، وهذه الاستعارة هي تعدية بالوصف.
كما ظهرت لنا العديد من الاستعارات بالتعدية، أي التعدية بواسطة حرف الجرّ: "في القبّة الصفراء- جدراناً من الحرير- في قارورة خضراء- تمثالاً من الدّموع- من خزف الأشلاء". فالاستعارة الأولى (في القبّة الصفراء)، استعار الشاعر اللّون الأصفر من الإنسان أو من النبات وأسنده إلى القبّة، فاللّون الأصفر هو علامة الشحوب والذبول والموت وأيضاً الانحطاط، بينما القبّة هي علامة العلوّ والطموح والارتقاء، فالطموح برأيه إن لم يصل بصاحبه إلى الارتقاء فهو دلالة على الشحوب والموت والانحطاط.
أمّا بالنسبة لـ"مدينة مثقوبة" فهنا توجد كناية عن الضّعف، الّذي تسلّل إلى واقعنا المرير والمعاش حتى أصبح واقعاً مثقوباً وتتداخله فجوات وثغرات.
"مدينة تطير" وهنا أيضاً استعارة، فلقد استعار فعل الطيران من الطائر المتحرّك ونسبه إلى المدينة الثابتة الجامدة، وذلك كونه يتمنّى تغيير أرض الواقع المرير أو ترك الأرض الّتي يعيشها لكي يعيش في عالم الخيال، والأحلام والطيران، وهذه الاستعارة هي تعدية بالوصف.
أمّا "جدران من الحرير" فهي استعارة تعدية، فقد استعار الحرير، وهو من القماش الغالي الثّمن، ونسبه إلى الجدران البالية والّتي مرّت عليها حروب كثيرة، يطلب منها أن تستبدل هذا الثوب البالي أي الأفكار التقليديّة وأن تسعى إلى تطوير أفكارها عبر نسيان ماضيها الأليم إلى الأفكار المستحدثة.
و"نجمة قتيله" هي كناية عن الهداية والنور، ولكن هذا النور مدمّر ومقتول من قبل عقول تحاول أن تدمّر وتفتك بعقول البشريّة، ويطمح الشاعر إلى تغييره من أجل رقيّ المجتمعات.
أمّا "تسبح في قارورة خضراء" وهنا استعارة بالوصف وبالتعدية معاً، فلقد استعار السباحة من الإنسان المحسوس إلى الأشياء غير المحسوسة، وكلّ ذلك ليجعل تفكير الإنسان ورؤياه تسبح وتغوص في أعماق النّهوض والتّقدّم.
و"ألمح تمثالاً من الدّموع"، لقد استعار الشاعر الدّموع من الإنسان المتحرّك في هذا الكون المليء بالحركة إلى التمثال الصلب الجامد، والدّموع عادة هي تعبير عن أحاسيس وحزن يعتمران داخل الإنسان وفي كيانه، ولكنّه هنا نسبها إلى التمثال ليبثّ فيه الرّوح والحياة. (هذه استعارة بالتعدية).
أمّا "من خزف الأشلاء والرّكوع"، هذه أيضاً استعارة تعدية، فقد استعار الأشلاء والرّكوع من الإنسان إلى الخزف، فالأشلاء هي عبارة عن بقايا وجيف الأموات، بينما الرّكوع هو الانحناء والخضوع والانصياع والانقياد، وقد نسبهما إلى الخزف للدلالة على عدم الانقياد والانصياع إلى الواقع المرير وإلى العالم المجهول وكأنّنا أشلاء وجثث وأن نكون كالخزف الّذي يعطي أثمن ما يملكه، وكذلك على الإنسان أن يكون طموحاً وأن يقدّم أفضل ما يملك، لكي يتقدّم نحو الحضارة والرّقي ولكي يقدم على حياة أفضل.
هذه الاستعارات كلّها انزياح وعدول عن المعنى الحقيقيّ والأصليّ إلى المعنى المجازيّ، أي بمعنى آخر يقصد من خلفها الشّاعر الخروج من واقعه المرير إلى واقع أكثر خيالاً وثقافة وحضارة واجتماعاً…
سادساً: الرّموز والشيفرات الثّقافيّة: يتضمّن هذا النّصّ الكثير من الإشارات المرتبطة بالجذور الحضاريّة والثقافيّة والمتعلّقة أيضاً برؤى الشّاعر وأحلامه، فقد أشار لنا ذلك من خلال "حضرة الأمير". فهاتان الكلمتان تدلّان على السّموّ والرفعة والتّقدّم والازدهار نحو الأفضل، لأنّ الأمير برأيه هو رمز مهمّ من رموز الفكر والثقافة والطموح إلى المجد، وأيضاً كونه يتمتّع بصلاحيّات تغيّر الواقع المعاش نحو الأفضل.
وكذلك برزت لدينا بعض الشيفرات الثّقافيّة من خلال الألفاظ التّالية: "الكتب- القبّة- مدينة- تمثال- نجمة…". فـ"الكتب" هي الّتي حفظت لنا تاريخنا وحضارتنا، ولولاها لضاعت أمجاد الحضارات السالفة مع الأيّام العابرة، و"القبّة" تعتبر رمزاً دينيّاً مهمّاً وهي تدلّ على الشّموخ والعلوّ والصمود، والقبّة تكون عادة عند طائفة معيّنة من الناس (المسلمون). أمّا "المدينة" فتمثّل المجتمع وقضاياه ومعتقداته وهو مكان حضاريّ، و"التمثال" قد يكون رمزاً للحرّيّة المخنوقة والّتي يطمح إليها البشر من أجل التحرّر من قيودهم ومن العبوديّة المفروضة عليهم من أجل العيش بسلام.
سابعاً: المستوى الصوتي: يهدف هذا المستوى إلى دراسة تناسب البنية الدّلاليّة مع الإيقاع، مقطعاً، ونبراً، وتنغيماً.
رؤيا
1. ألمح بين الكتب الذليله
/○///○│/○///○│//○/○
مقطع قصير (/○)، ومقطع طويل (///○)،│ومقطع قصير (/○)، ومقطع طويل (///○)، │مقطع طويل (//○)، ومقطع قصير (/○).
مفتعلن│مفتعلن│فعولن
2. في القبّة الصفراء
/○/○//○│/○/○○
مقطعان قصيران (/○)، ومقطع طويل (//○)،│ومقطع قصير (/○)، ومقطع زائد الطول (/○○).
مستفعلن│فعلان
3. مدينةً مثقوبةً تطير
//○//○│/○/○//○│//○○
مقطعان طويلان (//○)،│ومقطعان قصيران (/○)، ومقطع طويل (//○)،│ومقطع زائد الطول (//○○).
مفاعلن│مستفعلن│فعول
4. ألمح جدراناً من الحرير
/○///○│/○/○//○│//○○
مقطع قصير (/○)، ومقطع طويل (///○)،│ومقطعان قصيران (/○)، ومقطع طويل (//○)،│ومقطع زائد الطول (//○○).
مفتعلن│مستفعلن│فعول
5. ونجمةً قتيله
//○//○│//○/○
مقطعان طويلان (//○)،│ومقطع طويل (//○)، ومقطع قصير (/○).
مفاعلن│فعولن
6. تسبح في قارورةٍ خضراء
/○///○│/○/○//○│/○/○○
مقطع قصير (/○)، ومقطع طويل (///○)،│ومقطعان قصيران (/○)، ومقطع طويل (//○)،│ومقطع قصير (/○)، ومقطع زائد الطول (/○○).
مفتعلن│مستفعلن│فعلان
7. ألمح تمثالاً من الدّموع
/○///○│/○/○//○│//○○
مقطع قصير (/○)، ومقطع طويل (///○)،│مقطعان قصيران (/○)، ومقطع طويل (//○)،│ومقطع زائد الطول (//○○).
مفتعلن│مستفعلن│فعول
8. من خزف الأشلاء والرّكوع
/○///○│/○/○//○│//○○
مقطع قصير (/○)، ومقطع طويل (///○)،│مقطعان قصيران (/○)، ومقطع طويل (//○)،│ومقطع زائد الطول (//○○).
مفتعلن│مستفعلن│فعول
9. في حضرة الأمير
/○/○//○│//○○
مقطعان قصيران (/○)، ومقطع طويل (//○)│مقطع زائد الطويل (//○○).
مستفعلن│ فعول
ثامناً: المقطع الإيقاعي: بعد دراستنا لهذه القصيدة، نتوصّل إلى النّتائج التّالية:
توزّع الأنساق:
الأنساق الحركات
مفتعلن 6
فعولن 2
مستفعلن 2
فعلان 2
مفاعلن 7
فعول 5
المجموع 24
توزّع المقاطع:
مقطع قصير مقطع طويل مقطع زائد الطول
الحركات 25 18 7
نلاحظ في هذا النّصّ الشّعريّ، سيطرة المقاطع القصيرة على المقاطع الطويلة، وهذا يعني سرعة في الإيقاع لأنّه ابتدأ الشاعر في ثلاثة مقاطع طويلة ومقطع قصير أي بنسبة 75 % للبطء مقابل 25 % للسرعة، أي (مفتعلن)، وهذا الإيقاع يؤدّي إلى السرعة في الوقت، أي يصبح هناك خلل وصراع في القصيدة أو في النّصّ من خلال المقاطع الصوتيّة، وهذا الصّراع الّذي يعيشه الشاعر يتوضّح من خلال القصيدة. ولكن هذه النسب لم يحافظ عليها في كلّ القصيدة، بل تغيّرت وتبدّلت بين مقاطع قصيرة ومقاطع طيلة، ومقاطع زائدة الطول.
1. الإيقاع النّبري: نرى بوضوح أنّ هناك نبراً في هذه القصيدة، وهذا النّبر يجسّد الصّراع بين البطء والسّرعة من جهة، كما يبيّن لنا صراعاً من نوع آخر وهو الصّراع بين التّقليد والحداثة، ومن خلال هذا الصّراع جسّد الشاعر بين رؤيته وبين الواقع الحقيقيّ.
2. المقطع التّنغيميّ: يتوزّع النّصّ بين الجمل الخبريّة وبين الجمل الإنشائيّة. فالجمل الخبريّة (ألمح، وتطير، وتسبح) كلّها تؤدّي إلى الحركة، بينما الجمل الإنشائيّة تؤدّي إلى الثّبات والجمود والرّكون.
من ناحية الروي: هناك تنوّع في القصيدة، إذ ابتدأ الشاعر قصيدته بالهاء الساكنة "الذليله" تدرّجاً إلى ألف المدّ في "الصفراء"، والراء الساكنة في "تطير، والحرير"، والعين الساكنة في "الدّموع، والرّكوع"، وكلّ ذلك للدلالة على التأوّه (الهاء الساكنة)، ومنها ما يدلّ على الصّعوبة كـ(ألف المدّ) من أجل الوصول إلى ما يطمح إليه الشّاعر. وهذا التّنوّع قد أوصل الشّاعر إلى عبور الطريق الطويل، والصعوبات الّتي واجهها من أجل تغيير هذا الواقع (أي من أجل تغيير الشّعر التّقليدي إلى شعر جديد).
وعلى الرّغم من خلوّ هذه القصيدة من الاستفهام إلّا أنّها لم تفقد النغم، وبهذا يكون الإيقاع التّنغيمي قد حقّق متانة للبنية الدّلاليّة.
استنتاج: إنّ الشّاعر "أدونيس" ومن خلال قصيدته هذه يدعو إلى قراءة جديدة لتاريخ الإنسان في الكون، وأن نكسر بنية الشّعر لولادة تتعلّق بطبيعة "الرؤيا"، وهذه القصيدة تسعى إلى تطوير الإيقاع وجعل المضمون هو الّذي يؤسّس شكل النّصّ. ويمكن القول دون مبالغة إنّ "أدونيس" هو الشّعر التّجريبيّ المتجدّد في الشّعر العربي الحديث، ويأبى إلّا أن يستقرّ للمشاركة في الإبداعيّة وتكسير دائرة التلقّي السلبي عند القارىء أو المتلقّي.
"مرآة الحجر"
الوعي والبحث عن الحقيقة
الطالبة: عبير خليل
"مرآة الحجر"
مقطع زائد الطول مقطع طويل مقطع قصير
0 7 4 1- عارياً تحت نخيل الآلهه،
/o///o /o/o//oo//o/
1 4 2 2- لابساً رمل السنين˚
/o//o/o /o//oo
0 6 2 3- كنت ألهو باحتضاري
/o//o/o /o//o/o
1 6 4 4- كنت أبني ملكوت الآخرين
/o//o/o ///o/o /o//oo
0 2 2 5- بغباري
///o/o
0 7 4 6- يا نبيَ الكلمات التائهه
/o//o/o ///o/o /o//o
0 8 4 7- يا نبيَ السَفر الآتي إلينا
/o//o/o ///o/o/o//o/o
0 4 3 8- في رياح المطر
/o//o/o///o
0 11 5 9- أنا واليأس عرفنا أنك الآتي إلينا
//o/o/o///o/o/o//o/o/o//o/o
0 6 5 10- وعرفناك نبياً يُحتضر˚
///o/o///o/o/o//o
0 3 1 11- فانحنينا
/o//o/o
0 8 4 12- وهتفنا: أيُها الآتي إلينا
///o/o/o//o/o/o//o/o
0 7 5 13- ضائعاً يقطر نفياً وحريقا
/o//o/o///o/o///o/o
0 7 5 14- نحن نرضاك إلهاً وصديقا
/o//o/o///o/o///o/o
0 4 2 15- في مرايا الحجر.
/o//o/o//o
0 4 3 16- يا نبيَّ السَفر
/o//o/o///o
0 7 5 17- أنا أرضاك إلهاً ورفيقا
//o/o/o///o/o///o/o
0 4 2 18- في مرايا الحجر.
/o//o/o//o
1 6 4 19- باسمك اليوم أغنّي للغيوم˚
/o//o/o///o/o/o//oo
1 6 4 20- وسأبني بين قلبي والفضاء
///o/o/o//o/o/o//oo
1 4 2 21- عند أطراف النجوم
/o//o/o/o//oo
0 6 4 22- حاجزاً يلبس وجه البشر
/o//o/o///o/o//o
1 1 1 23- والسماء˚،
/o//oo
1 3 3 24- وأغنّي للغيوم –
///o/o/o//oo
0 8 7 25- حجرٌ وجهي ولن أعشق غير الحجر.
///o/o/o//o/o///o/o///o
سيميائية العنوان:
العنوان هو مرآة النص، فكما المرآة تعكس الصورة التي أمامها، كذلك أيضاً العنوان يعكس محتوى القصيدة. هذا ما نعرفه بشكل عام، لكن عندما تكون المرآة للحجر فهذا أعطانا بعداً آخر، مما ولَّد سيميائية جديدة، فالحجر معروف عادةً بالصلابة والقوة والجمود وعدم القدرة على الحركة، ومن ناحية أخرى نراه رمز الرسوخ والبقاء وبالتالي رمز الوطن والموطن، ونستخلص بأنّ الحجر هو الوطن القوي الصلب الباقي الذي لا يقهر. وعندما دمج "المرآة" معه جعل له بعداً جديداً، فالشاعر يرى انعكاس صورة الوطن، وهذه الصورة المعكوسة هي المستقبل الآتي إلى هذا الوطن. المستقبل الذي يرسمه الشاعر وكل الذين يسيرون على دربه، وطن التجدّد والانبعاث المعتّق من التبعيّة والعيش على أنقاض الماضي.
حركة تشكّل النّصّ والأنماط السّائدة:
النّصّ مرّ بثلاث حركات:- الحركة الأولى (من 1 إلى 5) تمثُل الشكوى والألم واليأس والتعب والملل إلى درجة الاحتضار. – الحركة الثّانية (من 6 إلى 11) تمثّل بصيص الأمل عند رؤية بذرة الانبعاث التي يحملها نبيّ السّفر القادم برغم صعوبة الدرب وبرغم تعبه واحتضاره. – الحركة الثّالثة (من 12 إلى 25) وتمثّل اكتمال عملية الانبعاث والتعايش مع الحياة الجديدة بكل فرح، ولكن هذا الأمر سيحصل في المستقبل وليس في الوقت الرّاهن. إذاً نستخلص من هذه الحركات: الثنائية التي احتوت النّصّ وهي ثنائية الاحتضار والانبعاث، وهذه الثنائية شكّلت البنية الدلاليّة الكاملة للنّصّ.
أمّا من حيث الأنماط، فنرى أنّ النّص يحتوي أكثر من نمط، فكان هناك ظهورٌ للنمط السّرديّ، حيث كان انتقال الأحداث من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، فالماضي هو اليأس والاحتضار، أمّا الحاضر فهو الأمل وولادة الانبعاث، أمّا المستقبل فهو اكتمال الانبعاث.
وقد تخلّل النّصّ أيضاً النّمط الحواريّ، حيث إنّه خاطب نبيّ الكلمات والسّفر يخبره بمعرفة قدومه وبمعرفة احتضاره وبأنّ الأمل منه ضعيف ولكنّه بالرغم من ذلك يُرحّب به ويهتف له ويرضاه إلهاً في وطنه المتجمّد، لأنّه هو الحامل للانبعاث. كما نرى النّمط الوصفيّ قد وضع بصماته بشكل واضح، خصوصاً في بداية النّصّ وفي نهايته، ليصف حال الوطن كيف كان قبل الانبعاث وكيف أصبح بعده، وقد لعبت الأنماط دوراً أساسياً في دعم ركائز الثّنائية المذكورة سابقاً.
دور الإيقاع البنائيّ:
1. الإيقاع المقطعي:
– توزّع الأنساق:
النّسق الحركة الأولى الحركة الثّانية الحركة الثّالثة
مستفعلن /o/o//o 1 2 0
مستفعلان /o/o//oo 2 0 3
مفتعلن /o///o 2 4 8
فعولن //o/o 0 1 1
فاعلن /o//o 4 4 13
فاعلاتن /o//o/o 0 1 2
فاعلان /o//oo 0 0 2
فعلاتن ///o/o 1 2 4
المجموع 10 14 33
– توزّع المقاطع:
مقطع قصير مقطع طويل مقطع زائد الطّول نسبة المقاطع القصيرة نسبة المقاطع الطويلة والزائدة الطّول
الحركة الأولى 14 25 2 34.2 65.8
الحركة الثّانية 22 39 0 36.1 63.9
الحركة الثّالثة 50 75 5 38.5 61.5
النّصّ مبني على نسقَين: مستفعلن (وجوازاته) وفاعلاتن (وجوازاتها). أمّا النّسق الأوّل (مستفعلن /o/o//o) الذي يمثّل البطء عادةً، حيث إنّه يتألّف من 3 مقاطع طويلة ومقطع واحد قصير أي ما يعادل 75 % للبطء و25 % للسرعة، إذاً النّصّ ينطلق من البطء ويستمرّ فيه مع تحوّل "مستفعلن" إلى (مستفعلان /o/o//oo) الّذي يمثّل نسبة البطء الأكبر، حيث إنّ المقطع الطويل في النّهاية تحوّل إلى زائد الطّول (/oo). أمّا مع التحوّل إلى فعولن (//o/o) وفاعلن (/o//o) فتتراجع نسبة البطء 75 % إلى 66.6 % مقابل زيادة السرعة من 25 % إلى 33.4 %. ونرى ازدياد السرعة أكثر مع التحوّل إلى متفعلن (/o///o) حيث أصبحت نسبة المقاطع القصيرة تساوي نسبة المقاطع الطويلة 50 % للاثنين. أمّا بالنسبة إلى النسق الثّاني فاعلاتن (/o//o/o) فهو يمثّل 75 % للبطء مقابل 25 % للسرعة، ومع تحوّلها إلى فاعلان (/o//oo) ازدادت وتيرة السّرعة 30 % مقابل تراجع نسبة البطء 70 %، وكذلك تزداد نسبة السّرعة مع التحوّل إلى فعلاتن (///o/o) فتصبح متساوية مع نسبة البطء 50 %.
وفي كلا النّسقَين نرى التغيّير في مستويات السرعة والبطء، فالنّصّ انطلق من البطء وهو دلالة الجمود والاحتضار والوشوك على الموت، ثمّ في التحوَل الأوَل نرى زيادةً في نسبة السّرعة، وذلك علامة على دخول عنصر التغيّير وهذا العنصر هو الأمل ومحاولة الحراك والخروج عن التبعيّة والجمود وباختصار هو ولادة الانبعاث، وفي التحوّل الأخير نرى تقدّم السرعة لتجاري في مستوياتها نسبة البطء وهذا إشارة على بقاء الصّراع بين الاحتضار والانبعاث، لكنّ مسار تقدم السرعة يُرجح الغلبة للانبعاث، حيث إنّ السّرعة هي من مؤشرات الانبعاث والبطء من مؤشرات الاحتضار والموت. وهكذا نرى أنّ توزّع الأنساق دلّ على المقاومة الجّادة التي تقوم بها نزعة الانبعاث في مواجهة الاحتضار.
2. الإيقاع التنغيميّ:
يتوزّع النّصّ أسلوبيّاً بين الجمل الخبرية والجمل الإنشائيّة. فالخبر هنا قد أدّى وظيفة أساسيّة تتمثّل في تصوير الواقع المأساويّ من ناحية، وتصوير ما يجب أن يكون عليه المستقبل من ناحية أخرى، فهكذا نرى تفلتاً من الزمان والسياقات المحدّدة بعكس الواقع، فقد كان حضور الخبر متكاملاً ليعطي الصّورة الحقيقيّة لمجريات الأحداث في النص.
أمّا الإنشاء فقد قدّم الإطار العاطفيّ للنّصّ، أبرز مشاعر الشاعر والجماعة معه تجاه هذا العالم ودورهم في القيام بالبعث، وقد ظهر ذلك من خلال استعمال أسلوب النداء (يا نبيّ السّفر الآتي إلينا– أيّها الآتي إلينا– يا نبيّ السّفر، أنا أرضاك إلهاً ورفيقا) فهذا الأسلوب كان تجسيداً للحاجة إلى مخلّص ينتشلهم من عذاب الماضي واحتضاراته وينقلهم إلى مستقبل واعد بالفرح.
أمّا من ناحية الرّوي، فتنوّع بشكل تبادليّ في القصيدة، ولكن وظيفيّ، فمنها ما يشير إلى اليأس والأنين (النون السّاكنة المسبوقة بمد) ومنها ما يشير إلى الرضوخ والاستسلام (الرّاء المتبوعة بمد) ومنها يشير إلى الارتياح لرؤية الأمل (النّون المتبوعة بمد)، إعلان القّوة (القاف المتبوعة بمد)، السيطرة (الرّاء)، الهدوء والرّاحة (الميم السّاكنة المسبوقة بمد). وهكذا نرى أنّه تمّ تمتين البنيّة الدّلاليّة بشكل أكبر بواسطة الروي المستخدَم.
حياديّة النّظام اللّغويّ:
1. حياديّة النّظام المعجميّ: في النّصّ تكرار لكثير من المفردات التي لها صلات عميقة بثنائيّة النّصّ: الاحتضار والانبعاث، منها: "الحجر" وهو الوطن والرّكيزة، حيث إنّ عملية الانبعاث ستحصل من أجل هذا الوطن، الوطن الّذي يضم الجماعة، كما تكرّرت كلمة "إلهاً وآلهة" وهو رمزٌ أساسيٌّ في عملية الانبعاث، ومن المعلوم أنّ جميع التموزيين حاكوا الأساطير والآلهة في شعرهم الانبعاثيّ، "الاحتضار" وهي حالة الوطن في الماضي والماضي القريب، حيث إنّه عاش على مخلفات الأموات. "السّفر" الحالة الآنيّة، مرحلة الانتقال من الاحتضار إلى الانبعاث. "أغنّي" اكتمال الانبعاث والوصول إلى الذّروة. "النبيّ" حامل الانبعاث… كما نرى الترادف ظاهرةً أسهمت في بناء النّصّ فالأفعال: "ألهو، هتفنا، سأبني، أغنّي "تختلف في دلالتها الأصليّة فيما بينها، إلّا أنّها تأتلف في النّصّ لتؤدّي دلالة المقاومة والتغلب على الاحتضار وكسر القيود والانطلاق بحريّة دون خوف. أمّا التضاد "عاريّاً، لابساً" فقد لعب الدّور الأبرز في تصوير الحالة وبالرغم من أنّهما متضادتان، إلّا أنهما اتحدتا في تجسيد حالة الضّياع والعجز والعوز التي عانى منها الوطن في مرحلة الاحتضار.
وهناك توزّعٌ لحقلين معجميين: أ- الاحتضار: "عاريّاً، رمل، احتضاري، ملكوت، بغباري، اليأس، يُحتضر، ضائعاً، نفيّاً، حريقاً، حاجزاً".
ب – الانبعاث: "لابساً، ألهو، أبني، السّفر، الآتي، المطر، فانحنينا، هتفنا، عرفنا، نرضاك، إلهاً، صديقا، رفيقا، أغنّي، سأبني، قلبي، الفضاء، النجوم، يلبس، أغنّي، أعشق". ولكثرة مفردات الحقل المعجميّ الخاص بالانبعاث نستخلص بالقول إنّ الانبعاث غالب على الاحتضار وهو مَن سيكون له الانتصار.
2. حياديّة النظام الصّرفيّ: انفراد النّصّ بالأفعال ذات الصّيغ الماضية والمضارعة، أمّا صيغة الماضي (كنت، عرفنا، انحنينا، هتفنا…) فهي تصوير للحياة منذ القدم إلى الماضي القريب، كيف كان وكيف أصبح، أو بالأحرى تصوير الاحتضار كيف تحوّل إلى انبعاث. أمّا المضارع (يُحتضر، يقطر، نرضاك، أرضاك، أغنّي، سأبني، لن أعشق…) في زمنه الحاضر والمستقبل استُخدم لتعزيز الحركة الثّانية –الانبعاث- فكما هو معروف المضارع يختصّ بالاستمرارية كما يختصّ به الانبعاث، وهذا التحوّل من الماضي إلى المضارع قد خدم ثنائيّة النّصّ بشكل كبير، حيث إنّ مرحلة الاحتضار قد مضت كما مضى الماضي، أمّا مرحلة الوقت الرّاهن وما ستؤول إليه مرحلة المستقبل فتتمثّل بالانبعاث. أمّا استخدام فعلَي المضارع "يُحتضر ويقطر" في بداية الأفعال المضارعة فهو علامةٌ على المشقّة التي ستعاني منها مرحلة الانبعاث في بداياتها، حيث ستتعرض للهجوم والاضطهاد وربما الاحتضار ولكن بهمّة حامليها ستقاوم وتنتصر.
كما نرى ظهوراً بارزاً لضمير المتكلم المفرد، حيث إنّ الشاعر ومن خلال اعتماد هذا الضّمير أخذ على عاتقه تحمّل العواقب في عملية الانبعاث، وليس هو فقط مَن سيقوم بعمليّة التحمّل إنّما سيشاركه فيها الجماعة وذلك من خلال استخدام ضمير جمع المتكلمين، أمّا ضمير المخاطب المفرد والغائب المذكر المفرد، فقد كان المقصود بهما الشّخص عينه وهو حامل الانبعاث ويتمثّل بالإله القادر على الحياة والانبعاث من بعد الموت.
وهناك ظاهرة أخرى بارزة وهي استخدام صيغة اسم الفاعل بشكل كبير (لابسّا، عاريّاً، الآتي (3)، ضائعاً) وقد سوّغت هذه الظاهرة الحالة المُعاشة، وهي حالة طارئة لن تدوم وستتغيّر، إنّما تحتاج إلى أُناس مستعدين لمواجهة الصّعاب من أجل الوصول إلى المبتغى.
3. حياديّة النّظام النّحويّ: نرى تطويع الفاعل ذات صيغة المتكلّم (مفرداً وجمعاً) في أغلب الأفعال، وهذا إشارة إلى أنّ الشاعر وأمثاله من الشعراء التموزيين، هم مَن سيُولَد على أيديهم الانبعاث وعلى أيديهم ستنتهي التّبعيّة، أمّا الأفعال ذات الفواعل المستترة (يُحتضر، يقطر، يلبس) فقد سُترت لأهميّة الفعل، فالعمل هو المهم وليس القائم به.
المجاز والخروج على النّظام اللُّغويّ:
أضاف المجاز على أسلوب النّصّ لمسةً مميّزة، بخاصّة الاستعارة بحضورها الملفت بواسطة التّعدية والإضافة، والاستعارة بالتعدية (لابساً رمل السّنين) فالرمل لا يُلبس وقد حصل التحوّل عن الصّورة الواقعيّة لإبراز حالة الجمود واليأس واللامبالاة. (ضائعاً يقطر نفياً وحريقا) ما يقطر عادةً هو الماء أو الدّم وليس النفي والحريق والتحوّل عن الصّورة الواقعية أتى ليعكس الواقع المرير الّذي ساد فيه الظلم والنفي والحريق والدمار…
أمّا الاستعارة بالإضافة (مرآة الحجر، نخيل الآلهه، رمل السّنين، نبيّ السّفر…) أي إضافة اللّفظة إلى ما هو ليس لها في أصل اللّغة، وتحويلها عن الهويّة الحقيقيّة وإلباسها هويّةً جديدة تجسيداً لما سيكون عليه الأمر بعد الانبعاث.
الرّموز والشّيفرات الثّقافيّة:
انعكست في النّصّ بعض الثّقافات من خلال استخدام بعض الشّيفرات. مثلاً الثّقافة الدّينيّة (ملكوت، إلهاً، النبيّ) فقد عزف الشاعر على الوتر الدّينيّ دون أن يحدّد ديانةً بذاتها، فليس المهم أيّ ديانة متّبعة، بل المهم هو العلاقة مع الله وعبادته فهو يرى أنّه من الواجب فصل علاقة الفرد مع ربّه عن علاقة الفرد مع العباد– هذه الثقافة ظهرت من خلال استخدام مهيار في ديوانه– كما كانت الغاية من هذا الفصل أيضاً فصل الدّين عن السّياسة، فبنظره لا نجاح لحضارة ما زالت تعاني التّبعية في سلطتها. وهناك شيفرات أخرى مستخدمة (الآلهة، نبيّ السّفر، الغيوم، النّجوم…) هي شيفرات تحوي في طيّاتها دلالة الأساطير والآلهة، وهي شيفرات استخدمها كلّ الشّعراء التّمّوزيّين في الكلام عن الانبعاث.
خلاصة:
أدونيس كباقي الشّعراء التّمّوزيّين نادى بالانبعاث على غرارهم، فكل قصائدهم تمحورت حول هذا الموضوع. فهؤلاء الشّعراء قد يئسوا من التّبعيّة والسّير على خطا الأقدمين، إن كان في القصائد أو في الحياة العامة، ففي القصائد كانت ما تزال القصيدة العاموديّة الخليليّة هي التي تُسيّر قصائد الشّعراء لزمن ليس ببعيد، أمّا في الحياة العامة فنراها قائمة على التقليد واتباع الموروثات عن الأجداد والآباء، ولا محاولة للمجيء بشيء جديد ما يجعل الحضارة تعيش في حالة من الرّقود والجمود، هذا إن لم نقل احتضاراً، ولن يكون هناك حضارةٌ بنظرهم إلّا من خلال الخلق والإبداع، كما حصل مع الغرب في عصر الأنوار بعد العيش في الظلمة لقرون عدّة في العصور الوسطى.
عمل مشترك لثلاث طالبات في الأدب العربي – الجامعة اللبنانية- بإشراف د.لؤي زيتوني*