يمكن النظر إلى الحروب من مئات الزوايا حسب المكان والزمان، كما يمكن النظر إليها من شتى المنابت والمعايير الثقافية المعلوماتية والمعرفية، فالحرب حتى ولو لم تكن فعلاً استثنائيا في الحياة البشرية، إلا أنها فعل أقصى يملأ الفراغ بين النظري والعملي في سباق المصالح، ولعل الحرب العالمية الأولى كفعل «غربي» بامتياز كانت تعبيراً عن ذاك الاحتقان الثقافي الذي انتجه فائض القوة المعرفية في تجلياتها التكنولوجية المجردة قبل المشخّصة، ما عبر عن انسداد تسويقي لثقافة عصر النهضة وتجلياتها ونتائجها كمنتجات فائضة، لتوصف هذه الحرب بالحرب من أجل التجارة، من هذه الزاوية يمكننا النظر الى هذه الحرب كنتائج و مآلات ثقافية أودت بالمشرق الى ما فيه الآن.
فهذه الحرب دشنت التغيرات الثقافية اعتباراً من بدايتها، بناء على احتياجات أطرافها المحلية الصرفة في سباق محموم نحو الأسواق؟ إنها الأسواق التي تحتاج إلى ثقافة من نوع معين ودرجة معينة كي تستوعب السلعة الغربية، أو بالأحرى سلعة عصر الأنوار العالمية، فهذه السلع تحتاج إلى حد أدنى من ثقافة تؤهّلها للاستهلاك بوصفها تكنولوجيات مشخّصة، دون المخاطرة بفقدان المستهلك في حال حاز على المعرفة الأنوارية، فكلما ازدادت هذه المعرفة ارتقت وتضاعفت أنواع ونوعيات الإستهلاك، ومن هذه الزاوية يمكننا النظر(وتذكر) هذه الحرب، فبينما كانت المدافع تقصف كان المستشرقون يستكملون دراساتهم الأنتروبولوجية، والإجتماعية في العديد من مناطق العالم، مستخدمين مناهجهم العلمية كتكنولوجيا، تاركين عملية إحصاء وتقدير كمية ونوعية الأفواه التي ستتناول منتجاتهم لدولهم التي تأسست على تكنولوجيات عصر الأنوار، مقترحين أنجع السبل للوصول إلى تلك الأفواه وربطها مع فائض القوة المعرفية المتمثلة بالإنتاج، حتى لا يصنع تكدس فائض القوة المعرفية هذا فراغاً يجب يملأه العنف الإجتماعي على أقل تقدير، أو الدولي على المدى الأبعد.
ما يهمّنا من تذكّر هذه الحرب، في ذكراها المئوية الأولى، هو مآل منطقتنا التي لم تشارك في هذه الحرب كطرف ذي مصلحة على الرغم من تأثّر مصالحها بشدة، لا بل تقرر مصيرها (وربما إلى الأبد) كمفعول به، بناء على الحيز الإنتاجي الذي سوف تشغله مستقبلاً، أو بصياغة أخرى، تقدير معرفي لفائض القوة التي يمكن أن تتوفر لاحقاً، في تحول بنيوي لمفهوم الإستعمار والسيطرة، الذي يتضمن ويضمن مستقبله أيضاً، الذي سوف يتحوّل رويداً إلى مفهوم «الريموت كونترولية» أو التحكّم عن بعد، الناتج عن الإقبال على إستهلاك المشخص من التكنولوجيات والإعتياد عليها، والإعراض عن المجرد منها ككتلة معرفية صعبة الهضم، في إشارة أنتروبولوجية الى الجينات الثقافية التي يمكن الحفاظ ذاتياً عليها دون تكاليف تذكر، كبؤرة تلقي لأوامر التحكم عن بعد، في استخدام ما بعد كولونيالي لهذه الجينات الثقافية المرصودة والمدروسة وفق المناهج الأنوارية، التي هي وبالمناسبة، لم تكن ممنوعة على أحد من القادرين على تحمل الجرعات العلمية الصادمة للجين الثقافي، الذي تعرض الغرب نفسه لها، واستطاع بجهد كبير تقبلها وتفعيلها خلال السنوات التي تلت الثورة الفرنسية.
لم تكن هذه الجرعات العلمية، كتكنولوجيات مجردة، بعيدة عن متناول المنطقة ولا هي بالممنوعة عليها، فعصر النهضة ونخبته، ابتداء من 1850 كان قد تلقى هذه الجرعات، وأعاد إنتاجها نظرياً على الأقل، في خضم الصراع الغربي على الأسواق الذي أدى تحديث هذه الأسواق (قناة السويس، والخط الحديدي برلين / دلهي، مثالاً) ولربما كان لفرنسيس مراش الحلبي قصب السبق في روايته (غابة الحق) حول الثقافة التأسيسية لمجتمع الحداثة المطلوب، عبر مقاربة موضوع ترافق استخدام التكنولوجيات المشخصة والمجرّدة معاً وبالضرورة وبكل إخلاص، حيث بدت تلك الجرعات الثقافية والعمل عليها والأخذ بها، كفرصة من الصعب تكرارها، بسبب طبيعتها التأسيسية من جهة، وبسبب وضوح مآلات التراكم المعرفي العالمي التي سوف يحوز عليها ويعيد إنتاجها واستخدامها، من هو قادر على ممارستها والتفاعل معها وتفعيلها لصالحه، كقوة ذكية بغض النظر عن عنفها الفيزيائي إذا وجد. ومع حضور الحرب العالمية الأولى بقسرها الفيزيائي، كانت البنية المعرفية لشرقنا العتيد قد هزمت وتحوّلت طوراً خائبا من أطوار ثقافة، لم تحتمل جيناتها الجرعات المعرفية، ففشلت (وحتى الآن) في استقبال سايكس/ بيكو، ولاحقاً وعد بلفور ومن قبلهما مؤتمر بال الصهيوني الأول 1897 كتكنولوجيات مجردة قادرة على تحقيق أهدافها على الأرض، حيث صدقت تقارير المستشرقين ودراستهم عمليا وعلى أرض الواقع، ولم يستطع المشرقيون حتى يومنا هذا (حسب توقعات هؤلاء المستشرقون) من استيعاب التكنولوجيات المجرّدة (من أهمها المجتمع والدولة) حتّى يومنا هذا.
عملياً تبدو «الثورة» العربية الكبرى، هي الجزء المشرقي من الفعاليات الحربية للحرب العالمية الأولى، على الجبهة التركية الإنكليزية تحديداً، فهي من ناحية تأثيرها التغييري أكثر وضوحاً من تأثير حرب الترعة (قناة السويس) وسفر برلك معاً على المنطقة، هذه «الثورة» التي قادتها بريطانيا من موقعها المصري، عبر مكماهون كتقني سياسي خاضع لمكتشفات المستشرقين الأنتروبولوجيين العلمية، ولورانس العرب الذي قاد المعارك كتقني معرفي عرف كيف يحرك الأمور بناء علمه بالطبائع الثقافية لأهل المنطقة من بلاد الشام حتى نجد والحجاز وصحرائهما المحيطة، في استخدام عملي للتكنولوجيا المجردة، التي ترافقت مع العمليات الحربية كتكنولوجيا مشخصة، حيث غطّى الإنكليز النقص المشرقي في هذه التكنولوجيا المجردة، من حيث تأمين الأرضية الثقافية (العرب أمة واحدة) ومن ثم استغلالها، ليتم تصنيع أرضية ثقافية إيديولوجية مواربة وموظفة للحصول على أراضي سايكس بيكو وتقاسمها، فتم تصنيع العروبة بمعناها البداهي، غير الإرادي، على أساس اننا أمام أمّة مكتملة، من دون المرور في محطة المجتمع، بمعنى أن الأمّة الواحدة هي مجتمع واحد وهو أمر لا يخفى على انتروبولوجي أو حقوقي!، واستعملت العروبة كوصفة ثقافية مرتجلة تقوم مرحلياً (ريثما يتم الإقتسام) بدورها كتكنولوجيا مبسطة قابلة للإستيعاب من قبل شعوب لم تتعرض لإشعاع عصر الأنوار (وترفض التعرض الى يومنا هذا)، في استثمار مجحف وغشاش لثقافة شعبية ما قبل تكنولوجية، تستطيع منظومة سايكس/ بيكو عبرها تفكيك العلاقة العثمانية مع شعب المنطقة المسماة الهلال الخصيب لصالح مملكة عربية واحدة قوامها الزعامة الدينية/ اللغوية، في وقت كانت إنكلترة والغرب عموماً قد تجاوز وأسقط من حسابه هكذا تكنولوجيات في عملية تأسيس مجتمعاتهم مستخدمين ثقافة حداثية صالحة لإقامة مشروع المجتمع/ الأمة المنتجة، ولعل عملية الخداع الكبرى كانت ثقافية بامتياز، عبر دعم حرمان الهلال الخصيب والعربة معاً من تكنولوجيات الإجتماع البشري، التي عبّر بمرارة عنها الملك فيصل الأول بخذلان الإنكليز والدول المنتصرة في الحرب بتخليهم عن هذه العروبة -(بتنصيبه ملكاً على مملكة عربية واحدة)- بنكوثهم بعهدهم بتأسيس أمة عربية له، في هذا المجال بالضبط أي في المجال الثقافي تحديداًيظهر استثمار «الثورة» العربية كمعرفة تكنولوجية واهية، (نظراً لضرورة الثقافي حتى ولو كان واهياً)، وليس في تفكيك «الوحدة العربية» أو بحرمانه من عرش هذه المملكة كما رآها جلالته، ولا في استبدال الإحتلال الغربي بالإحتلال العثماني، والتي توجها (أي الخديعة الثقافية) الملك فيصل ذاته بتوقيع وثيقة فيصل/ وايزمن الشهيرة، تأكيداً على واهية الجرعة المعرفية التي اعتمدت كأرضية تكنولوجية من النوع المجرد للثورة، والتي توازي وتساوي تماماً هزيمة رجال النهضة وسايكس بيكو ووعد بلفور من حيث المبنى الثقافي لها، التي انتهت إلى الحرمان من تكنولوجيا تأسيس المجتمعات، حيث تجلت وبسرعة نتائج فشل مساعي رجال النهضة (بعد الثورة) في استحداث قابلية لاستعمال التكنولوجيات المجردة، لأسباب محلية تماماً، مهدت وانسجمت مع التطلعات الإستعمارية بوجهه الإنتدابي، واستمرت العروبة كمنتج من منتجات الحرب العالمية الأولى دون فعالية ايجابية تذكر، على المستويات البنيوية وغيرها لغاية يومنا هذا، حتى أنها لم تستطع حتى اليوم أن تحقق أدنى غاياتها بدائية أو أكثرها أولوية بالنسبة لها.
في المشهد الثاني من الحرب العالمية الأولى وكأحد نتائجها كانت عصبة الأمم، ووضع مفهوم الإنتداب، فعصبة الأمم (كما الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية) وجدت لتنسيق المصالح والاقتسامات بين المجتمعات المنتجة المتنافسة، خالقة تحديات الحضور الحقيقي للمجتمعات النامية، كغاية عليها الإتجاه نحوها بالمسارعة الى تأسيس المجتمع القادر على توليد دولة، ولعل الحرد الثقافي، أو الحرد من ثقافة عصر الأنوار هو سبب رئيسي في بقاء الهلال الخصيب في هذا القاع الحضاري إلى يومنا هذا، وأيضاً كان السبب الرئيسي في اختراع فكرة الإنتداب، فالإنتداب قولاً وفعلاً هو احتلال واستعمار على كافة المستويات وبمباركة عصبة الأمم من جهة وبمباركة الفراغ الثقافي من جهة أخرى، (المضحك المبكي أن هذه التجمهرات البشرية المشرقية كانت وما زالت تشعر بالإكتمال المعرفي…)، إذ كان لا بد من تصنيع بنية تكنولوجية مجردة ولو كانت مبسطة قادرة علىالإرتقاء بمستوى الإستهلاك، ليقارب بطريقة ما فوائض الإنتاج لديها من التكنولوجيات المشخصة وهنا كانت الخديعة الثقافية الثانية، وبسبب الإنتداب عرف المشرقيون الدستور والبرلمان والسلطات الحكومية والمدارس، يقابلها مشخصا مؤسسات المياه والكهرباء والترومواي والسيارات وماكينات الخياطة إلخ، وكل ما يمكن أن تنتجه مصانع ومزارع تلك الدول المنتصرة من سلع، سوف يصبح الإعتماد عليها هو بمثابة انتقال من عصر الى عصر، ولكن هذا الإنتقال لم يبد ارتقائياً بالمرة، ولهذا السبب لم يستطع المشرقيون استقبال «المؤامرات» عليهم حتى لو اكتشفوها، أو أبلغت لهم، لأن الأمر متعلق بالتكنولوجيات المجردة، التي رفضوا الإنصياع لها، وظلوا في إطار المفعول به، على الرغم من كل الفرص التنويرية اللاحقة، وعلى الرغم من استعمالهم لكل التكنولوجيات المشخصة وإدمانهم عليها.
لم تقم الحرب العالمية الأولى على سبب عاطفي، ولا على خلاف أيديولوجي ديني أو أخلاقي، بل قامت على المصالح الآنية منها والإستراتيجية أيضاً، فمنطقة الشرق الأوسط الواعدة على المستوى الجيوتكتيكي، لا يمكن النأي بها عن تلك المصالح، خصوصاً أن الخلافة العثمانية كانت قد بدأت بالتحول إلى لادولة، ولم تنفع معها لا محاولات التحديث الداخلية ولا مساعدات الألمان في التحديث إذ بقيت هي أيضاً في مجالات التكنولوجيا المشخصة، لم تكن سايكس بيكو ضد أو مع شعوب هذه السلطنة المحتضرة، فهي لا تحبهم ولا تكرههم، ولا تنوي الإعتداء عليهم إلا لقسرهم علىالإنصياع لمخططات تحقيق مصالحها، فالثورة العربية «المجيدة» تمّت بتسليح ومشاركة الجيش البريطاني، وهذا أمر طالما أغفلته المنتجات «الثقافية» الناطقة بالعربية، ولولا ذلك لما استطاع المنتصرون بالحرب النكث بوعودهم، فهم يعرفون تماما مع من يتعاملون، عند هذه النقطة بالذات توقف المشرقيون، عند هذه النقطة العاطفية الأخلاقية رافعين النقيق والشكوى من الإحتقار والإعتداء، على أساس ما يقدرون على فهمه من توجهات السياسة العالمية آنذاك، ولم ينتبهوا إلى الحقيقة الواقعية إلا مرات قليلة كان من السهل إجهاضها (المؤتمر السوري الأول 8 آذار 1920 مثالاً)، مؤسّسين لنظرية المؤامرة من موقع ضحل أخلاقياً ومعرفياً، دون فعل تأسيسي يذكر(حوّل فيما بعدالإستقلالات إلى ورطة)، ليتمّ التعامل مع الكيانات الناتجة عن هذه الحرب ككيانات أزلية غير قابلة للفناء إلا على يد من أسسها، وتم التنظير لها وأدلجتها على أسس غير مجتمعية، ليعود ناتج أي حراك أو أي محاولة ارتقاء إلى نقطة الصفر، بالقوة الذاتية لثقافة هذه الكيانات، التي لن تقوى بعد تلك الحرب على تأسيس مجتمعاتها بأية صفة تقنية، تؤدي إلى توليد دولة معاصرة يمكنها رعاية مصالح «مجتمع» والدفاع عنه، والتنافس بمنتجاته، من هنا تبدو السنوات الحاضنة للحرب (1910 – 1920) سنوات مؤسّسة لعاهات المشرق، بينما كانت هي نفسها فترة تثبيت لمنجزات العصر الأنواري في العالم، والإعلان عن عقد أممي تنافسي جديد يعبّر عن حيويات الأمم ومكانتها بأدوات مختلفة ومظاهر متحولة وقاسرة، بعيدة عن ترهات التفسيرات العواطفية والأخلاقوية البدائية التي اتّسمت بها كيانات منطقتنا، لتظهر هذه الكيانات بعد الحرب كمحصلة للتوازنات الأممية التنافسية، وكأنها تعرّضت إلى تعديل في الجين الثقافي رضيت به وزادت عنه.
تحمّلت البلدان المهزومة التي اشتركت في الحرب العالمية الأولى (خصوصاً ألمانيا وتركيا)، نتائج لعلها أقسى بكثير مما تعرضت إليه بلدان المشرق، إن كان عن طريق عصبة الأمم أو عن طريق البلدان المنتصرة منفردة أو مجتمعة في مؤتمر فرساي 1919، لدرجة أنها كان من الممكن أن تستباح كغنائم حرب، ولكن هذه البلدان لم تلق مصير الهلال الخصيب، إما لثقافتها الأنوارية (ألمانيا)ذات المجتمع الذي تم تأسيسه سابقاً، أو بالمسارعة إلى الإلتحاق بالثقافة الأنوارية التي تؤّسس مجتمعاً بواسطة الثورة العلمانية التي قام بها أتاتورك، لتبدو استمرارية البلدين مؤسّسة على الثقافة والمعرفة بفرعيها المشخص والمجرد، لدرجة أن ألمانيا وخلال عشرين سنة استطاعت أن تخوض حرباً واسعة في محاولة لإستعادة مكانتها، في المقابل بدأ المشرق في تسجيل تراجعات حضارية واضحة على الرغم من مقدرته الجزئية على استهلاك التكنولوجيات المشخصة، تمثل ذلك في القضاء المبرم على كل النخب والحراكات الأنوارية الواعدة من رجال نهضة وما تلاهم من رجال تنوير، لتستقر مصائر البلدان بين أيدي المثقفين (العسكر طليعتهم) الذين مارسوا توفيقية تلفيقية بين التكنولوجيات المجردة والمشخصة تشبه تماما التلفيقية التي مارسها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى تجاه «الثورة» العربية الكبرى، وشعب الهلال الخصيب، ما يعيدنا إلى الريموتكونترولية أو التحكّم عن بعد المؤسس لها في الحرب العالمية الأولى، وربما كانت التجربة الناصرية كجمهورية، والسعودية كملكية، مثالاً باهراً على الدمج التلفيقي (الشفهي اللغوي على أبعد تقدير ثقافي) بين التكنولوجيات المجردة والمشخصة، حيث بدت كل تكنولوجيا مجردة (كالدولة، والمجتمع، والأحزاب، والعقد الإجتماعي والحرية المسؤولة إلخ.. إلخ) موجودة ومفقودة في آن معاً، بمعنى أنها وهمية وقابلة للإنهيار بلحظات وبقواها الذاتية، وهنا يبدو الفارق المعرفي شاسعاً، بين البلدان التي مارست الشعارات وراكمتها، وبين البلدان التي راكمت المعرفة ومارستها، حتى ليبدو للمطّلع على آخر المعارف أنّ الفارق أصبح فلكياً وأن العالم سينقسم (إذا لم يكن قد انقسم وانتهى) الى نوعيين بشريين، أحدهما قادر على تحمل مسؤولية الحياة وآخر يواجه الإصطفاء الطبيعي، لذلك تبدو الحرب العالمية الأولى ونتائجها كمفترق أساسي وعميق، لم يستطع هذا المشرق التعس اللحاق به لأسباب ذاتية أولاً، وبرعاية المنتصرون في هذه الحرب.
لكي تكون رابحاً أو خاسراً في أية لعبة يجب أن تكون مشاركاً فيها أولاً، في الحرب العالمية الأولى، لم تكن بلاد الهلال الخصيب ولا العربة مشاركة، وهذا ما تجلّى في مؤتمر فرساي 1919، عبر الحضور الفكاهي لممثلي المشرق، حيث تبلّغ الملك فيصل رسميا نتائج تلك الحرب، مطلقاً شعاره المرير (ليس بالإمكان أفضل مما كان) لندخل في دوّامات ومعارك ثقافية جزافية، كالمفاضلة بين الإستعمار العثماني والغربي، أو بين العروبة البدهية والأقليمية المعقدة، أو بين التراث والمعاصرة، ناسين تماماً أن القضية الأساسية هي تأسيس المجتمع بمعناه الأنواري تحديداً، كي نستطيع الإستجابة للتحديات ونصبح مشاركين في اللعبة التنافسية للأمم بهيئتنا الإجتماعية القادرة على الإنتاج، وهكذا تم تقسيم البلاد وتساقطت أجزاؤها (فلسطين – كيليكيا – إسكندرون – الأهواز) دون مجير من الداخل أو الخارج، ودون أن يؤثّر هذا التساقط على السيرورة المتفاخرة «للدول» كما فصّلها الإنتداب ثقافياً بناء على دراساته الإستشراقية، واليوم نرفل بحروب أهلية طائفية تعبّر بالضرورة عن ثقافتنا البهية التي رفضت ولما تزل ثقافة عصر الأنوار وتكنولوجياته كطريق للإشتراك في الحياة، وهي الآن غير قادرة حتى على التعايش مع أي آخر وربما مع نفسها أيضاً، تأسيساً على وعد بذله الانكليز في الحرب العالمية الأولى بتأسيس أمة ودولة ولكن بلا مجتمع.
لم تكن الحرب العالمية الأولى من الوجهة الثقافية، إلا إعلان عن تبلور مفهوم الأمة/الدولة، بصفتها القصدية الإرادية المبنية على المعرفة، وهي بذلك كانت فرصة للإنتقال من المفهوم العثماني (التراثي) للدولة المؤسس على الغلبة إلى المفهوم الحديث المؤسس على الثقافة الحقوقية، تهيّئاً للدخول إلى قوام عالمي تنافسي، لا مكان أو مكانة فيه لضعيف… معرفيّاً.