84
تزخر رفوف المكتبات هذه الأيام بمنتجات التائبين عن العالمانية ممن تدثّروا بها طويلاً منذ سنوات شبابهم، ولغاية نضوجهم المبكر، ليصطنعوا الآن لأنفسهم موقعاً ليبرالوياً متسلّحاً بسعة الاطلاع، وطول الخبرة، وإعلان استيعاب الآخرين بأناة أبوية خيرية رائقة مشوبة باستخفاف ساخر من عقول العامة الأغرار في شؤون التفكير ومجهوداته، بوصفهم، هم أنفسهم، معاشري العالمانية وخبراءها لردح طويل من الزمن، ما أدى إلى اكتشافهم أنها أبعد ما يكون عن الاكتمال العلمي المتوفر في الكتب الدينية وطبقات التراث. متنكّبين شرف إنهاء هذه المعركة/ الغزوة الوهمية بالانتصار التكتيكي، الذي يؤسّس لمعارك مضمونة الانتصار قادماً، حتى ولو كانت وهمية أو في غير محلّها أو لزومها.
ينطلق هؤلاء التفكيرويون في الغالب الأعم، من نقطة التناحر المفترضة، بين العمل للدنيا، والعمل للآخرة، وهي نقطة مفصلية، يعلن الطرفان امتلاك ناصيتيهما إذ إن العملين واقعان في الدنيا بالضرورة، أي إنهما متساويان في الغاية الدنيوية، فيقوم هؤلاء التفكيرويون بتبسيط الخلاف وتسطيحه ليصير خلافاً حول الأقدمية الزمنية، فالدين أقدم من العالمانية، وعلى هذا لديه الحق في السيطرة المعرفية، متناسين أن الدين نفسه هو قفزة دنيوية على ما سبقه، مع التنبّه إلى أن المدّة الزمنية المنقضية على وجوده لا تشكل إلا لحظة زمنية صغيرة مقابل المدة الزمنية الهائلة للوجود البشري في هذه الدنيا، ما أدى بهم (أي التفكيرويون) إلى حصر المسألة في الديانات الإبراهيمية الثلاث، ومن ثم حشره في الغرب الأوروبي ومستتبعاته كبؤرة مختبرية فشلت في الاستحواذ على الاكتمال المعرفي واللجوء إلى العلمانية كحلّ موهوم في ظلال الحداثة، وها هي اليوم «تتراجع» مهزومة إلى «ما بعد العالمانية» مجرجرة أذيال الخيبة، معترفة بفشلها في أرضها وبيئتها "الغربية" نفسها، فكيف حالها في مغترباتها من البيئات الأخرى ذات الخصوصيات الفريدة، وهويات سوبر الاكتمال المعرفي؟
لا يبدو هؤلاء التفكيرويون مهتمين بمعرفة المعرفة، ولا حتى العلم بها، فالشك المعرفي لديهم هو بداية هزيمة تامة ناجزة للفكرة العدوة، ولم يبق عليها إلا التحقق في الواقع بواسطة ممارسة الفكرة الصديقة، حيث يستعجلون إعلان سقوطها (أي المعرفة) في بلادها وبيئتها، وكذلك لدى مفكري تلك البلاد الفاشلين، بلذّة وشماتة تذكّرنا بأنّ علينا واجب الشكر لهم لأن العلمانية (تارة يسمونها الحداثة وأخرى العقلانية) لم تصل إلينا و«تخربنا» بسبب اكتشافهم هم فسادها وخواءها الروحي، وبهذا لن تتمكن العلمانية من تخريب اكتمالنا المعرفي، فها هم أهلوها لفظوها وتنكروا لها، فلا لزوم لاعتمادها لدينا، أو لا لزوم لمحاولة تجريب المجرب الذي ثبت فساده! ليتحول الشك المعرفي الارتقائي بين تلافيف أفكارهم، إلى نتائج غزوة هزم فيها الباطل، في خلط مخلٍّ بين إصلاح الخطاب ومجرّد تجديد أدوات الخطاب، من حيث تفعيل الشك المعرفي في الإصلاح في سبيل التغيير والارتقاء وليس لغاية أخرى، حيث تأتي المرحلة المعرفية التغييرية لـ«ما بعد العلمانية» من لدن العلمانية نفسها التي عليها أن تتجدّد أو تموت، وليست تعبيراً اعتذارياً يعترف بالهزيمة والسقوط، كما يتوهم هؤلاء التفكيرويون، لأن التجدد (وليس تجديد الخطاب) المعرفي لا يضع لنفسه خطوطاً حمراء تُوقع متجاوزها في الخطيئة أو الفضيلة، فالعقل لم يحاول يوماً القضاء على الإيمان لأنه جزء من تجلياته، ومن نافل القول إن الأديان برمتها من إبراهيمية وغيرها (قبلها وبعدها) وضعت أسسها الأخلاقية والكلامية على أسس العقل المتوفر في البيئة الزمانية والمكانية المعاشة وقت ظهورها، ولم يخرج أي دين عن المتوفر من هاتيك القيم المعرفية، إلا بقدرته على التبسيط للعامة لتوفير الحشد المطلوب، وهو بذلك لا يصنع مفارقة بالقيم بقدر ما يصوب سيرورتها، وهذا ما حدا بالتفكيرويين إلى الخلط المخل بين الدين والإيمان الذي يؤدي إلى مساحات تفصيلية جانبية متكاثرة تقام فيها معارك جزافية تتوقف فيها المعرفة عن الإنجاز في انتظار انكشاف غبار المعارك التفصيلية المدرجة تحت عناوين مثل خلط الدين والإيمان، أو الإيديولوجيا والتكنولوجيات الخ، وهذا ما يبعث على التساؤل، أي دين نقصد (ومذهب وطائفة وطريقة أيضاً)؟ وكذلك عن أي إيمان؟ خصوصاً أن الإيمان متنوع جداً كفعل مفرد أو جماعي، ولا ينحصر في الإيمان الإبراهيمي على تنوع بيئاته وأصنافه الشديد، فهل القصد في هذه المعركة الواهية هو مواجهة العلمانية للدين/ الإيمان الأوروبي وملحقاته على تنوعها الطائفي والمذهبي، أم القصد في هذه المواجهة كل الإيمانات/ الأديان في العالم؟ وهنا هل يتوحد الإيمان الإبراهيمي الأوروبي مع الإيمان الإبراهيمي الشرقي؟ سؤال يجب إيضاح مقاصده، قبل الحسم بـ«رجوع الديني» أو انهزام العلمانية إلى ما بعدها. فالله والإيمان به وجد قبل الأديان المستمرة، وكذلك القيم الأخلاقية بمعناها التشريعي، ما يدل على أن الديني بالمعنى المعرفي الدنيوي لما يزل مستمراً وكذلك الإيمان، فالحاجة البشرية إلى التنظيم لم تنقطع منذ فجرها حتى يومنا هذا، وهذا ما يضع العلمانية خارج متلازمة الكفر والإيمان التراثية وخارج التدين وعدمه، إن كان على الصعيد الطقوسي الممارس أو على صعيد اللجوء إلى رجال الدين للحصول على التفسيرات التبسيطية المناسبة في خضم تعقيدات الحياة الدنيوية، وهذا ما يجعل متلازمة الدين/ الإيمان المختلقة حدثاً ليس استثنائياً في سيرورة الحياة الدنيا، ولا هي بشيء مستمر كمرجعية نهائية بين الأزمان، وربما كانت انشقاقاتها على نفسها إلى مذاهب وطوائف وملل ونحل، ما هي إلا خضوع دنيوي لمستلزمات التأقلم مع العيش، خصوصاً إذا اعتبرنا أن الإيمان شأن إرادي اختياري وإلا وقع في النفاق، والدين هو حل لمعضلات دنيوية تتغير وتتبدل بانقلابات الزمن والبيئة.
ربما كانت الوظيفة الروحية لمتلازمة، «الإيمان/ الدين» هي الذريعة المثلى لهؤلاء المبشرين بحتمية هزيمة العلمانية، لا بل يضيفون عليها الحداثة والفلسفة أيضاً، حيث يركزون على معزوفات مثل «خواء الروح»، و«الصمم الروحي»، و«تعدي الفلسفة على الدراسات الدينية أو الروحية» إلخ إلخ… من هذه المزعومات التي تتجافى ومعنى الإيمان الحر الإرادي، كهجوم مسبق على منجزات التربية المجتمعية الحداثية التي تتجاوز في شرعتها الأخلاقية والحقوقية ما تم إنجازه سابقاً دون الفصل بين الديني والدنيوي، والروحي والعقلي، حيث وصل الضمير الإنساني إلى مراحل راقية من التخلق بالإيجابيات المجتمعية واضعاً لانسداداتها حلولاً واستراتيجيات ناجعة وذات جدوى، أما على مستوى الروح فقد أنتجت البشرية المجتمعية الحداثية ما لا يضاهى تاريخياً من الفنون والجماليات والإبداعات الأدبية، وبما يتجاوز وبشكل مؤكد ما عناه التفكيرويون «العرب» بالوظيفة الروحية ومنتجاتها نوعاً وكمّاً، وهذا ما يقتضي النظر من هؤلاء التائبين عن العلمانية على الرغم من خبرتهم الطويلة بها، بألا يحولوا العلمانية إلى أيديولوجيا مقابلة «للإيمان»، كما حولوا الإيمان/ الدين إلى أيديولوجيا منافسة (وهذا ما نجده على الأقل في حروب أفغانستان) للسياسة الدولية على الرغم من اختلاف الحقول المعرفية، فالعلمانية ليست أيديولوجيا على أية حال، كما لا يمكن تمطيطها لتصبح هي نفسها «الحداثة» برمتها كما في مسميات هؤلاء التفكيرويين، بحيث يقعون في خلط هو أكبر من الخلط المعرفي بين الدين والإيمان. وعلى الرغم من أن هذا الخلط يبدو متذاكياً بعض الشيء، إذ يقصد جر العلمانية إلى ساحة المعيار الإيماني/ الديني ومحاسبته بهذا المعيار على سلبيات أدائية هي من صلب مفهوم الارتقاء، للوصول وبحكم أيديولوجي مسبق إلى نتيجة خواء العلمانية الروحي والأخلاقي والحكم عليها بالإساءة إلى المعنى الإنساني، مستخدمين عنوة شواهد مبتسرة للعديد من المفكرين الغربيين المتجادلين مع أنظوماتهم المعرفية الذين يمارسون تفكيرهم ضمن منظومة الارتقاء المعرفي التي يعيشونها والتي تنحاز إلى التغيير المتتابع، كآلية مارسها الاجتماع البشري في هذه الدنيا كطريقة للبقاء وليس لإعلان وفاة العلمانية والحداثة والعقلانية. لتبدو هذه المحاولة بمجملها كيدية وعصابية، عند تخطي العلمانية والحداثة وكل منتج «غربي»، والقيام بغزوة «استغرابية» مقابل ما سمي «الاستشراق» البغيض مع فارق هائل بينهما في العلم والمعرفة والموقف منهما.
إن اتهام العقل بمحاولته القضاء على الإيمان، يسحب من الإيمان عقلانية يعوّل عليها في الفضاء المجتمعي وإحلال العلوم التبسيطية كبديل من المعرفة الماثلة في العصر (اللهم إلا إذا اعتبرنا محاولته نزع التبسيطية المعرفية محاولة قتل)، كما أن العقل بتمثّله العلماني لم يحاول يوماً القضاء على الإيمان أو الدين، فالمثل العليا التي كان الإيمان/ الدين قد تسلّمها ممن سبقه لما تزل قائمة وصالحة، إلا أن المصالح وتنظيمها اختلفت عبر الزمن وصارت أعقد بكثير مما كانت عليه في الماضي، بالإضافة إلى أن العلمانية لا تمتلك تشريعاً موازياً (في ساحة معيارية كهذه)، ولا أحكاماً مقابلة للأحكام الدينية/ الإيمانية، كي يظهر أن هذا الصراع ليس صراعاً معرفياً جدلياً بقدر ما هو صراع تبشيريّ إلغائيّ يُنذر بتباغض عقائدي على سبل الانتقال إلى الآخرة، بل اقترحت العلمانية طرقاً بشرية دنيوية تراعي وتلتزم القيم المتوارثة بشكلها المحدّث لإدارة الاجتماع البشري، حيث يمكن للروحانيات أن تجترح آلاف الطرق للتعبير عن نفسها في ظل المساواة، التي تفتقد إليها الملل والنحل، وهذا ما تفتقد إليه «الروحانية» عند استخدامها في هذا المجال، إذ إن المؤمنين ليسوا متساوين عندما يستتب الأمر لها، وهذه هي نقطة الخلاف الكبرى التي لا يجاهر بها هؤلاء، فالروحانية المقصودة هي في الأساس لاتستطيع أن تعتمد المساواة (في خلطة إيمان/ دين) في معاييرها المؤسسة، لتتحول لاحقاً إلى حروب جزافية حتى ولو جاءت على هيئة انتخابات.
إن الفارق الأساسي والحاسم، بين التفكيريين والتفكيرويين، هو في اللغة، إذ يتكلم التفكيريون لغة تعاقدية مسؤولون عنها أمام أنفسهم أولاً وأمام المعايير التفكيرية المتوفرة، بينما يلجأ التفكيرويون إلى لغة شفاهية لا تلزمهم بشيء يجترحون مصطلحات غير متمايزة ولا تدل على أمور متمايزة، عبر استخدام اللغة استخداماً جائراً يعبر عن كثير من الخلط بين الأمور المعرفية، فأيّ التزام أو مسؤولية معرفية يمكن تلمّسها في مصطلح (الروحاني) الشفاهي الذي يتخلل هذه المقارعة الموهومة بينها وبين المصطلح الشفاهي الآخر (الحداثة/ العلمانية/ العقل) المستخدم في ذات الموقع الجبهوي المستنفر؟ لنكتشف من دون كثير من الجهد، أن هؤلاء التفكيرويين يقومون بالتأسيس لذرائع الحروب العنصرية والطائفية متكئين إلى منتجات (الحداثة/ العلمانية/ العقل) كذريعة ليبرالية لتقويض منجزاتها، من دون أدنى مسؤولية عن تأسيس الخراب الشامل، وهنا لا بد لنا من العبور إلى بعض الأمثلة كممرّ إجباريّ، فالتباكي على انحسار الروحانية يقودنا إلى السؤال، هل تتضمن هذه الروحانية كل الروحانيات على قدم المساواة؟ مثل الروحانيات البوذية والهندوسية والكونفوشية والشنتو مثلاً؟ ناهيك عن اعتبار الروحانية الغربية كروحانية جدية، لا أحد يعتقد ذلك بمن فيهم هؤلاء التفكيرويون أنفسهم، فمن الواضح بمكان أن الروحانية التي يقصدونها، هي فقط الروحانية التي يمارسونها ولا يعرفون أو يعترفون بغيرها، فهذه الروحانية بمعناها الخلاصي لا يمكن لها القبول بمساواة الروحانيات جميعاً، ولا القبول بجميع فرضياتها وأطروحاتها وطقوسها، على الرغم من اتحادها النظري ضد «الخواء الروحي»، فالتنوع «الروحاني» هو مدعاة للحروب الإبادية أكثر منه كمدعاة للتسالم النوراني، ولعل حرب أفغانستان (كأنموذج للارتقاء الروحاني!) ما زالت تعطينا الأمثولات حول مكافحة «الخواء الروحي» وأولياته، حيث من نافل القول التطرق إلى مسؤولية التفكير البائس (التفكيروي الشفاهي) عن هذا المآل فهذا لن يجدي. فالروحانية مثل غيرها كما السكين والنار يمكن استخدامها (كلها وليس بعض أشكالها المنتقاة) في الخير وفي الشر، والمشكلة هنا أن الخير «في المقاصد» يكتنف أحد أنواعها والشر يتلبس الباقي، وهذا هو فارقها المهم عن العلمانية التي ترى أن الخير كما الشر موجود في الجميع على قدم المساواة، وفي هذا التفكير تكمن روح الارتقاء والمبادرة والتجاوز في أداء الاجتماع البشري، ولنتصور العالم بعد الحرب العالمية الثانية لو كان خلاف الدول المتحاربة روحانياً كما لما يزل في أفغانستان والصومال ونيجيريا، لا بل لنتصور أن الخلاف بين الكوريتين العلمانيتين كان روحانياً!
من غير الممكن معايرة (محاكمة) العلمانية روحانياً ليس فقط ضمن الساحة الروحانية (وحكماً تشريعاتها)، بل أيضاً في الحياة الواقعية، فالساحة الجديرة بمعايرتها (أو محاكمتها) هي الساحة الدنيوية التي تستطيع وحدها إنتاج ما بعد العلمانية عبر مراجعاتها المعرفية، والانفصال بين العلمانية و«الروحانية» هو انفصال في الحقل المعرفي ومنتجاته وقابليتها للاستعمال الدنيوي، لتبدو الروحانية موازية واختيارية، تحت قاعدتي الحرية والمساواة المتميزتين بالمسؤولية المعرفية عبر الخضوع للقوانين، وهنا تبدو المعايرات الروحانية من خارج الاختصاص، وتتحشر فيما لا يعنيها في سبيل اختلاق معركة وهمية هي فعلاً من خارج الحقلين المعرفيين نفسيهما، قد تصل هذه المعركة إلى الغزو الجهادي، وهذا ما حصل ويحصل بالفعل، إن كان في الكوارث العربية المسماة ربيعاً، أو على مستوى العالم، فالعالم الذي يحاول تجاوز انتكاساته الإنسانية (حروبه) والتقليل من احتمالات وقوعها ثانية، تبدو الروحانية تقوده إليها، وهذا ما يبدو جليّاً في تجمع بشري روحاني مثل إسرائيل (مثالاً وحتى لا نكبّر بقعة الزيت)، فإذا كانت العلمانية (ومعها خلطاً الحداثة والعقلانية) تقود إلى القحط الروحاني، فإن الروحانية كما يدعو إليها هؤلاء التفكيرويون تقود إلى القتل فوراً، وتحديداً القتل الحاقد على حرية الإنسان المسؤولة، باستثناء شرعيّ روحيّ يضع الروحاني في مرتبة عنصرية معرفياً تصل إلى درجة الحق بالقتل ومباركته (الاحتفالات التي عمّت العالم الروحاني احتفاءً بغزوة منهاتن مثالاً) لا بل عدم وجود جهة معرفية مسؤولة تدينه، وهذا ما يقود إلى فوبيات «روحانية» تتهيأ لدخول معركة جزافية اخترعها الغيورون على روحانية الغرب تحديداً.
لا يبدو هؤلاء التفكيرويون مهتمين بمصير الشعوب التي فقدت روحانيتها في الغرب، فهم فقط مهتمون بمعالجة التجرؤ على الاكتمال المعرفي للروحانية التي ورثوها، أو التي وضعوها، أو حتى التي «حدّثوها»، هذا التجرؤ الذي سوف يصل وبالضرورة إلى الاكتمال المعرفي لروحانيتهم، ولعلّ من البله تصديقهم بأنهم غيورون على الروحانية في العالم، فالمعركة الجزافية واضحة المعالم منذ محطتها الأولى، ومعروفة هي محطتها الثانية، وليس هناك محطة نهائية، لأن المعارك الجزافية تتوالد ولا تنتهي، لتبدو تنظيراتهم جاءت «لدحر» الفكر الغربي تحديداً الذي يتسبب بسقوط الضحايا الغربيين لردّ الاعتداء «العلماني» على اكتمالنا المعرفي، لتتحول العمليات المعرفية التي أُنجزت في الغرب منذ عصر الأنوار إلى باطل معرفي، لأن وجودها نفسه هو اعتداء علينا فهو يقوض – تتابعاً – اكتمالنا المعرفي. لذلك تبدو العلمانية رجيمة وهي صفة تتضمن كل الصفات السيئة الأخرى، وليست بأيّ حال فكرة سديدة أو على صواب، فهي فكرة غربية المنشأ بالتحديد، وكلنا نعلم الاستعمار الغربي ومثالبه، إنها عملية تفكيروية متذاكية بعض الشيء، ولا يمكن ابتلاعها ؟
معرفياً… أوليس كذلك؟
معرفياً… أوليس كذلك؟
التباكي حتى لو جاء برطانة لغوية متفلسفة، لا يشكل عملية معرفية مجدية، وممارسة المماحكات التفلسفية مهما ارتقت بها اللغة الشفاهية لا تشكل تحدياً تفكيرياً منتجاً، فما هو وفي غالب مناحيه إلا بكاء على أطلال افتراضية غير ممحص فيها معرفياً، فالعلمانية (ومعها الحداثة والعقلانية)، وضعها أناس ضمن عملية معرفية مديدة ولا تزال مستمرة، وأنتجت تجارب معيشية صارت أنموذجاً لمن يريد البقاء (بمعنى الشبع والمنعة)، بواسطة ممارسة التكنولوجيات المحدثة، للمشاركة في العمليات المعرفية الكونية كعضو له حضور فعال في المجتمع الكوني، ونقد العلمانية، هو ليس نقض الجذور التفكيرية التي أودت إليها، فالعلمانية وجدت كي تلغى ارتقائياً وليس نكوصياً عبر محاولة نفخ الروح في الجثث الفكرية. لقد أطلقت العلمانية أرقى ما في الإنسان من قيم عليا، وليس من المخفي عن الأعين مكامن نجاحها وفشلها، بينما بقي «الروحانويون» يرسفون في أغلال رفض الآخر.