نميِّز عادةً بين مفاهيم الحياة والعقل واللغة والكون المادي. لكن من الممكن بحق الجمع بين هذه المفاهيم وتحليلها على ضوء نموذج علمي معاصر مفاده أن المادة في الحقيقة مجرد معلومات. بالنسبة إلى هذا النموذج العلمي الحديث، الكون المادي يتكوّن من معلومات؛ فالحقائق والأحداث والعلاقات فيما بينها ليست سوى مجموعات من المعلومات وعمليات تبادل للمعلومات (Paul Davies and Niels Gregersen (Editors): Information and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Press). على أساس هذا التفكير العلمي، نحلّل الحياة والعقل واللغة لنرصد كيف تشكّل هذه المفاهيم حقلاً وجودياً واحداً لا ينفصل ولا يتجزأ.
يعرِّف الفيزيائي أرون شرودنغر الحياة على النحو التالي: المادة تتصف بالحياة فقط حين تفعل شيئاً وتتحرك وتتبادل المواد مع محيطها في فترة زمنية أطول من المتوقع حدوثه مع المادة غير الحية الموجودة في الظروف عينها. (Erwin Schrodinger: What is Life?. 1944. Cambridge University Press). لكن يفشل هذا التحليل للحياة لأنه يقع في الدور. والدور هو تحليل المفهوم من خلال المفهوم ذاته كتعريف الماء بالماء. لذا هو مرفوض منطقياً. بالنسبة إلى تحليل شرودنغر للحياة، المادة الحية هي التي تقوم بالأفعال وتتبادل المواد مع محيطها في فترة زمنية أطول مما هو متوقع من قبل المادة غير الحية. وبذلك استخدم شرودنغر مفهوم غير الحي المتضمن لمفهوم الحي في تحليل الحياة، وبذلك استعمل مفهوم الحياة في تحليل الحياة. ولذا وقع التحليل السابق في الدور. من هنا يفشل تحليل شرودنغر للحياة. أما بالنسبة إلى التعريف التقليدي للحياة فالحي هو الذي يتوالد وينمو ويتغذى ويتحرك ويموت. لكن هذا التحليل يقع أيضاً في الدور. فهو يعرِّف الحياة من خلال مفاهيم تتضمن مفهوم الحياة كمفهومي النمو والموت. فالكائن الذي ينمو هو الكائن الحي، والكائن الذي يموت هو الكائن الذي كان حياً. هكذا تم تحليل الحياة من خلال مفهوم الحي. وهذا دور مرفوض كتعريف الماء بالماء.
يبدو أن الطريقة الأفضل لتحليل الحياة كامنة في الاعتماد على مفهوم مشترك بين الكون المادي والكائنات الحية. وهذا المفهوم هو مفهوم المعلومة. فمن الممكن علمياً وصف الكون المادي على أنه معلومات، كما من الممكن علمياً أيضاً وصف الكائن الحي على أنه مجموعة معلومات. وبذلك مفهوم المعلومة مشترك بين المادة غير الحية والمادة الحية، ما يجعله مناسباً لتحليل الحياة، علماً أن الحياة معتمدة في تكوّنها على المادة. كما يتجنب هذا التحليل للحياة مشكلة الوقوع في الدور المرفوض منطقياً ما يحتم أرجحية صدق هذا التحليل؛ فتحليل الحياة على أنها معلومات لا يتضمن تحليل الحياة من خلال مفهوم الحياة. بالنسبة إلى هذا التحليل، الحياة نظام معلوماتي. بكلامٍ آخر، الحياة مجموعة معلومات وعمليات تبادل وإنتاج للمعلومات. فبما أن الجينات البيولوجية التي تتشكّل منها الكائنات الحية ليست سوى معلومات متوارثة، إذاً الحياة نظام معلوماتي.
ينجح هذا النموذج الفكري في تفسير لماذا توجد الحياة وكيف من الممكن ولماذا من المتوقع أن تنشأ الحياة من المادة غير الحية، ما يدعم مصداقية هذا النموذج في تحليل الحياة. فبما أن الكون المادي والحياة أنظمة معلوماتية كالكمبيوتر وبذلك المادة غير الحية والحياة تتكوّنان من الأشياء ذاتها ألا وهي المعلومات، إذاً من المتوقع أن توجد الحياة في عالمنا المادي وأن تنشأ الحياة من المادة غير الحية. هكذا ينجح هذا النموذج المعلوماتي في تفسير إمكانية نشوء الحياة من المادة ولماذا توجد الحياة أصلاً. ورغم نجاح هذا التحليل في ربط الحياة بالمادة غير الحية ينجح أيضاً في التمييز بين الكائنات الحية وغير الحية، وبذلك يكتسب هذا التحليل للحياة فضائل معرفية أخرى. فمثلاً، الحجر لا يملك الحياة بينما الكائنات البشرية والحيوانية حائزة على الحياة. هذا بسبب أن الحياة نظام معلوماتي يتبادل وينتج المعلومات، لكن الحجر لا ينتج المعلومات وبذلك هو ليس حياً بينما الكائنات البشرية والحيوانية تنتج المعلومات من خلال إدراكها وأفعالها وردات أفعالها ولذا هي حية رغم أن المادة غير الحية والأحياء مجرد مجموعات من المعلومات.
هذا النموذج الفكري نفسه يمكننا من تفسير العقل. فكما من الممكن علمياً تفسير ووصف الكون والحياة من خلال المعلومات ننجح علمياً أيضاً في وصف وتفسير العقل على أنه معلومات. ومن المتاح ذلك من خلال الاعتماد على نظريات بعض العلماء. فمثلاً، يطرح الفيزيائي ميشيو كاكو نظرية علمية مثيرة مفادها أن العقل ليس سوى كمبيوتر متطور. وعلى ضوء نظريته يتنبأ بالتطورات العلمية في المستقبل. يعتقد كاكو أن المستقبل القريب يحمل مفاجآت عدة، منها إمكانية تسجيل ذكرياتنا واستعمالها كأشرطة فيديو ونشوء روبوتات واعية (أي آلات شبيهة بالإنسان) سترافقنا في حياتنا وإمكانية تحميل وعينا في آلات متطورة، ما يحقق إمكانية أن يحيى وعينا إلى الأبد. وهذا المستقبل حتمي ويتضمن معالم عصر ما بعد الإنسان. يؤكد كاكو على أن معضلات الوعي الإنساني سوف يتم حلها على ضوء التطورات العلمية في حقل علوم تكنولوجيا النيورونات. بالنسبة إليه، العقل مجموعة برامج كمبيوترية معتمدة على النيورونات أي الخلايا العصبية في الدماغ. هذا يعني، كما يقول كاكو، أن العقل مجرد كمبيوتر مصنوع من خلايا بيولوجية. وبذلك فهم العقل ليس سوى مسألة هندسية. يضيف كاكو قائلاً إن القوانين المتحكمة بالكمبيوترات معروفة. وبذلك سنتمكن قريباً من التحكم بالوعي كما نتحكم اليوم بالإلكترونات الموجودة في الكمبيوتر (Michio Kaku: The Future of the Mind. 2014.
Doubleday).
لقد تمكن العلماء من رسم ما يحدث في الدماغ البشري حين يشاهد العقل هذه الأفلام والمشاهد أو تلك. ولذا خريطة تصرف الدماغ معروفة علمياً. وبذلك يستنتج كاكو أنه من الممكن التنبؤ بما يفكر ويرى العقل من خلال النظر فقط إلى النيورونات الدماغية وتصرفها. فالخلايا العصبية تضيء حين نشاهد هذا المشهد أو ذاك، ما يجعل من السهل دراستها علمياً وربط ما يضيء من النيورونات بما نشاهد أو نفكر.
على هذا الأساس، من الممكن علمياً، كما يؤكد كاكو، تسجيل ذكريات وأفكار فرد ما وزرعها في دماغ شخص آخر من خلال التحكم بعمل النيورونات، كما ستتمكن الكمبيوترات المتطورة المتصلة بأدمغتنا من قراءة أفكارنا وإرسالها إلى هذا المتلقي أو ذاك. من المنطلق نفسه، من الممكن علمياً إعادة صياغة عقولنا وتحميلها في آلات كمبيوترية متطورة تبقى في الوجود بعد موتنا بيولوجياً. هذا لأن عقولنا ليست سوى برامج كمبيوترية معتمدة على النيورونات، أي الخلايا العصبية التي من الممكن التحكم فيها (المرجع السابق).
لنسلّم علمياً بأن العقل كمبيوتر. لكن الكمبيوتر يتكوّن من برامج لحفظ المعلومات وتبادلها وإنتاجها. بذلك العقل نظام معلوماتي يتشكّل من معلومات وعمليات تبادل لها. الآن، بما أن العقل نظام معلوماتي كالكون المادي تماماً، إذاً من الطبيعي أن يوجد العقل في هذا الكون المادي. كما من الطبيعي أن يتفاعل العقل مع جسده الحي لكونهما يتكوّنان من الطبيعة ذاتها ألا وهي المعلومات. ومن الطبيعي أيضاً أن ينجح العقل في معرفة الكون لكون العقل والكون ليسا سوى معلومات وتبادل لها. من هنا، تنجح النظرية القائلة إن العقول والكون مجرد أنظمة معلوماتية في تفسير لماذا يوجد العقل وكيف من الممكن أن يتفاعل مع الجسد الحي ويتمكن من معرفة الكون. وبذلك تملك هذه النظرية في العقل والكون قدرة تفسيرية كبرى ما يدعم صدقها.
اللغة أيضاً ليست سوى معلومات، والصياغات اللغوية المختلفة ليست سوى برامج معلوماتية متنوعة. فمثلاً، كلمة "الصديق" في اللغة العربية مشتقة من "صَدَقَ"، وبذلك اللغة العربية تحتوي على معلومة متوارثة، مفادها أن صديقك هو الذي يصدق معك. وفي اللغة العربية أيضاً، كلمة "التواصل" مشتقة من "وَصَلَ" بمعنى رَبَط، وبذلك تحتوي اللغة العربية أيضاً على معلومة متوارثة، ألا وهي أن التواصل بين الناس هو الذي يربط الناس فيما بينهم. من هنا، اللغة مجموعة معلومات متوارثة. لكن الكون المادي يتكوّن من معلومات. وبما أن اللغة أيضاً معلومات، إذاً من الطبيعي أن تنشأ اللغة وتوجد في عالمنا المادي. هكذا ينجح هذا النموذج المعلوماتي في تفسير لماذا توجد اللغة تماماً كما ينجح في تفسير لماذا توجد الحياة والعقول. كون من دون عقل ولغة وحياة كون من دون وجود.