وكأنه كان لا بد من هذا الإنفجار الكارثي أن يحصل، حتى ننتبه على عقم الأجوبة بل وردائتها، ناهيك عن خطأها، التي رددنا بها على أسئلة العصر الماحقة فهي لا تمهل ولا تهمل ، فمن المناهج التعليمية، حتى أصغر تنظير ثقافي / سياسي ، تهافتت أجوبتنا اعتماداً على ارتجالات تاريخانية، تقارب الفهلويات الكلامية، محاولين تعديل الأسئلة وعلى الأغلب تحريفها وتكييفها، لتصبح قابلة للتماحك الثقافوي / السياسي، حيث تم تلخيصها بكبسولات / شعارات، تؤخذ قبل المناسبات الوطنية الكبرى والصغرى، من تدشين صنبور ماء في قرية نائية، حتى " الانتخابات " الرئاسية أو البرلمانية، أما بما يخص فلسطين فكبسولة " فلسطين عربية وستبقى عربية " فكانت شافية ووافية برفقة غيرها من الكبسولات المغذية، التكتيكي منها والإستراتيجي .
في يفاعتنا أي في سني الجامعة، في تلك السن التي ترتقب فيها الكثير من المجتمعات العفية توجهات وهموم وتطلعات وأفكارأبنائها في "حرم "جامعاتها، في تلك السنين حصلت لنا قناعة فحواها : أنه بتحرر فلسطين سوف تتحرر التجمعات السكانية لهذا العالم " العربي "، وتخرج الى نور المعرفة منظمة حياتها في مجتمعات تفرز دولاً بمعنى الكلمة، وكانت وقتئذ "القضية " الفلسطينية تشكل جزءاً مركزياً من "المسألة العربية "، هذه المسألة التي لم يقطع أحد بحقيقتها ، ولا الزمن أثبت ضرورتها ، ولا الشعوب أنجزتها بإرادتها ، " فالعربية " لم تكن في يوم من الأيام قضية مكتملة بذاتها تتضمن مجموعة من المسائل منها المسألة الفلسطينية (وأيضاً وعلى نفس الضرورة والخطورة مسائل مثل كيليكيا، والإسكندرون، والأهواز)، أي أنها لم تكن في يوم من الأيام قضية المجتمع / الأمة، أو قضية وحدة المجتمع / وحدة الأمة، أو المجتمع الواحد / أمة واحدة، أي أن الموضوع برمته كان في تلك السنين والى يومنا هذا معكوسا تماماً في منظومتنا المعرفية، ولم ينتبه أحد الى سذاجة الشعار بأن فلسطين عربية وستبقى عربية ( مع أنه تغير اليوم بطريقة فاضحة، فإما فلسطين فتحاوية وستبقى فتحاوية أو حماسوية وستبقى حماسوية وربما داعشية أو قاعدية، فلا أحد يعرف أين ستقف كرة الثلج هذه ) حيث يواجهنا سؤال مرير مؤجل دائما : ماذا يعني أن تكون وتبقى فلسطين عربية ؟! لا شيء تقريبا …لا شيء، اللهم إلا إذا استثنينا استعمالات أخرى لفلسطين المغتصبة ( لاحظ الفارق بالتسمية الشعاراتية مع اسكندرون اللواء السليب ) فجميع الأعاريب استعملوها بقليل أو بكثير ( ولحق بهم من استطاع إليها سبيلا من الأقارب والأباعد )ولكن فلسطين لما تزل تغتصب ولما يزل المستعملون " لقضيتها " مستعدون للحفاظ عليها على هذا الوضع .
ترى ؟ وهذا سؤال ضروري كسؤال وجودي معاصر، ترى هل كان وخلال المدة التي قضتها فلسطين تحت الإغتصاب المستمر، هل كان من المستحيل تحريرها ؟ و قبلها وعلى الصعيد المعرفي هل كان من المستحيل التنبه الى المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا 1897 و محاولات وايزمن مع السلطان عبد الحميد، و وعد بلفور، ومن ثم وثيقة فيصل وايزمن الشهيرة، الوثيقة التي جعلت فلسطين عربية على يد الفاتح العربي؟ لن نسأل من المسؤول فهذا سؤال ساذج طالما لا يمكن محاسبة المسؤلين، وإعادة الصواب الى نصابه، ولكن أولم تكن منظومتنا المعرفية مسؤولة عن ذلك؟ أولم يأت الأوان لمحاسبة أنفسنا، عبر تشريح منظوتنا المعرفية التي لم تتمخض عن أي شيء مجد حتى الآن، ففلسطين لما تزل تغتصب، وفي أقصى أحلام التحرير والتحرر هي موعودة بإغتصاب من قبل جحافل الخلافة، الذي لا يغيير من الموضوع شيئاً. فالمنظومة المعرفية التي أخفقنا بها دخول عصر الأوطان صارت والتي ما زالت على تراجع لما تزل فاعلة ، ومن المؤكد لم تعد صالحة وعلى الأغلب لم تكن كذلك إلا بالنوايا، ولم تعد فلسطين ( ولا غيرها )، إلا بلاداً لا تنتظم في قضية اجتماعية محددة الملامح، واضحة الحضور بواسطة معايير العصر ، التي تحدد قوانين الحضور وأساليبه، ولا تتسامح حتى مع اللذين يعلمون ولكنهم لا يعرفون، هكذا تحولت فلسطين الى قضية وليست مسألة من مسائل قضية كبرى هي قضية المجتمع / الأمة، في هذه "القضية " لم يعد ثمة فارقاً مهماً بين ما هو واجب وبين ما هو تطوع، وهذا ما يجعل من فلسطين ( وغيرها ) بلاداً مجرد بلاد يتطوع سكانها للذود عنها ولكنها ليست وطنا يتوجب على مواطنيه حمايته، فالوطن هو وطن المجتمعات، والبلاد هي منازل الجماعات التي لا تلبث أن تنفجر في وجهها أسلحة وقنابل المتطوعين .
في العصر الحديث لم تعد كلمات مثل مجتمع وأمة ودولة وحزب…الخ، مجرد تصريفات لغوية تطلق أسماء على بعض الأوضاع الدنيوية ( خصوصاً إذا كانت اللغة شفاهية وسائلة الى هذا الحد أو ذاك ) بل أصبحت هذه المفردات مصطلحات تقنية تعني ما تعنيه، من أبعاد حقوقية واضحة وعلنية ( ولنأخذ ما شئنا من تعريفات حديثة للمجتمع والأمة )، وفلسطين من هذا المنظور ومن منظور ما هو مجرب عبر تاريخ النكبة أيضاً، ليست مجتمعاً بالمعنى التقني المعاصر، ولا هي جزءاً لا يتجزأ من مجتمع / أمة أيضاً لحد الآن، ليس بسبب اغتصابها فقط، ولكن بسبب اعتماد منظومتنا المعرفية على البدهيات السطحية في تعيين الأمة والإنتماء، إليها ليس كوجود موضوعي بل كشعار سياسي ( طبعا قتل وعذب وقمع بسببه الكثير من البشر ) تكهني وربما سحري بناء على ممكنات استخدام اللغة كعامل أيديولوجي، يتطلب الإيمان بعد التبشير بالحقيقة البديهية، حيث يتم إنجاز هوية الوجود قبل الوجود ذاته .
في المجتمع / الأمة، لا يجب أن تبقى لا فلسطين ولا غيرها تحت الإغتصاب، لأن في ذلك ما ينقض الوجود وإرادة الوجود معاً، وجود الأمة وتعيينها كقضية وكمسائل هو ما يحتم التحرر والتحرير، فمن واجبات المجتمع أن يكتمل على كامل مساحة وجود دورته الاجتماعية الاقتصادية الضامن الأساسي لعدم الفناء، وأن يحرر ما اغتصب وما سلب كي تكتمل هذه الدورة التي بواسطتها أيضاً يتم التنافس والدفاع عن الحضور الدنيوي للوطن ذي الهوية الواضحة والمعلنة والمحمية بالإنتاج، وعلى هذا يظهر الإنخراط في التحرير واجباً شخصياً على كل مواطن ( في المجتمع) وليس ( على العباد من أهل البلاد ) من أجل منع فناء الوطن، بصفتهم أصحاب مصلحة في البقاء والإستمرار في الدنيا وليسوا زواراً على دنيا فانية سائرين على أجداث من سبقهم .
فلسطين واغتصابها ليست حكاية انتقام وثأر يثلج الصدور ويبرد القلوب، كما أنها ليست حكاية غزو اعتدنا قراءتها تكراراً في طبقات التراث، حتى أصبحت ذهنية ثقافية عتيدة نقارع بها معرفة كونية صنعت المعجزات، إنها مسألة حق حقوقي دنيوي وإنساني لا يتضح إلا بوجود مجتمع / أمة، ذي قوة ومنعة، ولم يتضح هذا الحق لا مع العروبية بخطاباتها المنبرية، ولا مع الإسلاموية بجحافلها الدموية، على الرغم من هذه المسيرة الطويلة من النضال و" الجهاد " لن تتبلور المسألة الفلسطينية إلا كمسألة في قضية المجتمع الأمة، حيث يتكثف واجب تحريرها على أبناء الأمة جمعاء لأن مصلحتهم تقتضي ذلك، ففلسطين و (غيرها ) مصلحة مجتمعية عليا، لها علاقة عضوية بالدورة الاقتصادية الاجتماعية، وإنجاحها ضرورة لإنتاج الهوية، فليس من هوية قبل الوجود الدنيوي بصفته المعاصرة، والإنتاج هو من يمنح الهوية للمجتمعات التي وجدت نفسها، أي وجدت حقوقها ووجدت السبيل الى هذه الحقوق، إذ لا مناص من الهزائم طالما ظل المجتمع / الأمة في حالة غياب. لذلك تبدو المسألة الفلسطينية عملياً اليوم كحالة إغاثة وتظالم بين فلسطينيون أو "عرب " وبين دولة حداثية أفرزها "مجتمع " على الرغم من كونه مصطنع وعدواني وعنصري ومغتصب، فلا العروبية استطاعت أن تعلن وحدة مجتمعها / أمتها وبالتالي حاجتها بالضرورة الى جزء من أجزائها، ولا الإسلاموية بكافة أطيافها استطاعت الولوج الى عصر المجتمعات /الأمم، وفلسطين تعتصر بين هاتين الرحيين .
واليوم ماذا يمكن أن تكون فلسطين لو تحررت ( إفتراضاً ) على يد أحد الطرحين العروبي والأسلامي وهما صنوان بينهما سوء تفاهم طفيف، فالإثنين ليسا بقادرين على تأسيس المجتمع الحديث بناء على ما استجد من علم ومعرفة في هذه الدنيا، فهما ليسا بقادرين على إنتاج المساواة ناهيك عن دسترتها أو قوننتها، وبالتالي غير قادرين حتى على تصور المجتمع المؤسس على المصالح، لذلك يتسابقان على إعلان هوية الوجود قبل الوجود نفسه ، فالهوية شأن معرفي معاصر يحتاج الى بنية معرفية مجتمعية تستوعبة حتى يتم تفعيله، فإذا لم تكن للهوية فعالية منفعية مفيدة فما هي ضرورة وجودها، وهنا نرنو الى فلسطين المحررة ( إفتراضاً )، فإما أن تلتحق عروبياً بجامعة الدول العربية كقطر شقيق ( في كل الأحوال هي قطر شقيق في هذه الجامعة العتيدة، أي أنها محررة ولكن على الصعيد الرمزي ) لتصبح "دولة " في إطار الإصطلاح الخارجي عليها كما سائر "الدول" العربية ، أو عليها أنت تكون فصيل ( أفغاني ) آخر يغزو العالم بقصد إعادة العالم الى رشده في ظلال الخلافة، ولا أظن أن هذين المآلين صالحين " لقضية " تحرير، إذ لا مجتمع / أمة جاهزة للإستفادة من هذا التحرير .
أين هي فلسطين من هذه الإستحقاقات المعرفية ؟ لا أحد يستطيع الجزم، خصوصاً في ظل أحوال كارثية وصلت إليها الدول الشقيقة، ولإسباب معرفية أيضاً، فهل علينا إعادة إكتشاف فلسطين ؟
نعم علينا ذلك …نعم علينا اكتشافها وتحديدها، كأمة، أو كجزء من أمة وفي الحالين علينا استخدام المعارف الاجتماعية المعاصرة، الدنيوية بالضرورة، ففلسطين ليست طريقاً للجنة ، بل هي أحد الطرق لرفعة المجتمع /الأمة ومنعته وشعبه، واسألوا في ذلك رجال النهضة فجلّهم لديهم رؤيا عن تأسيس المجتمع بما امتلكوا من علم ومعرفة عوقبوا عليها بشدة وجزر اسألوا أنطون سعادة وهو على منصة إعدامه يقدم تقريراً عن أهوال أمة أضاعت المعرفة.
فلسطين كانت الفرصة لنتنبه الى قضية المجتمع وننجزها، وفلسطين كانت الإمتحان الذي أخفقنا به حتى الآن، ترى هل هناك من أمل يعيد لنا الفرصة بالتقدم لهذا الإمتحان مرة أخرى؟ نعم فنحن مضطرون للأمل .