عنوانه يغري، تشدّك إليه جمالية صياغته وطراوة موسيقاه ورقيّ بوحِه. وبعودة الى الفيروز بادي نعرف ان في الفتون مايشدّ صلابة المتون إذ يعيدنا في شرح لمعانيه الى أطناب خيام ليلى وعبلة وبثينة / ستلاقونا الحكايا / عن هوى قيس وليلىوجميل وبثينة !!..
واسمعوا قصّة عبلة حينما اشتاقت لعنتر / وهي في مرعى الغنم !!.. / وحكايا… غير أنّا كاذبون. /
منْ منّا لم يعشق تلك الاكاذيب في شعر او رواية، او في الحكايا بين أكواخ وسرايا !
بدر خالد حناوي في ديوانها” فتون المتون” تحافظ على عطايا الله التي منحها للأنثى فلا تحولها الى ذكورية مصطنعة كما تفعل الكثيرات من اترابها الشاعرات في تهجمهن المتعالي والمقزز أحيانا. فحربها منصبّة على الزمن وغربته وغريب مساره ورداءة اطواره تبسطه ببراءة على بساط ابيض لتشرحه بشفافية تلوم بـها القدر وحده ولا تحمِّل الرجل أيّ وزر، صديقا كان أوحبيبا. ففي عين حبيبها” يشتعل الحب ويتوهج العشق وتتمدّد المسافات” ولعينيه خضرة الشوق في فتون المتون.
لكن الشاعرة وفي قصيدتها” جلد الحروف” التي لم تحرك لامها بفتح او سكون، وجاء فيها:
" عند قيس الف ليلى / عند ليلى ألف قيس” وآلمها أنّا كاذبون، لكنها نسيت او تناست ما جاء في قصيدتها السابقة ”انتصاب الذكرى” من بوح حرور حميم وهي تؤكد عدم النسيان فتقول :
" أنا لا انسى.." ثم تلوم ما تلاقي من شكوى مع قرب الحبيب وبُعده” ففي التقارب غضب وفي التباعد بلوى” لأن نِعَمَ القرب فتون وهتاف الشوق أقوى من بعد الحبيب !
هذه الشاعرة التي تسأم لاحقا من كذب الحكايا في عشق ليلى وعبلة وبثينة، نجدها منتصبة قسرا مع
“ انتصاب الذكرى” :
" وإذا ناديت: قيسًا
جاوبني ألف قيس !!..
غير اني يا حياتي
ليس عندي غير قيس !!..
فيكَ للحبّ سموٌّ فيكَ سحرٌ بل وأمضى !! /… / ارجع الماضي حنينًا واشتياقًا ثم نجوى /
وإذا ما مرّ طيفٌ فيه من عينيكَ ذكرى / شهق الماضي بقلبي / صفَّق الحبّ وغنّى !!
وتختم القصيدة بسؤال يغرق في سبات الشكوى لينتصب متحديا:
" إن قلبًا لو تناسى / ليس ذاك القلب يهوى / آه يا طيب هوانا/ ما بقينا سوف يبقى”
وهكذا تؤرجحنا الشاعرة بين حلِّ الفتون وربط المتون في بحبوحة غنائية ترقى بالغزل الى مصاف الشعراء الكبار بصياغة تعابيرها وصناعة منظومها وعمق مضامينها.
تقول في” صدى قيثارة” :
رقص الزمان على صدى قيثاري لما خلعـت على الغرامإزاري
وأتت سحائب وصله لتزورنـي وتقول: من هذا الذي فيداري
والشاعرة وقد أطاح الهوى بها وبالعمر كله” وغدا الزمان أمساعجوزا والحلم أصبح ثاكلاً”
تنهي حروفها بصوت رافض للأسف والندم في قصيدة “ عنق العواطف” المتحررة من قواعد النظم المألوفة وبالموسيقى الأسلس من همسات النسيم :
أنا أهواك.. ولكن / لا أريد الحب في عينيك يغتال الشغف / لا اريد الوقت في كفيك تغريه الصدف / أنا أهواك كمثل هذاالبحر.. يا أنت وأكبر !! /
في القصيدة عنوان الديوان تتحلل الفتون وتتحرر المتون فهي تعاني وحدتها لوحدها وتشتكي.. والظنون وإن ساورتها فطيف حبيبها يبقى فوق الأوهام والشكوى. وهل من مطلب في نهاية المطاف قد يشفي الغليل غير امنية تشيّع الحبيب بعطاء لايستطيع ان يرد جميله:
إنّه عمري فخذهُ ثمّ هبْني منك حبًّا مثل عمري…
أخيرا أقول: شعر الفتون هو فتنة رائعة من روائع الشعربموروثه القديم الذي يتمازج بالحداثة معنى ومبنى ويشفي الغليل من تفاهات تفيض علينا بغوغائية وسذاجة دون رقيب أوحسيب وكم نحن بحاجة الى من يغربل كثيرَها ويشرّحهُ حتى لاينقلب فيضها الى طوفان لا تحمد عقباه.