ومع أن التفسير السياسي للإسلام يعود إلى زمن بعيد نسبياً، إلا أننا نقترح اعتبار سقوط نظام الخلافة في تركيا سنة 1924 (بعد هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى) هو البداية الفعلية للتوظيف السياسي للإسلام. وبسبب خلو منصب الخلافة، نشب تنافس حاد بين مصر وشبه الجزيرة العربية لملء هذا الفراغ، لكن ليس لاعتبارات دينية بل في إطار صراع النفوذ المحلي المرتبط بشكل مباشر بمصالح الدول المنتصرة في الحرب، وعلى رأسها بريطانيا.
وإذا كنا نعتبر أن تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر سنة 1928 يشكل الظهور الأول للإسلام السياسي المنظم، فيجب أن لا نتناسى الدور الذي لعبه مسلمو شبه القارة الهندية في التنظير السياسي الديني، خصوصاً مع أبو الأعلى المودودي (1903 ــ 1979). ولن نركز في هذه العجالة على الدور البريطاني في تغذية الصراعات الدينية في الهند كأداة مهمة لضرب النضال التحرري الساعي إلى التخلص من الهيمنة الإنكليزية على تلك المنطقة الحيوية.
كان لأفكار المودودي تأثير مباشر على عدد كبير من المنظرين الإسلاميين أمثال حسن البنا (1906 ــ 1949) وسيد قطب (1906 ــ 1966) والخميني (1902 ــ 1989). وقد حققت كتبه إنتشاراً واسعاً في الأربعينيات الماضية كجزء من معركة مواجهة التيارات القومية العلمانية والليبرالية والتقدمية في إطار الحرب الباردة. لكن كتاباً واحداً من بينها هو "الجهاد في الإسلام" (صدر سنة 1926) تحول لاحقاً إلى خريطة طريق، ليس لمنظمات الإسلام السياسي على مختلف مشاربها وتوجهاتها فحسب بل لكل الجماعات الجهادية في العالمين العربي والإسلامي.
في شباط سنة 1979 إنتصرت الثورة الإسلامية في إيران، فشكل ذلك الحدث نقطة تحول مفصلية على صعيد دور الإسلام السياسي في المنطقة. وفي كانون الأول من السنة ذاتها دخلت القوات السوفياتية إلى أفغانستان، لتندلع حرب "المجاهدين" الأفغان والعرب ضد "الملحدين الشيوعيين"! وهكذا وجد العالم نفسه أمام نموذج قتالي للإسلام السياسي بشقيه الأساسيين الشيعي والسني. فلأول مرة منذ عقود عدة، إستطاع هذا النمط الجهادي "الإنتصار" على قوى محلية مرتبطة بالقوتين العظميين آنذاك ممثلتين بالولايات المتحدة الأميركية حليفة الشاه والإتحاد السوفياتي الداعم الرئيسي للأنظمة الإشتراكية حول العالم. لكن المفارقة الكبرى يومها تمثلت في أن واشنطن التي قررت محاربة الإسلام السياسي في إيران كانت تقدم الدعم غير المحدود للإسلام السياسي في أفغانستان. وهذا ما وصفته في كتابي السالف الذكر بعبارة "العلاقة الملتبسة"!
إنتصار الثورة الإسلامية في إيران ونجاح "المجاهدين" في هزيمة القوات السوفياتية في أفغانستان نفخا حياة جديدة في حركات الإسلام السياسي، خصوصاً في العالم العربي حيث كانت الأنظمة الليبرالية والإشتراكية والعسكرية تخفي عجزها الوطني التاريخي بممارسات ديكتاتورية استهدفت كل الهيئات والمؤسسات الاجتماعية، باستثناء المساجد ودور العبادة الأخرى التي باتت رحماً حاضناً لتعبئة أحزاب الإسلام السياسي المستقوية بـ "نجاح" التجربتين الإيرانية والأفغانية.
وفي ظل الأوضاع العامة المتدهورة، لجأ "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام الجهادي" كوسيلة أولى للوصول إلى السلطة، ومن ثم السعي إلى تغيير بنية المجتمع. ولكن النجاح لم يكن دائماً حليف هذه القوى حتى عندما وصلت بالفعل إلى سدة الحكم كما في مصر وتونس والسودان. ويعود ذلك إلى إشكاليتين أساسيتين:
أولاً، العلاقة التي ما تزال "ملتبسة" مع الولايات المتحدة الأميركية بوصفها زعيمة العالم الغربي من جهة، والقطب العالمي الأحادي من جهة أخرى (بانتظار ما سيكون عليه وضع روسية في ظل صحوتها الراهنة مع فلاديمير بوتين).
ثانياً، إكتفاء أحزاب وجماعات الإسلام السياسي بطرح شعارات عمومية فضفاضة مثل "القرآن دستورنا"، "الحاكمية لله"، "ولاية الفقيه"، "دولة الخلافة الراشدة"… وغيرها. في حين أنها تفتقد إجمالاً إلى برامج عمل اجتماعية ـ اقتصادية ـ ثقافية تناسب الظروف الخاصة لكل أمة في العالمين العربي والإسلامي.
ونحن نعتقد أن غالبية جماعات الإسلام السياسي غير قادرة على معالجة تينك الإشكاليتين، إما لأنها تستمد رؤاها التشريعية من قوى ماورائية غيبية وبالتالي تصبح ذات طبيعة إقصائية تستهدف كل من يخالفها الإيمان والاعتقاد، أو لأنها محملة بأعباء تاريخ طويل من الارتباطات مع قوى إقليمية وعالمية لا تترك لها مجال العمل المستقل وفق المصالح القومية للأمة.
وكثيراً ما تُعطى حركات الإسلام السياسي صفات لا تعكس واقعها بقدر ما تعكس نظرة الخارج إليها. فنحن أمام إسلام سياسي متطرف وآخر معتدل وثالث إرهابي ورابع وطني وهكذا! ومع اعترافنا بوجود فوارق واضحة بين جماعات الإسلام السياسي على صعيد الممارسة، إلا أن الأساس الإيديولوجي هو ذاته في المحصلة الأخيرة ويقوم على العودة إلى شريعة ماورائية عابرة للمصالح القومية ومتعارضة مع وحدة الحياة الاجتماعية، ما يجعل أية إيديولوجية دينية نقيضاً جذرياً للفكر القومي الاجتماعي.