لا يستخدم مصطلح "الثقافة" عند الحديث على الامور الايجابية فقط، بل اصبح يستغل في مضمار صناعة السياسات والاستراتيجيات الدولية بهدف التأثير على العقول وتحريف الفكر، خصوصاً اذا ما تضمنت تحريفاً وتزويراً للوقائع، عبر الكثير من الوسائل. وتمكن الخطورة عند قياس مدى قوة وقدرة وعي المتلقي، فكلما كانت النسبة اقل، كلما زاد الامر تعقيداً.
د.فيفيان حنا الشويري*
"ما برحت ثقافة الدم والقتل بواسطة السطو المسلح لسرقة خيرات البشر تعمّ الكون ويروّج لها من قبل صانعيها وفلاسفتها. ولكن الى متى وهل اكتفى الغرب بما صنعت يداه أم أنه يريد غير ذلك؟ ويبدو أنه هو نفسه ملّ من نفسه، فراح يبحث عن فكر آخر ينتمي إليه ويدّعي ابتكاره وملكيته."
تؤثّر الأعمال الفنية، وعلى رأسها السينما، في الشعوب الغربية بشكل كبير ومباشر وتُطبع ذاكرتهم بطابع ثقافي يترك أثره الكبير في النفس، لأنها أصلاً تتحدّر من مرجع ثقافي تاريخي له واقعية العلم ومن هنا مصداقيته. وهذه الأفلام التي تخرج الى صالات العرض يسبقها كتب وريبورتاجات تتعلّق بموضوعاتها وتلحق غالباً بمحاضرات ذات صلة كما ويؤازرها إعلام كبير ينتشر على كل وسائل الإعلام على تنوّعها وكذلك على شبكات التواصل الاجتماعي مهما يكون موضوعها. وتركّز هوليوود اهتمامها في انتقاء موضوعات أفلامها على مصادر ثابتة تدعم فكرة محاربة الخير للشر والذي يشكل المحور الأساسي لكل رواية أو فيلم ويحمل هدفاً محدّداً وهو وضع الرجل الأميركي موضع الآلهة، فهو المخلص وهو البطل الخارق ويحق له ما لا يحق لغيره، فهو يتحدّر من "شعب الله المختار" بتعبير موجز. وهذه المصادر هي التوراة والإنجيل أو الكتب التاريخية ذات الشأن، فما يمرّ فيلم إلا وترى التلميحات المستقاة من هذه المصادر وتذكر إما جهارة وإما تلميحاً وإما مرموزاً إليها أو على شكل تورية مبطّنة. وتكثر الأمثال بكثرة الأفلام وتنوّعها ويبنى على الشيء مقتضاه فيأخذ الجميع حقه من انتشار الفيلم لتعم شهرته الكون وأكثر من ينتعش هو الكاتب أو المؤرّخ الذي يضع بصمته على عمل متفرّد ويركب الركب الإبداعي ويصبح محط أنظار العالم من خلال نصه الذي ينقله الفنانون بأمانة ما بعدها أمانة.
المشاهد العربي يتفرّج فقط
ويتلقف المشاهد العربي هذا العمل ويردّد صداه ويقوم على الترويج الدعائي له من خلال التحدث عن أهميته وشهرته، ويفتخر أنه مواكب لعصره ومتابع جيد للفنون والابداعات العالمية وأنه غير بعيد عن مجرى ما يحصل في العالم، ويمضي مفاخراً بذلك. ولكن السؤال هو: هل فقه المشاهد العربي البعد الحقيقي من هكذا أعمال وما رمت إليه إيجاباً أو سلباً؟ هل فطن النقاد، وما أكثرهمّ المعاني الحقيقة للأعمال العالمية التي ينكبون على تحليلها لدرجة الإعجاز البلاغي في أسلوبهم الكتابي وبما تتمتع به لغتهم من قوة تعبير، فيتناطحون في انتقاء المفردات لنقل الآراء ويكثر الجدل بين مؤيّد ومعارض وبين معجب ورافض الى ما هنالك من آراء يحفل بها منهجا النقد والنقض. ولكن هل استوعبوا الأبعاد والنقاط الأهم من الرسالة التي يرمي اليها هذا العمل الذي يتناولونه بنقدهم؟ نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض الأمثلة الشهيرة عن أعمال هوليودية، نستعرضها للإيضاح، من مثل فيلم "سيريانا" (Syriana، 2006) ذو العنوان البارز والمعبّر والخطير، إذ شمل منطقة جغرافية بكاملها (سوريا الكبرى والتي ترنو إليها واشنطن من خلال "مشروع الشرق الأوسط الكبير")، ولخّصها بأرض الإرهاب، ضارباً بعرض الحائط تاريخها المجيد وحضاراتها العريقة، ليحصرها بشركات البترودولار ومافياتها وتكالبها على نهب النفط العربي مهما كان الثمن وبأي وسيلة ممكنة. و"سيريانا" فيلم إثارة جيوسياسي، وهو من تأليف وإخراج ستيفن كاهان، وهو مقتبس عن روايتي "سقوط الCIA، مذكرات محارب الظل على جبهة التطرّف الإسلامي"، 2002) و"النوم مع الشيطان"، لروبرت باير العميل الاستخباراتي السابق. ويستخدم "سيريانا" عدة مسارات قصصية ليرسم نوعاً من صورة قصة عالمية تركّز على تأثيرات صناعة النفط في السياسات العالمية، ويتطرّق للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وهو رغم كونه فيلماً نقدياً، فهو من أكثر الأفلام إجحافاً بحق العرب وبشكل علني ويسيء لهم ولتاريخهم ويصوّرهم بأبشع ما يكون من صور الاحتقار والإجحاف بجعلهم مجرّد إرهابيين حتى عندما يعملون لصون مصالحهم ضد الغرب الاستعماري أو يكونوا مقاومين ضد مغتصبي أرضهم. و"سيريانا"، هو عبارة عن الإسم الرمزي الذي قدمته واشنطن لعرض مشروع إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط المتّحدة الأميركية والتي يفوّض ويتيح من خلالها لوكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية (CIA) بتقديم الدعم الكبير والواسع للمتمرّدين والجماعات المسلّحة المقاتلة لإسقاط الأنظمة العربية وتحديداً في سوريا، بحسب ما جاء في مقال لبيبي أيسكوبار بعنوان "أوباما يعمل على تحويل "سيريانا" الى واقع" (نُشر في "آسيا تايمز، هونغ كونغ، ترجمة فاطر يوسف)، والسؤال: هل هم كثيرون من تنبّهوا لخطورة الفيلم وأهدافه ممن شاهدوه من العرب؟ والفيلم رغم أنه يسلط الضوء على تكالب الولايات المتحدة للإستيلاء على البترول العربي، فهو يروّج لقوتها ويهدف الى تثبيت مقولة إنها سيدة العالم دون منازع. وهذا هو دور صناعة الأفلام الهوليودية بالدرجة الأولى. تقول ميريل بوليو، في مقال بعنوان "سيريانا الشاذ، أخبار، تسلية أم بروباغاندا؟"(2 شباط 2006)، على موقع "فولتير" الإلكتروني الفرنسي والذي أخذ على عاتقه مناقشة ونقد الأفلام ذات الطابع السياسي وتبيان زيفها وأهدافها المبطنة بالدرجة الأولى، إنه وقبل دخول الولايات المتحدة الأميريكة في الحرب العالمية الاولى، قام الرئيس ويلسون بتكليف مستشاره جورج كريل بتأسيس نظام دولي للدعاية أو البروباغاندا (CPI)، على غرار النموذج البريطاني المعروف بولينغتون هاوس، فنشأت بذلك أول وكالة حكومية في العالم تعتمد على السينما من أجل الوصول الى أكبر عدد من المشاهدين وغسل عقولهم وأدلجتهم بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأميركية السياسية والإقتصادية في العالم، وبهذا صارت العلاقة وثيقة بين هوليوود والدولة الفيديرالية الأميركية وصار التنسيق بينهما على أشدّه (درجت، ابتداء من 1915، هذه الموضة الترويجية عبر السينما والتي اعتمدتها الدول الكبرى الى اليوم). وبعد أحداث 11 ايلول 2001، أعيد تأهيل "لجنة التعاون الحربي" بين البيت الأبيض وشركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني الأميركية الكبرى، ما فرض عليها عرض نصوصها ذات الطابع السياسي على الرقابة للموافقة على إنتاجها، ومن الشروط أن تكون أهدافها دعم سياسة رئيس الولايات المتحدة الأميركية ومحاربة الإرهاب… وفيلم "سيريانا" لم يشذ عن هذه القاعدة بتاتاً لدرجة أنه حظي بدعم جورج بوش شخصياً، فمن يتعجب بعد من أن يحصل الفيلم على جائزة الأوسكار رغم كل سيئاته؟
"أوباما ليس أول زعيم أسود في الغرب"
وهناك من الأعمال ما يضيء بوضوح على الإشكالية التي طرحناها حول الأهداف المخفية للفن، بحيث تحمل هذه الأعمال رسائل سياسية كبرى مدعومة بالتاريخ ولكن التاريخ المشوّه بغاية تزوير الحقائق من مثل فيلم "أمير الأهرام" لسبيلبرغ المخرج اليهودي الملتزم، فهل فطن أحدهم للبعد الرامي الى تزوير التاريخ الذي يرمي اليه فيلم سبيلبرغ بجعله اليهود هم من بنوا الأهرام ولم يكن حتى لهم وجود في التاريخ؟ وهل ربط أحدهم بين هذه الأعمال الفنية الملتزمة ومدى تأثيرها على الرأي العام الأميركي والعالمي ومجيء باراك أوباما الى السلطة كأول زعيم أسود في الغرب؟ وهل يتذكر أحدهم كليب مايكل جاكسون عن الفراعنة "السود" والذي ملأ الدنيا وشغل الناس العام 1992، بعنوان « Remember the Time » (تذكّر الزمن) وهي الأغنية الثانية من ألبومه« Dangerous » (خطير)، حيث برز المغني الأشهر في تاريخ البشرية في ديكور يمثل مصر القديمة؟ وقد منح هذا العمل لجاكسون لقب "فرعون البوب". وهذا الأمر تطور الى درجة الهذيان عند جاكسون نفسه وعند معجبيه معه بحيث غدا جاكسون أحد الفراعنة هو نفسه، ويتدفق آلاف الزوار الى متحف "فيلد موزيزم" في شيكاغو للنظر الى تمثال نصفي يمثل فرعوناً مصرياً له هيئة جاكسون بعد أن خضع لعملية تغيير ملامح وجهه الزنجية الأفريقية الى الشكل المسخي الجديد الذي صار عليه أواخر حياته. وهذا الشبه الكبير بين مغني البوب ووجه الفرعون المصري ما زال لغزاً محيّراً لدى الكثير من المراقبين، وظننا أن جاكسون هو الذي اختار هذا النموذج وحوّل وجهه اليه. أما أهمية هذه المسألة فتكمن في الإشكالية التالية: لماذا يريد رجل شهير كجاكسون أن يتماهى أو ربما يتقمص في صورة فرعون مصري؟ ولماذا ينحو الرجل الأول في العالم أوباما نحو جاكسون؟
"أوباما ليس أول زعيم أسود في الغرب" هو التعبير الذي جاء على لسان أحد المؤرخين الذي ربط بين باراك أوباما بأصوله السوداء وبين الفراعنة والملوك الأفارقة في ربيورتاج على يوتيوب، يظهره كأحد المتحدّرين من الملوك السود الأفارقة. وهذا طبعاً تدجيل وهذيان ما بعده هذيان لا يشبهه الا ما يبتكره الغرب من ترّهات بغاية تشويه الحضارات وأصحابها، وذلك بواسطة الفكر الدموي والقتل الممنهج والتسلط بالقوة على نهج الكاوبوي أصحاب المسدسات والبارود. وما تراجع أوباما عن قراره بضرب سوريا إلا سياسة من قبله، فهو ما فتيء يرعب العالم ويرهبه بتهديداته وهذا هو المطلوب: الحرب النفسية المدمّرة وليس الحرب العسكرية الخاطفة. حرب البروباغندا لهذا الغول المدجّج بالسلاح الذي ما برح يهدّد يومياً ويقتل النفوس قبل الأجساد بغية تركيع العالم واستعباده. ثمة من يعتقد أنه ربما أنزل أوباما عن الشجرة ولكنه ما برح ربان السفينة الدموية. إنها جولة رُبحت ولكن المعارك ما زالت على أشدها وإن الحرب ما فتئت مستعرة فمن يكون الغالب؟ هل أصحاب الحضارة المنتهكة أم مدعيها؟ والسؤال: هل يعرف أوباما أصلاً من هم أصحاب الحضارة من فراعنة وملوك سوريين حتى يروّج له المؤرخون زيفاً أنه يتحدّر منهم؟ هل يدرك هو ومن يسوّق له على أنه سليل الحضارة الشرقية، أن صانعي الحضارة ومصدّريها، أجدادنا، لم يعرفوا الحروب أبداً، بل حضروا العالم بالسلم والمعرفة وفكر المحبة وركبوا البحار كأسياد وكانوا ربان سفن حضارية تنقل العلم والانفتاح؟ وهل يعي من يريد ركوب سفنهم اليوم ومنهم أوباما ذاك، بحكم لونه لا غير، أنه بعيد عنهم بعد السماء عن الأرض؟ فتصوروا! لقد أخذ من لونه، وقبله فعل جاكسون، حجّة بأن يصبح ربان سفينة فينيقية فانتمى ليس كفرد من أفراد طاقمها بل جعل نفسه ربانها وزعيماً عليها، ليس لسبب إلا لأنه أسود يتحدّر من إفريقيا الكينية المنتمية الى الحضارة الكوشية السوداء وهكذا وبكل بساطة يصبح، على حدّ زعم مؤرّخيه، فينيقياً لأن الفينيقيين كانوا كوشيي الأصل كما يدعي الريبورتاج المزوّر والمروّج لأوباما ومن شاكله! عجباً! من هذا العلم ومن هذا العالم الغربي بعلمائه الذين يمشون على رؤوسهم، يدعمهم مرضى عقليون معقدون من جنسهم وعرقهم ولونهم مثل مايكل جاكسون لدرجة أنه أراد أن يبيّض جسده بالأو دو جفيل فمات نكاية بالبيض وبالسود معاً! فراعنة هم هؤلاء كما تصوروا أنفسهم؟ هيهات أن يكونوا منهم! بل هم أقزام العصر، ذوو السحن والقلوب والأيادي السوداء.
كيف التخلص من الجهل؟
ما برح الغرب الاستعماري يشوّه على كيفه لسبب واحد وهو جهل العربي لحضارته. ولكي ننجو ونخلص نحن بحاجة لجولات وصولات وما زلنا في البداية، في أول الدرب! فهل وحّدنا جهودنا المعرفية في سبيل الخلاص والبقاء وأنزلنا أوباما وغيره ليس فقط عن شجرته التي اعتلاها وذاع صيتها العالم جاعلة منه بحق مستحق جائزة نوبل للسلام والتي اشتريت له، بل وإنزاله عن متن سفينة أجدادانا السوريين التي يدّعي وراثتها بهتاناً. فما شأنه وشان الفينيقيين حتى ولو كان يهودي الجذور؟ وما شأن اليهود أصلاً بالفينيقيين بادعائهم أنهم أجدادهم التوراتيين؟ فالكنعانيون هم غيرهم العبرانيون والعبرانيون لا دخل لهم باليهود وهذه المسألة يطول شرحها… من قال أن العبريين هم الفينيقيين؟ ومن قال أن العبريين هم اليهود؟ من أدعى خلط الحقبات والعصور التاريخية بهذه الهمجية الممنهجة صهيونياً والعرب يا غافل إلك الله!؟ ما هذا الإنتماء المخلوط والمغلوط كرونولوجياً والذي يلغي آلاف السنين من تاريخ سوريا والمشرق القديم ويلغي التطوّر والحقبات التي مرّت بها الشعوب ويضع التواريخ والأقوام كيفما شاء ورغب؟! ايستمر التدجيل والتزوير على منهج التوراة الذي أمر قورش الخونة من أبناء الشرق، فرقة اليهود العميلة تلك بكتابة تاريخ مزور لها، سنة 555 ق.م. (وهو تاريخ كتابة توراة اليهود التي سلبت مصادره من المشرق القديم وحوّرته لصالحها) وذلك حتى يضرب من خلالهم دمشق عاصمة المشرق القديم وذلك لقاء دويلة لهم انتزعوها بالاغتصاب والتزوير والخيانة؟ (وهنا لا بد من القول إن من ينبذ اليهود من الشعوب الشرقية بأنه مخطيء فهم فئة من هذه الأقوام القديمة إلا أنهم من خونة البلاد وذلك لبعدهم عن الفكر الحضاري ورفضهم الاندماج في المدن، كون طبيعتهم البدوية المتحجّرة ترفض التطور وتمقت الجمال وصناعيه وتدعي الكمال والألوهية العشائرية المتعصبة). ويأتي كلام السيد المعلم، يسوع المسيح السوري، بعد خمسة قرون على تواطؤ اليهود مع قورش، ليؤكد ذلك في إنجيل متى (14: 23): "(14)الْوَيْلُ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! فَإِنَّكُمْ تَلْتَهِمُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ وَتَتَذَرَّعُونَ بِإِطَالَةِ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ سَتَنْزِلُ بِكُمْ دَيْنُونَةٌ أَقْسَى (15)الْوَيْلُ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! فَإِنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا مُتَهَوِّداً وَاحِداً؛ فَإِذَا تَهَوَّدَ جَعَلْتُمُوهُ أَهْلاً لِجَهَنَّمَ ضِعْفَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ…" والمتهوّد هنا بمعنى من اتخذ التهويد منهجاً أي نهج منهج الخيانة!
عجيب أمر العرب في إهمال أصولهم الحضارية!
عجب! يرفض العربي، وهو مؤسّس "علم الأنساب" النسب العريق الذي يضعه في مصاف العظماء وأصحاب الابداعات الحضارية بحجّة الحداثة، في حين يروح من لا نسب له، إبن الأدغال والبراري والبوادي والقفار، ذلك الراعي المضري البدوي، يبحث له عن طرف خيط يربطه بالأنساب الحضارية، حتى ولو كان قائماً على تزوير! وما أن يمسك بهذه الشعرة الدقيقة، حتى يلتصق بهوية موغلة في القدم والعراقة، ولكن لماذا؟ أفلا تكفي مايكل جاكسون أو باراك أوباما شهرة وجاهاً ومقاماً ورتبة حتى يروحا يبحثان عن مسند يتكئان عليه في التاريخ؟ أيجب حكماً أن يكون لإبن الإنسان "مَكَانٌ يُسْنِدُ إِلَيْهِ رَأْسَهُ" (إنجيل لوقا، 9: 58) على حدّ قول السيد المسيح؟ هل لهذه الدرجة هي مهمة، عند المتيقنين من وجودهم أو عدمه في مسيرة الإنسانية الإبداعية، مسألة الانتماء والهوية والتجذّر والعراقة؟
الحضارة ليست بالعرق واللون بل بالفكر
إن المسألة الأهم التي تطرح هي عجز الغرب وأميركا وسود أميركا تحديداً، بتأثير ترويجي يهودي مباشر، التخلص من فكرة العرق واللون وهي الفكرة العنصرية التي شيّعها الفيلسوف نيتشه وطبّقها هتلر لصالح اليهود في أوروبا، والتي على أساسها بَنَتْ أوروبا نظرتها الى الشعوب وعلى أثرها تحرك اليهود وراحوا ينشرونها لصالحهم وما زالوا يعتمدونها كسياسة رغم إدعائهم رفضها ومعاداتها وأنهم ضحيتها، وإلا كيف نفهم مشكلة صفاء الدم التي يقدسونها وهم لا يتزاوجون إلا من بعضهم البعض؟
إن الهوية التي يبحث عنها هولاء الزعماء الجدد، أصحاب العِقَد المتحدّرة من تاريخ العبودية الزنجية، هو ارتباطهم باللون والعرق فلم يتوقفوا الا عند لون البشرة، كادعاءهم أن الملوك الفراعنة كانوا من الأفارقة السود وكأن الحضارة توقفت عند ذلك. في الواقع، إن المسألة أبعد من ذلك وإن مؤرخيهم على يقين من عدم صحة هذه النظرية العرقية الجسدية، فهم يعرفون جيداً أن مصر حكمها بالإضافة الى الفراعنة السود والملونين والفاتحي البشرة، السوريون (الهكسوس) وساهموا في حضارتها لعدة قرون، وأنه كانت بشرة الملوك والفراعنة متنوعة، وهم يؤكدون ذلك من خلال ما يسوّقونه من أن الفينيقيين أو الكنعانيين هم من أصول كوشية سوداء وهذا ليس أكيداً وإن كانت الحضارة الفينيقية لامست إفريقيا السوداء وساهمت في نقلها من طور الى طور وفي هذا التواصل ما يؤدي بالضرورة الى الاختلاط العرقي وهذا بديهي ولا مندوحة عليه، ولكنه لا يجعل العرق او اللون ذا أهمية ولا يشكل أي اختلاف جذري في الموضوع، فالحضارة التي نشرها السوريون في مصر ومنها في كل إفريقيا، لم تتوقف عند الأعراق والألوان فهم امتزوجوا مع كل الأقوام التي نزلوا في جغرافيتها، وكانوا أن حضّروها بفكرهم ولم يؤثّر لونهم مهما كان في الأمر. وكان كل من ركب ركب موجاتهم الحضارية يعدّ منهم وهم منه، أما من تخلّف فبقي في أدغاله أو قفاره أو بواديه ولم يسجل أي دخول في التاريخ الحضاري، بل بقي مجرد رقم في المعادلة البشرية العددية لا أكثر ولا أقل. وإن الحضارة السورية، بفضل أسبقيتها، هي التي تبلورت في محيط متوسطي جامع للألوان والأعراق، وهي التي ابتدعت الفكر أولاً وكان مركزه العواصم الفكرية الكبرى، ومراكزها الأولى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والداخل السوري في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ووادي النيل، أي على مجرى الأنهار، وليس في أدغال كينيا أو الموزمبيق أو الجزر الأوقيانية أو حتى النوبة جنوب مصر أو السودان والحبشة. لذا، تقاس الحضارة بالفكر وليس بالألوان والأعراق والبداوة! فهل أراحنا الغرب وأميركا تحديداً من ادعاءاتهم بان الفينيقيين هم الكوشيون أو العبريون أو اليهود أو غيرهم من بني حام أو سام أو يافث بحسب تصنيف التوراة (وعلى أساسها تصنيف شلوستر اليهودي) وهو تصنيف عرقي على أساس اللون فقط، ضاربين عرض الحائط كل تاريخ المشرق القديم أي كل الشرق الأوسط صانع الحضارة الإنسانية الفكرية في كل أبعادها وبمجمل عناصرها وجوانبها؟ هلا انتهينا نحن العرب من تصديق هكذا ادعاءات وتزوير متعمّد يجري للمرّة الألف بحق تاريخ أجدادنا ويسلب للمرّة الألف من قبل المشوّهين والدخلاء والفقراء ثقافياً والمتسوّلين للحضارة؟ أما لماذا هذه الهجمة على سلب الفكر وحضارته من الشرق؟ فلأن خصومنا فهموا والذي يفهم يسمو ويرتقي، وحسبهم أعداؤنا أنهم فقهوا معنى الارتقاء والسمو في الفكر، فأرادوه لنفسهم دون غيرهم وساعد على ذلك تخلًي الأصيل عن أملاكه، فالرزق السايب يعلّم الحرام، زد على ذلك ازدراءه به وعدم وعيه لقيمته، فانكب أعداؤنا يدرسون الوسيلة للاستيلاء عليه ووضع بصمتهم عليه فهل نجحوا؟ وهل ينجحون؟
كذبة العبيد
ما من عبيد بل عمال وما من يهود بل مصريون وسوريون! وهنا عود على بدء مع أهداف الأفلام الهوليودية الرامية الى تزوير التاريخ لصالح صانعيها وجلّهم من اليهود، ففيلم "أمير الأهرام" يسوّق لكذبة سائدة، قديمة جديدة، وهي أن اليهود كانوا عبيداً عند الفراعنة وقد استخدموهم في بناء الأهرام. أولاً لا وجود لشيء يسمى يهود في عصر الفراعنة وما ورد ذكره في التوراة عن العبريين لا دخل له باليهود حتى ولو ربط اليهود تاريخهم بالعبريين بحكم التوراة. كما أن العبيد والعبودية هما مفهومان غربيان حديثان ولم يعرفا في تاريخ المشرق قديماً، بل النظرة التي كانت سائدة هي فكرة العمل مقابل أجر. أما الاستعباد فهي الفكرة التي سوّقها الغرب الماركسي وما عاصره من ثورات "ربيعية" أوروبية وفرنسية ملونة خلدت مبدأ التعسف بحق من جوعهم وقد كان لهم، عند الإقطاعي صاحب الأرض، مأوى ورغيف قبل ثورة العصابات وهمجيتهم المدمّرة لعراقة أوروبا الملكية! وفكرة العبودية في المشرق القديم هي تزوير وتشويش على الحضارة ولا اثبات البتة عليها، ولا يعتمد في التاريخ على الإسقاطات الشخصية والتكهّنات غير المربوطة بشاهد أكيد! فالمشرق لم يعرف مفهوم العمل بالقهر والاستبداد، بل جلّ أعماله، خاصة العمرانية منها، كانت لصنع الأمجاد وبقائها على الدهور شاهدة عن مبتكريها، لذا استعمل الحجر الضخم والصخور العملافة لدرجة أن بنيانها نُسب الى الجبابرة والجن لتعذّر الذهن البشري تصديق أن بشراً مثلهم بنوها. هذا هو مفهوم الفكر السوري للعمل العادل بشهادة الحضارة نفسها وشواهدها المادية والكتابية الكثيرة، وإن التزوير التوراتي لا يعدو كونه مجرّد تخريف كاتب في عليائه وعلى قدر المكافأة التي قبضها من قورش لكي ينال حصته من الأرض التي باعها له بدنانير قليلة!
يقول المؤرخ الأميركي وينلوك Winlock (1884-1950) وهو عالم المصريات الكبير، بما معناه أن المصري القديم لم يكن موهوباً كفاية وإن لا شيء قام به المصريون من ابتكارهم الخاص، ومجمل ما أتاهم من تطور تقني وفني متجدّد ومتطوّر دخل إليهم على يد من قدموا من سوريا! وهذا ما لا يمكن لأحد أن يصدقه لأن الطابع المصري واضح وجلي على الصناعات المصرية، متناسيين أن السوريين، بفضل إنفتاحهم الذهني وعقليتهم المتأقلمة، كانوا يعطون دون حساب للون أو عرق ولا يفرقون أحداً عنهم، فلا يعمدون الى التشويه أو التزوير وكانوا يحافظون على طابع البلاد التي يحلون فيها وقد عملوا على تطويرها وكانوا يتطبعون بطابعها لرحابة ذهنيتهم، وهكذا انصهرت معالمعهم بغيرهم واعطوا هذا المدّ الحضاري الإيجابي والفريد والمعروف بالعالمية الجامعة أو cosmopolitisme.
وقد اهتم وينلوك بعصر الدولة الحديثة في مصر، وتحديداً بالحقبة الثانية الوسيطة والتي تعدّ لدى أغلب المؤرخين عابرة في التاريخ المكتوب ويُلمّح لها باختصار شديد. كما أن حدودها التاريخية ومعالمها غير واضحة حتى اليوم وتبقى معلوماتنا عنها غير دقيقة، مع ما تخللها من اجتياح او غزو الهكسوس لمصر، لا يمكن تحديد تفاصيله بدقة إلا بعد قرن تقريباً من تصدع السلطة المركزية. فقد استوطن الهكسوس في دلتا مصر وأسسوا مدينة أفاريس Avaris وهي تانيس Tanis اليوم وجعلوها عاصمة لهم. كما نزلوا في الدلتا الشرقي للنيل وأسسوا مدناً فيها. ولم يكن الهكسوس جماعة إثنية وحيدة ومحددة، بل يقال إنهم كانوا خليطاً من أقوام شرقية متعددة وفدت من سوريا. ولم يتبق الكثير من الشواهد عن مرورهم بمصر، إلا بعض الأختام التي دلت على التنظيم الإداري الخاص بإداراتهم وموظفيهم والتي نجدها في كل مقاطعات مصر. كما ولا يمكن البتة اعتبار هذه الأقوام المعروفة باسم "الشعوب الرعاة" كما سميوا في القديم، أنهم مجرد برابرة همجيين كما كان حال الكاشيين Kassites الذين، في نفس الحقبة، احتلوا بابل. وإن التقنيات المتقدمة التي كانت للهكسوس سمحت لهم حكم مصر لقرون طويلة. وفي فصل خاص من مؤلفاته، عنوانه "صادرات الهكسوس الى مصر"، يذكر وينلوك أن المصري لم يحقق اي اختراع كان كفيلاً أن يتخطى ما ابتكره أسلافه يخوّله التقدم عليهم، بل راوح مكانه من حيث استمراره على نهجهم ولم يعمل على استنباط ما يمكن أن يطور حياته الى الأحسن والأسهل. وكان يكتفي بالعيش كما أجداده حتى وصل إليه غريب أدخل له التقنيات الحديثة التي تسهّل الحياة فاعتمدها وبدأ يغّير ما كان عليه. هذا الجديد أدخله الهكسوس الذين جلبوا الحصان والعربة الى مصر، والتي كانت تستعمل منذ قرون طويلة في بلاد ما بين النهرين وسوريا منذ عصر سومر. وإن أهم ما أدخله الهكسوس كان القوس الذي كان مصنوعاً من عدة طبقات مدعّمة بالخشب أو القصب القاسي. وقد تعلّم المصريون من الهكسوس أن يحسّنوا نوعية التقنيات في صناعة السهام والخناجر والخوذ والتروس وأدوات حربية أخرى، لدرجة أن العتاد الحربي الحديث الذي أمّنوه لهم، خوّلهم اجتياح آسيا في عهد الدولة الحديثة. هذه الدولة التي يرجّح العلماء أنها دامت من 1550 الى 715 ق.م، حيث برزت مملكة غريبة نوبية في أقصى الجنوب ومدّت سلطتها الى مصر. كما أن أوج الدولة الحديثة عرف في فترة السلالات السابعة عشر والتاسعة عشر (حوالي 1550-1198 ق.م.) حيث عمّ الازدهار وطبع مصر بطابع خاص. فهل ذكر أحدهم العبيد والاستعباد وليد المخيلة الغربية المجرمة القاصرة؟
إن الحضارة هي فكر المسيح السوري ليس إلا
هم أعداء يسوع الناصري وهم الذين يشككون أصلاً بوجوده التاريخي، فكيف ينتمون الى فكره؟ لا فكر ولا حضارة لسوريا الا مع المعلم يسوع المسيح الذي دافع عن هذا الفكر وعن أرضه ضد أعداء الفكر والخونة عملائهم، وهؤلاء حاربوه ونكروه وغيبّوه، فكيف يسلبونه ما يدعون أنه باطل؟ وهل للمسيح من معنى دون فكره؟ لا يمكن لليهود وأعوانهم، مهما فعلوا أو اخترعو أو زوّروا أن ينتموا للفكر السوري المسيحي الإنساني الشامل، فهم عرقيون عنصريون و"مختارون" بعرفهم و"محتارون" بمفهومنا، وليسوا إنسانيين شاملين، فكيف ينشرون الحضارة والحرف والمعرفة والفكر السمح وهم منعزلون وفردانيو النزعة؟ لا يتفاعل حضارياً مع الآخرين إلا من تخلّى عن فكرة العرق والنقاء العرقي ونظر الى أخيه الانسان بعين المحبة والمساواة والإخاء وهي مباديْ يسوع السوري، أما من عمل غير ذلك فهو من أولاد الأفاعي وقاتل الأنبياء ومهدم المجتمعات وبائع الأرض والعرض! فكيف يدّعي من كان على هذا النحو انتماءه لهذه الحضارة أو ملكيتها ودائماً بحجّة اللون والعرق؟
إن أفضل من يمكن التكني به، وجعله قديساً وبطلاً قومياً لليهود، هو هذا الشخص الذي فهمهم وسار على نهجهم القائم على مبدأ "العين بالعين والسن بالسن" وصنع لهم قضية وخدمهم بأجمل معروف وخلّص أوروبا منهم وبلى الشرق بهم، وهو هتلر العنصري الذي ينهجون على طريقته اليوم في تصنيف الشعوب على أساس الأعراق والدم واللون وغيرها من خزعبلات التطرّف والتفرقة بين البشر رغم نفي العلم لها. إنه بحق نبيّهم الأعظم! ومعه كل زعماء الغرب المتطرفين، أما عدا هؤلاء ممن تمسكوا بمقوّمات الحضارة والإنسانية فلا يمتون لهم بصلة، لا من قريب ولا من بعيد. ويهود الكيان الصهيوني القائم على القتل والتدمير والعنصرية اليوم، هو أبعد ما يكون من أن يكوّن مجتمعاً متماسكاً، وهو كيان عرقي، ديني متطرّف قائم على المصلحة ويردعه القمع المذهبي بالدرجة الأولى وما بنى عليه ما هو إلا وهم سوف يصحون منه عاجلاً ام آجلاً ليروا أنهم لم يبتدعوا شيئاً في مسيرة الإنسانية الفكرية وارتقائها وسموّها وأنهم لم يسجلوا أي نقطة لهم في سجل الحضارة، فهم أبداً لعنة التاريخ بعلة أجدادهم المؤسّسين المغتصبين والمجرمين والقتلة والسفاحين ولا أحد منهم يمكنه نكران هذه الحقيقة، فماذا يزورون ليزوروا؟
وليزوروا ما شاءوا فهذا شأنهم! أما دورنا نحن، من انتمينا الى الفكر الإنساني، نحن ومن أراد أن يكون معنا في اللحاق بركب صانعي الحضارة الحقيقية، أصحاب الفكر الحق، فهو دور خطير ومسؤول من أجل صيانة هذا الفكر. ونبدأ بأسئلة محتمة: ماذا فعلنا أقله لنبقى ولنحافظ على ماء الوجه في زمن العار هذا؟ هل سوف نستمر شهود زور الى الأبد ونُنعت من قبل أعدائنا بالجهالة والأمية والغباء؟ هل نقعد نتفرّج على حملات التشويه المتعمّد بحقنا وسلبنا حقوقنا وتحديد مصيرنا على يد أعدائنا؟ هل يكون مصيرنا المحو بشحطة قلم على الخارطة؟ هل يروق لعظمائنا هكذا مصير لخير أمة أخرجت للناس؟ فإذا ما استمرينا في قعودنا هذا وخمولنا وجهلنا، كيف ندّعي الانتماء الى الفكر الجليل؟ وهل لا نكون بهذا متهودين أكثر من اليهود نفسهم؟ فلنعمل بجدية على صون هويتنا قبل أن يبتلعها التهويد المستشري في الكون! ولنتذكر أنه لم يؤمن السوريون ومن بينهم الفئة الأكثر نشاطاً الفينيقيون البحارة، إلا بالإستكشاف وبالعمل وبالخلق والابداع وبسمو الانسان، فأين نحن من أجدادنا هؤلاء؟ حبذا لو حافظنا فقط على ذكراهم الطيبة فيخلدون في كنفها مطمئنين! وأين نوضع على خارطة البشر اليوم؟ هل نصنّف في الأعراق أم في الألوان أم في ماذا… وجاء الجواب من الأميركي، من ذلك الذي لا يعرف له لا مذهب ولا منشأ ولا فكر، من ذلك الذي يحلّ ويربط الأمور الدبلوماسية على قاعدة مصالحه أولاً، ويتلاعب بمصائر البشر على هواه، وهو يلعب كما المراهقين على آلته الإلكترونية ويلعب بمصيرنا كما يلعب البوكر بقوله "لقد مللنا من عقلية البدو تلك!" فيا لفخرنا أين وُضعنا!
*باحثة وأستاذة جامعية
عملية سطو ممنهج وانتحال شخصية وتزوير حضاري أم محاولة بحث عن هوية وانتماء؟
101
المقالة السابقة