154
كان حلم التجديد والتغيير -ولا يزال- يراود الكثيرين، ولو كان دونه خرط القتاد . فتغيير الواقع بتخلّفه عمرانًا وإنسانًا متلازمٌ بالضرورة مع تجديد العلوم ومناهجها، وهو رهنٌ باحتمال وعورة مسلك التجديد وتكبّد مشاقّه وركوب أهواله. ومع ذلك يبقى إنجازه ممكنًا إذا ما توفّرت الإرادات وتضافرت الهمم، ويظلّ طموحًا مشروعًا وأمنيةً غاليةً ترخص في سبيلها المجهودات النفيسة والأوقات الثمينة، لأن ما بعده يختلف حتمًا عما قبله. فهو يفتح أبواب الحياة الطيبة، ويذلّل طرقها الواسعة أمام الجماهير المتعطّشة للحريّة، والمتفائلة بيومٍ مشرقٍ منعشٍ بعد شتاءِ ليلٍ طويل.
ونحاول في هذه الورقة أن ندخل فيما يمكن وصفه بـ"جولةٍ في روضة" من رياض عالم الكلام القديم- الجديد الأنيق، وسياحةٍ في رحاب الفكر الديني المعاصر، الذي حمل لواء الحجة والمنطق في إثبات حقائق الدين والإيمان. ويمكن القول إن علم الكلام يحتلّ مكانةً خاصّةً في الفكر الإسلاميّ خاصّةً والإنسانيّ عامةً، نظرًا لموقعه المتميز بين الفلسفة والدين، وبسبب المهمّات التي تقع عليه والغايات والمقاصد المأمولة منه في تحقيق تغييراتٍ كبرى في جوانب رئيسةٍ من جوانب الفكر والنظر، وفي التأثير على النخب والجماهير، من أجل ترسيخ العقلانيّة والحواريّة وذهنيّة الانفتاح على معطيات العصر من ناحيةٍ، ومن أجل المحافظة على مناعة العقول ومتانة الجذور وتوازن الشخصية الحضاريّة المشرقيّة من ناحيةٍ أخرى؛ ومن خلال ذلك كله الحفاظ على المصالح والمكتسبات والمقدّرات والثروات والطاقات البشريّة والطبيعيّة المخزونة فيها.
ومن لطيف ما ورد في تاريخ العلوم الإسلامية ما "يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ -وكان معروفًا بالذكاء- أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَرَادُوا الْبَحْثَ مَعَهُ فِي تَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي قَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ سَفِينَةٍ فِي دِجْلَةَ، تَذْهَبُ، فَتَمْتَلِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْمَتَاعِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهَا، وَتَعُودُ بِنَفْسِهَا، فَتَرْسُو بِنَفْسِهَا، وَتُفْرِغُ وَتَرْجِعُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدَبِّرَهَا أَحَدٌ؟! فَقَالُوا: هَذَا مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا! فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا كَانَ هَذَا مُحَالًا فِي سَفِينَةٍ، فَكَيْفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ!!" .
وتروى القصة بطرقٍ طريفةٍ مختلفة شاع منها: أن مجادلين دهريين طلبوا من الخليفة أن يناقشوه في مسألة وجود الله ووحدانيته، فعين لهم موعدًا مع أبي حنيفة، فلما حضر الموعد تأخر أبو حنيفة، فعابوا عليه تأخره، فأجابهم أنه أتى نهر دجلة لكنه لم يجد مراكب نقل، فإذا به يرى ألواحًا من الخشب تتقارب، فتتآلف، فتتواءم، فتشكل مركبًا محكمًا يتوقف بجانب النهر، فما كان منه إلا أن صعد عليه وانتقل إلى الطرف الآخر، مما أثار حفيظتهم وراحوا يعجبون من روايته ويشككون في صحتها. فقالوا: كيف تقول مثل ذلك الكلام فإن ذلك لا يعقل ولا يمكن أن نصدقه؟ عند ذلك ناقشهم متسائلًا: إذا كنتم لا تصدقون بها فكيف تصدقون بالشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض، كيف يمكن أن تصدقوا أنها وجدت دون موجد؟ فإذا كان العقل لا يقبل أن تتركب بضع خشيباتٍ بنفسها بطريقةٍ منظمة إلى حدٍّ معين، فكيف يمكن للعقل أن يقبل تآلف هذه الكواكب والأفلاك وأجزاء الوجود في البر والبحر وأعضاء الإنسان وغير ذلك .
ومهما يكن من أمر صحة القصة من عدمها، فإن لها رمزيةً معينةً، كونها تذكّر أن الفقهاء بعد أبي حنيفة درجوا مع تلامذتهم على مناقشة مسائل العقيدة وتقريرها في مدوناتٍ وأخذت تتكامل حتى صارت علمًا خاصًا. فنشأ أحد العلوم المتميّزة والأصيلة في بلادنا أي علم الكلام، المعروف بغزارة إنتاجه وأصالة رؤيته واستخدامه مناهج بحثٍ فريدة وخاصةً، مع عدم انقطاعها عن المعارف البشرية، بل مع تواصلها الوثيق مع المعقول الفلسفيّ والإنسانيّ. وبدهيٌّ أنه ما من تقدمٍ في أي حقبةٍ زمنيةٍ ولدى أيّ شعبٍ أو أمةٍ يمكن أن يأتي من فراغٍ عقديٍّ أو أن يصحبه خواءٌ أيديولوجي. بل لا بدّ وأن تأتي النهضة الحضارية عادةً مترافقةً مع عمق التفكير، ومع طرحٍ جدّيٍّ مؤسّسٍ لرؤيةٍ نهضويّةٍ في مختلف جوانب الحياة، وهو طرحٌ يسعى للارتقاء بالمستويات الثقافيّة والعلميّة والبحثيّة لدى أفراد المجتمع، مع تفتّقه عن إبداعاتٍ وإلماعاتٍ في علومٍ شتى قريبةٍ من مجال تداوله. وعلم الكلام الجديد يحاول أن تكون له رؤيةٌ تظهر سعيًا حثيثًا لمواكبة كلّ ما هو حديثٌ، ولتأثيره على النخب والتيارات الفكرية والثقافية. من هنا ظهرت ضرورة تجديده بما يتلاءم مع حاجات العصر ومستجدّات الواقع، ومع سؤال النهضة والتطوير، ومع ما يضمن له انتشارًا واسعًا في المستقبل، ويجذب إليه اهتمام الباحثين في الغرب والشرق على السواء كما كان في الماضي، حيث يشكّل منبعًا ثرًّا ومجالًا خصبًا للأبحاث والنقاشات المستفيضة، ومقاربة قضايا الواقع على ضوئها . ونحاول في هذا البحث أن نجري إطلالةً على جوانب مختلفةٍ من أهميّة هذا العلم على الساحة الفكرية المعاصرة، مع رؤيةٍ رباعيّةٍ لأسس تجديده وإشكالاته. ونستهلّ ذلك بتمهيدٍ عن تاريخ علم الكلام وسؤال النهضة والحاجة المستمرّة له قديمًا وحديثًا..
تمهيد في تاريخ علم الكلام وسؤال النهضة..
نشأ علم الكلام في أحضان بيئة الفقه وعلوم الدين، من القرون الأولى التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلاميّة وانتشرت علومها في أقطار الدنيا. وكان هو المعبّر عن رؤية القرآن الكريم إلى ماهيّة الوجود، وتعريفه للإنسان ونظرته للحياة، وبيان وظيفة الإنسان فيها، إضافةً إلى رؤيته لما وراء الحياة من مبتدأ الخلق، وأطواره، ومراحل الحياة بعد الموت وفي المستقبل البعيد. وإضافةً إلى ما ينبني على هذه الرؤية القرآنيّة العقديّة من تقديم مذهبيةٍ شاملةٍ في جوانب الحياة النفسيّة والشخصية والاقتصادية والأسريّة والاجتماعية…الخ. "ومن المعقول القول إن علم التوحيد (الكلام) ظهر وعرف نشأته مباشرةً بعد نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبيين معانيه وأحكامه. أي إنه بمجرد ملامسة القلوب والأبصار والعقول للنصّ الوارد ترتّب عنها مفاهيم خاصةٌ، فصاغها مَنْ تفرَّغَ للأمر بأسلوبه الخاص، وحسب فهمه وإدراكه للنصوص ودلالاتها…" .
لذا، يعتبر علم الكلام لدى الكثير من الباحثين الممثل الأبرز للجانب الفلسفيّ من الحضارة الإسلامية أكثر من أي علمٍ آخر، لأنه يعني "تلك الفلسفة التي نشأت في ظلّ الإسلام وحضارته وارتبطت به بأنواعٍ مختلفةٍ من الارتباط" . فحاولت عقلنة الفهم الديني وتقريب أصوله ومنطلقاته إلى الفكر الوافد من فلسفات الحضارات الأخرى، دون تخلٍ عن جوهر هذه الحضارة وحقائقها ومنابع ثروتها الكبرى، ودون خطر الوقوع في ذوبانٍ كامل يفقدها معالم الفكر وملامح الشخصية ومنابت القوة وجذوة الحيويّة والانبعاث.
من هنا شعر مفكرو العصر الحديث بالحاجة الملحّة إلى إبداع خطابٍ عربيٍّ أو إسلاميٍّ معاصرٍ، ينسج على منوال التجارب السابقة في تقريب المنقول من المعقول، ويحمل خصائص التجديد وملامح الفتوة، وينهض بحاجة الخطاب في عصرنا وما طرأ عليه من علومٍ ومعارف، ويعطي الأجيال الراهنة ما تستحقّه من مشاعر الكرامة والاعتزاز بالذات الحضارية، مع فتح نوافذ التواصل مع المحيط البشري، بما يستجيب لتحدّيات العصر الراهن المسمّى بعصر العولمة وما أحدثه من كشوفاتٍ وتغييراتٍ كبرى على واقع الحياة، وبما يتوافق مع تطلعات الناشئة المشروعة في سبيل مواكبة عصر الثورة الرقمية .
ففئة الشباب ترزح أمام تحدياتٍ كبرى تتمثّل في كونهم إزاء فرص مهمةٍ في التوثّب إلى الأمام واكتساب العلوم والمعارف والثقافات والمهارات التقنيّة التي تحسّن مستوى المعيشة وتسهّل لهم أسباب العيش الكريم. كما أنهم إزاء غزو ثقافيٍّ وروحي وأخلاقي تجعلهم رهينة مخاطر جديةٍ، وتعرّضهم لفقدان المناعة المعنوية أمام السيول الجارفة من الأفكار والضخّ الغزير للمعلومات والمؤثّرات المسلّية المنهمرة كسيل الطوفان.
ولا شك أن علم الكلام هو إحدى النوافذ المهمة المفيدة في تكوين الرؤية المطلوبة، التي تساعد على حمل نظارةٍ فكريةٍ فاحصةٍ ثاقبةٍ متأنيةٍ، تمكّن من تحلّي حاملها بالموضوعيّة عند الاطلاع على كلّ وافدٍ، وتتيح له فرصة الإفادة العقلانية الواعية والمتنورة. وغنيٌّ عن البيان أن هذا العلم قد قام في الماضي بدورٍ رياديٍّ ناجحٍ من خلال ما قدمه أساطين المتكلمين ابتداء من زمن المؤسّسين مثل الحسن البصريّ والأشعريّ وكبار متكلّمي المعتزلة والأشاعرة والماتريدية كالنظام والعلاف والباقلاني والإسفراييني والغزالي والنسفيّ، ومرورًا بالرازي والتفتازاني والإيجي والباجوري والسنوسي، وصولًا إلى اللامعين في عصرنا. ولا بأس أن نذكّر هنا وعلى سبيل المثال بثلةٍ لا بأس بها من أصحاب الفكر وأرباب القلم المحدثين والمعاصرين. فقد برز فيه أعلامٌ معاصرون لهم مكانتهم وأهميتهم، ممن فتحوا الطريق وشقوا السبيل أمام بلورة أسس علم الكلام المعاصر من أمثال شبلي النعماني وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الحميد بن باديس ومحمد باقر الصدر وسعيد النورسي ومصطفى صبري ومحمد سعيد البوطي ومحمد حسين فضل الله ومحمد إقبال ومالك بن نبي وعبد العزيز الثعالبي، وانتهاءً بالحاليين البارزين مثل وحيد الدين خان وطه عبد الرحمن وعبدالجبار الرفاعي، وسواهم ممن يمكن الإفادة من إنتاجهم الفكريّ بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ في تشييد مبنى علم الكلام المعاصر وبناء لبناته وهندسة عمارته، بعدما خاضوا لجج بحار هذا العلم، ووقفوا على دقائقه وتعمّقوا في تفاصيله، وألمّوا بأصوله العامّة ورؤيته الشموليّة، ومذهبيته الخاصّة .
ويمكن القول: إن هذا العلم مؤهّلٌ اليوم كما في الماضي كي يقوم بالدور المطلوب منه، فيكون في طليعة العلوم المساهمة في إدارة دفّة حركة عالم الفكر العربيّ الإسلاميّ، خاصةً فيما يتعلّق بحلّ المعضلات الشائكة بين النخب، والتي تنعكس سلبًا على مجريات الأحداث، وتتسبّب في حدوث الانشقاقات والتمزّقات الكبرى في عوالم الفكر والحياة. ولعل أول من بلور هذا المصطلح كما يذكر الباحثون هو صاحب كتاب: علم الكلام الجديد، وهو شبلي النعماني في أواخر القرن التاسع عشر، الذي عرف بالموسوعية والنبوغ، ووضع هذا الكتاب ليلفت النظر للحاجة إلى هذا النوع من التجديد . وهو أحد علماء الإسلام في الهند، ويرجع نسبه إلى الإمام أبي حنيفة النعمان، وترجم الكتاب إلى الفارسية محمد تقي داعي كيلاني. ويبدو أنّ هذا الكتاب أثّر لاحقًا في مفكّري إيران، وفي مشهدها الثقافي، بصفة عامّة. ومردّ هذا التأثير جرأة صاحبه، إذ اعتبر أنّ "علم الكلام القديم يعنى ببحث العقائد الإسلامية، لأنّ شبهات الخصوم كانت ترتكز على العقائد، فقط بينما يجري التأكيد هذا اليوم على الأبعاد الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية في الدين… حيث تعتبر هذه المسائل من اختصاص علم الكلام الجديد" .
كما ويبدو أنّ هذا الكتاب استطاع أن يجمع بين ذاكرتين في مشهد فكريّ طريف، ذاكرة سُنّية مثّلها صاحب الكتاب، وأخرى شيعية تجلّت في الترجمة بكلّ خلفياتها الثقافية، ولذلك انتشرت دعاوى "تجديد الكلام" أو "الكلام الجديد" في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بكلّ أطيافه ومدارسه الفكرية، وأثار فضول عددٍ كبيرٍ من المفكرين المسلمين، فألّفوا كتبًا تدلّ على وعيٍ حقيقيّ بأهمية التجديد في مجال علم الكلام الإسلامي . من هنا كان المطلوب توجّه بعض أرباب الفكر إلى العناية بتجديد هذا العلم كي يحسن التعامل مع مخزونه السابق وإرثه اللاحق ومعطيات الحداثة والمعاصرة.
ومن المعروف تاريخيًّا أن علم الكلام أخذ اسمه من عدّة مدلولاتٍ، لعل أبرزها أنه يراد به أنه يعتمد صاحبه على الحجّة والبرهان والقول الفصل. فهو سيد الكلام، يقنع سامعيه ويفيدهم إفادةً حاسمةً لا ينهض إزاءها قولٌ آخر. وصار لقوة أدلته يعلو على سواه، وكأنه هو الكلام دون ما عداه. وكانت العرب تقول في بعض المواقف المتميزة: هذا هو الكلام. جاء في شرح المقاصد في سبب تسميته بهذا الاسم: "ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام" .
ولا ريب أن لهذا النوع من الكلمة مكانةً مهمةً لدى الإنسان، فخاصيته الأولى هي النطق المفيد المعبّر، ولولاها لما تعارف الناس، ولما تعايشوا، ولا تآلفوا، ولا شيدوا بناءً ولا أقاموا حضارة. فالكلمة الدالة المفيدة المبنية على العلم والمعرفة والمنطق السديد هي مفتاح كلّ خير ومغلاق كلّ شر. ومنها ينطلق خطاب النهضة في كل فترةٍ زمنيةٍ، وبها تصوّب مسارات الأمم، وتحدّد الأهداف، وتقوّم الإنجازات، وتصحّح الأفكار. كما ويتمّ من خلال كلام العلم والمعرفة والتحقيق التواصل بين الأجيال، والتقارب بين الشعوب، والتلاقح بين الحضارات، والتلاحق بين كشوفات العلوم والتراكم في المعارف. وإن للكلمة المتنوّرة اليوم مكانةً عليا مرموقةً في منابر الأمم المتحدة، كما وفي كلّ الأروقة والمنتديات الثقافية عبر العالم، وبإمكانها أن تفعل الكثير وتنجز الكثير وتغيّر الكثير مما لم يكن في الحسبان. ولكن يا للأسف، أين واقعنا اليوم من هذه الكلمة، وأين موقع هذه الكلمة الحكيمة أو المعبّرة عنا نحن في هذه البلاد المنكوبة منذ قرون؟ لعل في علم الكلام المعاصر بعض الجواب عن هذا السؤال. ولنبدأ بأولى رباعيّة الإلماعات.
الإلماعة الأولى: ثنائية الفلسفة والدين
أو لنقل: حوارية الفلسفة والدين.
تأخذ إشكالية العلاقة بين الفلسفة والدين حيزًا واسعًا من البحث والنظر في الماضي والحاضر، نظرًا لوحدة الموضوعات المتناولة في مباحثهما مثل الوجود والحياة والمبدأ والمصير والخير والشر والمعرفة والقيم والأخلاق والإطلاق والنسبية والقوة والإرادة والماورائيات وغير ذلك من موضوعاتٍ ذات صلة. ولما كانت الفلسفة لا تستطيع أن تخرج عن هذه الموضوعات بأي حالٍ فلا بدّ وأن تنازع الدين في مقولاته، وتحاول أن تتجاوزه أو أن تناقضه أحيانًا. وهنا ينشأ الإشكال، وتتبين ضرورة الحركة العقلانية للتواصل بين المنطقتين. لذا رأى الكثيرون من رواد النهضة في بلادنا ضرورة تجاوز النظرة السلبية للعلاقة بين الطرفين، ومدّ جسور الحوار واللقاء بين النظرتين لمصلحة الإنسان والبشرية عمومًا، لأن التاريخ أثبت أن فترات الحوار واللقاء هي الأنصع والأكثر إشراقًا وأملًا وإسعادًا وتقدّمًا .
وفي المقابل، افترض علماء الدين قديمًا أن علم الكلام لا بدّ وأن يتأثر حكمًا بمقولات الفلسفة وأن تكون له شطحاتٌ في تناولها. فظهرت لهم مقولاتٌ مشهورةٌ في ذمّ الكلام والتحذير منه، وسار الاعتقاد بأنه يخرج عن منهج السلف في الاكتفاء بالنصوص القدسية من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين . ومع نهي علماء السلف البارزين كسفيان الثوري وجعفر الصادق ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل في القرون الأولى لانتشار الإسلام إلا أننا شهدنا بعد فترةٍ وجيزةٍ من ذلك الزمان أن علم الكلام أخذ يشقّ طريقه وينتزع مشروعيته ليكون جزءًا مهمًّا وأساسياَ بل ومؤسسًا للعلوم الإسلامية، وأخذت المدارس والجامعات وحلقات العلم تعتمد كتبه وتضعها في أمهات العلوم، وتصنّفه على أنه يتربّع في قمتها ويسعى أن يترأسها، خاصةً بعد أن أطلق أبو الحسن الأشعري مقولته الشهيرة في "استحسان الخوض في علم الكلام" .
لذلك اعتبر بمقولاته تلك الممثل الأبرز لمن سبقه من أئمة فقهٍ بارزين، والإمام الأكبر لكثيرين ممن أتى بعده من اللاحقين. كما وضع أبو منصور الماتريدي كتبًا مهمةً، على رأسها كتاب التوحيد، واعتبر بذلك الوارث والشارح الأبرز لمقولات أبي حنيفة النعمان العقدية. وبهذا النهج مثّل هذا التيار منطق التوازن في العلاقة بين العقل والنقل وصولًا إلى العقل المتدين أو الدين المتعقل، فكما أن الدين يدعو إلى تعلم الكتاب السماويّ وقبول حقائقه، كذلك فهو يدعو إلى اعتماد منطق العقل والحكمة جنبًا إلى جنبٍ، سواءً في فهم حقائقه أو في تطبيقها أو في ممارستها.
ومن هذا المنطلق شقّ رواد التنوير الإسلاميّ المعاصرون طريقًا مشابهًا في اعتماد الموازاة بين الدين والعلم، كمصدرين متوازيين لتحصيل المعرفة، ومن أجل اعتماد منهجية الدمج بين المعرفتين في مختلف شؤون الحياة ووجوه أنشطتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية،
فالقرآن الكريم بمنظور النخب المتنورة والمشهورة بالريادة في مختلف بلاد المسلمين- يشتمل على رؤيةٍ فلسفيةٍ للكون، ويدعو بمضمونه إلى التأمل والتفلسف الصحيح. والفلسفة الصحيحة لا بدّ وأن تنظر بإجلالٍ وإكبارٍ واستفادةٍ إلى حكمة هذا الكتاب العظيم، وهي مصدرٌ صالحٌ للمعرفة والإفادة في معرفة حقائق الوجود والحياة. ومن هنا فإن لقاء الفلسفة والدين هو لقاءٌ منطقيٌّ، محكومٌ بقوانين الفكر ونواميس الوجود، وهو منهج العقلاء والحكماء، وهو السبيل الحتميّ لتأمين سعادة الحياة البشرية ودرء غوائلها. والعمل على إخراج علم كلامٍ معاصرٍ هو من صميم المهامّ العلمية للحياة البشرية عامة والعربية والإسلامية خاصة.
يقول الثعالبيّ في تأمل دقيقٍ لملحظٍ نفيس: "اعلم أن الكثير من العلماء الإسلاميين يقولون: إنه ليس في القرآن شيءٌ من العلوم الفلسفية التي يبحث عنها المتكلمون وأصحاب النظر. ويقولون ليس فيه إلا ما يتعلّق بالفقه والأحكام. وهو ادّعاءٌ غريبٌ في بابه، ربما عُدّ عليهم من قبيل السهو وقلة التفكر، لأنهم لو تفكروا قليلًا في القرآن -الكريم- لما وجدوا سورةً طويلةً متفردةً بذكر الأحكام، ولوجدوا سورًا كثيرةً خصوصًا المكية ليس فيها إلا مباحث الفلسفة وتقرير حقائق الأشياء والكلام على الفطرة والنواميس الكونية وخلق العالم وإثبات الخالق والحديث عن النفس والإرادة والاختيار وعن الرسالة والوحي والبعث والخلود، وكلّ ذلك من علوم الفلسفة…" .
فهو هنا ينعي على الفهم القاصر للقرآن الكريم، وعلى محدودي النظر الذين لا يرون دوره إلا ضمن أحكامٍ حياتيةٍ عمليةٍ، دون شموليته لمجال العقل والنظر. فكانت للثعالبي ولأمثاله بلسان الحال صرخةٌ مدويةٌ مفادها: أيها القرآن! كم تقترف من جرائم باسمك، وأنت منها براء! لقد وقف المحدثون المتنورون موقف التوازن والتوازي بين المعرفتين العقلية والدينية، تمامًا على خطا أسلافهم من المجدّدين والمتكلمين- على أن كلًا منهما ضروريٌّ للآخر. فالعقل- عند الغزالي مثلًا- أشبه بالسراج، فهو بحاجةٍ إلى توقّد بالزيت، والوحي بمثابة ذلك الزيت الخارجي. والعقل كالعين، والوحي كالنور وأشعة الشمس لا بدّ من التعرّض له كي تظهر الحقائق الجلية. فالعقل شرعٌ من داخل، والوحي عقلٌ من خارج. فهما نوران وشرعان وعقلان متعاضدان متّحدان في الحقيقة مختلفان بالاعتبار، يفتقر بعضهما إلى الآخر .
وذهب جيلٌ من المعاصرين المتكلمين أبعد من ذلك، حين رأوا أن المعرفة الحديثة لازمةٌ للمعرفة الدينية، فهي بالنسبة لها كالعلاقة بين بياض العين وسوادها. فكما لا تبصر شحمة العين إلا بتشابك الجزأين، السواد والبياض، كذلك لا تكون رؤيةٌ وبصيرةٌ ما لم تتوافر حدقة القلب السوداء الصغيرة في بقعة بياض العقل الواسعة . فكما لا تبصر العين إلا بهذا النسيج الكلّي، كذلك الحال بالنسبة للمعرفة لدى الشخص والجماعة، لأنه من دون هذا الامتزاج بين المعرفتين ينشأ أنواع التعصب والتشدد والتنطّع والتطرّف. وحال العالم اليوم يشهد لهذه الحقيقة، فلا معرفة دينيةً منتجةً لحياةٍ طيبةٍ دون معرفةٍ عقلانيةٍ علميةٍ متنورة، كما أنه لا تصل المعرفة العقلية إلى تحقيق الكمال والفضيلة الكلية دون اقتفاء أثر المعرفة الدينية، واتباع أصولها وهديها؛ وبالتقائهما تكتمل معالم الحقيقة، وتنهض حال العالم عامةً وبلاد المشرق خاصةً.
وقد نهض الشرق بهذه المعرفة القلبية، فكان أشبه بقلب البشرية النابض بالخلق والرحمة، فيما نهض الغرب بالمعرفة العقلية، فكان بمثابة عقل البشرية المشعّ بالعلوم الحديثة والحامل لمشعل الحضارة الصناعية، وبتلاقي المعرفتين تنجلي الحقيقة، وتنقدح شرارة الحكمة، وتزدهر الحضارة البشرية، أمنًا واقتصادًا واستقرارًا، فتقترن الفضيلة الخلقية بالنجاح الحياتي. ولعل من أبرز المقولات المعبرة عن هذا التوجه مقولة النورسي الملقب ببديع الزمان والمعتبر كأحد مجدّدي علم الكلام المتميزين في العصر الحديث، إذ يقول:
"ضياء القلب هو العلوم الدينية ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة فتتربى همّة الطالب وتعلو بكلا الجناحين وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى، والحيل والشبهات في الثانية" .
ومن أثر ذلك أنه كان يوجّه تلاميذه ومحبيه للاهتمام بالعلوم الحديثة وجعلها في صلب اهتماماتهم ومناهج التعليم المدرسي والجامعي، ومن أولويات اهتمام المسؤولين التربويين والاجتماعيين. وقد دعا النورسي مسؤولي الدولة العثمانية والجمهورية التركية إلى إنشاء جامعةٍ تدمج بين المعارف الدينية والحديثة، وتحمل اسم الجامعة الزهراء، وتتبنى التوازن بين المعرفتين، وتنظيم أمور الحياة على أصول الدين من جهةٍ، وعلى ضوء المعارف الحديثة من جهةٍ أخرى.
يقول في ذلك: "الذي يبين الحدّ الأوسط -بين إفراط الظاهرية الحرفية وتفريط التأويلية المجازية- إنما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمة مع المنطق. نعم، أقول الحكمة (الفلسفة) لأن خيرها كثيرٌ… مقابل الفلسفة القديمة التي نهى السلف عنها، حيث الأذهان كانت غير مستعدّةٍ، والأفكار مقيدةٌ بالتقليد، والجهل مستولٍ على العوامّ، أما الفلسفة الحاضرة فخيرها كثيرٌ من جهة المادة (العلوم الحديثة) بالنسبة للقديمة، وكذبها وباطلها قليل. والأفكار حرةٌ في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرةٌ على الجميع، وفي الحقيقة لا بدّ أن يكون لكل زمانٍ حكمه" .
لم يكن هذا التوجه لدى المحدثين من رواد الكلام المعاصر مجرد شعاراتٍ وأمنياتٍ لا تحمل صفات القناعة التامة وإمكانية تحويلها إلى مجال التطبيق، بل تحوّلت إلى حداثةٍ واقعيةٍ من خلال توجيهاتٍ مباشرةٍ للمعنيين والناشئة في بلادٍ عديدةٍ، كما في باكستان وتركيا وماليزيا وإيران وغيرها من البلدان التي تأخذ بهذا التوجه، وتسعى للنهوض في المجال التعليمي. وقد بدأ هذا التوجه يؤتي أكله على صعيد النهضة العلمية والمدنية، كبرنامج عملٍ للأجيال الصاعدة، وورقة مرورٍ للدخول إلى العصر، وكشرطٍ لازمٍ لتحقيق المعرفة الدينية والقرآنية وإنجازها، والإفادة منها في صناعة الحياة الطيبة، وإظهار صورةٍ إنسانيةٍ لنموذج الفرد والأمة المطلوبة في النص القرآني والتعاليم النبوية والأخلاقيات المثلى.
الإلماعة الثانية: أهمية العقل وعملياته في النصّ الديني والتراث..
تظهر الإصدارات المعاصرة العقلانية الإسلامية على أنها فريضةٌ شرعيةٌ وضرورةٌ حياتيةٌ وواجبٌ اجتماعيٌّ وفضيلةٌ خلقية . وقد انتهج المتكلمون نهج اعتبار أن التعقل هو أول الواجبات على الإطلاق، فاعتمد المدوّنون منهم مثل البغدادي (المتوفى سنة 429هـ) عبارة: "أول واجب على المكلف النظر والاستدلال، لأنهما يؤدّيان إلى معرفة الله وصفاته وتوحيده وعدله وحكمته، وأحكامه" . كما شاع أن منهج المتكلمين الاستناد إلى محكمات العقول، وتقديم العقل على النقل عند التعارض، على أن النصوص الشرعية حمّالة أوجهٍ وذات معانٍ واسعةٍ، قد يتطرق إليها الاحتمال والظنّ، وقد تتعرّض لإقحامها ما ليس منها، وقد يجري فهمها على غير وجهها. لذا كان العقل الراجح المتنوّر هو المنطلق الأساسي الذي يجب أن تصدر عنه مسائل العقيدة .
جاء عند الغزالي: "الذين اعتمدوا على النقل وعلى العقل معًا: وهي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول، الجاعلة كل واحدٍ منهما أصلًا مهمًا، وهم الفرقة المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقًا، ومن كذّب العقل فقد كذّب الشرع، إذ بالعقل عُرف صدقُ الشرع، ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبيّ والمتنبّي، والصادق والكاذب. وكيف يُكذّب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل؟!! وهؤلاء هم الفرقة المحقة، وقد نهجوا منهجًا قويمًا، إلا أنهم ارتقوا مرتقىً صعبًا، وطلبوا مطلبًا عظيمًا وسلكوا سبيلًا شاقًا.." .
ولقد خلق الله العقل -هذه الآلة المعقدة العجيبة- كي تعمل مثل سائر الأعضاء، فيعرف به أمور الحياة، ويحصل على المنافع، ويميّز الأمور، ويجتنب المضارّ، ويرتقي في الدرجات ويحصل على الخيرات وينجو بها من الآفات والشرور. وإذا كان رواد النهضة في الغرب قد أصرّوا على إعمال العقل حتى سمي عهدهم بعصر العقل تعزيزًا لمقولته وضرورة إعماله، فإن علماء الكلام بدورهم قد أبلوا البلاء الحسن في هذا المضمار.
فلقد اعتبر المعتزلة العقل هو العمدة في فهم النصوص الدينية، فمعارفه البدهية مقطوعٌ بصحتها وصدقها، وإنما تتعرض للخطأ من قبل عارضٍ خارجيٍّ مثل الهوى والأغراض والمغالطات. لذا تتقدّم معرفته ذات الدلالة القطعية على المعرفة النصية التي تشتمل على الأخبار الظنية الدلالة، ويعمد العقل إلى تأويلها عند التعارض بما يتناسب مع معارفه القطعية. فهو الأصل والسبب الأول في فهم الكتاب والسنة، ولولاه لم يعرف الكتاب، ولم يعرف الخالق، ولم يتمّ التمييز بين الحسن والقبيح . وهذا ما دفع الشيخ محمد أبو زهرة المعاصر إلى اعتبار المعتزلة فلاسفة الإسلام، والممثلين الحقيقيين للفلسفة الإسلامية .
وقد ذهب الغزالي في المستصفى إلى اعتبار العقل الأصل الرابع للاستدلال بعد الكتاب والسنة والإجماع. ويقول: "دلّ العقل على براءة الذمة عن الواجبات قبل ورود السمع، فالعقل دليلٌ عند العلم بعدم وضع الشرع" . وكأنه يشير إلى مسألة أصل الإباحة التي فطر عليها العقل، على أن العقل يتحرّك في تلقّيه للشرع من أساسٍ لا من فراغٍ، وذلك بمعرفته الفطرية، ويقارن ما ورد به الشرع مع هذه المعرفة الأصلية. وقد ذهب معظم الشافعية إلى هذا الرأي، واعتمدوه أصلًا في الاستدلال والأحكام. وهذا يبيّن أن النصّ لا يلغي العقل، ولا يقيله، بل يدعوه إلى مرافقته، فيظلّ متأهبًا متنبهًا وحكمًا على الدائرة التي تحيط بالنصّ وأحكامه. فالأحكام تتنزّل عليه، فيطلب منه النصّ أن يصحبه فيما يشرعه له، ويبقي الحدود الخارجة عن حكم النص تحت رعاية العقل وفي ملاحظته، لا أن تبقى في ظلمات التنازع أو الفراغ أو المراوغة بينهما (كما يلاحظ حاليًا لدى فئاتٍ واسعةٍ من المتحايلين على النصوص). ولعل هذا أحد أسباب تسمية هذا الأصل بالعقل أو الاستصحاب. وقد ناقش الغزالي مطولًا حجيّة هذا الأصل، وبيّن أن العقل يحكم بدليل معرفته بعدم ورود دليلٍ زائدٍ على ما شرعه النصّ، وعليه أن يستنفد جهده في هذا المجال .
ونجد هنا الكثير من المعطيات المهمّة في النصوص المؤسسة للفكر الديني، لكأن العقل هو عماد الدين، وعمله سبب سعادة الإنسان، وعملياته تحدّد درجته بين الناس. فمن دون العقل وموازينه تضيع مصالح المرء، وقد يهلك نفسه، ويدخل المخاطر، أو لعله يختار سبلًا مدمّرة له ولمن حوله، إما بالقصد أو بالإهمال، أو بمزيجٍ منهما. ولنا أن نستنتج هنا قولًا معقولًا على مبدأ: "إن لجسدك عليك حقًا" ، هو أن يقال: "إن لعقلك عليك حقًا". ومن نافلة القول أن نذكّر بأن عصر الأنوار انطلق من مقولات إعمال العقل، مثل مقولة كانط الشهيرة: تجرأ على استعمال عقلك..
ومما يتناقله الناس في التراث الشائع دعاءٌ ذو مغزى هو "اللهم ثبت عليّ عقلي وديني ويقيني". ومع أننا لا نجد لهذا التعبير سندًا معتبرًا إلا أننا نلاحظ أنه لا يتعارض مع النصوص القدسية، بل يتوافق معها، على اعتبار أن العقل من أجلّ النعم وأكثرها فائدةً للإنسان، فهو سبب تحصيل المعارف واكتساب العلوم. وبه يقع نظر الفكر وتجوله في النفس والآفاق، وتدبّره لآيات الوجود ومغزى الحياة، وتحصيل النور الباطنيّ الذي ينفذ إلى حقائق الأشياء، ويرتبط بالغايات الكلّيّة والسعادة المطلقة، ويحدّد خياراته وتصرفاته بالنظر إليها والتوافق معها، وعليه مدار تفاضل الناس في مزاياهم ودرجاتهم ومنازلهم في العاجل والآجل.
ويمكن لنا هنا أن نلتمس التمييز بين أكثر من عقلٍ: العقل النظريّ، وهو الذي يدرك المعارف ويحصل على العلوم ويكتسب الخبرات؛ وعقلٍ فطريٍّ يقوم بعمليات نظرٍ وتذكرٍ وتفكرٍ وتبصّرٍ وتأمّلٍ وتدبّرٍ وتعقلٍ لمجاري الأمور وبواطنها؛ وعقلٍ عمليٍّ يتقن فنّ الاختيار السليم بين خياراتٍ متباينةٍ أو متعارضة. ولعلنا نلمس في نصوص الدين القدسية إشاراتٍ إلى هذه الأنواع والدرجات الثلاثة من العقول، كالتالي:
أولًا: العقل العلميّ هو أول شرطٍ في التكليف، وأكرم ما في الإنسان، وسبب تفضيله على سائر المخلوقات. يقول سبحانه: ((وعلم آدم الأسماء كلها)). ويقول: ((خلق الإنسان– علمه البيان)). ويقول ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)). جاء في إحياء الغزالي: "العقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس والرؤية من العين.. لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما خلق الله عز وجلّ خلقًا أكرم عليه من العقل" . وجاء في شعب البيهقي: "عن الحسن (البصري) قال: لما خلق الله عز وجل العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، وقال ما خلقت خلقًا هو أحبّ إلي منك، إني بك أعبد، وبك أعرف، وبك آخذ، وبك أعطي" . وسنأتي بعد قليلٍ على نصوص التراث في أهميته.
ثانيًا: العقل العمليّ، إذ نرى اهتمام النبي عليه السلام بالأشخاص الراجحة عقولهم وتقديمهم على غيرهم، بما يمكن أن نلحظ فيه نوع العقل العمليّ أو التجريبي. ومنها ما ذكره الواقدي في قصة إسلام خالد بن الوليد قول النبي عليه الصلاة والسلام له: فقال: "الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلًا رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير" . ويمكن لنا أن نفهم من السيرة النبوية تقديم الأشخاص في السلم الاجتماعيّ والسياسيّ حسب نضجهم العقليّ النظريّ. فهذا أبو بكر يقدّم على غيره للخلافة بسبب رجحان عقله وكونه أعرف الناس بأحوال المجتمع العربي، حتى ورد وصف الإمام علي رضي الله عنه بأنه "كان أبو بكر مقدّمًا في كلّ خيرٍ، وكان رجلًا نسابة" ، حتى اشتهر بأنه "نسابة العرب". ويظهر من أحداث السيرة كونه أقرب الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام سواءً في فهم النصّ القرآني أو في تطبيقاته، فروى ابن كثيرٍ ما يفيد أنه كان جزلًا في جدله، يحاور وجهاء القبائل، ومثله يمكن القول فيمن خلفه بعده ممن أتى من الخلفاء الراشدين. كلّ ذلك لا بدّ أن يراد منه أهل المعرفة العلمية ذوي النظر العقليّ، والإدراك الشموليّ، والتجربة الحياتيّة.
ثالثًا: العقل المتبصر، وهو ذلك العقل الفطريّ الذي قبل هداية الله تعالى، ورأى الأشياء بنور الوحي، ولم يركن إلى حكمة العقل الفردي، أو إلى حكمة العقول المتضاربة فيما يخصّ حقائق الوجود الكلية، والغائبة عن الحسّ المباشر والقاصر. وقد أشارت النصوص إلى هذا النوع من العقل والتعقّل بكثرةٍ بالغةٍ ومثيرةٍ للانتباه، كما سيأتي.
ونتوقف الآن على محطاتٍ تراثيةٍ في النوع الأول منها، وهي نصوصٌ تتضمن الإشارة للنوعين الآخرين من العقل، ونختار لذلك كتابين مهمين هما:
الأول: كتاب أدب الدنيا والدين، للماوردي (المتوفى سنة 450 هـ). لقد عدّ الماوردي فيه العقل أصل الفضائل وعماد الدين والدنيا، وسبب الألفة والائتلاف والتقارب بين الناس، وشرط صحة التعبد والعمل. وقد افتتح كتابه المشهور بمدحه في فصلٍ خاص، وجعل عنوانه: "فضل العقل وذمّ الهوى". يقول في ذلك:
"اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ أُسًّا وَلِكُلِّ أَدَبٍ يَنْبُوعًا، وَأُسُّ الْفَضَائِلِ وَيَنْبُوعُ الْآدَابِ هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدِّينِ أَصْلًا وَلِلدُّنْيَا عِمَادًا، فَأَوْجَبَ الدِّينَ بِكَمَالِهِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا مُدَبَّرَةً بِأَحْكَامِهِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ مَعَ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَمَآرِبِهِمْ وَتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، وَجَعَلَ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَوَكَّدَهُ الشَّرْعُ، وَقِسْمًا جَازَ فِي الْعَقْلِ فَأَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فَكَانَ الْعَقْلُ لَهُمَا عِمَادًا" . ثم أورد طائفةً من المأثورات في فضله، منها قوله: "وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ مِثْلَ عَقْلٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إلى هُدًى، أَوْ يَرُدُّهُ عَنْ رَدًى}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لِكُلِّ شَيْءٍ عُمِلَ دِعَامَةٌ، وَدِعَامَةُ عَمَلِ الْمَرْءِ عَقْلُهُ، فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِرَبِّهِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ [الله عن] الْفُجَّارِ ((لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) … وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ أَحَدًا عَقْلًا إلَّا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمًا مَا ". ثم أورد طائفةً من الشعر والنثر، منها:
"إذا قَسم اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ
إذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُهْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ… وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلى الْعَقْلِ" . وبالمقارنة مع العقل يجعل الماوردي كلًا من الهوى والجهل والحمق نقائض له ولعملياته، وينصح بأمورٍ عمليةٍ للتخلص منها. فقد يكون للإنسان علمٌ بشيءٍ ما ولكن لا يكون له عقلٌ كافٍ يوازيه، فيقال: فلانٌ علمه أكثر من عقله. ويقال أيضًا: فلانٌ لا يقوم علمه بجهله. لذلك يعتبر الماورديّ أن اختيار المجالس النافعة، إضافةً إلى استشارة العقلاء، مع التجارب الحياتية، هي التي تبني العقل وتزيده. فكأن العقل النظريّ بحاجةٍ للعقل العمليّ. يقول في ذلك:
"قَالَ الْمَنْصُورُ لِلْمُسَيِّبِ بْنِ زُهَيْرٍ: مَا مَادَّةُ الْعَقْلِ؟ فَقَالَ: مُجَالَسَةُ الْعُقَلَاءِ… وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلى التَّجَارِبِ… ويَنْبَغِي أَنْ تُكْثِرَ مِنْ اسْتِشَارَةِ ذَوِي الْأَلْبَابِ لَاسِيَّمَا فِي الْأَمْرِ الْجَلِيلِ فَقَلَّمَا يَضِلُّ عَنْ الْجَمَاعَةِ رَأْيٌ، أَوْ يَذْهَبُ عَنْهُمْ صَوَابٌ، لِإِرْسَالِ الْخَوَاطِرِ الثَّاقِبَةِ وَإِجَالَةِ الْأَفْكَارِ الصَّادِقَةِ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهَا مُمْكِنٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهَا جَائِزٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَكْثَرَ الْمَشُورَةَ لَمْ يَعْدَمْ عِنْدَ الصَّوَابِ مَادِحًا، وَعِنْدَ الْخَطَأِ عَاذِرًا، وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مِنْ الْجَمَاعَةِ بَعِيدًا. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يُضِيفَ إلى رَأْيِهِ آرَاءَ الْعُقَلَاءِ، وَيَجْمَعَ إلى عَقْلِهِ عُقُولَ الْحُكَمَاءِ، فَالرَّأْيُ الْفَذُّ رُبَّمَا زَلَّ وَالْعَقْلُ الْفَرْدُ رُبَّمَا ضَلَّ" . فالمشورة تلقّح العقول، وتضيف إلى العقل الواحد عقولًا كثيرة، يستحيل أن يحصل على جزءٍ منها بمفرده.
الكتاب الثاني: شعب الإيمان للبيهقي (المتوفى: 458هـ)، ويورد فيه طائفةً من الأخبار تحت عنوان: "فصل في فضل العقل الذي هو من النعم العظام التي كرّم بها عباده". جاء في فضل العقل هذا الخبر المهم، وهو: "عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس يعملون بالخير، وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم". ومنها: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يعجبكم إسلام رجل حتى تعرفوا ما عقدة عقله". ومنها: سمعت ذا النون المصري يقول: "من أراد علم طريق الآخرة فليكثر محادثة الحكماء ومجالستهم وليكن أول ما يسأل الحكيم عن العقل فإن جميع الأشياء لا تدرك إلا بالعقل". وعن قرة بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفلح من رزق لبًا". وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له" .
أما إذا عدنا لنتوقف عند نصوص القرآن الكريم فإننا نلحظ استعمال لفظة العقل بصيغة الفعل، ((يعقلون)). وقد وردت هذه الصيغة اثنين وعشرين (22) مرةً في سياقاتٍ مختلفة، مثل: ((وتصريف الرياح آياتٌ لقوم يعقلون)) (الجاثية: 5). ومثل صيغة ((أفلا يعقلون)) (يس: 68).
وصيغة ((قلوبٌ يعقلون بها)) (الحج: 46).
أما ذكر العقل كاسمٍ، فقد ورد بألفاظٍ أخرى لعلها أكثر دلالةً على العقل المتنوّر العمليّ، أي الذي نفذ إلى حقائق الأمور، واستلهم خياراته منها، وجعل أعماله محكومةً بمضمونها، مثل: اللبّ، الحجر، الفؤاد، كما في الآية الكريمة ((وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)) (النحل: 78). وكما في الآية الكريمة للفظ الحجر: ((هل ذلك لقسمٌ لذي حجر)) (الفجر: 5).
ولفظ اللب: ((إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب)) (الزمر: 21).
وإذا مضينا في تتبع الألفاظ القريبة التي تتناول أسماء العقل وأفعاله بصيغٍ مختلفةٍ، فلا شكّ بأننا سنعثر على الكثير منها،
لعلها تبلغ المئات، مثل صيغ الاعتبار والتفكر والنظر وغير ذلك. وكلّ ذلك يعطي دلالةً واضحةً على أهمية العقل وفعل التعقل وملازمته للدين وفعل التدين، وعدم وجود أي تناقضٍ بينهما لدى النظر المتأنّي، بل يوجد تكاملٌ حقيقيٌّ، وموازاةٌ تامةٌ بين ما وهب الله للإنسان من نورٍ باطنٍ، وما أكمل عليه من نعمة الوحي، الذي هو نورٌ ظاهر، وكلا النورين يتوازيان في إدراكه، ويشكلان لحمةً يتبصّر بها شؤونه، ويتحصّل بها على منافعه، ويدرأ بها الآفات، ويرتفع بها في الدرجات، ويوقد منها شعلة سراجٍ كاشفٍ يتلمس بها سبيل الرشاد، ويمشي بها في الناس. كلّ ذلك يبين بجلاءٍ مدى اهتمام المتكلمين والأصوليين بضرورة التعقّل علمًا وعملًا وتأمّلًا، على أنهم شيدوا علومهم على إعمال العقل والاهتمام بالأصول العقلية، وانطلاقهم من المسلمات العقلية في تبحرهم وتدقيقاتهم التي بزّت العقلاء والمفكرين في الأمم الأخرى حتى شهد لهم من بعدهم ومن حولهم من الأمم بالتقدم والريادة. فهو واسطة لا غنى للإنسان عنها في إدراك أمور دينه ودنياه. ومن مظاهر عناية الإسلام بالعقل:
لعلها تبلغ المئات، مثل صيغ الاعتبار والتفكر والنظر وغير ذلك. وكلّ ذلك يعطي دلالةً واضحةً على أهمية العقل وفعل التعقل وملازمته للدين وفعل التدين، وعدم وجود أي تناقضٍ بينهما لدى النظر المتأنّي، بل يوجد تكاملٌ حقيقيٌّ، وموازاةٌ تامةٌ بين ما وهب الله للإنسان من نورٍ باطنٍ، وما أكمل عليه من نعمة الوحي، الذي هو نورٌ ظاهر، وكلا النورين يتوازيان في إدراكه، ويشكلان لحمةً يتبصّر بها شؤونه، ويتحصّل بها على منافعه، ويدرأ بها الآفات، ويرتفع بها في الدرجات، ويوقد منها شعلة سراجٍ كاشفٍ يتلمس بها سبيل الرشاد، ويمشي بها في الناس. كلّ ذلك يبين بجلاءٍ مدى اهتمام المتكلمين والأصوليين بضرورة التعقّل علمًا وعملًا وتأمّلًا، على أنهم شيدوا علومهم على إعمال العقل والاهتمام بالأصول العقلية، وانطلاقهم من المسلمات العقلية في تبحرهم وتدقيقاتهم التي بزّت العقلاء والمفكرين في الأمم الأخرى حتى شهد لهم من بعدهم ومن حولهم من الأمم بالتقدم والريادة. فهو واسطة لا غنى للإنسان عنها في إدراك أمور دينه ودنياه. ومن مظاهر عناية الإسلام بالعقل:
"أولًا: أنه دعا العقل إلى اتباع البرهان، وأمر بنبذ الجهل والهوى والكبر والتعصب والتقليد الأعمى والجدل بالباطل والخرافات والأوهام والسحر والشعوذة والدجل، لأن هذه الآفات كلها تعطّل العقل عن وظيفته، فيتمسك صاحبه بالخطأ ولو ظهر عواره، ويُعرض عن الصواب، ولو استبانت أنواره، قال تعالى: ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون)) .
ثانيًا: اعتباره العقل إحدى الضرورات الخمس الكبرى التي ينبغي المحافظة عليها، فحرَّم كل ما يضرّ بالعقل ويغيِّبه، كالخمور والمسكرات والمفتِّرات، وشرع العقوبات الرادعة لمن يتعاطى ذلك، حفاظًا على هذه النعمة العظيمة.
ثالثًا: أنه دعا العقل إلى التفكر والتأمل، سواءً كان التفكر في نصوص الشرع بحسن فهمها والعمل بها، أو التفكر في مجالات الكون الفسيح، وما أودع الله فيه من عجائب المصنوعات، الدالة على وحدانيته وعظمته وجلاله، والقرآن مليء بالآيات الداعية إلى النظر في سنن الكون وقوانين الحياة" .
الإلماعة الثالثة: التجديد الديني والحضاريّ لا بدّ أن يبدأ كلامًا..
قامت وتقوم مشاريع نهضويةٌ على المستوى النظريّ والمعرفيّ، في مجالاتٍ عدةٍ كما في المجال الفلسفيّ أو الفقهيّ أو الأخلاقيّ أو العلميّ أو الأدبيّ أو القصصيّ أو اللغويّ أو غير ذلك من مجالات المعرفة. وقد صدرت موسوعاتٌ مهمةٌ تثري المكتبة العربية وتسهم في النهضة المنشودة. لكن يبقى سؤال النهضة والتجديد قاصرًا عن بلوغ أهدافه، بسبب إشكاليّة الرؤية الجذريّة. ذلك أنه لا بدّ وأن يتوافر التجديد على شروطٍ ومرتكزاتٍ، ومقاييس محدّدةٍ، تمكّن مشروعه الجديد من كسب الرهان، والنفاذ إلى ساحة العصر، وإعلان حضوره المتميّز والمؤثّر في عقل المجتمع وفؤاده. وهذا لا يمكن إلا أن يكون على علاقةٍ مباشرةٍ بقضايا الفكر الكبرى الراهنة، التي تنبثق عن مختلف القضايا الإنسانيّة التي تشغل البشرية، خاصةً في عصر الأيديولوجيات الحادّة والتيارات الفلسفية الكبرى.
لقد أثبتت المرحلة الراهنة استقرار توجّه الاهتمام بالعقلانية الإسلامية، فأخذ الاهتمام بعلم الكلام والعقلانية الإسلامية يتنامى ويسير في خطّ التصاعد المتوازن، وأخذنا نشهد العديد من المؤتمرات والندوات والكتابات والحوارات التي تعمل على تأسيس أرضيةٍ صلبةٍ لتثبيت منحى توسيع مدارك العقل في أفق المعرفة الإنسانية، وموازاتها بفهم النص الديني فهمًا متعمقًا وعرض حقائقه ومناهجه العقلية ومشروعه في صناعة الحياة الطيبة ومواكبة نصوصه لحراك التقدم العقلي والعلمي والتكنولوجي، على أنها قابلةٌ لتمكين المسلمين وتزويدهم بملكات الذكاء والقدرات الذهنيّة العالمية، ليكونوا من بين الأمم الأرقى والأعلى في سلم المدنية والحياة. إن مدلول كلمة علم الكلام الجديد مرادفٌ لكلمة: العقل العلمي، أو العقلية العلمية، وهي عقليةٌ مهمتها إجلاء الحقائق. وإذا كنا نشكو من غياب فلسفةٍ خاصةٍ لنا في ساحات الفكر المعاصر، فإن التراث الكلاميّ بلا شكٍّ يمثل جانبًا مهمًا في صياغة هذه الفلسفة، علينا أن ننظر فيه ونأخذ ما نحتاجه لبنائها .
حقًا لقد ظهر في القرون الماضية منذ فجر الإسلام وحتى القرون الأخيرة أعلام كبارٌ وتركوا بصماتٍ رائعةً مشعّةً في عالم الحضارة البشرية، لا تزال مقولاتهم تسير على الألسنة، وكتبهم تعتبر محطاتٍ رئيسيةً لكلّ داخلٍ إلى عالم البحث والمعرفة. ومع ذلك فقد ظهرت الحاجة في عصرنا إلى سدّ حاجة العقل من فهم العلوم المعاصرة وكشوفات العولمة على قراءةٍ جديدةٍ للدين ورؤيته في الحياة وما بعد الحياة، على ضوء هذه المعارف والفتوحات العلمية.
وكما كانت الفلسفة ولا تزال بمثابة أمٍّ للعلوم وملهمة تقدّمها وتجديدها؛ كذلك هو علم الكلام بالنسبة لعلوم الدين المنتشرة لدى نخبٍ وجماهير واسعةٍ في بلاد العرب والمسلمين، على اختلاف أماكن تواجدهم في الشرق والغرب والشمال والجنوب. فإن "استقلال العلوم عن الفلسفة لا يعني استغناءها عنها، فما زالت العلوم بحاجةٍ إلى الفلسفة، وإن اختلف وجه الاحتياج أو الاستناد عما كان قبل استقلالها، تمامًا كالبنت تستقلّ عن أمّها عند زواجها، ولكنها تحتاج إليها في مشكلاتٍ واحتياجاتٍ جديدة، بل إن علومًا لم تكن مرتبطةً بالفلسفة أصبحت تلتمس الحكمة من هذه الأمّ العجوز ". كذلك كان علم الكلام هو المؤسّس لمشروعيّة ما دونه من علومٍ إسلاميةٍ، والحامل الرئيس لها، والمواكب لتوقّدها، والمؤطّر لتجدّدها، والمنظّم لخلافات أهلها، والمولّد لتألقها.
فلقد رأى أصحاب الكتب المقررة في المدارس الفقهية منذ مئات السنين في القاهرة وبغداد وتونس والمغرب وغيرها أن علم الكلام هو أمّ العلوم الشرعية وأشرفها وأولاها بالاهتمام، كونه يتعلق بذات الله تعالى، ويعرّف صاحب الشريعة، ويقرّب حقيقة الدين وأصوله الأولى من الأذهان. ولأنّ شرف العلم يتبع شرف المعلوم، والمعلوم هنا هو ذات الله وصفاته فلا بدّ أنه يكتسب رفعته وعلوّ قدره منه. ولأن العلم بالآمر أهمّ من العلم بالأمر؛ فـ(ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد).
يقول البيجوري شارح جوهرة التوحيد في مقدمة كتابه المعتمد في مناهج الدراسة منذ عشرات أو مئات السنين في مدارس كثيرةٍ:
"إنه -علم التوحيد والكلام- أصل العلوم الدينية، وما سواه فرع. وما أحسن قول القائل:
أيها المغتدي لتطلب علمًا كلّ علمٍ عبدٌ لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحّح حكمًا ثم أغفلت منزل الأحكام" .
ولما كان موضوع هذا العلم يتعلق بمفاهيم وجوديّةٍ ذات أبعادٍ عقليةٍ، وهي مجالٌ للبحث والنظر العقليّ، ومادّةٌ للنقاش والحوار الإنسانيّ العامّ، كان لعلم الكلام أصداء رحبةٌ واسعةٌ في الماضي والحاضر، كما والمستقبل كما نظن. ولذا كانت له جلالةٌ فريدةٌ بين العلوم العربية والإسلامية، فكان علم الكلام -المسمى بأصول الدين- ولا يزال من أجلّ العلوم التي كان للمسلمين فيها فضل السبق وشرف العناية البالغة. "فقد وجّهوا إليه مزيد عنايتهم وعظيم اهتمامهم، وكتبوا فيه الأسفار الفسيحة الأرجاء، وبحثوا فيه الأبحاث الشيقة الممتعة الدالّة على سعة أفق الفكر وعمقه" .
ويمكن لنا أن نقدّم مطالعةً نقديّةً لأعمالٍ بارزةٍ في حقل السباق إلى كلمة الحكمة وخطاب التجديد في عالمنا العربي والإسلامي بالقول التالي: إنهم يسألون ويسألون، وسيظلون يسألون ردحًا من الزمن سؤال كلمة النهضة وخطاب التجديد والحضور والشهود الحضاريّ والانعطاف والتحوّل نحو الأمل والحرية والفجر الواعد بمستقبل جديد. إنه السؤال عن مشروعيّة خطابٍ عربي معاصر، يستجيب لتطلعات الوحدة والسيادة والريادة لدى شعوبنا، ويستعيد أمجاد الماضي في سعة الاطّلاع وعمق المعارف وتألق الإبداع .
مئتي عامٍ وأكثر والسؤال لا يزال ماثلًا، متى تبدأ لحظة الانطلاق نحو آفاق الجواب، والعالم ينهض حولنا غير مكترثٍ بنا ولا يرثي لحالنا، ونحن نحيل مشاكلنا عليه، ولا نزال نتأمل الواقع ونشخص المرض، والعالم من أقصاه إلى أقصاه يمضي في نهضته، وكثيرٌ من مشاكله تحلّ على حسابنا، وبعض حساباته المعقّدة تجري تصفيتها في ساحاتنا، يلهو بعضنا وغيرنا بالدماء ويعبث بالعقول ولا يرعوي عن استباحة الأرض والبحر والجوّ والتراث والمقدّسات، يحاول أن ينهش المقدّرات ويتقاسم الثروات ما أمكن. كلّ هذا يحصل يوميًا ويتراكم ويتزايد كمًّا وكيفًا، والكلمة الحكيمة المصوّبة الهادفة خافتةٌ باهتةٌ مكبوتةٌ أو مخنوقةٌ، أو تسير بخفاء، وتمشي على استحياء. وهنا يبرز التساؤل: أليس العقل الجمعيّ مغيبًا مع كلمته عن ساحة التأثير، منشغلًا بالجزئيات، منقلبًا على نفسه، منطويًا على قضايا هامشيةٍ وبعضها قد تكون تافهةً تشلّ قوة تأثيره وتمنعه من المساءلة والمحاسبة والنقد واللوم؟ قرنان من الزمن أو يزيد، ولا يزال الخطاب يدور حول سؤال النهضة والتجديد ويبحث في أمل الوحدة ومنطق التوحيد، ونجد مشاريع عديدةً وأطروحاتٍ ومناهج متباينةً، والنتيجة تبدو محيّرة. فالواقع له جوابٌ آخر، جوابٌ ملغزٌ محير مستفز للجميع.
إن هذا الواقع يريد جوابًا آخر، جوابًا يتضمن جدل السؤال، جدلًا إيجابيًا متفوقًا متعمقًا حتى الجذور موسوعيًا وواسعًا، حركيًا سباقًا، مستقيمًا ماضيًا نحو الآفاق والهدف المنشود. إنه يريد جدلًا ليس من "ذهبٍ ولا من فضةٍ"، ولكن يحمل دلالاتٍ ذات صبغةٍ "ألماسيةٍ" جديرةً بأن تحول المعالم إلى مشروع والآمال إلى حقيقة، والأماني إلى وقائع. إنه جدلٌ ذو دهاءٍ وذكاءٍ يحمل القضية حملًا كفوءًا، ويستطيع أن يقلب المعادلة القائمة وينصب معادلةً جديدةً تخرج الواقع من عهود الظلم والظلام والظلامية والتخلف إلى عهود العدالة والنهضة والتنوير التي طال انتظارها لدى الجماهير المتلهفة لذلك اليوم المشرق الواعد الجميل.
ولا بدّ هنا من كلمة فصلٍ وصيحة عقلٍ، وصحوة عملٍ وصرخة أملٍ، تحمل توازناتٍ دقيقةً بين ثنائيات الماضي والمستقبل، بما يحوّل جدلياتها السلبية واحتراقاتها الذاتية إلى جدل إيجابية وبناء. وهو ما يجعل علم الكلام الجديد يحمل رؤيةً حداثويةً تؤكد على قيم العصر مثل العقلانية والإنسانية والتنمية، وتنسج شبكتها الخفية من خيوط المحبة والتكريم والتعارف والإحسان..
وهذا ما يمكن أن يحوّل الحدود الملتهبة بين دول المنطقة وشعوبها إلى موصلاتٍ حضاريةً، ويوجّه أعمال المضاربة الورقية إلى قوة اقتصاد عملانية، ويجعل من القفار واحاتٍ عامرةً، ومن ساحات التجمعات غير المجدية إلى مكتباتٍ ومراكز بحثٍ واسعةً، ومشاريع صناعةٍ وأسواقٍ تعجّ بالحيوية والنشاط في البيئات والأوساط المتخلفة والمتناحرة، فيبعث الأمل في نفوس الجماهير الحائرة المقهورة ويطمئنها إلى أن إرادتها في الحياة مشروعة وحريتها قريبةٌ من التحقّق وكرامتها في طريق الاسترداد، ومقدّراتها محفوظةٌ وبمنأى عن أيدي التسلّط والاحتلال والابتزاز والعبث، وهذه الأيدي في طريقها إلى التراجع والانحسار.
وهذا ما يجعل من علم الكلام الجديد يظهر بطرازٍ فريد وأثرٍ واقعيٍّ غنيٍّ ومفيد.
نعم، لقد كانت العلوم الإسلامية -ولا تزال- مصدرًا مهمًّا من مصادر المعرفة في البلاد العربية والمشرقية بشكلٍ عامّ، ويعود لها الفضل في ازدهار الحضارة الإنسانية لقرونٍ عديدةٍ، ولا تزال تقوم بدور تثوير المعارف وإغنائها في مجالاتٍ واسعةٍ بين النخب والعامّة، إذ تحتلّ الكتب الإسلامية رفوف المكتبات العامّة والخاصّة في معظم دور العلم والجامعات والمعارض والأماكن العامّة والخاصة. يقول غوستاف لوبون في كتابه الشهير حضارة العرب كلامًا مهمًا جدًا، ربما يجدر تأمّله مليًا، وفيه:
"كلما أمعنا في درس حضارة العرب وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم ظهرت لنا حقائق جديدةٌ وآفاقٌ واسعة. وأنهم هم الذين مدنوا أوروبا مادةً وعقلًا وأخلاقًا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقتٍ قصير. وأنه لم يَفُقْهم قوم في الإبداع الفني… وتأثير العرب في الغرب عظيمٌ جدًّا، وهو في الشرق أشدّ وأقوى… ولم تزل حضارتهم وديانتهم ولغتهم وفنونهم وشريعتهم حيةً، وأينما حلّت ثبتت أصولها. إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا.. إن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرونٍ موردًا علميًا سوى مؤلفاتهم… إن أوروبا مَدينة للعرب بحضارتها.. وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.. وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموه التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان.. ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيرًا من أخلاق أمم الأرض قاطبةً. ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب إلا بتصوّر حال أوروبا حينما أدخلوا الحضارة إليها، إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميلاد، حين كانت الحضارة الإسلامية في إسبانيا ساطعة جدًا، في الشرق والغرب، فهُما مدينان لهم في تمدّنًهم، وإن هذا التأثير خاص بهم وحدهم: فهم الذين هذّبوا بتأثيرهم الخُلُقي البرابرة، وفتحوا لأوروبا ما كانت تجهله من عالَم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا مُمَـدٍّنين لنا وأئمةً لنا ستة قرون، فقد ظلّت ترجمات كتب العرب ولاسيما الكتب العلمية مصدرًا وحيدًا للتدريس في جامعات أوروبا خمسة أو ستة قرون، فعَلى العالم أن يعترف للعرب والمسلمين بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة" .
وبعدما تراجع الدور الرياديّ والإشعاعيّ لبلادنا حاليًا، فقد أخذ اللغط الكبير يترافق حول تعدّد الطروحات المستقاة من هذه العلوم، إضافةً إلى حصول تبايناتٍ إلى حدّ التعارض والتضارب. وهذا ما جعل الكثيرين يصابون بشيءٍ من الصدمة والذهول والانكماش، بالرغم من الجاذبية العالية والاهتمام الخاصّ الذي توليه الجماهير لها. لذلك كنا ولا نزال نسمع عن ضرورة انبثاق الطرح الفكريّ أو المشروع الحضاريّ فيعلن عن مجموعةٍ من المفاهيم المتقدّمة التي تحتوي هذه التباينات وتسعى لضبط المعايير من أعماق الجذور، حيث المبادئ والأصول، وصولًا إلى أعلى قمّة الهرم، حيث التطبيقات والفروع، في مختلف جوانب الحياة.
الإلماعة الرابعة: منهج القرآن الكريم في التوحيد والكلام- ملازمة التنزيه والإثبات في الذات والصفات..
لما كان علم الكلام هو أصل الأصول وأمّ العلوم الدينية منها تستمدّ حيويتها وتصوب مسارها وتنزهها من الآفات والانحرافات والشطط والاختلالات والدعاوى والجهالات الظاهرة أو الخفية، كان من الأهمية بمكان تدقيق هذه الأصول ومراجعة منطلقاتها مع الأصول لتكون على أرضيةٍ ثابتةٍ من الحكمة والمنطق والسداد فيستقرّ ما يأتي فوقها من علوم وما يشيد عليها من مبانٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وحياتية. لذا أخذ الباحثون في علم الكلام الجديد يركزون على مفهوم الوسطية في مباحث الاعتقاد، كونه أسّ أسس منهج الدين القويم، ومعيار متانتها وسدادها، وأخذوا يفرّعون عليه أصولًا، مثل: الوسطية في الذات والصفات بين الإثبات والتنزيه، الوسطية في التخيير والتسيير، الوسطية في الإيمان والعمل، الوسطية بين الروحانية والمادية، الجمع بين الأصالة والمعاصرة.. على مبدأ رفض الغلوّ واجتناب الميل بين المتقابلات، فالغلوّ في العقيدة كالغلوّ في الشريعة، لاشتراكهما في مفهوم الدين، والخارج عن الوسطية خارجٌ عن تاريخ البقاء، لأن البقاء للأوسط والأكثر عقلانيةً وحكمةً وتوازنًا .
ويتميز التصور الديني للإله في علم الكلام الإسلاميّ كل التمايز عن أنواع الوجود الأخرى، وتخلصت عقيدة الألوهية من كل خلطٍ أو توهم لما يعلق بها من تشبيه بالطبيعة أو أي مستوى من مستويات الوجود، كالروح المطلق اللامتناهي، كما عند هيجل مثلًا، بوصفه إلهًا متعاليًا خالقًا، وليس مجرد روحٍ كليةٍ مطلقةٍ كامنةٍ تتجلى في الوعي الإنساني والكون، وتتطور فيهما بطريقةٍ ديالكتيكية.
فالله هو الأكبر "من كل ما هو طبيعيٌّ أو إنسانيٌّ أو حيوانيٌّ.. لا يملّ المؤمن من تسبيحه في كلّ صلاة، وينزهه عن كل ما لا يليق به، تارةً بقوله في الركوع: سبحان ربي العظيم، وتارةً في السجود بقوله: (سبحان ربي الأعلى)" . وذلك ما يحدث تمكينًا في ذهنه إلى أنه متعالٍ على كلّ حيزٍ، بعيدٌ عن تصورات الحلول ومقارباتها. ومع ذلك فقد نفخ من روحه في الإنسانية على أنه خالق الحياة، وواهبها، ومكرمها، بعيدًا عن الغرق أو التماهي أو الوحدة الاندماجية .
ولما كانت نشأت منذ قرونٍ عديدةٍ خلافاتٌ حادةٌ في مسائل الذات والصفات، خاصةً بين المنحى العقلي الذي يتخذ نهج التنزيه، وبين المنحى النقليّ الذي يتخذ نهج الإثبات، وأرخى هذا الخلاف بظلالٍ ثقيلةٍ على النخب الثقافية في مختلف العصور والبقاع، وصولًا إلى عصرنا، وأودى بكثيرٍ من الجهود وسبب الكثير من هدر الطاقات والقيم الاجتماعية والأخلاقية، ولا شك بأنه وقف عائقًا خطيرًا أمام جهود المصلحين، وقد يكون عصرنا أشد تأثرًا بهذه النتائج الرديئة، نظرًا لضخامة التحديات التي تواجه أهل الشرق خاصةً والبشرية عامة…
أمام هذا الواقع المعرفيّ كان لا بدّ من إطلاق فكرة المنهج القرآنيّ الجامع، الذي يقوم على الوسطية الدقيقة بين المنحى العقلي والمنحى النقلي، أي بين منهج الإثبات ومنهج التنزيه، على أنهما مندمجان اندماجًا بنيويًا كاملًا لا مجال فيه للانفكاك، فكلاهما منهجٌ قرآنيٌّ بهذا الاعتبار، ويخرجان عن صفة القرآنية كلما ذهب التوجّه إلى الاستقلالية والانعزال . وقد نهجت القرون الأولى هذا المنهج الوسطي، عن وعيٍ وحذرٍ ودقةٍ وانتباه.
وقد نشأنا في هذا العصر على شهود خصومةٍ حادّةٍ بين تيارين عظيمين في عالمنا العربي والإسلامي، يشكلان السواد الأعظم منها، أحدهما ينتصر لمنهج الإثبات في ذات الله وصفاته، ويحاول فرض رأيه على الجميع، والآخر ينتصر لمنهج التنزيه ويحاول بدوره فرض رأيه على الجميع. ومع أن الفريقين يتعايشان يوميًا في الواقع الضيق أو الواسع، ويتبادلان نفس المبادئ، ويعتنقان ذات التوجه في الأصول والمعتقدات، إلا أن هذا التباين في مسألة التركيز على التنزيه أو الإثبات قد أحدث شرخًا كبيرًا ولا يزال على مختلف الأصعدة والمستويات. فضاعت المصالح الكبرى، وتفرق ما من شأنه أن يتجمع، وانعكس ذلك سلبًا على مستوياتٍ عديدةٍ، بدءًا من تشتيت الأذهان. فلا بدّ والحالة هذه من التصدي العاجل لعلاج هذه الثغرة، ومعالجة هذه القضية معالجةً قرآنية ونبويةً بحتة من خلال عودةٍ عقلانيةٍ واعيةٍ إلى الجذور. ومن هنا يمكن إطلاق المقولة التالية: *لا إثبات بلا تنزيه، ولا تنزيه بلا إثبات. ويمكن أن ندلل عليها بالتالي:
إننا نلمح في النصوص خيطًا دقيقًا واضحًا لا لبس فيه ولا غموض. وهو خط التوازي المتلازم بين عامودي التنزيه والإثبات. فلا نكاد نجد في القرآن أو السنة الصحيحة قولة إثباتٍ إلا وبجانبها أو معها قولة تنزيهٍ، والعكس صحيح. فمثلًا:
في آية الكرسي نجد التالي:
إثبات تنزيه
الله لا إله إلا هو
الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم
له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء
وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما
وهو العلي العظيم.
خمس مقولات إثباتٍ، بموازاة مقولات تنزيهٍ، مع ختمها بمقولةٍ جامعةٍ لهما، في صفتي العلوّ والعظمة، وهي صفات تنزيه وإثباتٍ في الوقت عينه. ومثل ذلك يمكن أن نلحظ خمس صفات إثباتٍ في سورة الفاتحة، بموازاة خمس صفات تنزيهٍ في أختها في التوحيد وعلى الألسنة، أي سورة الإخلاص، التي تعدل ثلث القرآن. فهناك في مطلع سورة الفاتحة خمس صفات إثباتٍ وتعظيم، مقابل خمس صفات تنزيهٍ وإجلالٍ في سورة الإخلاص، يمكن أن نقابلها كالتالي:
إثبات تنزيه
الحمد لله قل هو الله أحد
رب العالمين الله الصمد
الرحمن لم يلد
الرحيم ولم يولد
مالك يوم الدين ولم يكن له كفوًا أحد
وينبغي هنا ملاحظة التوازي المستمرّ بين هاتين السورتين المباركتين، كي تستقيم ملاحظة هذه مسألة المنهج القويم في مسألة التوحيد، أي منهج القرآن الكريم. وقد درج علماء العقيدة المعتبرين على اعتماد هذا المبدأ وملاحظته في الآية الكريمة من سورة الشورى، وهو قوله سبحانه: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) . ليس كمثله شيء (تنزيه)، وهو السميع البصير (إثبات).
ولعلنا لو تتبعنا آي القرآن كلها لوجدنا تناظرًا بديعًا عجيبًا في هذا المنهج الفريد، الذي لا شطط فيه ولا قصور، بل فيه التوسط والاعتدال وإصابة الحكمة وعين الحقيقة. فلا تكاد تجد وصفًا كماليًا إلهيًا تنزيهيًا بديعًا تحار فيه العقول إلا وتجد قريبًا منه وصفًا كماليًا إثباتيًا تقريبيًا تأنس له الأفهام. لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولنأخذ مثلًا من السنة أيضًا، فمن أهم أذكار الصلاة في الصباح والمساء القول المبارك التالي: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت…"
ويمكن أن نقابل بين جملها بالتالي:
إثبات تنزيه
لا إله إلا الله له الملك
وحده وله الحمد
لا شريك له يحيي ويميت وهو حي
لا يموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير.
وهكذا يمكن أن نلحظ خيوط هذا المنهج في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الباحثين المعاصرين يأتون بشواهد على أن كبار المتكلمين والفلاسفة والصوفية قد فطنوا لقانون الجمع بين الطريقتين أو المرحلتين، كالآمدي في غاية المرام والأبكار والماتريدي والغزالي وابن رشد في مناهج الأدلة . فقد لاحظوا هذا التوازي وطبقوه عمليًا في مناهجهم المعرفية، وأقوالهم المأثورة. ونأخذ مثلًا على ذلك ما ورد أن الغزالي سأله الزمخشريّ عن قضية المتشابهات ومنها الاستواء على العرش، وآية الرحمن على العرش استوى، فقال له:
"إذا استحال أن تعرف نفسك بكيفيةٍ أو أينيةٍ فكيف يليق بعبوديتك أن تصفه بأينٍ أو بكيف وهو مقدسٌ عن ذلك؟ ثم ارتجل شعرًا هذه المقولة اللطيفة:
– قلْ لمن يفهمُ عني ما أقولُ … قصّر القول فذا شرحٌ يطولْ
– ثَمَّ سرٌ غامضٌ من دونِه … قصرت والله أعناقُ الفحولْ
– أنتَ لا تعرفُ إِياكَ ولا … تدرِ من أنتَ ولا كيفَ الوصولْ
– لا ولا تدري صفاتٍ ركبَتْ … فيكَ حارَتْ في خفاياها العقولْ
– أينَ منكَ الروحُ في جوهرِها … هل تراها أو ترى كيفَ تجولْ؟
– وكذا الأنفاس هل تحصرها … لا ولا تدري متى عنك تزول
– أين منك العقل والفهم إذا … غلب النوم فقل يا جهول؟
– أنتَ أكلَ الخبزِ لا تعرفُه … كيفَ يجري فيكَ أم كيفَ يَحولْ
– فإِذا كانتْ طواياكَ التي … بين جنبيْكَ بها أنت جهولْ
– كيفَ تدري من على العرشِ استوى … لا تقلْ كيفَ استوى كيفَ الوصولْ
– فهو لا كيفٌ ولا أينٌ لهُ … وهوَ ربُّ الكيفِ والكيفُ يجولْ
– وهو فوق الفوقِ لا فوقٌ له … وهوَ في كلِّ النواحي لا يزولْ
– جلَّ ذاتًا وصفاتٍ وسما … وتعالى قدره عما تقولْ" .
فنلاحظ أن الغزالي وجّه ذهن السائل إلى أن يراعي جانب التنزيه والتعظيم، ولكنه وازى هذا الجانب وداخله بجانب الإثبات من خلال المقارنة بالذات الإنسانية، وركّز على تأمل الحركات والسكنات والأنفاس والصفات والأحوال من نومٍ وموتٍ وشربٍ وغير ذلك. وهذا ما جعل الكلام موزونًا مقبولًا مطروقًا للأسماع ملامسًا للأفهام. إلا أننا لا بدّ وأن نلحظ خللًا ما في تطبيق هذا الجمع مع تطاول الزمان، بالرغم من تفطّن المحققين إلى تشابكها في القرآن والسنة. ولولا ذلك الخلل لما شهدنا كلّ هذا التخبّط والاختلال في موضوع التوحيد تحديدًا وعلاقته بالذات والصفات.
ولعلنا نلحظ أن العلم الحديث قد أمدّ علم الكلام برافدٍ مهمٍّ من جوانب المعرفة الإلهية، وتجاوز مسألة الشرخ بين الاتجاهين. ولذا وجدنا العديد من الأعلام المعتبرين يهتمّون بالكشف عن معطيات العلم الحديث في جوانب الحياة المختلفة من الكون والإنسان، بدل الخوض في مسائل دقيقةٍ تكلّ الأذهان وتسير على درب الحيطة والحذر.
وهذا يقودنا إلى حقيقةٍ مهمة، وهي أن التركيز على جانبٍ من الأصلين الكبيرين لا بدّ وأن يكون على حساب الآخر، مهما بدا غير ذلك، ولا بدّ أن يدفع إلى تطرفٍ موازٍ له، مختلفٍ في الاتجاه، مكافئٍ في القوة، وهذا ما يؤدي إلى مزيدٍ من التموضع في الأطراف على حساب الكلّ الجامع، والمنهج الواحد الموحد، والصراط القويم الواسع، لحساب المناهج المتعدّدة والمتفرقة المشتتة، والطرق المتشعبة المتناحرة الضيقة، التي تنتقل من صراع الفكر إلى صراعات الواقع. ثم تسمح للتدخلات الخارجية أن توسّع الهوة، وتنشب أظفار المصالح وتمزق الكيان الواحد وتستنفد كل الطاقات والقوى، وتبدّدها باستمرارٍ وتسعى للحفاظ على هذه التطرفات المتقابلة والمتباعدة يومًا بعد يوم، لتكريس هيمنة الخارج واستئصال شأفة مكامن القوة الحيّة في الداخل.
خاتمة
بذل السابقون جهودًا جبارةً في النهوض بالعلم وإنتاج المعرفة، وانتشرت علومهم في آفاق العالم حولهم، وشكلت مدارسهم مناراتٍ وملاذاتٍ من الجهل والتعصب. وقد وصف بعضها بمدرسة التفويض في مرحلة القرون الخمسة الأولى، ووصف الآخر بمدرسة التأويل فيما بعد تلاها من القرون. وقيل في التمايز بين المدرستين والمنهجين: "التفويض أسلم، والتأويل أحكم" . وكانت الناس في الغالب في عصورهم تحصر الخلاف في عالم الفكر، وتضبطه من أن ينتقل إلى دوائر الانقسام وحالات الخصام والعداء كما نشهده في عصرنا. من هنا وجدنا أن عصرنا ينبغي أن يتجاوز تلك المرحلتين إلى ما هو جامعٌ مشتركٌ بينهما، فيما يمكن تسميته بمرحلة الجمع بين التفويض والتأويل، أو بين السلف والخلف، ومن ثم بين أصحاب التوجه العقلي في فهم النص الديني وبين التوجه النقلي، على درب البناء الحضاري العامّ في بلادنا والعالم. ويمكن أن يقال في هذه النظرية مقولة: "التفويض أسلم والتأويل أحكم، والجمع بينهما أقوم وأعلم" أي بحاجةٍ إلى مزيد علمٍ وتدقيقٍ ونظر.
ومن الأهمية بمكانٍ في هذه المرحلة الزمنية الدقيقة العمل على نزع فتيل النزاع والصراع بين المدارس والمذاهب الفكرية التي وصلت إلينا، وتحويل البحث في ثناياها إلى متعةٍ والنظر في كتبها إلى روضةٍ، وتثوير العلم المكنوز فيها من خلال ورش عمل، ونقل العمل إلى منافع مشتركةٍ للخاصّة والعامة، مع ضبطه بأصول الأخلاق، ومنطق البناء، وسياق التواصل الإنسانيّ والتعارف الحضاريّ، بدل الانجرار وراء الخصومات والأهواء، أو الانزلاق إلى المصالح الآنية الضيقة المفرقة لشمل الأسر والجماعات والأقوام. ولا ريب أن منطق تحويل النظر إلى عملٍ ينبغي أن يتوسع وينسحب على مختلف المدارس والمذاهب والطوائف، بعيدًا عن الجدل السلبيّ. وهنا نستحضر مقولة الأوزاعي إمام الشام في العصور الزاهية الماضية كما وردت في سير أعلام النبلاء: "قَالَ الوَلِيْدُ بنُ مَزْيَدٍ: سَمِعْتُ الأَوْزَاعِيَّ يَقُوْلُ: إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ شَرًّا، فَتَحَ عَلَيْهِمُ الجَدَلَ، وَمَنَعهُمُ العَمَلَ" . وقريبٌ منها مقولة أحد أئمة الزهد في تلك العصور معروف الكرخي وفيها: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا فتح الله عليه باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد بعبدٍ شرًا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل" . وبالطبع فالجدل هنا جدلٌ سلبيٌّ عقيمٌ، مقرونٌ بالكراهية والتحيز ومشحونٌ بالتحيّز المدمر والتعصّب الذميم والتطرّف المقيت.
ولما كانت أيديولوجيا البراغماتية أحد أهمّ سمات الدول الأكثر تقدّمًا في العصر الراهن، حيث مكّنت أهلها من سيادة القانون، وفرض هيمنتها على بلادنا، كان علينا الانكباب على وصل الجدل بالعمل والفكر بالواقع والمادّة بالروح والمستقبل بالماضي والأرض بالسماء. فالحضارة الغربية محكومةٌ كغيرها بقانون التعاقب والأفول، والاندماج في الوحدة والتعايش والتعارف والتكامل الحضاريّ، كما دعت إليه رسالة السماء، وكما يجزم به رواد الفكر الحضاري المعاصر، مثل أرنولد توينبي وروجيه جارودي ومحمد خاتمي وخالد محمد خالد وألبرت أشفيتزر وغيرهم الكثير الكثير . والعالم حولنا ينادي بالتوحّد في نطاق الأخوة الإنسانية والمعرفة والأخلاق، ويدعو إلى مواجهة المخاطر المتزايدة المحدقة بالبشريّة جمعاء. فنحن أحوج ما نكون إلى اعتماد خطابٍ عمليٍّ توحيديٍّ إيجابيٍّ يسهم في تمتين لبناتٍ داخليةٍ صلبةٍ على مستوى أوطاننا المشرقية وبلدنا الصغير- لبنان، الذي يوصف بأنه بلد الرسالات خاصةً، كما ويكون خطابًا إنسانيًا يعمّ بنفعه البشرية جمعاء.
بهذه اللمحات والإلماعات، نرى أننا سعينا لفتح الطريق أمام علم كلامٍ قرآنيٍّ معاصرٍ مع وضع ملامح منهجٍ جديدٍ في التوحيد، عسى يكون مبدءًا لجهودٍ أخرى، تتبين فيها معالم هذا المنهج الجامع، وتفتح أبواب الأمل بغدٍ مشرقٍ تتزين فيه رياض كلام العلم الأنيقة، في رحاب علم كلامٍ مفيدٍ يدور بين الدين والحياة، وبين المعرفة والتطبيق، وبين التأصيل والتجديد، وبين الوحدة والتوحيد.