114
أصدر في خريف العام 2013 كتاباً بعنوان لافت «شريعة المفاسد – الاجتهاد الغائب عن فضاء النص الديني»، فبدأ كمن يغرد خارج سرب السائد في النشر حالياً. هو الباحث معمر عطوي، صديق "تحولات" وأحد أقلامها، حاورته عن كتابه، الحوافز والخلفيات، الأسباب التي دفعته لاقتحام نقد النص الديني وتوظيفه الجمعي السياسي الأيديولوجي الراهن بخاصة، وكيف النفاذ منه إلى جميعة عقلية منتجة وبناءة.
1- بداية، من هو معمر عطوي، وماذا تمثل الكتابة بالنسبة إليك.
· معمر عطوي إنسان عادي يسعى دائماً لأن يكون مثالياً من دون أن يخرج عن حيز الواقع. الكتابة هي المُتنفس الذي من خلاله أشعر أن ثمة شيئاً على هذه الأرض يستحق الحياة. الكتابة بالنسبة لي اسلوب تغيير ونمط مشاغبة على كل خطأ، على الأقل ما أظنه أنا خطأ. الكتابة بالنسبة لي نضال في مواجهة التخلف والرجعية والفساد والعدو الذي يسلب وطني، وربما هي السلاح الذي سيقتلني أخيراً لا أعرف ماذا يُخبّأ لي.
2— هل لديك طقوس خاصة أثناء الكتابة؟
· لا أؤمن بطقوس ولا ألتزم بأي شيء يجعلني مدمناً عليه. حتى الدين حين شعرت ببعده التخديري واستلابه للعقل طردته من كينونتي. أكتب حين أشعر أن في رأسي فكرة ينبغي أن أكتبها. وأحياناً أكتب مُجبراً بحكم عملي الصحافي، خصوصاً بالنسبة للمقالات السياسية الآنية التي تُطلَب مني في المؤسسة التي أعمل فيها، أو الصحف التي أكتب معها بنظام القطعة. كذلك المقال الأسبوعي الذي اكتبه كل يوم اثنين في موقع "برس نت". ربما أحب أحياناً أن أسمع مقطوعات موسيقية كلاسيكية أثنائي قيامي بالكتابة، لكن كما قلت لك لست مدمناً على أي طقوس.
3- أصدرت مؤخراً كتاباً يحمل عنوان «شريعة المفاسد- الاجتهاد الغائب عن فضاء النص الديني»، ما الذي أردت قوله وإيصاله من خلال هذا الكتاب؟
· الكتاب هو حصيلة تجربة شخصية مع الإسلام السياسي بمذهبيه السني والشيعي. لقد عايشت الملتزمين دينياً ردحاً طويلاً من الزمن، وكنت جزءاً من نسيجهم فعرفتهم من الداخل خير معرفة؛ كيف يفكّرون، كيف يعيشون، شخصياتهم المتناقضة بين ما يرغبون به وما يحرمون أنفسهم منه، وفي بعض الحالات شخصياتهم الانفصامية والفارق بين تنظيراتهم المثالية وممارساتهم المنفّرة. لكن المحطة الأساسية في حياتي هي توجهي لدراسة الفلسفة، وفي الحقيقة أردت دراسة هذا الاختصاص لا من منطلق ترف فكري ولا تمهيداً للحصول على شهادة تخولني إيجاد عمل أرتزق منه. الفلسفة شكلت لي اسلوب تفكير مختلف عن الأسلوب الأصولي، وضعت لي "سيستاماً" منطقياً للتفكير والتحليل. كانت قاعدتي الأساسية أن العقل هو الحكَم. وبحكم إطلاعي على مقاصد الشريعة الإسلامية والفقه السني والجعفري، توصلت الى ضرورة الاستفادة من النص بما يملكه من تأثير كتراث يؤمن به مئات الملايين، علّه يوظّف لمصلحة الإنسان. وكانت القاعدة الأساسية التي بدأت منها هي قاعدة شرعية تقول إن جوهر الدين هو جلب المصلحة ودرء المفسدة. ووفقاً لهذه المعادلة وجدت الكثير من المفاسد التي يجلبها لنا فقهاء الدين. وأردت القول إن في الدين أخلاقيات وقيماً هي أهم من العقائد الجامدة، فلنستفد من هذه الأخلاقيات لنقرّب المسافات بين الناس بقطع النظر عما يؤمنون به في قلوبهم وما يمارسونه من شعائر.
فالعقيدة بالنسبة لي هي أسّ المشكلة بحكم أنها تعني الجمود والتقوقع وبالتالي إقصاء الآخر "المختلف". وحين أتحدث عن جمود عقائدي ودوغما الآيديولوجيا فإنني لا أستبعد العلمانيين والقوميين الذي يشابهون الإسلاميين في تحجرهم وتقوقعهم على ذاتهم.
من هنا أردت من كتابي هذا أن اقول للمؤمنين بالنص الديني تعالوا لنستفد منه؛ ليس لمصلحة جماعة من الناس، إنما لجميع البشر.
انطلاقاً من مقولة الإمام علي أو ما يُنقل عنه إن "القرآن حمّال أوجه" يجد المرء في النص الديني مسوغاته في أي اتجاه ذهب؛ إذا أراد تكفير الآخرين وقتالهم باسم الجهاد فسيجد مسوغه في التراث الديني ومصادر التشريع، كذلك اذا أراد الصلح حتى مع الظالمين أو حتى دعمهم فسيجد مسوغاً في القرآن أو السنة النبوية. أنا اقول في كتابي لنفكّر في كل ما نقرأ ولندع التلقي من رجل الدين أو المؤسسات والأحزاب الدينية جانباً لأن التلقي والوثوقية المطلقة بأشخاص تجعل العقل في حالة جمود وغياب تام أحياناً.
4-اليوم أنت تطرح موضوعاً مهماً وعميقاً جداً وترى أن هناك مشكلة في العقل أو في فهم النص الديني –هل أتيت بما هو جديد حول فهم النص؟
· لم أقل إن هناك مشكلة في العقل، إنما هناك مشكلة في تغييب العقل لمصلحة الغيب والمقدسات والأساطير. هناك مشكلة في احتكار النص من مجموعة رجال دين يسمون أنفسهم "علماء"، ولا أدري ما الذي اخترعوه من علوم او معادلات فيزيائية وكيميائية حتى ينتحلون هذه الصفة. ربما لم أت بجديد سوى أني اريد لهذا النص أن يكون متاحاً أمام جميع الخلق كما أي نص آخر ديني أو غير ديني قد يحمل فائدة معرفية للبشرية. لكن أن تقول لي إن الفائدة مخصصة لجماعة معينة فاسمح لي بأن اتّهمك بأنك تكفيري، لأن التكفير ليس تهمة لهؤلاء المجرمين الذين يمارسون الإرهاب اليوم فقط، بل هي صفة كل إنسان يعتقد أنه من أهل الجنة وكل من لا يتبع مذهبه فهو من أهل النار. هناك جماعات تظن ان الكون خُلق لها وحدها وأن الحياة معلّقة ببضعة أشخاص "مقدّسين" لا تستوي الحياة من دون الولاء لهم.
5-الإجتهاد في الدين حق فردي أو حق جماعي؟ اتفق معك بصدد نسبية تلك الاجتهادات وإنما هي تأويلات متعددة قابلة للنظر والشك ولكن ما هو المقياس الموحد والمطلق من أجل التحرر من تلك الأنظمة المعرفية؟ وكيف التخلص من احتكارها؟
الاجتهاد حق لكل إنسان لديه ملكة فهم اللغة ووسيلة العقل. لكن أنا لا أريد تعقيد المسائل أكثر، ولا أريد التحدث عن مقايسس، أريد القول إن في الدين قيماً أخلاقية فلنستفد منها ولا أريد شيئاً آخر يتعلق بالبعد الميتافيزيقي من النص. لكن الاجتهاد بمفهومي هو أن أوظف علاقة الناس بهذا النص لمصلحة البنى العلائقية الإيجابية بين البشر القائمة على أساس التسامح والمحبة والصدق والمساواة التي تجعلنا نشعر أنّنا جميعاً نتنفس هواءً واحداً ونتنعم بطقس واحد ونعيش على أرض واحدة؛ فلماذا يميز بعضنا نفسه عن الآخر بسلوكيات ورموز دينية تفرّق بين البشر وتجعل الإنسانية ضيقة في حدود الجماعة؟ هذا ما قصدت فيه من فهم النص.
6- -ألم يعد الاجتهاد الديني إحدى أدوات فهم الدين؟
· للأسف الشديد، كل المذاهب تزعم أن لديها هامشاً من الاجتهاد وأنها تعمل بفقه المصالح وفقه الواقع. حتى السلفية التي تقول إن "لا اجتهاد مع وجود النص" وان "مصادر التشريع القرآن والسنة" فقط، تجدهم يجتهدون حين يرون مصلحة لجماعتهم في ذلك. مثلاً كانوا ضد الانتخابات وكانت المؤسسات السياسية بالنسبة لهم معاقل للكفار والعلمانيين، لكن حين رأوا أن الدخول في معترك السياسة يساعدهم على توسيع دائرتهم وتحقيق جزء أكبر من أهدافهم أصبحوا يجيزون الانتخابات. هم يفكرون دائماً بمصالحهم أكثر ومستعدون للتحالف مع الشيطان إذا كان ولي أمرهم ونعمتهم يريد ذلك، لكنهم غير مستعدين للاجتهاد لكشف وجه المرأة أو تطويل الثوب الى ما تحت الكاحل، أو السماح للنساء بقيادة السيارات. إيران اجازت العلاقة مع "الشيطان الأكبر" في سبيل مصالحها لكنها ليست مستعدة للاجتهاد في إعادة الحرية الشخصية للفتاة بأن تلبس حجاباً أو لا تلبس.
عن أي اجتهاد تتحدث؟ لا يزال الفقهاء يجتهدون في حدود معينة، مثل ذلك الشيخ الذي وجد مصلحته في تشريع نكاح الجهاد أو المسيار أو "زواج فرند" أو "المتعة" أو الزواج العرفي. كلها زواجات لا علاقة لها بالمشاعر ولا بالحب، انما بتلبية الغرائز فقط. ثمة فتاوى لمصالح الفقهاء أنفسهم أو لمصالح جماعاتهم السياسية ومؤسساتهم الاقتصادية. فما رأيك بمن يحرّم الموسيقى طوال ستين عاماً من حياته وفي الأخير يقول لمريديه أو مقلديه توصلت الى جواز سماع الموسيقى. ألا يُفترض أن يدفع لمقلّديه تعويضات على ما خسروه طوال تلك السنين بسبب ما فاتهم من قيم جمالية ومتعة في الحياة؟ أعطيك مثلاً آخر هناك تحريم للخمر مع ان فيه منافع للناس كما ورد في القرآن، وهناك تشريع للتدخين مع أنه بمجمله ضار وضرره لا يلحق بصاحبه بل بكل المحيطين به. ألا ينفع الاجتهاد هنا في تبيان مقاصد الشريعة من تحريم آفة أصبحت منتشرة وسط الصغار قبل الكبار عنيت النرجيلة والتي هي أخطر بكثير من الخمر؟
7-هل ترى المشكلة في الفرد «عقم التربية الدينية»، أو بالجماعات الدينية التي يتبعها الفرد.
· المشكلة بنيوية تبدأ من القاعدة وتنتهي بالهرم. لو أن كل شخص سواء كان متلقياً أو واعظاً أعمَلَ عقله ووضع الغيبيات جانباً، لكنها عنده بألف خير. "عقم التربية الدينية" هو مقال نشرته في هذه الصحيفة الغراء "الأخبار"، وهو جزء من محور في كتابي. التربية أمر جد مهم في هذا الموضوع. حين تغرس في ذهن طفلك أو تلميذك مفاهيمك وتعاليمك على أنها الحقيقة المُطلقة أنت تؤسس جيلاً كاملاً ينقاد كما الحصان الذي يضعون على جانبي عينيه حجاباً حتى لا يرى إلا في خط واحد.
أنت حر في نقل قناعاتك الى غيرك، وحر في طرح أفكارك مهما كانت بالية أو مؤسطرة أو رجعية، وعلى من تريد. لكن انت لست حراً في مصادرة عقل الآخر وتعليمه بأن ما تعطيه اياه هو المقدّس وهو سفينة النجاة، وممنوع عليه أن ينظر الى خلافه.
"أقدس" ما في الحياة، وأقول اقدس هنا بين مزدوجين، هو العقل، حين نشغّل هذا الكائن الثمين القيّم عندها نكون بشراً بحق. أما إذا صاردنا العقل وجعلنا نطاق وظائفه ضيقاً في حدود تعاليم النص ومفاهيم رجال الدين او المذهب أو الجماعة السياسية، فهنا يكون الإنسان "إمّعة ينعق مع كل ناعق" كما قال الرسول محمد. او هو عنزة في قطيع يقوده تيس.
انا كنت إسلامياً ملتزماً وكنت أسمع الموسيقى، وكنت اقرأ كارل ماركس وفريدريش أنجلز، وأنطون سعادة، وفي مرحلة لاحقة خلال دراستي في الجامعة قرأت محمد أركون ونصر حامد ابو زيد وسمير أمين ومحمود أمين العالم وحسين مروة، إضافة الى العديد من الفلاسفة والمفكرين.
8-هل «ثقافة الجماعة» قادرة على التخلص والتصدي لفتاوى المذهبية في وقتنا الحالي؟
* المشكلة أن ثقافة الجماعة – إذا صح وصفها بثقافة- هي رهن بهذه الفئات المخدرة بتعاليم رجال الدين والجماعات المذهبية ومن يعرف أهمية عقله هم قلة في مجتمعاتنا العربية للأسف. قد نحتاج الى ثورة لإعادة عمل العقل قبل ان نتحدث عن أي استبداد آخر لأن في داخل كل منا مستبداً.
نعم بالعودة إلى سؤالك الفرد هو الأساس لأن الجماعة ليس من مصلحتها أن تعطي حرية للفرد بأن يفكر كيفما يشاء حتى لا تخسر عضواً منها أو عنصراً منها. أما الفرد فهو المحور وهو أساس الوجود في الحياة. هذا الإنسان بعقله وإرادته وسرعة بديهته قادر على الخروج من تحت عباءة الجماعة إذا شعر أنها تسيء الى إنسانيته بمصادرة عقله وبتحويله الى إمّعة. لذلك أنا أميل الى نظام الفردانية، لأنها هي من يعطي للإنسان حافزاً كي ينطلق ويبدع ويغرّد في سماء الإنسانية، لا أن يبقى رقماً إضافياً في جماعة أيديولوجية يموت من أجلها ولا يقدّم للبشرية سوى ما يريده زعيمه أو حزبه أو أهل مذهبه، والذي يتبين في ما بعد أن إرادة الزعيم أو الجماعة ما هي سوى ارادة أطراف خارجية توظف هؤلاء المساكين – الأغبياء في لعبة أمم ليموتوا وتحت شعار مقدس كـ"شهداء" بسعر أرخص من الفجل على رقعة شطرنج أممية. حتى الجماعات العقلانية حين تجد ممولاً رجعياً متخلفاً قد تنحاز اليه لتستفيد من دعمه.
نحتاج الى ثورة لإعادة العقل الى حقلنا قبل أن نتحدث عن أي استبداد آخر لأن في داخل كل منا مستبد. الشهادة هنا من أجل الفكر أسمى من الموت من أجل زعيم أو مصالح اقليمية ودولية. لذلك أنا لا أمانع أن أكون شهيداً من أجل تحرير العقل وإعادته الى حقل التفكير والتطوير والنهضة في هذه الأمة وعلى صعيد العالم. مع أني اعتقد (بالإذن من الكاتب الراحل محمد الماغوط) أن تحرير فلسطين أضحى أسهل من تحرير العقل الديني.
9- عرفت أن لك "وقت ضائع"، أنت شاعر ولك دواوين شعرية مطبوعة؟
* في الحقيقة أنا لست شاعراً لكني كتبت العديد من النصوص التي اختلف اصدقائي في تصنيفها بين نثر وشعر او نصوص ادبية. ورغم تشجيع وتحفيز صديقي الشاعر نعيم تلحوق اكتفيت بطباعة 200 نسخة من مجموعتي الأدبية وأهديتها الى أصدقائي. وهي بعنوان "وقت ضائع" صدر عن دار النهضة العربية في بيروت.
الشعر بالنسبة لي هواء أتنفسه لا وظيفة أعيش منها أو صفة اجتذب الفتيات من خلالها. انا اكتب ما أشعر به بقطع النظر عن تصنيفه وفق مدارس الأدب. قد أكون كاتباً أو باحثاً أو إعلامياً لكني لست بشاعر.
1- بداية، من هو معمر عطوي، وماذا تمثل الكتابة بالنسبة إليك.
· معمر عطوي إنسان عادي يسعى دائماً لأن يكون مثالياً من دون أن يخرج عن حيز الواقع. الكتابة هي المُتنفس الذي من خلاله أشعر أن ثمة شيئاً على هذه الأرض يستحق الحياة. الكتابة بالنسبة لي اسلوب تغيير ونمط مشاغبة على كل خطأ، على الأقل ما أظنه أنا خطأ. الكتابة بالنسبة لي نضال في مواجهة التخلف والرجعية والفساد والعدو الذي يسلب وطني، وربما هي السلاح الذي سيقتلني أخيراً لا أعرف ماذا يُخبّأ لي.
2— هل لديك طقوس خاصة أثناء الكتابة؟
· لا أؤمن بطقوس ولا ألتزم بأي شيء يجعلني مدمناً عليه. حتى الدين حين شعرت ببعده التخديري واستلابه للعقل طردته من كينونتي. أكتب حين أشعر أن في رأسي فكرة ينبغي أن أكتبها. وأحياناً أكتب مُجبراً بحكم عملي الصحافي، خصوصاً بالنسبة للمقالات السياسية الآنية التي تُطلَب مني في المؤسسة التي أعمل فيها، أو الصحف التي أكتب معها بنظام القطعة. كذلك المقال الأسبوعي الذي اكتبه كل يوم اثنين في موقع "برس نت". ربما أحب أحياناً أن أسمع مقطوعات موسيقية كلاسيكية أثنائي قيامي بالكتابة، لكن كما قلت لك لست مدمناً على أي طقوس.
3- أصدرت مؤخراً كتاباً يحمل عنوان «شريعة المفاسد- الاجتهاد الغائب عن فضاء النص الديني»، ما الذي أردت قوله وإيصاله من خلال هذا الكتاب؟
· الكتاب هو حصيلة تجربة شخصية مع الإسلام السياسي بمذهبيه السني والشيعي. لقد عايشت الملتزمين دينياً ردحاً طويلاً من الزمن، وكنت جزءاً من نسيجهم فعرفتهم من الداخل خير معرفة؛ كيف يفكّرون، كيف يعيشون، شخصياتهم المتناقضة بين ما يرغبون به وما يحرمون أنفسهم منه، وفي بعض الحالات شخصياتهم الانفصامية والفارق بين تنظيراتهم المثالية وممارساتهم المنفّرة. لكن المحطة الأساسية في حياتي هي توجهي لدراسة الفلسفة، وفي الحقيقة أردت دراسة هذا الاختصاص لا من منطلق ترف فكري ولا تمهيداً للحصول على شهادة تخولني إيجاد عمل أرتزق منه. الفلسفة شكلت لي اسلوب تفكير مختلف عن الأسلوب الأصولي، وضعت لي "سيستاماً" منطقياً للتفكير والتحليل. كانت قاعدتي الأساسية أن العقل هو الحكَم. وبحكم إطلاعي على مقاصد الشريعة الإسلامية والفقه السني والجعفري، توصلت الى ضرورة الاستفادة من النص بما يملكه من تأثير كتراث يؤمن به مئات الملايين، علّه يوظّف لمصلحة الإنسان. وكانت القاعدة الأساسية التي بدأت منها هي قاعدة شرعية تقول إن جوهر الدين هو جلب المصلحة ودرء المفسدة. ووفقاً لهذه المعادلة وجدت الكثير من المفاسد التي يجلبها لنا فقهاء الدين. وأردت القول إن في الدين أخلاقيات وقيماً هي أهم من العقائد الجامدة، فلنستفد من هذه الأخلاقيات لنقرّب المسافات بين الناس بقطع النظر عما يؤمنون به في قلوبهم وما يمارسونه من شعائر.
فالعقيدة بالنسبة لي هي أسّ المشكلة بحكم أنها تعني الجمود والتقوقع وبالتالي إقصاء الآخر "المختلف". وحين أتحدث عن جمود عقائدي ودوغما الآيديولوجيا فإنني لا أستبعد العلمانيين والقوميين الذي يشابهون الإسلاميين في تحجرهم وتقوقعهم على ذاتهم.
من هنا أردت من كتابي هذا أن اقول للمؤمنين بالنص الديني تعالوا لنستفد منه؛ ليس لمصلحة جماعة من الناس، إنما لجميع البشر.
انطلاقاً من مقولة الإمام علي أو ما يُنقل عنه إن "القرآن حمّال أوجه" يجد المرء في النص الديني مسوغاته في أي اتجاه ذهب؛ إذا أراد تكفير الآخرين وقتالهم باسم الجهاد فسيجد مسوغه في التراث الديني ومصادر التشريع، كذلك اذا أراد الصلح حتى مع الظالمين أو حتى دعمهم فسيجد مسوغاً في القرآن أو السنة النبوية. أنا اقول في كتابي لنفكّر في كل ما نقرأ ولندع التلقي من رجل الدين أو المؤسسات والأحزاب الدينية جانباً لأن التلقي والوثوقية المطلقة بأشخاص تجعل العقل في حالة جمود وغياب تام أحياناً.
4-اليوم أنت تطرح موضوعاً مهماً وعميقاً جداً وترى أن هناك مشكلة في العقل أو في فهم النص الديني –هل أتيت بما هو جديد حول فهم النص؟
· لم أقل إن هناك مشكلة في العقل، إنما هناك مشكلة في تغييب العقل لمصلحة الغيب والمقدسات والأساطير. هناك مشكلة في احتكار النص من مجموعة رجال دين يسمون أنفسهم "علماء"، ولا أدري ما الذي اخترعوه من علوم او معادلات فيزيائية وكيميائية حتى ينتحلون هذه الصفة. ربما لم أت بجديد سوى أني اريد لهذا النص أن يكون متاحاً أمام جميع الخلق كما أي نص آخر ديني أو غير ديني قد يحمل فائدة معرفية للبشرية. لكن أن تقول لي إن الفائدة مخصصة لجماعة معينة فاسمح لي بأن اتّهمك بأنك تكفيري، لأن التكفير ليس تهمة لهؤلاء المجرمين الذين يمارسون الإرهاب اليوم فقط، بل هي صفة كل إنسان يعتقد أنه من أهل الجنة وكل من لا يتبع مذهبه فهو من أهل النار. هناك جماعات تظن ان الكون خُلق لها وحدها وأن الحياة معلّقة ببضعة أشخاص "مقدّسين" لا تستوي الحياة من دون الولاء لهم.
5-الإجتهاد في الدين حق فردي أو حق جماعي؟ اتفق معك بصدد نسبية تلك الاجتهادات وإنما هي تأويلات متعددة قابلة للنظر والشك ولكن ما هو المقياس الموحد والمطلق من أجل التحرر من تلك الأنظمة المعرفية؟ وكيف التخلص من احتكارها؟
الاجتهاد حق لكل إنسان لديه ملكة فهم اللغة ووسيلة العقل. لكن أنا لا أريد تعقيد المسائل أكثر، ولا أريد التحدث عن مقايسس، أريد القول إن في الدين قيماً أخلاقية فلنستفد منها ولا أريد شيئاً آخر يتعلق بالبعد الميتافيزيقي من النص. لكن الاجتهاد بمفهومي هو أن أوظف علاقة الناس بهذا النص لمصلحة البنى العلائقية الإيجابية بين البشر القائمة على أساس التسامح والمحبة والصدق والمساواة التي تجعلنا نشعر أنّنا جميعاً نتنفس هواءً واحداً ونتنعم بطقس واحد ونعيش على أرض واحدة؛ فلماذا يميز بعضنا نفسه عن الآخر بسلوكيات ورموز دينية تفرّق بين البشر وتجعل الإنسانية ضيقة في حدود الجماعة؟ هذا ما قصدت فيه من فهم النص.
6- -ألم يعد الاجتهاد الديني إحدى أدوات فهم الدين؟
· للأسف الشديد، كل المذاهب تزعم أن لديها هامشاً من الاجتهاد وأنها تعمل بفقه المصالح وفقه الواقع. حتى السلفية التي تقول إن "لا اجتهاد مع وجود النص" وان "مصادر التشريع القرآن والسنة" فقط، تجدهم يجتهدون حين يرون مصلحة لجماعتهم في ذلك. مثلاً كانوا ضد الانتخابات وكانت المؤسسات السياسية بالنسبة لهم معاقل للكفار والعلمانيين، لكن حين رأوا أن الدخول في معترك السياسة يساعدهم على توسيع دائرتهم وتحقيق جزء أكبر من أهدافهم أصبحوا يجيزون الانتخابات. هم يفكرون دائماً بمصالحهم أكثر ومستعدون للتحالف مع الشيطان إذا كان ولي أمرهم ونعمتهم يريد ذلك، لكنهم غير مستعدين للاجتهاد لكشف وجه المرأة أو تطويل الثوب الى ما تحت الكاحل، أو السماح للنساء بقيادة السيارات. إيران اجازت العلاقة مع "الشيطان الأكبر" في سبيل مصالحها لكنها ليست مستعدة للاجتهاد في إعادة الحرية الشخصية للفتاة بأن تلبس حجاباً أو لا تلبس.
عن أي اجتهاد تتحدث؟ لا يزال الفقهاء يجتهدون في حدود معينة، مثل ذلك الشيخ الذي وجد مصلحته في تشريع نكاح الجهاد أو المسيار أو "زواج فرند" أو "المتعة" أو الزواج العرفي. كلها زواجات لا علاقة لها بالمشاعر ولا بالحب، انما بتلبية الغرائز فقط. ثمة فتاوى لمصالح الفقهاء أنفسهم أو لمصالح جماعاتهم السياسية ومؤسساتهم الاقتصادية. فما رأيك بمن يحرّم الموسيقى طوال ستين عاماً من حياته وفي الأخير يقول لمريديه أو مقلديه توصلت الى جواز سماع الموسيقى. ألا يُفترض أن يدفع لمقلّديه تعويضات على ما خسروه طوال تلك السنين بسبب ما فاتهم من قيم جمالية ومتعة في الحياة؟ أعطيك مثلاً آخر هناك تحريم للخمر مع ان فيه منافع للناس كما ورد في القرآن، وهناك تشريع للتدخين مع أنه بمجمله ضار وضرره لا يلحق بصاحبه بل بكل المحيطين به. ألا ينفع الاجتهاد هنا في تبيان مقاصد الشريعة من تحريم آفة أصبحت منتشرة وسط الصغار قبل الكبار عنيت النرجيلة والتي هي أخطر بكثير من الخمر؟
7-هل ترى المشكلة في الفرد «عقم التربية الدينية»، أو بالجماعات الدينية التي يتبعها الفرد.
· المشكلة بنيوية تبدأ من القاعدة وتنتهي بالهرم. لو أن كل شخص سواء كان متلقياً أو واعظاً أعمَلَ عقله ووضع الغيبيات جانباً، لكنها عنده بألف خير. "عقم التربية الدينية" هو مقال نشرته في هذه الصحيفة الغراء "الأخبار"، وهو جزء من محور في كتابي. التربية أمر جد مهم في هذا الموضوع. حين تغرس في ذهن طفلك أو تلميذك مفاهيمك وتعاليمك على أنها الحقيقة المُطلقة أنت تؤسس جيلاً كاملاً ينقاد كما الحصان الذي يضعون على جانبي عينيه حجاباً حتى لا يرى إلا في خط واحد.
أنت حر في نقل قناعاتك الى غيرك، وحر في طرح أفكارك مهما كانت بالية أو مؤسطرة أو رجعية، وعلى من تريد. لكن انت لست حراً في مصادرة عقل الآخر وتعليمه بأن ما تعطيه اياه هو المقدّس وهو سفينة النجاة، وممنوع عليه أن ينظر الى خلافه.
"أقدس" ما في الحياة، وأقول اقدس هنا بين مزدوجين، هو العقل، حين نشغّل هذا الكائن الثمين القيّم عندها نكون بشراً بحق. أما إذا صاردنا العقل وجعلنا نطاق وظائفه ضيقاً في حدود تعاليم النص ومفاهيم رجال الدين او المذهب أو الجماعة السياسية، فهنا يكون الإنسان "إمّعة ينعق مع كل ناعق" كما قال الرسول محمد. او هو عنزة في قطيع يقوده تيس.
انا كنت إسلامياً ملتزماً وكنت أسمع الموسيقى، وكنت اقرأ كارل ماركس وفريدريش أنجلز، وأنطون سعادة، وفي مرحلة لاحقة خلال دراستي في الجامعة قرأت محمد أركون ونصر حامد ابو زيد وسمير أمين ومحمود أمين العالم وحسين مروة، إضافة الى العديد من الفلاسفة والمفكرين.
8-هل «ثقافة الجماعة» قادرة على التخلص والتصدي لفتاوى المذهبية في وقتنا الحالي؟
* المشكلة أن ثقافة الجماعة – إذا صح وصفها بثقافة- هي رهن بهذه الفئات المخدرة بتعاليم رجال الدين والجماعات المذهبية ومن يعرف أهمية عقله هم قلة في مجتمعاتنا العربية للأسف. قد نحتاج الى ثورة لإعادة عمل العقل قبل ان نتحدث عن أي استبداد آخر لأن في داخل كل منا مستبداً.
نعم بالعودة إلى سؤالك الفرد هو الأساس لأن الجماعة ليس من مصلحتها أن تعطي حرية للفرد بأن يفكر كيفما يشاء حتى لا تخسر عضواً منها أو عنصراً منها. أما الفرد فهو المحور وهو أساس الوجود في الحياة. هذا الإنسان بعقله وإرادته وسرعة بديهته قادر على الخروج من تحت عباءة الجماعة إذا شعر أنها تسيء الى إنسانيته بمصادرة عقله وبتحويله الى إمّعة. لذلك أنا أميل الى نظام الفردانية، لأنها هي من يعطي للإنسان حافزاً كي ينطلق ويبدع ويغرّد في سماء الإنسانية، لا أن يبقى رقماً إضافياً في جماعة أيديولوجية يموت من أجلها ولا يقدّم للبشرية سوى ما يريده زعيمه أو حزبه أو أهل مذهبه، والذي يتبين في ما بعد أن إرادة الزعيم أو الجماعة ما هي سوى ارادة أطراف خارجية توظف هؤلاء المساكين – الأغبياء في لعبة أمم ليموتوا وتحت شعار مقدس كـ"شهداء" بسعر أرخص من الفجل على رقعة شطرنج أممية. حتى الجماعات العقلانية حين تجد ممولاً رجعياً متخلفاً قد تنحاز اليه لتستفيد من دعمه.
نحتاج الى ثورة لإعادة العقل الى حقلنا قبل أن نتحدث عن أي استبداد آخر لأن في داخل كل منا مستبد. الشهادة هنا من أجل الفكر أسمى من الموت من أجل زعيم أو مصالح اقليمية ودولية. لذلك أنا لا أمانع أن أكون شهيداً من أجل تحرير العقل وإعادته الى حقل التفكير والتطوير والنهضة في هذه الأمة وعلى صعيد العالم. مع أني اعتقد (بالإذن من الكاتب الراحل محمد الماغوط) أن تحرير فلسطين أضحى أسهل من تحرير العقل الديني.
9- عرفت أن لك "وقت ضائع"، أنت شاعر ولك دواوين شعرية مطبوعة؟
* في الحقيقة أنا لست شاعراً لكني كتبت العديد من النصوص التي اختلف اصدقائي في تصنيفها بين نثر وشعر او نصوص ادبية. ورغم تشجيع وتحفيز صديقي الشاعر نعيم تلحوق اكتفيت بطباعة 200 نسخة من مجموعتي الأدبية وأهديتها الى أصدقائي. وهي بعنوان "وقت ضائع" صدر عن دار النهضة العربية في بيروت.
الشعر بالنسبة لي هواء أتنفسه لا وظيفة أعيش منها أو صفة اجتذب الفتيات من خلالها. انا اكتب ما أشعر به بقطع النظر عن تصنيفه وفق مدارس الأدب. قد أكون كاتباً أو باحثاً أو إعلامياً لكني لست بشاعر.