تطالع المتتبع للنتاجات الشعرية الحديثة نزعة حازت أهمية بالغة، ذلك أنها تحولت إلى نهج عام في اتجاهات الشعر الحديث وقد عرفت بالنزعة التموزية، أو نزعة الفداء والانبعاث.
"وهذه النزعة تجذرت حتى أصبحت مرتبطة عضوياً ببنيان القصيدة الحديثة، وعنصراً جوهرياً في تكوينها". كما أنها أثارت جدالاً طويلاً في الأوساط الثقافية، لاسيما في سياق تحديد الباعث على نشأة هذه النزعة، وتحديد جذورها الأصيلة، من هنا يقول الباحث الدكتور لؤي زيتوني في كتابه هذا "أخذت نزعة الفداء والانبعاث في الشعر الحديث تبرز بوصفها موضوعاً لدراسة جديدة وموضوعية، تحيط بكل جوانبها النظرية. وتضع التفاصيل المتعلقة بانطلاق هذه النزعة وأسبابها وأسسها في النصاب الحقيقي". وهذا ما حدا بالباحث إلى وضع رسالة تختص بهذا الموضوع تحت عنوان "شعر الفداء والانبعاث".
ولعل السبب الجوهري لاختياره موضوع الدراسة هذا، هو أنه يلقي الضوء على تواصل الخط الفكري التموزي في حياتنا المعاصرة، من خلال شعر الحداثة، هذا الخط الذي تمثل بعقيدة الخصب والانبعاث الراسخة في حضارات ما بين النهرين وبلاد كنعان السورية.
أما من الناحية الشخصية، فإن الاختيار نابع من قناعة الباحث بضرورة الفعل التموزي لبلوغ القيامة، ومن ناحية أخرى تحدّد هذه الدراسة الشعراء الذين تتناولهم، إذ شملت بعضاً من أبرز الممثلين للخط التموزي الذين نشطوا بشكل أساسي في مجلتي "شعر والآداب" وهم على التوالي حسب سنيّ ولادتهم: يوسف الخال، خليل حاوي، جبرا ابراهيم جبرا، بدر شاكر السياب، أدونيس، نذير العظمة، فؤاد رقعة، كمال خير بك وفايز خضور.
الحداثة ونزعة الفداء والانبعاث
شكلت عملية تفجير البنى الإيقاعية التقليدية في الشعر العربي في أواخر النصف الأول من القرن الماضي، ولادة عتيقة نتجت عن مرحلة الإرهاصات التي تحركت في اتجاهين: اتجاه تضمن سعياً حثيثاً لاستعادة مكانة الشعر العربي القديم وإرجاعه إلى سابق عهده، واتجاه عمل بشكل متواضع لتطوير الشعر العربي استثناءً إلى المذاهب الأدبية الحديثة التي نشأت في الغرب. وينقل المؤلف الباحث عن يوسف الخال قوله: "كان الشعر العربي قبل الخمسينيات استمراراً لعصر ذهبي لم يعد لائقاً انتهاك حرمته بالمضغ والاجترار، على الرغم من المحاولات التجديدية المغلفة بغلاف شفاف من النظرات والتجارب الرومانسية والبرناسية والرمزية".
ومن أسف أن يعني معظم الشعراء في الحركة الجديدة ونقادها بمظهرها الخارجي، حاسبين أن ميزتها الكبرى هي الخروج على الأوزان التقليدية، وباعتماد البيت الشعري ميزاناً موسيقياً أو باعتماد وزن داخلي. ولذلك يعلق بعض النقاد، وفي مقدمتهم إحسان عباس على هذا الموضوع فيزعمون أن الثورة التي قام بها الشاعر المعاصر، كانت على الشكل الشعري، أول الأمر، خطوة تمهيدية لم تغير كثيراً في طبيعة الشعر، وإن غيّرت بعض موضوعاته ومجالاته، ووسعت من حدوده لتقبل تيارات معاصرة مختلفة. وفي البيان التأسيسي لمجلة شعر الذي ألقاه يوسف الخال في دار الندوة تحت عنوان "مستقبل الشعر العربي" إذ يرى أن من الأسس التي يقوم عليها شعر طليعي، كما ينقله الباحث عنه: "تطوير الإيقاع الشعري العربي وصقله على ضوء المضامين الجديدة، فليس للأوزان التقليدية أية قداسة". يعني حسب رأي الدكتور لؤي زيتوني أن تحديث الشكل إنما يستهدف تمهيد الطريق أمام تحديث المضمون وجعله يفسح في المجال لبلوغ الحداثة الفكرية. "لأن نظام الشكل القديم في الشعر العربي يفرض قيوده على التعبير وعلى انطلاق الفكر كذلك، ولهذا فإن هذه المسيرة الشكلية لن تتأخر في أن تصبح لدى الرواد العراقيين. ولكن على نحو أخص وأوضح في أعمال تجمع شعر، مسيرة للفكر، ومقاومة للعالم، وكيفية في رؤيته وتمثله، كذلك وسيلة تهدمه وإعادة بنائه".
والحداثة باعتراف أعلامها، هي حداثة عقلية وروحية، تبتعد كل البعد عن التقسيمات والمفاهيم للشعر لتخرج إلى التعبير عن المنظور الحديث إلى حالة الكيانية الحياتية وعن الوضع الحضاري الذي نعيشه حاضراً، ناظرين إلى الكيفية التي تسعى بها أن تحقق مستقبلنا المرجو، لذا نقول مع ريتا عوض في هذا الإطار: "إنما الحداثة، في المحل الأول، موقف من الحياة والوجود ورؤيا جديدة للمستقبل".
الرؤيا الجديدة للعالم
يعتقد زيتوني أنه لعل سمات الرؤيا الجديدة للعالم هي النظر إلى الواقع المعاش، الاجتماعي والسياسي والثقافي، وإجراء نقد واع لموقع الإنسان العربي الحضاري ماضياً، حاضراً ومستقبلاً، إذ استطاع هذا الرائي أن ينفذ برؤياه إلى أعماق واقعنا المزري ليرسم الغد الذي يمثل قيمه العليا، ولذا يوضح النقد الحديث هذه المسألة كما ورد عند كمال خير بك، وينقله الباحث حيث قال: "ويجتاز العالم العربي اليوم لحظة حاسمة من تاريخه، لحظة فوّارة بإعادة النظر والتفحص والاختبار، وخلافاً للتجليات الأولى ليقظته في مطلع القرن الماضي، فإنه لا يبدو مهموماً بإنقاذ صورته القديمة، جزئياً أو كلياً، بقدر ما يبدو مهموماً بالدخول، وعلى نحو نهائي، في كابوس عالم آخر، والتكيف حسب طبيعته ومعرفة لعبه وقوانينه". إن العربي يلاحظ الآن بمرارة كيف أن العالم يتجاوز نمطه القديم الذي نحته هو على صورته.
وبناء على ذلك، فإن الشاعر العربي الحديث كان عليه مواجهة عدد من المتغيرات التي أثرت فيه بالتأكيد، ومواجهته هذه أدت إلى ترسيخ الرؤيا الجديدة. ومن هنا رأى النقد الحديث الذي رافق حركة الحداثة العربية الشعرية، حسبما ينقل الدكتور زيتوني عن الشاعر والناقد الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا: "السمة الكبرى في التغيير الذي يعم العالم العربي اليوم، هي تغيير الرؤيا، وللشعر العربي المعاصر صلة كبيرة بهذا التغيير، بل إنه من مؤشراته الأولى، وبعض من دوافعه الرئيسية. والتغيير الشعري أسلوباً ومحتوى يتبادل الأثر مع تغيير الرؤيا". فيبرز لنا هنا موفق منظور الباحث زيتوني سمة جديدة من سماتها، إذ إن تلك المواجهة انعكست إيجاباً في الشعر فقدمت مفهوماً جديداً للقصيدة يربط، أو يدمج بشكل عضوي المضمون والشكل معاً، ويخرج عن إطار الأغراض التقليدية، فكان تعريف القصيدة الرؤيا هو أنها "قراءة جديدة لتاريخ الإنسان في الكون، أو رؤية جديدة للوضعية الإنسانية".
ويرى زيتوني أن الشعر بوصفه فناً، يعتمد في وجوده على الرؤيا التي تسعى بطبيعة الحال إلى التوغل في أعماق الوجود لاكتناه أسراره. "يبقى أن الرؤيا تختلف تبعاً للزمن وللجغرافيا، وأيضاً تبعاً للخلفية الأيديولوجية التي تحكم شخصية كل شاعر… ولذا تكون جدة الرؤيا بقدر قدرتها على استيعاب الطبيعة الخاصة للخطة الحضارية ووعياً لخصوصية التعامل معها. كما أن تقليدية الشعر تعني سلفية الرؤيا، وبالتالي قصورها عن ذلك الاستيعاب وعن هذا الوعي".
تعريف قصيدة الفداء والانبعاث –التموزية
عُرفت قصيدة الفداء والانبعاث منذ نشأتها باسم القصيدة التموزية، نسبة إلى أسطورة تموز أو أدونيس، وذلك منذ الخمسينيات من القرن الماضي، ولا يخفى مدى ارتباط هذه التسمية بتاريخ عقيدة الخصب والانبعاث في المنطقة. ويقول الباحث زيتوني: "وقد ظهر مصطلح الشعراء التموزيين، لأول مرة في عدد مجلة شعر الصادر في صيف 1958، ضمن مقالة بعنوان المفازة والبئر والله، لجبرا ابراهيم جبرا، الذي أطلقها على الشعراء: يوسف الخال، خليل حاوي، بدر شاكر السياب وجبرا نفسه"، لأن شعرهم يتميز بنهج الفداء والانبعاث الذي يمثله تموز أحد أقدم رموز هذا النهج.
ولكن السؤال الذي يواجه المؤلف: لماذا اختير رمز تموز بالذات لإطلاقه على شعر الفداء والانبعاث دون غيره؟ في حين من الممكن إعطاء تسمية القصيدة البعلية أو الأدوتية، أو الملكارتية. فلا بد من دخول عنصر ما بالقوة التي تمكنه من تدعيم مسألة اعتماد هذه التسمية "وقد تجد ذلك العنصر، على الأرجح، في المطابقة الوجدانية بين أسطورة الفداء والانبعاث وبين استشهاد أنطون سعاده في شعر تموز، هذا الحدث الذي ارتبط به معظم الشعراء التموزيين فكرياً ووجدانياً".
ويستطيع المطلع أن يرى مصطلح القصيدة التموزية، عنواناً مفصلياً في حركة الحداثة الشعرية والحضارية، لأنه كان النتاج الأكثر استيعاباً لطبيعة المرحلة التي وُلد فيها، والأكثر مقاومة لضحالتها، وبالتالي الأكثر تحديثاً نظراً لطبيعتها الثورية- التجاوزية. وقد انطلقت مع الشعراء الخمسة السابق ذكرهم، على اعتبار أنهم يشتركون بتصوّر الحاضر، أرضاً خراباً، ماتت فيها القيم الإنسانية ومعالم الحضارة ثم يلوحون بقيم جديدة.
ويشير زيتوني إلى أن نزعة الفداء والانبعاث، قد توسعت وانتشرت، فلم تعد محصورة في الشعراء الخمسة، إذ إنها تحولت إلى نزعة معمّمة على معظم شعراء جيلهم. وحتى على شعراء الأجيال اللاحقة وأبرز الأسماء التموزية الأخرى الشعراء عبد الوهاب البياتي، نذير العظمة، فايز خضور، كمال خير بك، ومحمد علي شمس الدين، مع اكتسابها الخصوصية الشخصية لكل شاعر، إلا أنها -يقول زيتوني-: "تتسم بقواسم مشتركة بين نتاجاتهم. وهذا ما قاد بعض الباحثين إلى التوضيح، الانبعاث الحضاري، الرمز التموزي، العنقاء، وطائر الفينيق، هي القاسم المشترك في مرحلة شعرية كاملة". وفكرة الانبعاث تبدو وكأنها محاولة لاستكمال عصر النهضة العربية. إنها استعادة للماضي، لكنها في تبلورها الشعري لا تستعيد القديم بشكل مجاني، بل توظفه في خدمة مشروع جديد، بوصفه نموذجاً، أو إطاراً أو رمزاً. لذلك غرقت في الأسطورة. والأسطورة في وعاء، مجرد وعاء للحظة اجتماعية هاربة. العودة إلى الماضي ليست عودة نقدية إنها عودة وظيفية، توظيف للماضي في سبيل هدف آخر.
ويؤكد زيتوني أن قصيدة الفداء والانبعاث واكبت عملية الوعي الحضاري التي أخذت تتنامى في المجتمع، فكانت في أساسها منطلقة من فكر أو موقف جديد تجاه العالم، أي إنها عقلية حداثية ثورية تصدت لهجوم الحاضر فنظرت إليه بشكل مغاير عن وجهات النظر السائدة حتى ذلك الزمن.
إرهاصات ولادة قصيدة الفداء والانبعاث
إن فعل الفداء والانبعاث فعل فردي يستهدف قيامة الجماعة، وهذا ما حدث فعلاً في المطولة الشعرية التي بدت وكأنها عنوان للدخول في عصر شعري جديد عملياً. تغيب عنه الهموم الشخصية البحتة، كما تغيب عنه الوطنية الرومانسية. ويحضر فيه عنصر الرؤيا والرمز في إطار كياني يحتضن هم الجماعة، دون أن يغيب بالخيال عن الواقع العملي وعن الحركة في ساحة الجهاد العقلي.
في المقابل "استخدم العديد من الشعراء والكتاب أساطير البعث: تموز، أدونيس، وأوزريس. لكن بعض الباحثين يرى في استخدام هؤلاء لها، غير الطابع الرومانسي والوصفي جرد الأسطورة، التموزية في كتابة هؤلاء من دراما الحياة والموت. فجاءت خالية من الحركة والصراع". كما يمكن القول إنه استخدام كان شبيهاً بالإثارة، وفي بعض جوانبه تضميناً لأساطير أو شخصيات أسطورية بصفتها ميراثاً معرفياً أو معرفة ثقافية من دون وضوح لتفاعلها من الجانب الوجداني والانفعالي وانصهارهما الأسطورة والوجدان معاً ليكونا بنية من بنى القصيدة. وقد بلغ تطور الإرهاصات التي مهدت لنشوء قصيدة الفداء والانبعاث "أن دخلت في نسيج العامي، في الفترة التي بدأ فيها هذا الشعر نفسه يتطور ويتخلى عن أنماطه القديمة المحددة". إن هذه القصيدة لم تولد بشكل فجائي دفعة واحدة، فقد كانت تتبلور على زمن غير قليل، فكانت المحاولات التي تضمنت الرموز الانبعاثية أو تبنت الفعل الانبعاثي هي الإرهاصات الأولى التي أدت إلى ولادة قصيدة الفداء والانبعاث مع الشعر الحديث من خلال شعراء خاضوا بأنفسهم في وقت مبكر مسألة التعامل مع الرموز حسب قول زيتوني.
لعل اكتشاف قيم الجدب والسقوط من قبل الشعراء جعلهم يفكرون في استفزاز قوى الخصب الفكري في الأمة، بشكل يشابه طريقة صراع الإنسان القديم في أولى درجات تفكيره ضد قوى القحط في بيئته الطبيعية، فكان كما يرى جبرا ابراهيم جبرا البحث عن ميلاد جديد عن بعث في الوجود والمدن والزمن. والميلاد الجديد هذا من منظور زيتوني يجب أن يكون متمتعاً بالقوة اللازمة التي تؤهله للاندماج بالحالة الحضارية، والانطلاق من الرؤيا التي حملها أولئك الشعراء إلى العالم. "فوجدوا في تراثهم القومي تلك القوة في الأساطير والرموز القادرة على الإمساك بتلك الحالة وتجسيد هذه الرؤيا، بشكل يؤمن شعوراً عارماً بالقيامة دون أن يقف عند هذا الحد، بل يمتد ليؤثر في حركة المتلقين فيدخلهم في قضاء الصراع الحقيقي من أجل القيامة". من هنا لجأ هؤلاء إلى الرمز التموزي لبلوغ ذلك الميلاد في أشعارهم. وعليه يكون من الأسباب الموضوعية، لاستخدام هذا الرمز، وربما يكون أهمها: "الوضع مع نكبة 1948، فقد صحا الشعراء على ضياع فلسطين وضياع الكرامة والعربية معها بسبب هزيمة الأمة العربية آنذاك. وكان هذا أشبه بالقحط والجدب في الحياة العربية والواقع العربي، وتشكل هذا هاجساً في ذهن الشاعر".
وبطبيعة الحال فإن هذا الشعور بالإحباط وهذا السعي إلى الانبعاث انتظر نضج التجربة الحضارية حتى يستطيع أن يتجسد في قصيدة الفداء والانبعاث على يد نخبة من الشعراء الذين يهجسون بحلم الجماعة في الخلاص، "فكانت أواسط سنة 1954 تقريباً، مسيرة شعراء الفداء والانبعاث في الحداثة، وتدعمت من خلال صفحات مجلة شعر بشكل أساسي، مع حضورها على صفحات مجلة الآداب، وقد أخذ هذا الشعر يتطور ويتعمم بين الشعراء حتى أصبح نزعة شعرية غير مقتصرة على عدد من الشعراء المحددين". ويمكننا استناداً إلى ذلك القول مع سلمى الخضراء الجيوسي: أصبحت اللحظة الحضارية مناسبة في أواسط الخمسينيات لاستعمال الشعراء العرب للأسطورة، فعمدوا إليها ليعبّروا عن قحط الحياة العربية بعد نكبة فلسطين، وعن الشوق العميق في لهفته وأساه إلى العودة إلى نبض الحياة والكرامة.
ومن المحتمل أن يكون الشعراء التموزيون الأول قد انخرطوا في هذا التأثر بالاطلاع على بعض النماذج الشعرية الغربية وحتى على بعض أعلام الفلسفة في الغرب، والواقع يقول زيتوني: "إن جميع هذه الأمور جعلت من نشوء شعر الفداء والانبعاث أمراً في غاية التعقيد، لأنه كان متداخلاً في مختلف جوانب الحالة الحضارية والقومية، من هذا المنطلق بحث أولئك الشعراء في الرموز الحضارية التموزية عن احتمال إحياء نهضوي حضاري يكشف عن إمكانية تبلور الذات القومية". وكشف هويتها في رؤيا نخبوي تستوعب أحلام الجماعة وتفديها. وعلى هذا الأساس جرى التأكيد في النقد الحديث على أصالتهم ودورهم الحضاري.
عرف الشعر العربي قصدية الفداء والانبعاث التي أطلق عليها القصيدة التموزية، في منتصف القرن الماضي، وهذه القصيدة تقوم على رفض الشعراء للواقع المجدب، الذي يعيش فيه مجتمعهم، والقيام بفعل عكسي في مواجهته باستنهاض قيم الحياة في هذا المجتمع. وذلك لا يكون إلا باستخدام تاريخها وأبرزه استخداماً في الشعر رمز تموز.
المؤثرات في نشأة القصيدة التموزية
يحدثنا المؤلف الدكتور لؤي زيتوني عن المؤثرات في القصيدة التموزية والشعر التموزي، بدءاً بالمؤثرات الغربية الأنتروبولوجية، ولاسيما كتاب الغصن الذهبي لجيمس فريزر وخاصة كتاب "تموز" الذي ترجمه جبرا ابراهيم جبرا، ثم المؤثر الأليوتي أو التثاقفي، ثم المؤثر النهضوي القومي الاجتماعي. فيقول المؤلف: "وبالتناسب مع ما انطلق منه أنطون سعاده في تعريف الأمة وأولويتها، يعرّف الشعر بالقول: هو الذي يعني بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيز من فكر أو شعور أو مادة. ويرتكز فهم سعاده للشعر إلى أربعة أفكار أساسية: نمائية الشعر الباحثة عن الأسمى والأجمل، الفكرة المتعلقة بمادة الشعر التي تتمحور حول الانفعال ولكن المرتبطة بالفكر وليس بالانفعال الجامح، الثالثة فكرة كيفية التعبير عن هذا الانفعال والذي يكون بالصور المجازية والخيالية، وأخيراً فكرة الارتباط، ارتباط الشعر بـ"الحقيقة وبالغرض الإنساني".
إذاً فالشعر عند سعادة لا يتعلق فقط بالفكر، كما أنه من غير العادل قطره على الشعور، إنه أعمق من ذلك وأشمل، إذ يشتمل على ارتباط وثيق بالوضعية الراهنة للأمة وبما يجب أن تكون عليه. وبهذا يمكننا أن نتحدث عن الشعر المثالي والأسمى، لكن الباحث جمال باروت فيقول في السياق نفسه: "تكمن أهمية سعاده في أنه، لم ير الوظيفة في العلاقة ما بين الشاعر وجمهور يحرضه، أي إنه لم يرها في إطار خطابي تحريضي بقدر ما رآها في طبيعة الشعر نفسه، بعد إعادة النظر بمعناه وطبيعته ووظيفته وأدواته".
انطلاقاً من هذا الفهم المتكامل للشعر، وجد سعاده حسب رأي المؤلف أن شعراءنا الذي عاصروه غارقون في التقليد الأعمى، وأن نظرتهم إلى التجديد وتغرقهم أكثر في التقليد، لأن جعل الشاعر مرآة للجماعة أو مرآة للعصر، يجعله يعكس الواقع المنحط والرديء. وفي ذلك يمكن القول: إزاء هذا الواقع تجد سعاده يتعامل مع الإبداعية برسم الفنان المبدع، والشاعر ليس مؤرخاً ولا عالماً اجتماعياً، ليس بالضرورة راسماً واقع مجتمعه، المبدع هو ذلك النسر المحلق الذي يضرب بجناحيه رحاب الجلد فيؤاخي السماويات والفوقيات والمثل العليا، وينزل إلى أعماق اليم فيعود بالدرر الثمينة من جواهر النفس ودرر الحياة.
الأدب عند سعاده هو أدب الحياة وليس أدب العاطفة أو النزوة أو البكاء على الأطلال. هو أدب الفعل وليس أدب الانفعال. هو الضارب في أعماق النفس، والمتجذر في أصول الفكر، "وويل لأمة لا تملك شاعراً كبيراً أو أديباً كبيراً.. لأنها، والحالة هذه، لا تملك أي شيء كبير".
ومن أبرز الشعراء التموزيين الذين تأثروا بسعادة، الشاعر خليل حاوي، ولعل تأثره بسعادة يبرز من خلال تبنيه لبعض مقولات "الصراع الفكري" إذ يشجب مثلاً الأخذ بأساطير غريبة عن شخصية الأمة وعن مصيرها لأن ذلك يعدّه تخلياً عن الانتماء وخدمة لأعداء الأمة، كما فعل سعيد عقل في تبت يفتاح، حيث تجد يفتاح اليهودي بطلاً أسطورياً. وهذا الأمر من منظور محمود شريح: يؤكده المتخصصون في أدب خليل حاوي، إذ يرون.. بيد أن الشاعر كثف نشاطه النقدي في السبعينيات من خلال مقابلات معه أو دراسات أعدّها فحمّلها آراء جريئة استمد معظمها من مؤلف سعاده "الصراع الفكري وصهرها برؤية فلسفية متميزة تأخذ باتجاهات المذهب الكانطي النقدي دون أن تغيب عنها خلفية الحزب القومي".
ويرى البعض في عودة حاوي إلى الأسطورة في شعره، كما يوضح المؤلف تطبيقاً لفكرة سعاده حول هذا الموضوع، لا بل يذهبون إلى القول إن استيعابه لهذه الفكرة السعادية هي عملياً إعادة اعتبار لذلك القائد من خلال جعل حياة سعاده بأكملها رمزاً أسطورياً، فقد تمكن خليل حاوي من توحيد الآتي بالأزلي، بالثقافة الجماعية للأمة، فردّ على سعاده مكانته اللائقة في فهمه لتوظيف الرمز الأسطوري في القصيدة، وحوّل سيرته كلها إلى رمز أسطوري، وفي تحليل عميق بشعر حاوي، يلحظ البعض أن رمز النار الملكارتية الحاضر بشكل مكثف فيه، يشكل رمزاً تناحياً يحيلنا إلى مرجع ديناميكي وهو شعار الزوبعة القومية الاجتماعية".
كما أن حاوي نفسه لا يترك مجالاً للشك في انتمائه القومي الاجتماعي حتى بعد أن ترك الحزب تنظيمياً، فهو يدلي بتصريح واضح في بداية السبعينيات، قائلاً: لم يأت في تاريخنا قائد له قامة وحضور مثل أنطون سعاده، لقد حاربوه، وسيحاربون أتباعه، لكن أبناء الحياة لا يهابون، وهذا ما يمنع الشك في قوّة الأثر العميق هذا لسعاده في شاعر الانبعاث الأول خليل حاوي".
أسس شعر الفداء والانبعاث
يشير المؤلف لؤي زيتوني إلى أن أول هذه الأسس هو الولاء الذي حمله الشعراء للأرض، بما تجسده من معاني الانتماء، ولهذا شكلت أولى سمات الشعر التموزي، ثم الامتلاء بالمصير الكلي- الجمعي، على اعتبار أن الشاعر بحس باندماجه في الجماعة التي تشاركه ولاءه للأرض. أما الأساس الثالث فهو المتعلق بالرموز الدينية والأسطورة، ويعدّها الشعراء تعبيراً عن حقيقة تاريخية فاعلة، لأن الرمز شكّل راصداً للواقع المعاش في مجتمعنا.
ويقول زيتوني: "لقد ارتبطت حركة الفداء والانبعاث في شعرنا الحديث: بالتجربة الحضارية التي عاشها مجتمعنا". يمكننا استناداً إلى ذلك أن نلحظ المضامين المشتركة بين شعراء الفداء والانبعاث، وأول هذه المضامين هو تطويرهم الواقع الأليم المليء بالانكسارات والخيبات، إذ إن خليل حاوي على سبيل المثال، يرى في هذا الواقع "جليداً" جمّد عروق الأرض وقتل كل مظهر للحياة عند البشر فمات كل عرق ويبست الأعضاء لحماً قديداً. وفي نظرة إلى شعر يوسف الخال يقول المؤلف: "تراه يجعل من واقعه حالة من اللامبالاة حتى بالقيم الإنسانية السامية. حتى إن البئر الذي يفيض ماؤها في قصيدة البئر المهجورة، يمر عليها البشر متجاهلين إياها فلا يشربون منها ولا يرمون فيها حجراً. وهذه اللامبالاة وهذا التجاهل، إنما يعنيان الموت والعدم".
من جهته، الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، يصوّر بلاده حزينة مهدمة، يسيطر عليها الوحش الذي يحرس مملكة الجحيم والموت، يبرزه بصورة رهيبة تنم عن الحاضر المنحلّ والمنحط، ويختصر السياب واقعه وواقع وطنه بوصفه جوعاً يتحكم بحياة العراق. وبالتالي فإنه يفتح مجالاً لإشباع هذا الجوع بانبعاث منتظر".
ولا يخرج أدونيس عن غيره من التموزيين، في وصف الواقع، إلا أنه يجعل السبب في الوصول إلى هذا الواقع المرير، هو المجتمع نفسه. فأفراده هم الذين اندفعوا نحو الهاوية وجعلوا بلادهم تعيش ذلك السقوط.
"والناس في مجتمع أدونيس لا يؤمنون بالفاعلية الذاتية للإنسان، بل بالغيبيات التي يعتقدون أنها ستنقذهم من حالتهم، وبالتالي بمسألة القضاء والقدر وهذا ما يشكل سبباً أساسياً في انحطاط المجتمع".
ونستطيع القول إن الشعراء التموزيين قد انطلقوا في نظرتهم الحضارية من رصد الواقع المأساوي للمجتمع وكشفه على حقيقته، لكننا في هذا الإطار، لا يمكننا أن نحصر هذا الموضوع بهؤلاء الشعراء فقط مع أنه من المضامين الأساسية في شعر الفداء والانبعاث ويرى المؤلف، أن الشعراء في عصرنا قد قاموا، سواء أكانوا حديثين، بالمعنى الرؤيوي للكلمة، أم لا، بتصوير الواقع الأثيم في أشعارهم. ولذلك لا بد لنا أن نسأل عن الأسس التي قام عليها شعر الفداء والانبعاث وميّزاته عن غيره من النزعات الشعرية؟
لقد بحث شعراء الفداء والانبعاث عن رمز يستطيع أن يستوعب تلك الحال، ويوحي بالنهوض من الواقع الميت إلى غد أفضل وأمثل، وفي الوقت نفسه تكون له صفة الديمومة على صعيد الخصوبة في الحياة النباتية، وعلى صعيد حياة البشر، "فاهتدى هؤلاء الشعراء إلى الرمز التموزي بأشكاله المتعددة: تموز، أدونيس، يسوع، مار جرجس، الخضر، على اعتبار أن الرمز هو لغة المفارقة التي تهزم القوى الماردة والخارقة وتحل محلها الإنسان البطل". فيتجاوز فيها الرمز حقيقة مادية هي استمرارية الدوام، ليؤكد لنا استحالتها باستمرارية التغيّر. لأن الوجود شيء مادي، سواء كان ذلك في جانبه الموضوعي أو جانبه الفكري، وهو لهذا لا يفتي ولا يستحدث ويتحول من حال إلى حال ليصرع الزمن الميت.
هذا الانبعاث ليس سطحياً شكلياً، بل يمس العمق الحضاري للأمة. وانطلاقاً من ذلك تمسك شعراء الفداء والانبعاث في بداءة الأمر بأسطورة تموز، فعند جبرا ابراهيم جبرا على سبيل المثال نلحظ أن أول ديوان له في العربية حمل عنوان "تموز في المدينة" كما نرى عند السياب قصيدة تحمل عنوان "تموز جيكور". وهذا باعتقاد المؤلف، عدا عن كون معظم قصائدهم توحي بالحضور الفاعل لرمز تموز، إلى درجة أنهم كثيراً ما كانوا يتلبسون شخصية تموز في ذواتهم، إذ يصرخ يوسف الخال: "أنا كتموز".
لكن شعراء الفداء والانبعاث لم يقصروا استعمالاتهم للرمز على الأسطورة التموزية فقط، بل استعانوا برموز انبعاثية أخرى غير تموز، ومن هذه الرموز أسطورة البعل التي تُعد نموذجاً أكثر تجسيداً للعملية الفدائية، ويمكننا أن نرصد عملية توظيف رمز البعل في الشعر من خلال الرجوع إلى شعر خليل حاوي. ويشير المؤلف إلى أن أسطورة البعل قد استعملت ولكن تحت اسم "آداد" وذلك بشكل خاص عند الشاعر فايز خضور في مطولته التي تحمل هذا العنوان، ففيها تبرز قصة آداد على أنها السبيل للخروج من موات الواقع.
فالشاعر خضور يرى في آداد الأمل الوحيد لحصول البعث وتحقق عودة الخصب إلى الطبيعة. وقد لجأ الشعراء التموزيون إلى رموز عديدة أخرى من التراث القومي، ومنها رمز الفينيق. ومن الواضح حسب اعتقاد المؤلف أن الفينيق يقدم لنا بصورته الأسطورية، يحتضن اللهب ويحترق لكي يتجدد ويعود إلى شبابه المتمثل بلفظة الربيع.. وهو الطائر الذي يخص الشاعر وقومه، والذي يقود الطريق نحو الانبعاث.
كما وظّفت رموز دينية في المشروع النهضوي، ومن أبرز تلك الرموز هو رمز يسوع المسيح. وقد كان هذا الرمز أحد أكثر الرموز تأدية للفعل الانبعاثي الفدائي، وفي هذا السياق يتقمص الشاعر كمال خير بك شخصية المسيح ويحقق البعث فيقوم بنزع الصخرة التي كانت تسد المقبرة، وهنا ترد عنده لفظتان تؤكدان بوضوح حصول القيامة (بُعثت، نهضت)، أما "الحالة الحاضرة فيشير إليها بعدد من الألفاظ التي تنم عن الموت والدمار (رماد، دخان، حطام وأنقاض). أما أسماء الفاعل الثلاثة في نهاية أحد نصوصه (خارجاً، لابساً، وساهراً) فإنما تبرز صفة الثبات التي توصل إليها ذلك الإله نتيجة الفعل الفدائي الذي قام به".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الأمر، فقد لجأ شعراء الفداء والانبعاث إلى الاستعانة برموز انبعاثية قديمة للتعبير عن شخصية فدائية معاصرة، هي شخصية أنطون سعاده على الأرجح.
إن شعر الفداء والانبعاث، من منظور الباحث الدكتور لؤي زيتوني قد شكل نزعة مهمة وواضحة، لا يمكن إغفالها في الشعر، وأخذت موقعها المتميز ضمن إطار القصيدة الحديثة، وقد أدت دوراً أساسياً في إبراز الحالة الحضارية وكيفية مواجهتها.
*شعر الفداء والانبعاث – الدكتور لؤي زيتوني- دار أبعاد، بيروت 2015.