(ترجمة حسن حنفي ومراجعة فؤاد زكريا – دار التنوير 2005 ط1 بيروت)
باروخ شبينوزا فيلسوف يهودي هولندي مشاكس ، عاش في القرن السابع عشر ، وكان ذو نزعة إنسانية عالمية. حارب طوال حياته الإستعلاء والتفوّق العنصري. دعا إلى فصل الدين عن الدولة أو فصل الدين عن السياسة . وكان ضد إقامة أي دولة على أساس ديني . إنتقد عنصرية وتقوقع الدين اليهودي الذي ينتمي إليه ، ولذلك إضطهده رؤساء الجالية اليهودية الهولندية ، مما زاده تمردًا عليها ، فرضوا عليه الحرمان الديني ، مما إضطره إلى الهرب للبرتغال . ونتيجة لعظمته الفكرية حاول بعض المفكرين اليهود إعادته إلى الحظيرة دون جدوى ، حتى أنهم حاولوا تلفيقًا وزورًا ، خلال القرون الثلاثة الماضية، أن يردّوا نزعته الإنسانية الشاملة إلى جذور دينية ضيّقة .
إن ما يميّز شبينوزا هو أسلوبه العقلي العلمي الهندسي في الكتابة . كان يؤمن بلا محدودية العقل البشري ، وأن الوجود ينتمي إلى طبيعة الجوهر . ومن أهم آرائه السياسية في وظيفة الدولة "أن من واجبها أن تتعهد عقول رعاياها وتحكمهم بالإقناع لا بالإكراه ، فالهدف النهائي للحكم ليس السيطرة … إنما هو تحرير كل شخص من الخوف … حتى يعيش في أمان ككائن عاقل دون تحويله إلى بهيمة تطيع طاعة عمياء ، فهدف الحكم هو الحرية."
هذا الكتاب المشار إليه أعلاه ، كتاب صعب لأن موضوعه صعب وإشكالي ، لا يمكن تلخيصه أو إختزاله .. لذلك إرتأيت في هذه المقالة أن أقدمه على شكل شذرات من وحي هذا الفيلسوف ، حينًا من كلامه ذاته بين مزدوجين ، وحينًا آخر من كلامي حتى وبحيث تختلط وتمتزج أناي بأناه من خلال النص
***
– نصحُ الناس في أيام الرخاء يُعد إهانة، أما في أيام الشدّة فهم يلتمسون النصح من أقل الناس رشداً، ويعملون بأكثر النصح بطلاناً وتناقضاً وزيفاً وخرافة.
– الخوف أساس الخرافة.. إستسلم الإسكندر الكبير للخرافة ولجأ إلى العرّافين حين خاف على مصيره.. لكنه عندما إنتصر على داريوس لم يلجأ إلى تكهنات العرّافين.
– الخرافة تحتقر العقل البشري، تعتمد على المبالغة ولا تقوم على العقل، وإنّما على الإنفعال وحده. وهي "أكثر الوسائل فاعليّة لحكم العامّة. ولا يحكم العقلُ العامّةَ، بل يسيرهم الإنفعال … لذلك لا أدعو العامة الى قراءة هذا الكتاب". هكذا تكلّم إسبينوزا .
– "ولكم يسعد عصرنا ( القرن 17) لو أمكننا أن نرى الدين وقد تحرر من كل خرافة."
– المعجزات في الحقيقة أشياء طبيعية يعزوها الناس الى تدخل خارجي من الله في الطبيعة لإثارة الخيال وتحريك النفوس.. وذلك حين يعجز الناس عن تفسير الأسباب.
– المعرفة فعل عقلي.. كلما عرف الإنسان أكثر إقترب من الله الكامل.
– ما يميّز الأنبياء هو الخيال الخصب لا المعرفة. النبي ليس فيلسوفاً ومن الممكن أن يكون جاهلاً في العلوم على أنواعها، وهو كذلك.
-لقد أوحى الله للأنبياء بالكلام أو بالمظاهر الحسيّة أو بالرؤية والأحلام و بأحلام اليقظة، على نحو يجعلهم يتخيلون بوضوح.
-عندما تحدث هيجل عن "حياة يسوع" طرح المعجزات جانباً. أكثر منه .. ينكر شبينوزا ألوهية المسيح صراحة، ويرى إستحالة أن يصبح الله إنساناً. المسيح فيلسوف ( محب للحكمة)، حكيم فريد، عرف الحب العقلي وأراد تعليم البشر عن طريق المثل، وهو الحكمة الأبدية. " إنه فم الله"، لذلك فهو أكبر الفلاسفة. فم الله مجازاً، "وكان من عادة القدماء أن ينسبوا إلى الله كل ما يتفوّق فيه إنسان على الآخرين."
– نسب العبرانيون جميع الخطايا الى البدن.. جسّد الإنسانُ الله نتيجة للجهل وقلّة المعرفة وعدم القدرة على التجريد.
-الوحي يحدث بمقدرة الله . وقد أدركه الأنبياء بالإستعانة بالخيال. كل بحسب طاقته وقدرته على التخيّل. الوحي نور فطري وشيء طبيعي. والأنبياء بشر ذوي قدرة فائقة على الخيال وعلى الطاعة وعلى تطبيق مبادئ الأخلاق. الوحي يهبط على الأنبياء بما يتناسب مع آرائهم وثقافتهم ومستوى وعيهم.
– الخيال لا يعني فكر أكمل .. وهو يعتمد على المزاج والبيئة والثقافة. " كلما زاد الخيال قلَّ الإستعداد لمعرفة الأشياء بالذهن الخالص".
– شبينوزا فيلسوف مقنّع، جاء ليهدم سلطة الكتاب المقدس، قيل عنه أنه يهودي من لاهاي يعلن الثورة، وهو اليهودي المتمرّد على يهوديته.
– "النبوات أو التمثلات كانت تختلف بإختلاف آراء الأنبياء… النبوّة لم تجعل الأنبياء أكثر علماً، بل تركتهم على آرائهم التي كوّنوها سلفاً، ومن ثم نكون في حلٍ من تصديقهم فيما يتعلق بالأمور النظرية الخالصة… بعض نصوص الكتاب تخبرنا بوضوح تام بأن بعض الأنبياء قد جهلوا بعض الأشياء، فإن الناس يفضلون أن يصرّحوا بأنهم لا يفهمون هذه النصوص، على أن يسلّموا بأن الأنبياء قد جهلوا شيئاً ما، أو هم يتعسفون في تأويل نص الكتاب لكي يخرجوا منه بما لم يقل النص صراحة." ( ص 151).
– من بعض نصوص التوراة يظهر أن الله هو رب الأرباب أي كبير الآلهة… وعليه فأين التوحيد؟
هذا الكبير إصطفى العبرانيين وترك باقي الأمم في رعاية الآلهة الأخرى التي حل محلها. ومن هنا سمي بآله إسرائيل. هذا الكبير هو الله في إعتقاد موسى، وهو يقطن السماوات. كذلك تقطن آلهة الوثنيين في السماوات. هذه الفكرة كانت وما زالت شائعة عند جميع الأمم.
– "لسنا ملزمين بالإيمان بالأنبياء إلّا فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره. أما فيما عدى ذلك فيستطيع كل فرد أن يؤمن بما يشاء بحريّة تامّة". (ص 162) يتكيّف الوحي حسب آراء الأنبياء، وإن الوحي والنبوءات تتكون من خلق الخيال الذاتي ( الحاشية). وهذه النظريّة التي يضعها شبينوزا تقضي على ما بقي من سلطة الكتاب.. وغايته التمييز بين الفلسفة واللاهوت.
– جاء موسى " ليعلم العبرانيين عبادة الله وأن يربطهم به بطريقة تناسب روحهم الساذجة." (ص 166)
– يعتقد شبينوزا أن الآلهى هو نظام الطبيعة الثابت، " وان قوانين الطبيعة الشاملة… ليست سوى أوامر الله الأزلية." ( ص 167)
– اليهود ليسوا شعب الله المختار كما يظنّون .. الله لا يميّز بين أبناءه.. هذه نظرية عنصرية تريد تفضيل شعب معين على باقي شعوب الأرض. اليهودية دين مغلق، ينحصر في أمّة واحدة… وحتى لو كان الله قد اصطفاهم فقد كان ذلك في زمن معين وظروف معينة وليس على مَرِّ الزمان.
– "النبوّة لم تكن قاصرة على العبرانيين" ( ص 173)، عدى عن ذلك فكثير من أنبياء بني اسرائيل تنبأوا لكل الأمم ولجميع الناس.
أيوب لم يكن يهودياً وهنالك شخصيّة عند البابليين تطابق شخصيّة أيوب الصابر. كذلك حكاية الميلاد العذري لسرجون الأول حيث وضعته أمة في النهر بسلّة دهنتها بالقار وجرفه التيار الى بستان آكي، الذي تبناه إلى أن إصطفته عشتار وجعلت منه ملكًا … كذلك تشبه هذه الحكاية حكاية موسى والنيل وزوجة فرعون التوراتية.
– التوراة ليست لمؤلف واحد. كتبت التوراة على مدار ألفي سنة. حُذفت منها أجزاء لا تناسب الأحبار. قصّة الخليقة تطابق حكايات وأساطير البابليين والسومريين ( الإينوما ايليش)، وكذلك أساطير الخلق في تراث الهنود الحمر. حكاية آدم تطابق أسطورة خلق أنكيدو صديق جلجامش ( 1800ق.م.) . الثقافات تتلاقح وسلسلة الحضارات متشابكة، كل حلقة ترتبط بما قبلها وبما بعدها حتى يومنا هذا. تلتقى بعض الأساطير اليونانية والرافدية والفرعونية مع بعض حكايات التوراة، وهذا ليس بغريب على أذهان البشر.
– اليهودية دين خاص، " أرسل الله مسيحه لكل الأمم ليخلّصها بالمثل من عبودية الشريعة" بهدف إدراك المعنى الحقيقي للشريعة. (ص 178).
-"الله لم يختر العبرانيين الى الأبد، بل إختارهم في نفس الظروف التي إختار فيها الكنعانيين" منذ خمسة آلآف سنة.
– إنعزال اليهود عن باقي الأمم جلب لهم الكراهية .. تلك الكراهية التي هي أساس بقائهم وتوحدهم. هذا بالإضافة إلى طقوسهم في الختان والعبادات التي تضمن وجودهم الأزلي. يقول شبينوزا ساخراً: " بأن اليهود سيعيدون بناء إمبراطوريتهم في وقت ما، وإن الله سيختارهم من جديد" ( ص 182). ساخراً، لأنه لا يعتقد أن اليهود شعب الله المختار ولأن عدالته الطبيعية تقتضي عدم التمييز فيما بين الأمم.
– القانون الإلهي هو القانون الطبيعي.. الطبيعية هي الأم التي لا تميّز بين أبناءها. وهو الخير الأقصى والمعرفة الحقة وحب الله. (ص 185). " خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفة الله وحدها.. كلما إزدادت معرفتنا بالأشياء في الطبيعة كانت المعرفة التي نحصل عليها بالله أعظم وأكمل… كلما عرفنا أشياء أكثر في الطبيعة كانت معرفتنا لماهية الله… (عله الأشياء جميعها) أكمل… ألله نفسه من حيث وجوده فينا كفكرة، يمكن أن تسمى أوامر الله، لأن الله نفسه هو، على نحو ما، مصدرها بقدر ما يوجد في أنفسنا. ومن هنا فإن لنا كل الحق في أن نسمّي قاعدة الحياة التي تستهدف هذه الغاية قانوناً آلهيا." ( 186).
– ذلك يجعل حب الله لا خوفاً من عذابه، ولا طمعاً في نعمه، حبّاً خالصاً لأن الله كامل و " أوامره ومشيئته حقائق أزلية تنطوي دائماً على ضرورة-" ( 193)
– هنالك وحدة بين القانون الآلهي والقانون الشامل، لا بين القانون الآلهي والشعائر. كل يعبد الله بطريقته، تختلف الشعائر والطقوس ويبقى القانون الآلهي واحدا.
– موسى بنى دولة – مملكة الأرض. وعيسى بني مملكة السماء. موسى بالتهديد والوعيد وعيسى بالمحبة.. موسى بالإنكفاء على الذات وعيسى بالإنفتاح على باقي الأمم.
موسى أدخل الدين في الدولة وعيسى حرر الدين من الدولة فما لقيصر لقيصر وما لله لله.
"شريعة موسى كلها تتعلق بدولة العبرانيين وحدها ". ( ص205)
– الصهيونية اليوم مثل الصهيونية المسيحية تقتفي أثر موسى وترتكز على العهد القديم في الخلط ما بين الدين والدولة، تحكم بإسم الإله، وتقحم الدين في السياسة والسياسة بالدين ولا تفرّق بين الثابت والمتحرك. قبل قرون أصدر البيض في أمريكا قوانين للإستيلاء على أراضي الهنود الحمر بصورة فورية إستنادًا إلى أسس إنجيلية وكانوا يزعمون أن الله منحهم هذه الأراضي وأنهم شعبه المختار.
– إن قصص الكتب المقدسة ضرورة، لأن أذهان العامة لا تقوى على إدراك الأشياء بوضوح وتمييز. ( ص 208) " التصديق بالروايات… لا صلة له بالقانون الآلهي" (ص 210)
– يسمى العامة خوارق الطبيعة معجزات أو أعمال الله وقد " إعتاد الناس تسمية الذي يجهل العامة سببه عملاً إلهياً". وكأن من يبذل جهده في تفسيره بالعلل الطبيعية قد ألغى الله.
– الخوف والجهل مثل البرد أساس كل عِلّة. الجهل الإنساني يخلط بين أوامر الله وأوامر البشر.
"القوانين العامة للطبيعة ليست إلا أوامر آلهية تصدر عن ضرورة الطبيعة الآلهية وكمالها… لا يحدث شيء في الطبيعة مناقض لقوانينها العامة… قدرة الطبيعة لا نهائية… القدماء أدخلوا في باب المعجزات كل ما لم يستطيعوا تفسيره". (ص 215-216).
– "كلما إزدادت معرفتنا بالأشياء الطبيعية… أزددنا معرفةً بالله وبإرادته" (ص 218). يستطيع الإنسان أن يصل إلى الله بما يعرف لا بما يجهل. ( الهامش)
– الكتاب (يقصد التوراة) لا يريد إقناع العقل، بل يريد إثارة الخيال وشحذ قدرته على التصوير.. "كل ما يناقض الطبيعة يناقض العقل". (ص 225)
– الحادثة الواحدة، حين تروى من قبل شخصيين مختلفين في رأيهما تظهر وكأنها حادثين مختلفين. إذن كيف يكون الأمر حين نتحدث عن رؤى وأمور خيالية قصّها علينا أناسٌ كأنها وقائع.
– يعترف الجميع بأن الكتاب المقدس هو كلام الله. ونرى الجميع تقريباً قد استبدلوا بدعهم بكلام الله، " يبذلون جهدهم بإسم الدين من أجل إرغام الآخرين على أن يفكروا مثلهم" فهم يؤولون الكتاب قسراً لتبرير هذه البدع والحكم بإسم الله. البشر يكتبون ويدّعون أنه من عند الله. ( ص 233)
– قال الفيلسوف العربي الإسلامي – الكندي – قبل شبينوزا بثمانية قرون : ان بعض رجال الدين يقذفون الفلاسفة بالكفر والإلحاد " ذباً عن كراسيهم المزوَّرة التي نصبوها ( لأنفسهم) من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئاً لم يكن له. فمن تجر بالدين لم يكن له دين." وقد عرّف الكندي الفلسفة بأنها " علم الأشياء بحقائقها". ( حسين مروة- النزعات المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية. دار الفارابي 1981 ط 4 ص 59)
– "بعض أحبار العبرانيين، كفرة فاسقون وصلوا الى الحبروية بوسائل إجرامية" (ص 254).ذلك لا يقتصر على الأحبار.
– يجب علينا تفسير الكتاب بالعقل النقدي أو بالنقد الداخلي الذي يعتمد على العقل وفهم الناحية التاريخية التي أحاطت بكتابة النصوص، وبظروف الرواة، وبمدى علمهم وثقافتهم في حينه، وبمزاجهم وسيَرهم الذاتية، وبأحوالهم المادية وتكوينهم الذهني، وبخصائص اللغة التي دُوّنت بها أسفار الكتاب المقدس، وبفهم المعنى من السياق، لا الإلتصاق بالنص الحرفي.
– في التوراة إضطراب زماني، فهي تنسب الى موسى ما لا يمكن أن يقوله من الناحية التاريخية، خاصة ما يتعلق بالكنعانيين الذين كانوا يملكون هذه الأرض في زمن موسى. وكذلك " سفر يشوع ليس من وضع يشوع نفسه". ( ص 265) أمّا سفر القضاة " فلا أظن أن شخصاً سليم العقل يعتقد أن القضاة أنفسهم كتبوه… واسفار صموئيل… القصة تستمر بعد وفاته بوقت طويل… اسفار الملوك قد تم إقتباسها… من كتب حكومة سليمان ومن أخبار ملوك يهوذا ومن أخبار ملوك اسرائيل… كتبها مؤرخ واحد" ( ص 267) هو عزرا كما يقول شبينوزا.
– إلّا أن عزرا " لم يكن آخر من صاغ الروايات المتضمنة في هذه الأسفار وأنه لم يفعل أكثر من جمع روايات موجودة عند كتّاب متعددين" ( ص 275) دون فحص أو ترتيب. لذلك نرى التكرار ونشهد إختلاف الأسلوب، والإختلاف في حسابات السنين. ( ص 277) والخلط في الأزمنة. (ص 280) والنصوص المبتورة نظرًا لعجر فهم النسّاخ ( ص 289)، لا كما يقول بعض القباليين ان وراءها اسرار في غاية العمق تماما مثل ماتقوم عليه تقوى العجائر المخرفين من ترّهات ( ص 289)
– وكذلك يبدو الإضطراب " في تكريس النبوات دون أيّة مراعاة لترتيبها الزمني". (ص 301)
– أما أذا عدنا الى سفر أيوب، فالبعض يظن أن موسى هو مؤلفه وأن القصّة رمزية، والبعض الآخر يظن أنها قصة حقيقية. أما عزرا فيعتقد أنها ترجمت الى العبرية من لغة أخرى . ولم يكن شبينوزا ليعلم ان ايوب هذا بابلي عاش في الألفيّة الثالثة ق.م. أي قبل أيوب التوراتي بمئات السنين. إنه " المعذّب البابلي" أو " الصالح المتألم" وقد اكتشفت ألواح من الآجُر في العراق تتحدث شعراً عن هذا الرجل الصالح – شو بش يشري شاقان، المعذب البابلي، حيث نرى مدى تأثر العبرانيين بسفر أيوب بهذه القصيدة. (الأسطورة والتوراة – ناجح المعموري إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ظ1- 2002 ص 83-111) كذلك الأمر بالنسبة لطوفان نوح التوراتي الذي جاء على شكل طوفان اتراحسيس في الأدب العراقي القديم، حيث اراد الآله " أيا" (اله الحكمة) تجنّب فناء البشر، فأوحى الى " نوح البابلي" بقرب الكارثة، وعلى الأغلب أنه أوتنا بشتيم الذي جاء ذكره في ملحمة جلجامش. وكانت هذه الملحمة وألواح سومر قد اكتشفت في القرن التاسع عشر. أي بعد شبينوزا بقرنين. إستلهم يهود السبي البابلي (538 ق.م.) سيرة لوط في سفر التكوين من الأسطورة البابلية لإله الطاعون إيرا ، الذي دمّر مدينتي بابل وإيريك ، حين طغت بابل وفجرت إيريك ، مدينة البغايا المقدسات والغلمان والخصيان والمثليين ، في معبد عشتار. يتحوّل إيرا إلى يهوا وتصبح مدينتي بابل وإيريك سدوم وعمورة.
– إن تاريخ الديانات مليئ بمثل هذه المقاربات. وإن مستوى التناص واضح وضوح الشمس في بعض الأحيان، إذ يبلغ حد التماثل في نصوص التوراة ونصوص الشرق الأدنى القديم ، خصوصًا الرافدي والفرعوني.
– " لم تكن هناك مجموعة مقننة من الكتب المقدسة قبل عصر المكابيين". ( ص 313)
– " القانون الإلهي مسطور في القلوب… أخشى أن يؤدي التطرف في التقديس الى تحويل الدين إلى خرافة، وان ينصرف الناس الى عبادة التماثيل والصور،أي الورق المسوّد، بدلاً من كلام الله". ( ص 328)
– غاية اللاهوت هي الطاعة والتقوى وغاية الفلسفة هي الحق والعقل والحرية، ولا يمكن أن يلتقي اللاهوت مع الفلسفة. ( ص 353)
– للّاهوت مملكة التقوى والخضوع وللعقل مملكة الحقيقة والحكمة والحرية.( ص 360)
– عند العبرانيين القداما أصبحت الدولة مملكة الله و " أصبح الله يسمى بحق ملك العبرانيين" وهذا الحكم الثيوقراطي فوّض موسى " في التشاور مع الله وتفسير أوامره". (ص 389) ومن بعد غزو بلاد الكنعانيين باسم الله، وكان الجيش هو جيش الله، والله ذاته أصبح إله الجيوش التي شكلتها الأسباط المتحالفة. وقد أصبح " حب الوطن" تقوى وكراهية الأغيار " واجب ديني" _ " كراهية تتولد عن الإيمان والتقوى". (ص 401) وعندما علا شأن الطبقة الحاكمة ( الكهنوت) وتميزت وحكمت ، بدأت الخلافات الداخلية والمنازعات وإنهارت هذه الدولة الثيوقراطية أمام الخارج. لذلك يعتقد بعض المفكرين – وأنا منهم – أنه لو عاش شبينوزا في القرن العشرين لما كان ليوافق على قيام دولة إسرائيل الصهيونية بالأسلوب وبالشكل الذي قامت عليه.
– انتهت سلطة الكهنوت ليس نتيجة العصيان أو غضب الرب إنما نتيجة لأسباب موضوعية مثل الإنغلاق والشعور بالتميّز والطغيان وسعي الأحبار للوصول الى السلطة البطرياركية على حساب الدين، (ص 413) والتستر وراء الدين ( 416).
– " من الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقدمون بشؤون الدين الحق في إصدار القرارات، أيًا كانت، أو التدخل في شؤون الدولة.
– من الخطورة ان نجعل القانون الإلهي معتمداً على المذاهب التي تقوم على النظر البحت، وأن نضع القوانين على أساس من الآراء التي هي على الأقل موضوع خلاف دائم بين الناس. من الضروري الإعتراف للسلطة العليا بالحق في تقرير ماهو شرعي وماهو غير شرعي، وذلك تحقيقاً لمصلحة الدين والدولة على السواء." ( ص 416-417).
– "السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشؤون الدينية." (ص 421)
– " مصلحة الشعب هي القانون الأسمى الذي يجب أن تخضع له كل التشريعات الإنسانية والإلهية!" (ص 426) وبذلك يصبح الدين عند شبينوزا ديناً مدنياً. بناء عليه فإن سبينوزا لا يؤمن بفصل الدين عن الدولة وحسب، إنما على الدولة أن ترعى الشؤون الدينية أيضا.
– لا يمكن لأي إنسان أن يتخلى عن حريّته، الحرية هي شرط أساسي لتقدم العلوم والفنون. " كلما حاول المرء سلب الناس حريتهم في التعبير استثار مقاومتهم" (ص 440) في بعض الدول المتقدمة قوانين تمنع العامل من التنازل عن حقوقه.
– يختتم شبينوزا رسالته بقوله: "أدرك انني بشر وأن من الممكن أن أكون قد أخطأت. ولكنني على الأقل حاولت بقدر طاقتي ألا أقع في الخطأ."( ص 444)