بلاد الشام منذ فجر التاريخ
برّ الشام بلاد قديمة تعود حضارتها إلى آلاف السنين وتقع بين بلاد ما بين النهرين من جهة ووادي النيل من جهة أخرى، شاملة ما كان يعرف بالساحل الفينيقي السوري- اللبناني- الفلسطيني، من أوغاريت شمالاً وحتى عكا جنوباً، والقسم الداخلي من الجمهورية العربية السورية الحالية، وفلسطين التاريخية.
وليس في الأمر مبالغة أنّ بلاد الشام، على صغر مساحتها الجغرافية قد قدّمت للبشرية منفردة أكثر مما قدّمته أي منطقة أخرى في العالم- من معارف وعلوم وآداب وحياة روحية. ولا غرو في ذلك، فهي أرض مقدّسة للديانات التوحيدية الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية، وفي قلب كل مؤمنٍ بواحدة من هذه الديانات في العالم، بوصلةٌ تشدّه إلى مكانٍ ما من هذه البقعة: القدس، الناصرة، بيت لحم، أنطاكيا، المسجد الأقصى، كنيسة المهد، كنيسة القيامة، الجامع الأموي، مقام السيدة زينب، وادي قاديشا، الخ. فبلاد الشام هي مهد المسيحية واليهودية ومنها انطلق الإسلام في القرن السابع الميلادي ليؤسس أكبر امبراطورية في التاريخ وعاصمتها دمشق .
سورية هي الجسر الذي ربط القارات القديمة الثلاثة عبر التاريخ: آسيا وأوروبا وإفريقيا. فهي جزءٌ من منطقة الهلال الخصيب الصالح للمعيشة والحضارة، تتوسّط مناطق صحراوية وجرداء إجمالاً. ولذلك جذبت سورية الهجرات البشرية منذ ما قبل التاريخ الجلي، وكانت هدفاً لغزوات عسكرية متعدّدة نظراً لأهميتها الاستراتيجية وثرواتها الطبيعية. والصراع على سورية ليس وليد القرن العشرين كما عنونَ باتريك سيل كتابه (Struggle for Syria)، بل هذا الصراع لوضع اليد على سورية عمره آلاف السنين وهو ثيمة مركزية في تاريخ سورية . فقد تصارعت جيوش قادمة من بر الأناضول والهضبة الإيرانية ومن وادي النيل وبلاد ما بين النهرين، وأخيراً من الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام، لتضع يدها على سورية، لأنّ السيطرة على سورية كانت مفتاحَ بناء الامبراطوريات وبابَ الهيمنة الإقليمية. وكان موقع سورية كجسر ليس فقط لتنقّل الشعوب والجيوش بل كنقطة تلاقٍ حضاري لتأثيرات ثقافية متنوّعة. كما أنّ موقعها كجسر جعلها تقاطع طرق التجارة الدولية من قوافل وسفن فجاءتها الصناعات والتقنيات والأفكار، فكانت سورية وسيطاً تجارياً وحضارياً بين الامبراطوريات. حتى إنّ شعب سورية قد امتص هذه التأثيرات على أنواعها وقولبها وفق حاجاته وصنع حضارة قدّمت الكثير من الإنجازات في تاريخ البشرية.
وتبرز أمام الباحث صعوبة في تأريخ هذه البلاد في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى. ففي كل ما كُتـب عن سورية، يذكّر المؤرّخون دائماً بأنّ استعمال عبارتي "بر الشام" و"سورية" هو دلالة على منطقة تتشارك في تاريخها العام الكيانات التي ظهرت بعد العام 1920 (أي لبنان وفلسطين والجمهورية السورية الحالية ومناطق أخرى كالاسكندرون وكيليكيا)، ثم يصبح لكل كيان تاريخه المنفصل بعد 1920.
فاسم سورية قديم في التاريخ استعمله الإغريق، وحتى الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كتعبير جغرافي لبلاد تقع شرق البحر المتوسط، وتمتد من جبال طوروس شمالاً وحتى سيناء جنوباً وأطراف الصحراء شرقاً. أو كتعبير إداري سياسي لهذه البلاد أو لجزء منها. فيما استعمل العرب تسمية "بلاد الشام" أي المنطقة الواقعة شمال (شآم) الحجاز مقارنة باليمن الواقعة إلى يمين الحجاز. وإذ يغلب على المناطق الساحلية سلسلة جبلية تمتد من أقصى الشمال وحتى جنوب لبنان، فإنّ ثمّة ثلاثة ممّرات تشقّ هذه السلسلة: الأول يقع مباشرة جنوب جبال طوروس ويستمر حتى جبال النصيرية ويسمح بالعبور إلى حلب والموصل وصولاً إلى بلاد ما بين النهرين والهضبة الإيرانية ووسط آسيا. ولقد استعمل هذا الممرّ لآلاف السنين للتجارة بين أوروبا وآسيا وكطريق للجيوش والغزاة والمسافرين.
والثاني هو ممرّ طرابلس- حمص ولكنّه ينتهي ببادية الشام. والثالث يقع مباشرة إلى الجنوب من جبل لبنان وشكّل الممر الرئيسي للغزوات المصرية والتجارية البرّية مع وادي النيل، عبر وادي الكرمل وسهل مجدّو ثم وادي الأردن فوادي اليرموك ليتصل بدمشق والداخل السوري. أمّا المناطق الجبلية -لبنان والنصيرية- فقد مثّلت عبر التاريخ ملاجئ طبيعية للأقليات الدينية .
وإذ يسيطر المناخ المتوسطي المعتدل على كامل الساحل، مع منسوب جيد من الأمطار والثلوج، ما يسمح بتجميع المياه الجوفية وتدفق الأنهر الساحلية، فإنّ الجبال التي يصل ارتفاع قممها إلى 11 ألف قدم تشكّل حاجزاً ضخماً أمام انتشار المناخ المتوسطي في الداخل السوري، باستثناء الممرات التي تجعل المناخ المتوسطي بالتمدّد شرقاً في منطقة اللاذقية ووادي العاصي شمالاً، وفي طرابلس وعكار ومحافظة حمص في الوسط، وفي ساحل شمال فلسطين حتى وادي الأردن ووادي اليرموك وصولاً إلى حوران ودرعا. وإذا أضفنا وادي البقاع الذي يعبره نهر الليطاني ونهر العاصي، وغوطة دمشق لجمعنا كل مناطق سورية التي نشأت فيها الحضارة. ولكن الأمطار في الداخل بعيداً عن الساحل قليلة الهطول وتختلف كمياتها بين عامٍ وآخر وأحياناً تمرّ سنوات جفاف فيتدهور النتاج الزراعي. ولقد تكرّرت سنوات الجفاف عبر آلاف السنين وذكر الكتاب المقدّس- العهد القديم "السنوات السبع العجاف" وما جرّته من مجاعة ومشقات. وحتى اليوم فإنّ أكثر من 60 بالمئة من أراضي الجمهورية العربية السورية يتلقى 250 ملم من الأمطار، فيما يتلقى 30 بالمئة من الأراضي 300 إلى 500 ملم، وفقط 10 بالمئة من البلاد يتلقى منسوباً معقولاً هو 500 إلى ألف ملم من الأمطار سنوياً. (ومشكلة الجفاف كانت من أسباب الحرب التي اشتعلت في سورية عام 2011).
وراء هذا الشريط الممتد من البحر وحتى عمق 100 كلم تقريباً ثمّة بادية كبرى غير صحراوية تغطيها الحشائش والنباتات الموسمية تمتد من الجنوب جوار وادي الأردن في قوس شمال الصحراء السورية أو الشامية لتنتهي عند الخليج العربي . ولذلك فقد أطلق المؤرخ الأميركي جيمس هنري برستيد على جميع الأراضي الخصبة التي تقع إلى الشمال من هذا القوس اسم الهلال الخصيب، سورية ذراعه الغربي وبلاد ما بين النهرين ذراعه الشرقي. ونجد في الذراع السوري من الجنوب إلى الشمال سهل حوران وغوطة دمشق وسهول حمص وحماه وحلب ثم الجزيرة السورية الواقعة بين دجلة والفرات . ورغم أنّ الجزيرة هي جزء من بلاد ما بين النهرين جغرافياً إلا أنّها كانت دائماً سورية حضارياً وثقافياً وتاريخياً.
وعادة ما يكتفي الكتّاب بالإشارة إلى المنحى الجغرافي للاسم فقط دون أن يتوقفوا على ما أكّده المؤرخون وعلماء الآثار من أنّ هذه المساحة شكّلت بؤرة حضارية متواصلة ومميّزة عن جوارها لأكثر من ستّة آلاف سنة. فيؤّول كثيرون وخاصة كتّاب غربيون، نظرتهم إلى سورية أنّها لم تشكّل وحدة إثنية أو سياسية ذاتية عبر التاريخ. وبهذا الإغفال السطحي أو المقصود، يبني الكتّاب توصيفهم لبلاد الشام أنّها لم تكن يوماً بلاداً واحدة، انطلاقاً من واقع القرن العشرين. أي أنّ سورية الجغرافية هي مجموعة دول ظهرت عام 1920 بعد أربعمائة عام من الحكم التركي. ويضيفون أنّ التجزئة الاستعمارية عام 1920 قد مضى عليها ما يناهز القرن وليس أمامنا اليوم سوى تاريخ للبنان وتاريخ لفلسطين وتاريخ للجمهورية العربية السورية التي لم تكن موجودة سابقاً، وتواريخ للمناطق الأخرى
ولكن أي دراسة وافية لا يمكنها تفكيك التاريخ والجغرافيا ودراسة حقبات منعزلة عن واحدها الآخر أو عن منطقة دون أخرى. ولذلك فالفصول التالية تستعرض تاريخ سورية التاريخية والجغرافية من أقدم العصور وحتى العام 1920 على أن تركّز بعد ذلك على الدولة السورية التي وُلدت في القرن العشرين. فالتأويل الذي يهمل الصورة الأكبر سواءً كان مقصوداً بداعٍ إيديولوجي، أو سطحياً لا ينظر إلى التاريخ خارج الحدود الجغرافية الحالية، إنّما يغفل حقائق جوهرية هذه بعضها:
• إنّ بلاد الشام كانت منطقة حضارية جغرافية واحدة منذ آلاف السنين، حتى لو وقعت تحت الحكم الأجنبي في تاريخها الطويل (الفراعنة والإغريق والفرس والرومان…) وإنّها كانت موحّدة بسلطة مركزية في ظل الدولة السلوقية الهلّينية، وعاصمتها مدينة أنطاكية من العام 301 إلى 141 ق.م. كما كانت موحّدة أيضاً كمركزٍ للخلافة الأموية وعاصمتها دمشق من العام 661 إلى 750 م.
• يقول فيليب حتّي إنّ اسم سورية قد أُطلق بعد الحرب العالمية الثانية على جزء من الكل، بعد قيام "الجمهورية العربية السورية" ولذلك اقتصر اسم "سوري" و"سوريّة" كاستعمال سياسي على مواطني ومواطنات هذه الدولة، بعدما كان معمماً كاسم اجتماعي حضاري على سائر سكان بر الشام.
• كما أنّ اسم سورية تواصل مع العصر الحالي في لغة محلية هي اللغة السورية السريانية إلى اليوم، واستمر كاسم لمذاهب دينية سورية سريانية مسيحية تتخذ أنطاكية كرسياً لها .
• وثمّة استمرارية ديمغرافية في سورية. إذ خلافاً لما يقال ويُكتب إنّ سكّان سورية هم خليط شعوب تنتمي لأصول إثنية ولغوية كثيرة جداً عبر التاريخ (حثيون، فراعنة، فرس، فلسطو، إغريق، رومان، صليبيون، مغول، أتراك، أوروبيون) فالحقيقة أنّ العنصر الطاغي أبداً ودائماً وحتى اليوم -إثنياً ولغوياً- هو العنصر السامي. فالغزوات الأجنبية مهما طالت لم تؤدّ إلى تغييرٍ عميقٍ في الديمغرافيا السورية.
• ويُقال ويُكتب إنّ الجزيرة العربية هي الموطن الأساسي للشعوب السامية التي انطلقت إلى سورية قبل آلاف السنين، وإنّ اللغات السامية مشتقة من اللغة العربية. ولكن هذين الرأيين لم يُثبتا علمياً. أولاً، لم يكن ممكناً عملياً نزوح بشري بأعداد هائلة دون وسيلة نقل تعبر مئات الكيلومترات عبر الصحراء من الجزيرة العربية إلى سورية. فالجمل لم يصبح حيواناً أليفاً ووسيلة للسفر إلا قبل ألف عامٍ قبل الميلاد . كما لم يأتِ ذكرٌ للغة العربية قبل 856 ق.م.، في حين كانت اللغات السامية منتشرة في أنحاء سورية حتى في الألفية الثالثة قبل الميلاد. ولكن ومنذ القرن السابع قبل الميلاد بدأت هجرات عربية كبرى نحو سورية أخذت تطبع شعب سورية إثنياً ولغوياً خاصة منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي. وهكذا فإنّ اختلاط العرب الساميين مع سكان سورية الساميين هو الذي أوجد شعباً سورياً متجانساً بشخصية اجتماعية وإثنية محدّدة، لا يزال هو السائد حتى اليوم .
• انقسم سكان سورية إلى قبائل ومذاهب دينية في البداية، ثم اتخذ هذا الانقسام أشكالاً ثقافية واجتماعية وفي مناطق جغرافية متجاورة ولكن منفصلة. فالهجرات السامية إلى سورية قبل آلاف السنين اتخذت شكل مجموعات قبلية ولم تكن هجرات أفراد. وكل قبيلة وافدة كانت تنزل في منطقة محدّدة وتجاور قبائل أخرى بصفة مستقلة. وإذ كان الأساس قبلياً وعائلياً، فإنّ كل جماعة كوّنت زاويتها أو ركنها الخاص على أرض سورية ومع مرور الزمن طوّرت تقاليدها وعاداتها وفولكلورها وأزياءها وأحياناً لهجاتها. واستمر هذا الانقسام إلى اليوم حيث يغلب الانتماء العائلي والقبلي والمناطقي وأحياناً المذهبي على الانتماءات الأكثر سمواً. ولعدّة قرونٍ برز الانقسام القبلي في سورية بين قيسية (عرب الشمال) ويمنية (عرب الجنوب). ذلك أنّ اليمنيين قد نزلوا سورية أولاً ومنذ القرن السابع قبل الميلاد، ولم تلحقهم قبائل شمال الجزيرة وبأعداد كبيرة إلا بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي. وحتى القرن التاسع عشر، كانت النزاعات القيسية اليمنية لا تزال تظهر في جبل لبنان بين يزبكية وجنبلاطية.
• الانقسام في سورية إذاً ومنذ القدم هو قبلي اجتماعي ولكن خاصة ديني مذهبي، ولم يكن إثنياً/عنصرياً أو لغوياً. وفي القرن العشرين ساهمت الثقافة العربية واللغة العربية في توحيد الشعب السوري، ولذلك فالقول إنّ سورية هي موزاييك أقليات هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. ولم تشكّل الأقليات العرقية واللغوية أكثر من نسبة صغيرة من السكان. وأهم هذه الأقليات الإثنية كان الأكراد وخاصة في شمال سورية، بعدما جاؤوا من كردستان، موطنهم الأصلي بتاريخه العريق والذي يتوسط شرق تركيا وشمال العراق وغرب إيران. لقد اندمجت الهجرات الكردية السابقة في مجتمع سورية منذ قرون ومعظمهم أصبح ناطقاً بالعربية. ولكن في القرن العشرين بعد قيام الجمهورية التركية، مارس الترك الاضطهاد المفرط ضد الكرد في شرق البلاد، فهاجرت أعداد منهم إلى سورية ولبنان في زمن الانتداب الفرنسي وتلك الموجة هي التي احتفظت بهويتها ولغتها. ويقيم الكرد اليوم في منطقة الجزيرة السورية وجبال كرد داغ شمال غرب حلب وجرابلس شرق حلب . أمّا حي الصالحية في دمشق فأكراده نزلوا فيه في القرن الثاني عشر أيام صلاح الدين الأيوبي الذي كان كردياً من تكريت.
أمّا الشركس فهم لجؤوا من جبال القفقاس إلى سورية هرباً من الحرب التركية الروسية التي دارت جزئياً في ديارهم عامي 1877 و1878. وكانوا من المسلمين السنة وتزاوجوا من العرب حتى أصبحوا ناطقين بالعربية. أمّا أرمن سورية فمعظمهم لجأ إليها هرباً من الاضطهاد التركي خاصة بعد الحرب العالمية الأولى.
أي إنسان مثقف أو حاصل على شهادة مدرسية أو جامعية لأي بلد انتمى في العالم، يدرك تماماً أنّ الكثير من مفاهيمه وقيمه العليا إنّما جاءت من بلاد الشام. فمن هنا انطلقت مقولة وحدانية الخالق وأنّ الإنسان صُنع على صورة الله وأنّ كل إنسان هو أخ لكل إنسان في ظل الرعاية الأبوية الإلهية، وأنّ البشرية وُلدت من أم وأب هما آدم وحواء. وهذه الأفكار على بساطتها اخترقت أُسس النظرية الديمقراطية في الفلسفة اليونانية حول جوهر الإنسانية. كما انطلقت من سورية أيضاً القيم الإخلاقية والمبادئ الروحانية الاسمية وفكرة انتصار قوى الخير على الشر. وبهذا يكون أهل بلاد الشام هم معلمو العالم منذ القدم.
وعدا عن الأفكار الروحية السامية، قدّمت هذه البلاد الأحرف الأبجدية للعالم وعددها 22 حرفاً. فاعتمدتها معظم لغات العالم تقريباً (باستثناء بلدان شرق وجنوب آسيا كالصين واليابان وكوريا، الخ). وانتشار هذه الأحرف حافظ على تراث البشرية العلمي والأدبي من الضياع بكتابته وتدوينه منذ آلاف السنين بالأحرف الفينيقية وما اشتق عنها من حروف كاللاتينية والإغريقية والروسية. ولذلك ليس ثمّة اختراع في كوكب الأرض يفوق قيمة هذا الاختراع. فقد تعلّم الإغريق الأحرف من الكنعانيين (الفينيقيين) ونقلوها إلى الشعوب السلافية في شرق أوروبا، وإلى الرومان الذين نشروها في غرب أوروبا وباتت تُعرف بالأحرف اللاتينية. ومن سورية أيضاً قام الآراميون بنقل حروف الأبجدية هذه إلى الجزيرة العربية وإلى مناطق انتشار الناطقين بالعربية، الذين بدورهم نقلوها إلى بلاد الفرس والهند والسند في فتوحاتهم الإسلامية.
لقد سبق كتابة الأحرف الأبجدية الكتابة المسمارية، حيث عُثر على أقدم لوحات منقوشة على حجر الآجُر تعود إلى 3500 قبل الميلاد من حقبة سومر في جنوب العراق. وتواصل تطوّرها وانتشارها على الساحل السوري خلال مئات السنين وخاصة منذ 2500 ق.م، مع الحضارات السامية الفينيقية الكنعانية على الساحل، ومع شقيقتيها الحضارتين العمورية الكنعانية في شمال سورية والآرامية في دمشق . وأول مرّة ظهرت الألفباء بشكلها المتطوّر كانت في شمال سورية، حيث عثر علماء الآثار على لوحات في أوغاريت عليها أحرف تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد .
شهدت حفريات أركيولوجية أنّ الثورة الزراعية الأولى في العالم قد بدأت أصلاً في سورية مع تدجين القمح ليصبح نبتة يزرعها ويحصدها الإنسان بانتظام موسمي قبل آلاف السنين، حيث عثر علماء الآثار على بقايا قمح في أريحا تعود إلى سبعة آلاف سنة. وفي سورية بزغ العصر البرونزي حيث اكتشف صب النحاس والحديد معاً في تطوير أدوات الصناعة والحرب، وظهرت صناعة الخزف والفخار. وهذه الثورات الاقتصادية أدّت إلى ظهور المدن واستقرار الإنسان في سورية القديمة سواءً على طول الساحل أم في الجبال أو في السهول الواسعة في الداخل، قبل أي مكان آخر في العالم. وتشهدُ على ذلك آثار مدن دمشق وحلب وجبيل على سبيل المثال التي بدأ سكناها ولم يتوقّف منذ ما قبل أكثر من سبعة آلاف سنة.
ويقول فيليب حتّي: "حتى لو لم تقدّم سورية أي خدمة أخرى للبشرية سوى القيم الروحية والحروف الأبجدية، فهذا كافٍ ليجعلها أعظم بلادٍ أفادت البشرية" .
ومساهمة سورية لم تتوقف عند هذا الحد، بل إنّ أعمالاً حضارية وتاريخية مهمة وقعت في هذه الرقعة من العالم لا مثيل لها في أي رقعة مساوية لها بالمساحة في العالم. وهذا جعل سورية بوتقة مصغّرة لتاريخ حضارة العالم. وحتى في أعظم حضارتين غربيتين -الإغريقية والرومانية- اللتين كانتا أساسَ العالم الغربي، نجد مفكرين ومؤرخين ومعلمين وفلاسفة وعلماء من هذه البلاد، وأولى معاهد الحقوق الرومانية كانت في بيروت.
وبعد انطلاق الإسلام من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، سرعان ما أصبحت دمشق هي قاعدة الخلافة وعاصمة الامبراطورية العربية الأموية التي امتدت من إسبانيا وفرنسا غرباً وبلاد السند والهند شرقاً وحتى حدود الصين. ما جعل سورية أكبر من الامبراطورية الرومانية في أوجها. ثم كان استمر دور سورية أساسياً في عصر العرب الذهبي حتى بعدما انتقل كرسي الحكم إلى بغداد في العصر العباسي عام 750 ميلادياً. فقد كانت بلاد الشام جزءاً من الامبراطورية البيزنطية قبل الفتح العربي، ولذلك ساهم المسيحيون السوريون بشكل رئيسي بترجمة آلاف النصوص اليونانية القديمة إلى لغتهم السورية الأم- السريانية وثم إلى اللغة العربية، وخاصة في أكاديمية بيت الحكمة في بغداد. وبذلك حفظ السوريون تراث اليونان من علوم ورياضيات وفلسفة وموسيقى وسائر حقول المعرفة من الضياع بنقله إلى العربية. وبذلك كانوا جسراً حضارياً أثناء عصر الظلمات في أوروبا، لتتمكّن أوروبا من الاستناد إليه في تحقيق نهضتها المعروفة.
ومنذ القرن الثاني عشر ميلادي، أصبحت سورية مسرح أحداث عالمية شكّلت نواة صراع الشرق والغرب لعدّة قرون. فقد جاءتها غزوات الفرنجة من فرنسا وألمانيا وإنكلترا بشكل رئيس منذ العام 1099 وحتى مطلع القرن الرابع عشر، واحتلت الساحل السوري وهضاب فلسطين ومدنها الداخلية لفترة فاقت المائتي سنة. ومنذ ذلك الحين أصبحت سورية ميداناً رئيسياً للمواجهة العسكرية بين الشرق والغرب بسبب موقعها الاستراتيجي الوسيط بين قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، وكذلك معبراً إلزامياً لطرق التجارة الدولية بين هذه القارات ومركزاً لانطلاق الفكر والمعرفة.
ثم إنّ تاريخ سورية القديم لا يمكن أن يُدرس كمساحة منعزلة بل كجزء من منطقة أكبر. فصحيح أنّ الغزوات كانت تأتي سورية من الامبراطوريتين النهريتين على جانبيها -وادي النيل غرباً وبلاد ما بين النهرين شرقاً، مع تحوتمس وسرجون الأكادي مثلاً- ثم في المرحلة العربية مع خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وبيبرس. ولكن هذه الغزوات اختلفت عن الغزوات الهلينية والرومانية والصليبية. فطبيعة الصراعات الإقليمية بين شعوب المنطقة ومنذ فجر التاريخ لا تنفي أنّ سورية ووادي النيل وبلاد ما بين النهرين مجتمعةً شكّلت أهم كتلة حضارية أشعّت على العالم. فلا يمكن نكران أنّ حضارة سورية القديمة قد تواصلت مع بلاد ما بين النهرين سواءً عبر التواصل السكاني العمراني من حلب إلى الموصل، أو عبر انتقال الثقافة الكتابية من سومر في جنوب العراق إلى الساحل السوري قبل 5500 عام. وأنّ سورية كانت لقرونٍ عديدة غير منقطعة جزءاً من الممالك المصرية والأكادية وما تلاها من ممالك بلاد ما بين النهرين.
ومنذ فجر التاريخ، احتاجت مصر الفرعونية إلى الخشب لحضارة وادي النيل، وكانت الأشجار متوفرة بكثرة في جبال في سورية- في جبال الآمانوس وجبال لبنان، كالأرز والصنوبر والشربين والسنديان والحور وكذلك الذهب والفضة من كيليكيا في شمال سورية. وبدأ استيراد مصر للأخشاب والمعادن من سورية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، فيما بدأت المدن السومرية باستيراد الأخشاب السورية في الألفية الثالثة. وكانت جبيل هي مرفأ التجارة السورية الرئيسي ابتداءً من الألف الثالث. فكانت السفن تنطلق من جبيل إلى مصر محمّلة بالبضائع وخاصة الأخشاب ومواد التحنيط ومنتجات اشتراها الفينيقيون من بلاد ما بين النهرين لحساب مصر . ولقد طمع الفراعنة بثروات سورية وغزوها مراراً، فكانت سورية مجالاً حيوياً لمصر لفترات زمنية طويلة. في العام 1479 قبل الميلاد، انتصر الفرعون تحوتمس الثالث على تحالف سوري ضم قوات عسكرية من المدن الرئيسية، وذلك في معركة مجدو في فلسطين. فنهب جيشه كنوزاً كبيرة دلّت على مستوى الرفاهية والغنى.
ومنذ 1099 توالت الغزوات الأوروبية، بدءاً بحروب الفرنجة على سورية. فشهد بر الشام هبوط الأسطول الروسي مثلاً في القرن الثامن عشر وقدوم جيوش فرنسا بقيادة نابليون بونابرت عام 1799. ثم ومنذ الثورة الفرنسية وُلد التحدي الحضاري والعسكري الأوروبي. فعاد بر الشام إلى الازدهار وأعطى العالم العربي قيادة نهضته الأدبية والعلمية والثقافية، انطلاقاً من حلب وبيروت وحمص. فقد تمكّن أبناء سورية ولبنان وفلسطين في القرن التاسع عشر وعبر احتكاكهم العميق بأوروبا الغربية وبالدراسة الأكاديمية والسفر، من تحصيل المعارف الجديدة ونقلها إلى بلدان الشرق الأدنى. ما فجّر حركة اجتماعية ثورية في مصر وفي بر الشام في الصحافة والأدب والمسرح وفي تأسيس الجامعات والمعاهد وتحرير المرأة. ولعبت الهجرة من بلاد الشام دورها في هذه النهضة الحديثة التي رفدتها جاليات السوريين واللبنانيين من بلدان الانتشار، سواءً من القاهرة والاسكندرية أو من نيويورك وبوسطن وساو باولو وبوينس آيريس وسيدني. ما أعطى نموذجاً متواصلاً عن ديناميكية وإقدام سكان هذه البلاد في المجالات الحضارية منذ فجر التاريخ إلى اليوم.
وهكذا فإننا نشهد حياة حضارية في بر الشام بشكل متواصل ومن نفس الشعب لفترة ستّة آلاف سنة في عرض تاريخي متواصل. فإذا قورنت بأوروبا منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الخامس عشر ميلادي، نجد حضارة سورية شمساً ساطعة لم تكن أمامها أوروبا سوى منطقة مظلمة ومتخلّفة استفادت من نور هذه الشمس.
وليس غريباً أن تبدأ الديانات التوحيدية من سورية. فقد سبق ذلك عبادة آلهة متعددة رافقت حقبة انتشار الثورة الزراعية قبل آلاف السنين وتدجين الحيونات الأليفة. فقد ابتكر قدماء السوريين عدّة آلهة كقوى خارقة تحرس الحقول والقطيع. وتطوّرت شعائر تقديم الأضحية الزراعية والحيوانية عند مذابح هذه الألهة لشكرها في مواسم الحصاد. وكذلك انتشر الإيمان أنّ ثمّة حياة أخرى بعد الموت، فيترك ذوو الميّت الأطعمة والحبوب داخل التابوت.
لقد تكوّنت مفاهيم آلهة سورية في العصر الزراعي وفي مقدّم هذه الآلهة الشمس بسبب الأهمية القصوى لحرارة الشمس ونورها للزراعة. وباتت الشمس إلهاً محورياً، حتى إنّ أحد معاني كلمة سورية هي "بلاد الشمس الساطعة . يليها الأرض وهي الأم التي ينبت منها كل شيء ويموت في حضنها كل شيء. فظهرت آلهة الخصوبة ومنها ثنائي آدونيس- عشتار (أو عشتروت) ومفهوم تجدّد الطبيعة كل عام أي الانبعاث بعد الموت. ويعادل هذه الآلهة إيزيس وأوزيريس في مصر الفرعونية.
وثمّة أسرة لغات سامية مشتركة، انتشر بعضها وبشكل واسع في أنحاء سورية وبلاد ما بين النهرين منذ الألف الثالث قبل الميلاد. فكان الانتشار السامي الأول والأهم حوالي 3000 سنة قبل الميلاد هو للعموريين في شمال سورية وللكنعانيين على الساحل. يليهم الآراميون والعبرانيون في الألفية الثانية قبل الميلاد، ثم الأنباط (عرب) في النصف الثاني من الألفية الأولى قبل الميلاد. ومنذ القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد لم تتوقف الهجرات العربية إلى بلدان الهلال الخصيب .
واللغات السامية في سورية هي: الأكادية (الآشورية أو الآثورية البابلية) في الشمال الشرقي، والكنعانية (الفينيقية والعمورية) في الشمال والغرب، والآرامية (السريانية أو السورية) في الوسط، والعربية والعبرية في مناطق الجنوب. ويؤكّد المؤرخون أنّ التشابه بين هذه اللغات في المفردات والقواعد هو كبير، حيث يمكن تمييزها كعائلة لغوية واحدة بسهولة عن أي عائلة لغوية أخرى. كما يشير المؤرخ الألماني غرهارد هيلم إلى أنّ الناطق بالعربية الذي يسافر إلى ساحل لبنان قبل 3000 عام لن يجد صعوبة في التفاهم مع الناطقين باللغة الفينيقية .
• صدر عن المكتبة الشرقية – بيروت – كتاب كمال ديب الأخير "سورية في التاريخ من أقدم العصور إلى 2016"، هذا جزء من الفصل الأول ننشره بموافقة المؤلف.