رحل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، فأشعل نار الكلمات، تخمّر جمرها طويلاً، صارت جحيماً يلهب ظهر الغاصب الإسرائيلي، خاض معارك بلا هوادة على جبهتين: عدو مغتصب يحتل تراب وطنه، ومرض داخلي يمزق جسده، سلاحه الشعر والإبداع، لغة الشعر بارقة صافية ملعونة، معجونة بالحنين والألم والوجع، ليبحث عن شظايا وطن متناثرة، وسط الخراب والتدمير والخيانة، يحفر درباً لضوء النهار، وسط العتمة، نهار الأمل والحرية والعدل. ولما أحسّ أن مواجهته مع الموت قد دنت، صرخ فى وجهه: "أنا لا أحبك يا موت/ لكنني لا أخافك/ أعلمُ أنّك تضيق عليّ ضفافك/ وأعلمُ أن سريرك جسمي/ وروحي لحافك/ أنا لا أحبك يا موت/ لكننى لا أخافك"..!..
ولد سميح القاسم في 11 مايو 1939 ببلدة الزرقاء الأردنية العام 1939، لعائلة فلسطينية، درس في الرامة والناصرة.. بقيت الأرض حاضرة في شعره، والنضال نبراساً والصمود شمساً، عمل معلماً وعاملاً وصحافياً.. أسس صحفاً عدة، كان أهمها "كل العرب"، وتنوعت أعماله بين الشعر والنثر والمسرحية، وتجاوز عددها السبعين، تُرجم عدد كبير من قصائده إلى معظم لغات العالم، وحاز على عديد الجوائز الأدبية من مختلف أقطار الأرض، تشبث بأرضه ولم يغادر فلسطين، وساند المقاومة والانتفاضة ودعا إليهما، على أمل العودة.
وللقاسم قصائد حظيت بشهرة في عموم العالم العربي ومنها (منتصب القامة أمشي) التي غناها الفنان اللبناني مرسيل خليفة وتحولت إلى ما يشبه النشيد الشعبي الفلسطيني.
آراء
ماضٍ من أسلحة المواجهة
بول شاوول
رحل الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم، قاسياً في رحيله، مُرّاً في موته، مُفتقداً في حضوره الشعري، رافضاً، غاضباً، مقاوماً، عنيداً، في وجه مغتصبي وطنه. احترقت كثيراً في عينيه تواريخ بلاد كانت له، ولأهله، ولشعبه؛ ترمدت كثيراً أرض تحت قدميه، منذ طفولته، داستها ودنستها أحذية الطغاة، والمحتلون، والصهاينة. كان بدأ الشعر مع ترحل الوطن. وما أحدّ الشعر في رحيل وطن. كان له أن يُحكم بمنفى عاشه في فلسطين. ما أرهب أن يكون الوطن منفى. عاش في أول الشعر وآخره، مع أول الاحتلال وامتداده، حتى عينيه، وبيته والهواء الذي يتنشق، والشمس التي يمتصّ، كيف لشمس على بعد عينيه، في حيفا ويافا والجليل ولا تكون له؟ كيف لشجرة طلعت منه، ومن أطفال بلاده، ومن تربة مباركة، أن يقطعها عليه، وعلى يديه، المغتصبون.
سميح القاسم ورماد الذاكرة
محمود شريح
سميح القاسم الشاعر الذي وحّد بين واقعه القومي وواقع الإنسان الفلسطيني، فنزع عن قوميته إطارها الضيّق وجعل ما يعانيه الإنسان العربي فيها ضوءاً لمعاناة الإنسان عامة. فالشاعر بارع منذ بداياته في اقتناص الواجهة المثيرة لبنائه الفني، بحيث يشد إلى الحدث الذي يبدأ بصورة مفاجئة جميع العيون والجوارح، فهو، لا ريب، شاعر المواقف الدرامية وشاعر الصراع. وكثيراً ما تلاعب بالحروف الزاخرة بالإيحاءات في الأدب الفلسطيني. نبرته صيّاحة كأنها صادرة عن مارد سجن في قمقم.
مقاتل الأفاعي في جحورها…
الياس العطروني
لم يكن سميح القاسم شاعراً عادياً، كان منذوراً لقضيته، سُجن واضطهد، ووقف صامداً في وجه جلّاده، وقاوم الأفاعي في جحورها، وجعل من شعره وكتاباته ومواقفه مداداً لاستمرار الثورة.
حتى في مقاومته للسرطان، كما يقول من حوله، كان ثورياً، لم يرضخ ويستسلم، قاتل حتى الرمق الأخير، وغادر حاملاً معه عبق البيارات وعرق رجال ما زالوا يعشقون البندقية، وعبير دماء شهداء مضوا فداءً لأرض لا بدّ أن تطرد إبليس وزبانيته عن ترابها.
شاعر الألم الثائر الغاضب
جورج كعدي
سميح القاسم، الشاعر الرقيق، الشفيف، رغم غضب وثورة وصدى وجدان يتردّد في شعره مأسويّاً متألماً منتفضاً حائراً، كما مع محمود درويش، رفيق الشعر والثورة والقضيّة، نبض الفعل الفلسطينيّ المقاوم، وكانا توأمي إبداع وصداقة ونضال لا يستكين شعراً ونثراً ومسرحاً وأغنية ثوريّة منتقاة ممّا فاض به الوجدان الكليم النازف دماً وحزناً حارقاً على شهداء وطن يُذبحون يومياً على أرض وطن سليب تسقيه دموع الأمّهات والآباء على الأبناء، أو دموع الأبناء الذين أضحوا أيتاماً على ذويهم… فدم الشهادة الفلسطينيّ فاض أنهاراً وما عادت تسعه قصيدة ولا توقف فيضه كلمات ثورة وغضب.
الليلك الفلسطيني
صقر أبو فخر
الليلك هو لون الحيرة والقلق، والكآبة أحياناً. ليس لوناً صافياً أو رائقاً هو، بل امتزاج الأزرق والأحمر والأصفر معاً، تماماً مثل سميح القاسم الفلسطيني العربي الذي يحمل جواز سفر إسرائيلياً ويرفض أن تكون هويته غير عربية. كانت «دنيا»، حبيبة الطفولة، ترتدي الثوب الليلكي عندما لجأت مع أهلها إلى لبنان في سنة 1948 فأورثته كمداً طاغياً، وكثيراً ما كان يراها في أحلامه عائدة بثوبها الليلكي، فيسكت وجيف قلبه. لكنه، في ما بعد، صرخ متحرقاً: «إلى الجحيم أيها الليلك»؛ حينذاك، انتصر على انقسام الهوية وانشطار الذات، وأنهى ألم الحيرة وباح بالحق: الليل الذي لك هو الليل الذي لي، وأرفض أن تكون فلسطين «لي ولك»… إنها لي وحدي.
شاعر القضايا الانسانية العميقة
لامع الحر
ارتبط اسم سميح القاسم بالأرض، بفلسطين، بنبع القداسة، بديمومة الحياة المستمرة على الرغم من الاحتلال الغاشم، وعلى الرغم من الأجواء التي تحيط به من كل حدب وصوب.
لم يكن يكتب كأولئك الذين يركبون الموجة، ليصلوا، وهم على استعداد لركوب أي موجة تؤمن لهم بلوغ عالم الشهرة بل كان – وما يزال – مقتنعاً بكل كلمة يقولها، لأنها تعبّر عن موقفه الحقيقي من الحياة، ومن الاحتلال، ومن كل ما يحيط به ذلك الزمن الصعب.