لا يزال لبنان، منذ ما قبل تحوله إلى الجمهورية اللبنانية، يعيش حالته السياسية المرتبطة بشكل وثيق بتوزع سكانه على الأساس الديني والطائفي منذ ما يزيد على القرنين من الزمن. وقد ارتبط مصيره بعلاقات طوائفه منذ ما كان محصوراً في الجبل، في سلم بارد مع مكوناته الديمغرافية، أو في نزاع حار، مع كل ما يتبع ذلك من تدخلات خارجية تعمل من أجل الجباية أو الحماية، ولا فرق بعد ذلك في ما يمكن أن تؤول إليه الأمور بين سكان الجبل بإقطاعييه وفلاحيه، وبالمنتمين فيه إلى طوائفه المختلفة. ولم يختلف الأمر بعد ضم الملحقات، وإن اختلفت عناوين المتنازعين أو هويات الداعمين والمتدخلين. وطن يضم أهله بدينامياتهم المتغيرة، ومفتوح على العالم، ومتقبل لشتى أنواع العلاقات المختلفة باختلاف الداعمين، شاء ذلك أم أبى، وليس عليه، حتى الآن، إلا إدارة الخلافات، والاستسلام لمصيره.
بين الأمس واليوم
تحاول هذه الورقة تتبع المسار الديموغرافي للبنانيين منذ زمن المتصرفية، وإن كانت العلاقات بين سكان الجبل محكومة بالانتماء والذهنية الطائفيين قبل ذلك بكثير. إلا أن تتبع هذا المسار له مشروعيته باعتبار أن هذا النظام هو الذي أرسى الحكم على الأساس الطائفي، وعلى أساس العدد في كل طائفة. نظام ترسخ بالممارسة، وتقوّى بزعامات سياسية أوجدها، وعملت على استمراره وإن تغيرت الأسماء ومن يمثلون. نظام لا يزال سائداً إلى اليوم مع تغير الوزن لكل طائفة؛ وهو الوزن الذي تأخذه من عددها، أولاً؛ ومن الرياح السياسية التي تهب على لبنان من المنطقة، أو من خارجها، فتلفح من يتناسب هبوبها مع أشرعته، فيمضي ليعمل على تغيير ما هو قائم.. وما هو قائم لا يعدو كونه توزيع حصص ومكاسب، وما سيقوم ليس أكثر من إعادة النظر في التوزيع، ولو تطلّب الأمر آلاف الضحايا. وهكذا، إلى أن نرسو على برّ لم تظهر تباشيره بعد. وما يظهر اليوم، على الصعيد السياسي – الاجتماعي لا يزال مرتبطاً بالوضع الديموغرافي، طالما أن السياسة لا تزال مرتبطة بالطائفة، كما لا يزال الانتماء الطائفي متقدماً على أي انتماء آخر.
ديموغرافيا المتصرفية
شهد الجبل نوعاً من الاستقرار في فترة المتصرفية. إلا أن هذا الاستقرار لا يعني غياب الاهتمام بالواقع الديموغرافي، بل على العكس، فقد ازدادت أهمية الاحصاءات والمسوحات التي كان يدفعها المحرك الطائفي، بغية الحصول على أكبر عدد من الوظائف العامة. هذا بالإضافة إلى اهتمام الإدارة بهذا الموضوع بهدف تنظيم أمور الضرائب وتقدير عدد الرجال القادرين على الانتاج والعمل
فصدر في هذا الاطار تقرير عن القنصلية الفرنسية، يظهر فيه أن عدد سكان المتصرفية بلغ 235,791 نسمة[1] عام 1863.
كما نلاحظ أيضا أن الموارنة لم يكونوا الأكثرية الساحقة ضمن مجموع المسيحيين من السكان، لا بل كانوا الأكثرية في مجموع السكان المختلطين إذ بلغت نسبتهم 55.9% من السكان. فهذه النسبة مكنتهم من المطالبة بأكبر تمثيل في مجلس الإدارة، وهو ما سيتحقق في السنوات اللاحقة لهذا التعداد. أما أقرب نسبة من سكان الطوائف المسلمة من نسبة الموارنة، فتعود للدروز. إلا أنها بقيت أدنى من نسبة الأرثوذكس[2]. وما يلفت الانتباه هنا أيضاً هو تدني الأرقام الواردة في هذا التعداد عن تلك المذكورة في التعدادات السابقة للمتصرفية. فقد يعود هذا الأمر إلى سببين، هذا إذا اعتبرنا أن الأرقام صحيحة. السبب الأول، هو العدد الكبير للضحايا الذين سقطوا خلال المعارك السابقة لاعلان المتصرفية. أما السبب الثاني، فيعود إلى الهجرة التي بدأت تستشري بين صفوف سكان الجبل نظراً لضيق الأحوال، وتوافر الأخبار عن مدى الثروات التي تنتظرهم في العالم الجديد. «وكان ضيق ذات اليد السبب الرئيس للهجرة، لأن ضيق حدود جبل لبنان بموجب نظامه الدولي الموضوع سنة 1861 وحرمانه من الأرض الصالحة للاستثمار لا يتفقان مع نشاط اللبنانيين وجهودهم الجبارة التي جعلت من صخور التلال والأودية جنةً غناء»[3]. فوصف روبير كراسويل هذه الهجرة بأنها «أتت لتجسد أحد أعظم الأحداث أهمية في التاريخ اللبناني الحديث».
وتجدر الاشارة أيضاً إلى أن التقارير والدراسات اللاحقة أوردت نتائج أكثر دقة من تلك الصادرة سابقاً. إلا أنها لم يكن موثوقاً بها بشكل تام، وذلك بسبب تنوع طرق تنفيذها. فتعداد عام 1867 أجري فقط على الذكور ما بين 15 و 64 عاماً، مما استوجب إجراء توقع آخر، من خلال ضرب العدد بالنسبة المتوقعة لهذه الفئة من السكان، للحصول على رقم تقريبي لهم على الشكل الآتي: بما أن عدد الذكور البالغ 99,834 يشكل 26% من مجموع السكان، يصبح العدد الكلي لسكان المتصرفية 380,000 ( بالتحديد 99,834 ضرب 100 على 26 يساوي 383,976 نسمة)، وهو رقم مرتفع مقارنة بما ذكره ضاهر في هذا المجال[4]. إلا أن المزيد من التقارير الصادرة تباعاً أظهرت أرقاماً قريبة من الـ380 ألفاً. ففي عام 1887، تم إحصاء المساكن التي بلغت 52,780 منزلاً. وبما أن العدد المتوسط للأفراد في المنزل يبلغ 7.5 نسمة، يصبح عدد السكان 395.000 نسمة. أما التقدير الأكثر «جدارة بالاحترام»، حسب كرباج وفارغ، فهو الذي أجراه «فيتال كوينيه» Vital Quinet عام 1895، وخلص إلى أن عدد السكان هو 399,530 نسمة[5] . هكذا نجد أن سكان المتصرفية وصلوا إلى حدود الـ 400,000 نسمة في مطلع القرن العشرين، وعلى مساحة 3,200 كلم2، مما رفع كثافة السكان إلى 125 نسمة في الكلم2؛علماً أن هذه المساحة لم تكن كلها مزروعة أو قابلة للزراعة، تبعاً للتقنيات المتوفرة في حينه.
هذه الكثافة المرتفعة دفعت بالعديد من الشباب إلى الهجرة التي تزايدت بشكل سريع قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. وهذا ما أكدته الأرقام الأقرب إلى الصحة، التي أتى بها التعداد الذي أجراه كوينيه عام 1895 وأوهانس باشا عام 1913. فالتعداد الحاصل عام 1913 أحصى السكان بطريقة مباشرة، أي من دون اللجوء إلى تقديرات وسيطة مثل نسب الذكورة أو نسبة فئة عمرية من اجمالي عدد السكان. وخلص إلى نتيجة مفادها أن عدد السكان هو 414,768 نسمة. إلا أن هذا الرقم ارتفع بعد تصحيحه ووصل إلى 468,714 نسمة.
وبالاستناد إلى هذه الأرقام، يمكن احتساب معدل الزيادة السكانية الذي يبلغ 0.9% سنوياً. وهو منخفض جداً، ربما بسبب الهجرة المتزايدة لسكان المتصرفية. ولكن من المهم لفت النظر إلى أن هذه الهجرة لم تكن دائماً خارج «لبنان الكبير» ( كما سيصبح عام 1920). فالعديد من أهل المتصرفية هاجروا باتجاه بيروت طلباً للعمل والسكن[6] . وهذا ما يفسر بداية التحول السكاني في بيروت، بالاضافة طبعاً إلى عوامل أخرى، منذ منتصف القرن التاسع عشر، نحت بالمدينة إلى ما ستصبح عليه اليوم، أكبر تجمع سكاني في لبنان.
ومع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، الذي شهد نهاية نظام المتصرفية، قدر عدد السكان في الجبل بـ 414,800 نسمة[7].
في مقارنة سريعة بين الجداول التي تظهرها المصادر الآنفة، نرى أن نسبة الموارنة قد ازدادت بشكل ملحوظ بلغ 2%. وأتت هذه الزيادة على حساب الكاثوليك، ولكن من الممكن أن يكون هناك خطأ في أحد التعدادين قضى باحتساب أبناء إحدى الطائفتين من الطائفة الأخرى. أما الدروز، فقد انخفضت نسبتهم لتصل إلى 7% فقط من مجموع السكان. وكانت هناك أيضاً زيادة طفيفة لنسبة الشيعة في المتصرفية.
وفي ما يتعلق بالمناطق التي ستلحق بجبل لبنان عام 1920 شكلت مدينة بيروت مركزاً تجارياً وثقافياً مهماً، وبالتالي مركز جذب للمهاجرين من الجبل (باعتباره مستقلاً ادارياً) والنازحين من المناطق المحيطة طلباً للعمل أولاً، وللعلم ثانياً، بعد أن احتضنت المدينة أول وأكبر جامعتين في المنطقة: الكلية السورية (التي ستعرف لاحقاً بالجامعة الأميركية) وجامعة القديس يوسف، فضلاً عن الدور الهام الذي لعبه مرفأ بيروت في التجارة مع البلدان المحيطة. وهكذا تضاعف عدد سكانها في أقل من عشرين عاماً (1860-1875)، ليشكل ثلاث مرات تقريباً بين 1860 و1914. وهذا ما أظهره كرباج وفارغ بشكل واضح[8].
أما التوزع الطائفي في بيروت، فيختلف بشكل واضح عما كان عليه في بداية زمن المتصرفية. فالسنّة هم الأكثر عدداً، وليس الموارنة الذين باتوا يشكلون الطائفة الثالثة لناحية العدد، بعد الروم الأرثوذكس[9].
كما نلاحظ في تعداد كرباج وفارغ أن المسيحيين كانوا يشكلون 67.9% من مجموع سكان بيروت عام 1889.
إلا أنه في نهاية عهد المتصرفية أو بداية عهد الانتداب الفرنسي، تراجع عدد سكان بيروت من 103,900 نسمة عام 1889، إلى 77,292، أي بنسبة 25.6%، وذلك بسبب تراجع عدد المسيحيين في تلك الفترة[10] بنسبة 44%. ويعود هذا للهجرة الكثيفة للمسيحيين بعد الحصار الذي فرضه جمال باشا (السفاح) على جبل لبنان عام 1915، ووفاة الآلاف بسبب المجاعة.
ديموغرافيا لبنان الكبير
تم إعلان دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول عام 1920. حمل هذا الإعلان ثلاثة تحولات جذرية. تمثل الأول بضم مساحات وأراض واسعة إلى المتصرفية، فارتفعت مساحتها 3 أضعاف لتصبح 10,452 كلم2 . والتغير الثاني كان بزيادة حجم السكان الذي تضاعف ليصبح أكثر من 600 ألف نسمة. أما التغير الثالث، فتمثل بتغير نسب الطوائف وانتقال لبنان من بلد ذي أكثرية ساحقة مارونية، إلى بلد يضم 3 أقليات كبرى، وأكثر من عشر أقليات صغرى.
وما أن بدأ عهد الانتداب حتى قام الفرنسيون بتنفيذ أول مسح شامل للسكان. فكان هدفهم المعلن منه هو التعرف على عدد السكان. أما الهدف غير المعلن فهو تأكيد الغلبة العددية للموارنة بهدف تبرير تعزيز موقعهم في الإدارة السياسية والاقتصادية للبلاد. ولهذا السبب، ظهر أن الإحصاء الذي نفذ عام 1921 لم يخل من الأخطاء، المتعمدة منها وغير المتعمدة. فحسب العديد من الباحثين ، أجري هذا التعداد بطريقة معينة، ليظهر التوزيع الطائفي على النحو الذي أراده الفرنسيون، وذلك بهدف إعادة تمثيل الطوائف في البرلمان المزمع إنشاؤه على شاكلة مجلس الإدارة، أي أن تمثل كل طائفة بحسب نسبتها من مجموع السكان. أضف إلى ذلك أن سكان العديد من المناطق الملحقة، رفضوا التعداد لرفضهم الدولة الحديثة التي، وبحسب رأيهم، انشئت رغماً عنهم. فضلاً عن أن هذا التعداد أجري بواسطة مخاتير كل حارة أو قرية، فقدموا أرقاماً حسب تقديرهم الخاص للسكان في المناطق التي تقع ضمن صلاحياتهم. وهكذا، ارتفع عدد سكان لبنان في هذا التعداد، إلى 609,070 نسمة[11].
نلاحظ مما تقدم، إعادة هيكلة للتوزيع الطائفي، بحيث هبطت نسبة المسيحيين في مجموع السكان، من 79%، إلى 55.1% ، وارتفعت نسبة المسلمين من 20% من سكان المتصرفية، إلى حوالي 45% من سكان لبنان، وهذا ما أزاح الثنائية المارونية – الدرزية، لتحل مكانها ثلاثية مارونية – سنية – شيعية ستتبلور أكثر فأكثر في العقود اللاحقة.
كما أن أبرز المدن اللبنانية شهدت بدورها حسب هذا التعداد، تحولاً كبيراً في التوزيع النسبي للطوائف فيها[12].
نلاحظ في الجدول الذي وضعه ضاهر، أن الموارنة لم يعودوا يشكلون أكثرية في أي من هذه المدن. إلا ان مدينة بيروت بقيت الوحيدة التي يتمتع فيها المسيحيون بأكثرية السكان (51.2%). أما بقية المدن فقد شهدت تفوقاً عددياً واضحاً لإحدى الطوائف على الطوائف الأخرى مجتمعة. فنسبة الشيعة في صيدا وصور أعلى بكثير من بقية الطوائف (65.6% و84.2%). أما في طرابلس فشكل السنة 88.8%، فعدت طرابلس، بذلك، المدينة ذات النسبة الأعلى من السنّة، تليها بيروت التي بلغت فيها نسبة السنّة 42.49%..
وهكذا، بدأت المناطق اللبنانية ترتدي طابعاً طائفياً مميزاً يخفت أحياناً، مع ازدياد أبناء الطوائف الأخرى بسبب نزوحهم من القرى المجاورة طلباً للعلم والعمل؛ ويعود للظهور أحياناً أخرى، مع عودة هؤلاء النازحين إلى قراهم، في أوقات الأزمات السياسية والأمنية.
إلا أنه بعد هذا التعداد بقليل، شهد لبنان حدثاً ديموغرافياً هاماً تمثل بالهجرة الأرمنية الوافدة هرباً من المجازر التركية التي حصلت بحقهم. فتدفق عشرات الآلاف من الأرمن، وسكنوا في لبنان الكبير. فأتت هذه الهجرة ترفع من نسبة المسيحيين المقيمين[13]. وهذا ما انعكس، بشكل أساسي، على نتائج الإحصاء الشامل الذي أجري عام 1932.
وهنا تجدر الاشارة إلى أن احصاء 1932 اختلف عن سابقه من حيث الجدية في تنفيذه، التي تمثلت في منع التجول لمدة 24 ساعة، وقيام مجموعة مدربة من الموظفين بإجراء المسح. فجاءت النتيجة لتؤكد مخاوف الفرنسيين، لأن نسبة المسيحيين عامةً والموارنة خاصةً، انخفضت بشكل ملحوظ من 55% إلى 51%. وبالتالي ارتفعت نسبة السنة والشيعة لتشكل تهديداً متزايداً لنسبة الموارنة التي بقيت، حتى ذلك الحين، تحتل المركز الأول عددياً بين الطوائف[14].
كما نلاحظ أن عدد الروم الأرثوذكس، حسب كرباج وفارغ، وحمادة، قد تراجع من 81,409 نسمة عام 1921، إلى 76,522 عام 1932، أي بنسبة 6%[15]. ويعود، هذا التراجع إلى عاملين، الأول هو الهجرة التي دفعت بعدد كبير منهم إلى مغادرة لبنان؛ أما الثاني، فيعود إلى اعتناق عدد كبير من الروم الأرثوذكس التعاليم البروتستانتية، الأمر الذي يفسر ارتفاع نسبة المسيحيين من الطوائف الأخرى.
إلا أن السبب الأساسي، لارتفاع نسبة المسيحيين من الطوائف الأخرى يعود إلى احتساب الأرمن ضمن هذه الفئة. ذلك أن المهاجرين الأرمن، وعددهم عشرات الآلاف، ساهموا في زيادة نسبة هذه الفئة. إلا أن هذا الرفع لم يقتصر على ازدياد نسبة المسيحيين فحسب، بل بالاضافة إلى ذلك، زاد من نسبة المسيحيين على نسبة المسلمين. وما يعنيه هذا أنه لولا الأرمن لكان عدد المسلمين أكثر من المسيحيين. ويمكن تأكيد ذلك بسهولة. فلو اعتبرنا أن عدد «المسيحيين من الطوائف الأخرى» قد ازداد خلال عشر سنوات بنسبة 13% (مثل الموارنة) أو بنسبة 8.42% (مثل الكاثوليك)، وتجاهلنا إمكانية انخفاض عددهم كما حصل للأرثوذكس، نحصل على رقم أقصى حد له هو: 14,194 نسمة. وهذا ما يجعل مجموع المسيحيين 363,094 (أما الرقم المدون في إحصاء 1932 فكان: 402,363) في مقابل مجموع المسلمين وهو 383,180. وهذه الزيادة لا يمكن تبريرها إلا من خلال التأكيد على أن الإحصاء شمل الأرمن باعتبارهم سكاناً لبنانيين مثلهم مثل أي طائفة أخرى وصنفهم ضمن فئة «مسيحيون آخرون»[16].
كما يمكن بالاضافة إلى ما تقدم، إدراج بعض الملاحظات الأخرى: الأولى، مشاركة اللبنانيين (وخاصة السنة) بكثافة في تعداد 1932 خلافاً للإحصاء الأول، إذ قاطعه عدد كبير من السكان تعبيراً عن رفضهم للتقسيمات الادارية الجديدة لأنها، ربما، تفصل لبنان عن المملكة العربية الموعودة التي كان يدعو لها الأمير فيصل. كما يمكن أن تفسر هذه المشاركة، في حال حصولها، على أنها تعبير عن رغبتهم في الانخراط التام في الحياة السياسية والإدارية في لبنان الكبير. أما الملاحظة الثانية، كما يظهر في الجدول، فهي استمرار نمط لا يزال مستمراً لغاية اليوم، يتجلى في تراجع نسب المسيحيين لحساب نسب المسلمين.
وهكذا، بالرغم من اقتناع عدد كبير من الباحثين بأن نتائج هذا المسح لم تخلُ من الأخطاء، بالاضافة إلى أنها بعيدة عن الدقة، لا تزال تعتبر المرجع الأساسي الذي تعتمد عليه التقديرات السكانية، بطريقة أو بأخرى، باعتباره المسح الشامل الأخير الذي أجري في لبنان. وما تبعه من تعدادات لم تكن إلا دراسات بالعينة أو تقديرات سكانية.
وبالتوازي مع هذا المسح، قدم «فيدمر» أيضاً عرضاً لسكان لبنان بين 1922 و1932؛ وهو عرض يظهر فيه مجموع السكان بشكل مختلف عما هو عند الآخرين.
نلاحظ من خلال ما قدمه فيدمر في كتاب حمادة، النظام الاقتصادي، ارتفاع حصة بيروت من 14.62% من مجموع السكان، إلى 18.81%، وذلك على حساب المحافظات كلها من دون استثناء، وخاصة محافظة الشمال. الأمر الذي يعكس أهمية بيروت العاصمة بنظر السكان الذين نزحوا للاقامة فيها باعتبارها المركز الاقتصادي والثقافي للبنان. ويخلص فيدمر إلى «أن الكثافة السكانية بلغت 92 نسمة في الكلم2 وهي أعلى كثافة مقارنة مع الدول المجاورة»[17]. إلا أنها أقل من الكثافة التي حسبها فولني في القرن التاسع عشر على أراضي المتصرفية . كما يشير إلى أن نسبة سكان المدن في لبنان بلغت 34.8% وهي أدنى مما هي عليه في سوريا التي ترتفع إلى 41.24% .
أما في ما يتعلق بالتوزيع الطائفي للسكان، ارتفعت نسبة المسيحيين عام 1943 من 51.2% عام 1932، إلى 52.7%، حسب مصادر عدة. ويعود هذا الارتفاع، حسب كمال ديب، إلى لجوء عدد كبير من السوريين والعرب المسيحيين للسكن في لبنان، وغالبيتهم من الأرثوذكس[18]، وعودة قسم لا يستهان به من المسيحيين من المهجر على أثر الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929 التي استمرت حتى منتصف الثلاثينيات، فضلاً عن تراجع الهجرة التي كانت بالدرجة الأولى مسيحية، خلال الحرب العالمية الثانية.
كما يبين فيدمر أن المسيحيين تمكنوا، وللأسباب المذكورة أعلاه، من تحقيق معدلات نمو سنوية أعلى من تلك العائدة للمسلمين. إلا أن هذه الأرقام لن تلبث أن تبدأ بالانحدار مع نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي؛ ذلك أن كمال فغالي يعتبر أن عام 1938 كان آخر عام يشهد تفوقاً عددياً للمسيحيين[19]. ويذهب بعضهم الآخر إلى أن المناصفة النسبية بين المسيحيين والمسلمين كانت لا تزال قائمة (حسب سجلات دوائر النفوس)[20] حتى عام 1975.
ويتبين أيضاً أن لبنان حقق معدل نمو سنوياً قدر بـ 2.6%، وهو معدل يظهر نوعاً من التضخيم إذ إن عدد الذكور في عمر الزواج كان منخفضاً بسبب عاملين: الأول هو تأثير الحرب الأولى، وخاصة بين عامي 1914-1919؛ والثاني، الهجرة التي حصدت ما تبقى من ذكور[21].
السكان بين الملحقات والتوازن
لم يتوقف الخلل الديموغرافي عن التفاقم. وحصار المتصرفية أفقدها الكثير من سكانها، موتاً في أحوال جوع لم يعرفها الجبل في تاريخه، أو هرباً لمن استطاع التسلل من الجبل المحاصر. ولم يكد يخرج الجبل من محنة الحرب حتى دخل في عهد جديد كان بمثابة تصفية حساب مع السلطنة العثمانية من جهة، وجزءاً من حصة في حفل اقتسام المغانم للدول المنتصرة، من جهة ثانية؛ وتوزيعاً لحصص ما كان لبنان بوارد الوقوع في ما يمكن أن تؤدي إليه من تداعيات ونـتائج، من جهة ثالثة. ذلك أن جبل لبنـان في توسّعـه « ليصبح لبنان الكبير، دخل حلبة السياسة اللبنانية مزيد من العشائر الملوّحة بالرايات الطائفية» .
أنهى إعلان لبنان الكبير الوضع الذي كان عليه نظام المتصرفية في جبل لبنان. وانتقل التوزيع الديموغرافي من حال إلى حال مغايرة تماماً بفعل التحاق مناطق جديدة بلبنان الكبير. وهذه المناطق تنتمي بأكثريتها إلى مذاهب كانت تشكل أقلية في مجلس إدارة المتصرفية. وبالتالي فإن التغير الديموغرافي لا بد أن يفعل فعله في شؤون الحكم من ناحية، وفي شؤون النظر إلى الملحقات باعتبارها تابعة للجبل ومقوية من عضده، من ناحية ثانية. وولد هذا الوضع الجديد اختلافاً في النظرة إلى لبنان من اعتباره ذا وجه عربي لإرضاء الملحقات، وقائماً بذاته ولذاته كوطن للمسيحيين في الشرق، وجزءاً من محيطه الذي لا يمكن له الاستمرار بدونه. ولا تزال هذه المواقف المختلفة بمثابة الهواء الذي يتنفسه السياسيون في لبنان. أتى الانتداب الفرنسي عام 1920 ليغيّر الواقع اللبناني، ويعيد خلق الكيان المتمثل بجبل لبنان في شكله الجديد الأكبر في المساحة وعدد السكان. تم هذا الأمر في الأول من ايلول 1920 مع إعلان الجنرال غورو، المفوض السامي في حينه، لدولة لبنان الكبير. تضمن هذا الإعلان ضم أقضية ومناطق جديدة إلى لبنان الصغير، مع كل ما احتوته من سكان بعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية ونمط معيشتهم وتنظيمهم السياسي المرتبط مباشرة بالسلطنة العثمانية من خلال ولاية بيروت أو ولاية سورية، أو غيرهما. وهكذا انتقل لبنان بين ليلة وضحاها من إدارة لجبل لا تزيد مساحته على 3500 كلم2 إلى كيان يضم مقومات ديموغرافية وجغرافية واقتصادية لإمكانية الاستمرارية والبقاء.
لم يقتصر الأمر على إيجابيات الضم والإلحاق، من خلال الزيادة السكانية، وتوسيع الرقعة الجغرافية، وزيادة إمكانيات النمو الاقتصادي، والانفتاح على احتمالات جديدة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً يمكن أن تنشأ بتفاعل مباشر بين المكونات البشرية للبنان الجديد؛ بل تعدى ذلك إلى نشوء سلبيات متعددة نشأت عن هذه الإيجابيات بالذات. ذلك أن الملحقات حملت معها ما هو مختلف عن التوزيع السكاني في الجبل، إن كان على صعيد العائلات وأدوارها في مقاطعات الجبل، أو على مستوى الطوائف وأدوارها السياسية، بالاضافة، طبعاً، إلى ما كان لا يزال موروثا من أزمنة سبقت. فالمتصرفية التي كانت محكومة من متصرف مسيحي من خارجها بوزن راجح مسيحي ـ درزي، بالإضافة إلى بعض الأقليات التي دارت في فلكهما كالملكيين من الأرثوذكس والكاثوليك بالإضافة إلى تجمعات محدودة من السنة والشيعة، أصبحت تحتوي على ثلاث طوائف كبرى: الموارنة والسنة والشيعة، بالإضافة إلى ثلاث أقليات كبرى: الدروز والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك.
فما قام به الفرنسيون لم يأت نتيجة قرار آني، ولا هو مرّ مرور الكرام، فقد سبق إعلان لبنان الكبير كمٌ هائل من المتغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية. وفي الوقت نفسه أدى ضم المناطق الجديدة إلى جبل لبنان ردات فعل متفاوتة في عنفها بين الرفض والتأييد. ذلك أن قرار الضم خلق واقعاً جديداً، كان على «اللبنانيين» التعامل معه. فقسمهم منذ البداية بين مرحبين بلبنان الكبير (الكيان المستقل) وبين رافضين له (باعتباره مسلوخاً عن مملكة أو أمة، عربية كانت، أو سورية أو إسلامية). استحوذ هذا الصراع الجديد على طاقات اللبنانيين التي سُخرت كلها في تفنيد أسبابه. هكذا طوع كل فريق التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، لا بل اعتمد على الدين وعلمائه ليثبت صحة دعواته السياسية.
بعد قرن من الزمان، لم يخرج لبنان من الدوامة، بل دخل في العمق أكثر، وتكشّفت الانتماءات إلى ما هو أخطر. ودخل لبنان، كما المنطقة بأسرها، في أتون حرب غير مهيئين لها باسم التغيير، فإذا هي باسم الروابط الأهلية الأولية من الداخل المستقطب لكل الاتجاهات الآتية من الخارج تحت كل العناوين إلا عنوان الديمقراطية والمساواة والمواطنة، وبمختلف أنواع الدعم باسم الديمقراطية والمساواة والمواطنة. فاختلط الحابل بالنابل واستأنفت الوصايات الأجنبية مسيرتها القائمة على تأمين المصالح، وعاد العرب أدراجهم إلى ما قبل قرن من الزمان، ليتعرضوا إلى حفل اقتسام مغانم جديد لا يمكن إلا أن يكون عوداً على بدء. ويبقى لنا أن نأمل بمن يسير بنا، ولو بخطى متعثرة، إلى الأمام.
المصادر:
[1] مسعود ضاهر، الجذور التاريخية للمسألة الطائفية في لبنان، معهد الانماء العربي، 1981 بيروت، ص240.
[2] المصدر نفسه، ص240.
[3] روبير كراسويل، القرابة والملكية العقارية في لبنان، ترجمة ميشال أبي فاضل، مجد، 1983، بيروت، ص29.
[4] أنظر في هذا الخصوص:
– ضاهر، المسألة التاريخية، مذكور سابقاً، ص232-233، 237-238.
[5] علي راغب حيدر أحمد، المسلمون الشيعة في كسروان وجبيل، دار الهادي، 2007، بيروت، ص108-109.
[6] كرباج وفارغ، ص16.
[7] 7 Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation. ,,op. cit. p: 1، أنظر أيضاً:
– مسعود ضاهر، تاريخ لبنان الاجتماعي، دار الفارابي، 1974، بيروت، ص54.
[8] Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation..op. cit, p: 17
[9] Ibid, p;17
[10]. أنظر للتفصيل:
– مسعود ضاهر، تاريخ لبنان الاجتماعي، مذكور سابقاً، ص55-56.
[11] Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation..,op.cit. p ; 21
[12] ضاهر، تاريخ لبنان الاجتماعي، مذكور سابقاً، ص55-56.
[13] كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة، مؤسسة نوفل، 1991، بيروت، ص: 72.
[14] أنظر في هذا الخصوص:
– سعيد حمادة، (محرر)، النظام الاقتصادي في سوريا ولبنان، مذكور سابقاً، ص: 453.
– فواز طرابلسي، تاريخ لبنان الحديث، رياض الريس للكتب والنشر، 2008، بيروت، ص: 152
– محمد مراد، التملك والسلطة في الجنوب اللبناني (1920-1975)، منشورات الجامعة اللبنانية، 2009، بيروت، ص: 47.
[15] أنظر للتفصيل:
– حمادة، النظام الاقتصادي في سوريا ولبنان، مذكور سابقاً، ص: 453. أيضاً:
– Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation…op. cit. p: 21
[16] للمزيد حول هجرة الأرمن إلى لبنان، أنظر:
– فيدمر، «السكان»، في: حمادة، النظام الاقتصادي، مذكور سابقاً، ص ص24-27.
[17] المصدر نفسه، ص6
[18] كمال ديب، هذا الجسر العتيق، دار النهار للنشر، 2008، بيروت، ص: 327.
[19] للمزيد من التفصيل، أنظر:
– كمال فغالي، الوضع الديموغرافي في لبنان، مختارات، 2003، بيروت.
[20] كمال ديب، هذا الجسر العتيق، مذكور سابقاً، ص: 327
[21] Courbage et Fargues, opt. cit, p : 22.