إن أحد المفاصل التاريخية في العالم العربي المعاصر، كان فيما أفرزته الوقائع السياسية والتاريخية حول اتفاقية سايكس– بيكو على بنية المجتمع العربي والإسلامي خلال الحقبة الزمانية الماضية، إذ كانت الأصابع اليهودية تعمل في الخفاء والسر، وبخطوات متلاحقة في ظل وجود الدولة العلية العثمانية. حيث سعت لإحداث شروخ بين أبناء الأمة العربية، كمقدمة لتطبيق اتفاقية سايكس- بيكو على الشام، لاسيما بعد أن فُرض الانتداب الفرنسي على شمالها، فقسم تلك البلاد إلى كيانين: سوريا ولبنان، فيما فُرض الانتداب البريطاني على جنوبها وقسمها إلى كيانين: الأردن وفلسطين. في حين كانت قد سبقت تلك الفترة التاريخية التحضيرات الأولية، التي أدت إلى الإقرار بوعد بلفور عام 1917( )، الذي يقضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بعدما أرسلت هربرت صموئيل اليهودي الصهيوني مندوباً سامياً إلى فلسطين ليحوّلها إلى "إسرائيل" عام 1948، فيما كانت الأحداث المتلاحقة وصولاً إلى عام 1967، تهدف إلى بسط اليهود أيديهم على الأراضي الفلسطينية وجوارها.
في المقابل، فقد كانت المؤشرات التاريخية لاتفاقية سايكس– بيكو، تكمن بمحاربة "أشراف الحجاز" بكل الوسائل الممكنة، وضرب الوحدة الإسلامية، في محاولة لتقطيع أوصال الدولة العربية التي سعى لها الشريف حسين، من أجل تحويلها إلى كيانات مصطنعة ودول متناحرة، ما أدى إلى الفرقة بين الأنظمة العربية سياسياً وأيديولوجياً، فأصبحت فكرة الوحدة العربية غير واقعية وذات تجارب متعثرة، كما هو الحال بالوحدة العربية بين مصر وسوريا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر خلال القرن المنصرم.
ومن المفيد ذكره في هذا المجال، أن الواقع السياسي العربي- الإسلامي، كان يرتبط بالقوى الاستعمارية، حيث تجرأت القوى الأوروبية على اقتطاع الأجزاء الأساسية منه، ولاسيما أن البدايات كانت في دخول فرنسا إلى الجزائر عام 1830( )، ومن ثم تونس والمغرب واقتسامها مع إسبانيا، بالإضافة لدخول إيطاليا إلى ليبيا، وبريطانيا إلى عدن وعمان ومصر والسودان والكويت، إلى أن نشبت الحرب العالمية الأولى والتي كان من أسبابها الرئيسية، تنازع الدول الغربية على اقتسام تركة الدولة التركية.
إن هذا الواقع السياسي، كان قد انتهى إلى صدور اتفاقيات متلاحقة منها: سايكس- بيكو، وسان ريمو، واتفاقيات باريس، والتي تم بموجبها تقسيم البلاد العربية والإسلامية إلى مناطق نفوذ واستعمار بين الدول الأوروبية. فأدى ذلك التقسيم لقيام هذه الكيانات والدول المتعددة في العالم العربي والإسلامي، ولاسيما أن الدول الأوروبية، كانت مضطرة إلى الانسحاب عسكرياً من البلاد العربية، تحت ضغط ثورات الشعوب وانتفاضاتها التحررية، فعملت على تكريس حالة التجزئة، وتثبيت الكيانات القطرية، كما وشجعت التيارات المتنافرة على الصراعات العسكرية والسياسية والاقتصادية فيما بينها. خاصة في النزاعات المتعلقة بالحدود السياسية الكيانية المرسومة بين الدول العربية والإسلامية، فوضعت في غالبها بترتيب من الدول الاستعمارية نفسها، وبشكل يستبطن إثارة النزاع والصراع الإقليمي بكل الوسائل المتاحة.
ومع هذا لم تكتفِ الدول الأوروبية بهذا الأمر، بل فرضت تقسيم المنطقة العربية، عبر اتفاقية سايكس- بيكو، وفرضت بالتالي مجموعة من الحكَّام، الذين أمعنوا بالتنسيق مع الغربيين في هدر الثروات الوطنية، وقهر الشعوب العربية وسلخها عن دينها وأصالتها وتاريخها. بما أن توقيع اتفاقية سايكس- بيكو، كانت مترافقة مع انهيار الدولة العثمانية المتهالكة، من السيطرة التركية منذ 1516 وصولاً لعام 1918، طالما كانت الشعوب المنهكة من قساوة الأتراك تنشد الخلاص بأية طريقة متوفرة، فلم تحصد من جراء ذلك، إلاَّ الفشل بسبب فقدان القيادة الرشيدة الواعية صاحبة البصيرة النافذة.
لقد أبرمت اتفاقية سايكس- بيكو سراً، من أجل تقسيم البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط، فما كان من عصبة الأمم إلا أن أناطت الوصاية على فلسطين لبريطانيا، التي سبقت وقدمت وعودها بالمساعدة للحركة الصهيونية. من خلال استقدام اليهود إلى فلسطين وتشريد أهلها من ديارهم، فكان العالم العربي- الإسلامي، أمام مواجهة طويلة مع أحد طرفيها: الغرب والصهاينة، في حين سعت وسائل الإعلام والمحافل الرسمية والمجامع الدولية، لاستخدام وسائل الإعلام العالمية بديماغوجية الخطاب السياسي للعالم العربي والإسلامي، ودعوته إلى الصبر وضبط النفس، والاشتراك في محادثات السلام المزعومة، مقابل ذلك عملت الولايات المتحدة الأميركية بعد الستينيات من القرن المنصرم، بإغداق السلاح على الكيان الإسرائيلي ومساندته في المحافل الدولية، لتبرير السياسة الصهيونية وترسيخها أمام العالم. فالولايات المتحدة الأميركية، كانت قد استخدمت سياستها في حق النقض الفيتو لمصلحة تأييد المشاريع الصهيوينة في الاستيلاء على فلسطين، منذ الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى الأزمة العربية التي عصفت بالمجتمع العربي منذ مطلع عام 2010.
إن التفاعل الصهيو- أميركي، الذي بدأ منذ مطلع الستينيات من القرن المنصرم، بعد انحسار الدور الفرنسي بشأن مفاعل ديمونا، من أجل بناء القدرات النووية والعسكرية النوعية، كانت تبين عن مدى استجرار بنود اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916، بعد الحرب العالمية الأولى وما تلاها وصولاً إلى نهاية القرن المنصرم، وخاصة أن الشعارات السياسية التي صاحبت تلك الفترة التاريخية، كانت تدعو إلى الحماية والوصاية وحق تقرير المصير. وأكثر ما نشرته تلك الدول الأوروبية عن العالم العربي، أنه لا يستطيع تقرير مصيره، فهو لا قدرة لديه في هذا المجال، وهذه الشعوب -وفقاً للزعم الغربي- قاصرة عن إدارة نفسها، ولم تبلغ سن الرشد بعد، ولذا فهي بحاجة إلى الحماية والدعم من كل الأشكال.
إن الهجمة الاستعمارية مزقت جسم العالم العربي- الإسلامي، وأقامت بينها الحدود المصطنعة باتفاقية سايكس- بيكو، فتحولت الأمة الواحدة إلى دول متناحرة، لتنفق أموالها بغية شراء السلاح في الصراع فيما بينها دون أن تستعد به لعدوها الخارجي، فتوالت الهزائم في جميع الميادين وبصور مختلفة. ومن مفارقات الغزو الاستيطاني اليهودي الاستعماري لفلسطين، أنه أحاط نفسه بأنظمة هشة وضعيفة تحميه أكثر مما تشكل عليه خطراً، فيما كان الهدف من قيام الكيان الصهيوني لدولته عام 1948 بجمع شتاته من العالم.
إن الصراعات العربية الداخلية كانت قد أدت إلى تمزيق المنطقة برمتها من خلال عملائه ومؤامراته، التي تستنزف إمكانات دوله الاقتصادية والبشرية من خلال استمرار الحروب المتنقلة والانقلابات السياسية والصراعات العسكرية، التي كان يدبرها من خلال عملائه بالوكالة عنه، وهذا ما أظهرته سياسة الولايات المتحدة الأميركية ومن قبلها السياسة البريطانية والغرب عموماً
لقد كانت الأنظمة السياسية في العالم العربي، ترتبط بالسياسة الصهيو- أميركية المفروضة على الأمة والجاثمة على صدرها من بدايات القرن العشرين، حيث استنزفت بسياستها خيرات الأمة وطاقاتها، فعملت على ترسيخ منطقها السياسي من خلال فرض هيبتها وبناء السجون والمعتقلات وشن الحروب على الجيران وبناء القصور وتكديس الأموال في المصارف العالمية وإنفاقها على الشهوات والموبقات وبناء الأجهزة الأمنية الكثيرة.
• المستقبل: صراع وتقسيم
يقول المستشرق اليهودي برنارد لويس: "إن المنطقة الممتدة من باكستان حتى المغرب ستبقى في حالة اضطراب إلى أن يعاد النظر في الخريطة السياسية لدولها"( ). لهذا فإن التقسيمات الجغرافية التي تلت اتفاقية سايكس- بيكو مرحلة متقدمة في تجزئة المنطقة العربية كمقدمة لابد منها تستهدف الطوائف والاثنيات المتواجدة فيها، مما شجع على تزكية الصراعات المتلاحقة فيما بينها خلال الفترات التاريخية السابقة، وعليه فإن اتفاقيّة سايكس- بيكو، هي اتفاقيّة لاقتسام الأجزاء الكبيرة من أراضي الدّولة العثمانيّة، وفي "هذه الاتفاقيّة احتفظت فرنسا لنفسها بمساحة كبيرة من أراضي الأناضول الجنوبيّة والجزء الشّمالي من سوريا الطّبيعيّة ولواء الموصل، واحتفظت بريطانيا لنفسها بولايتي البصرة وبغداد ولواء كركوك، بالإضافة إلى الجزء الجنوبي من سوريا الطّبيعيّة، ابتداء من غزّة والعقبة في الجنوب الغربي، على أن تلتقي بحدود العراق في وسط البادية، واتّفقت الدّولتان على جعل فلسطين باستثناء الجزء المعروف بالنّقب منطقة تخضع لحكم دوليّ خاصّ"( ) على أن يلي هذه المرحلة تقسيمات صغيرة داخل الكيان القطري في سبيل تسويغ وجود دولة الكيان الإسرائيلي في العالم العربي.
والجدير قوله في هذا السياق، لقد سبق هذه التقسيمات تجاذبات عربية- تركية في مطلع العشرينيات من القرن المنصرم، حيث كان الواقع العربي الذي رافق الدولة العثمانية منذ أواخر القرن التاسع عشر، متأرجحاً على نفسه، وتسوده التوترات الدائمة وسياسة المراوغة، خاصة بعدما اعتلى السلطان عبد الحميد الثاني عرش السلطنة سنة 1876، إذ كانت البلاد العربية خاضعة لحكم العثمانيين، ما خلا بعض المناطق من شبه الجزيرة العربية، فيما كانت السيطرة على إفريقيا العربية، أي على مصر- ليبيا- تونس، اسمياً لا وزن لها. ففي أواخر العهد الحميدي، سيطرت فرنسا على تونس من عام 1881، وبريطانيا على مصر 1882، ومع هذا لم تكن العلاقات العربية- التركية زمن عبد الحميد سيئة، بل ساءت بتسلم الاتحاديين السلطة عام 1909، فكانت عوامل التباعد بين الأتراك والعرب تزداد بسبب سياسة "التتريك"، فأدت ردود الفعل في العالم العربي إلى يقظة بهدف الحكم الذاتي، وشعور العرب بنزعتهم القومية والتي أسست لتأليف الجمعيات العربية السرية والعلنية، وعقد المؤتمرات والاتصالات مع الإنكليز، حيث أسفرت كل تلك الحركة عن الثورة العربية عام 1916.
لقد بلغ الشّعور القومي ذروته، عندما قرّر العرب القيام بثّورتهم على الأتراك 1916، لنيل الاستقلال السياسي وتشكيل الكيان الوطني والقوميّ الموحّد، بعدما دفعهم الاتحاديّون لذلك، وشعر العرب لأوّل مرّة بتاريخهم المعاصر أنّ لهم كياناً مستقلّاً يجسّد طموحاتهم وإرادتهم الوطنية، ويجمعهم على ذلك الانتماء لقوميتهم العربية. إلّا أنّ هذه التجربة لم تدم طويلاً، فقد كانت خيبتهم كبيرة عندما استطاع المستعمرون الأوروبيّون الانقضاض على هذا الكيان السياسي وتمزيقه، بل واقتسامه، لاسيما بعد إيجاد الحدود المصطنعة. فيما كان طمع الأوروبيين في السّلطنة العثمانيّة، من أبرز العوامل الّتي أسست للعلاقة السيئة بين العرب والأتراك، بالإضافة إلى السياسة التركية التي انتهجتها السلطنة في العالم العربي، فجاءت النتائج لصالح الأوروبيين بالاستيلاء على البلاد العربيّة، من خلال اتفاقيّة سايكس- بيكو من جهة، ووعد بلفور الذي رافق تلك الحقبة التاريخية من جهة ثانية، والتي أدت إلى السّيطرة على البلاد العربية بتشجيع العرب على الانفصال السياسي.
إن اتفاقية سايكس- بيكو أدت وظيفتها الأمنية تجاه أي خطر توسعي مستقبلي للعالم العربي، بل جعلت تلك المنطقة رهينة التخلف في كل المجالات، وفاقدة للاستقلال الحقيقي من أجل تسهيل حكمها من خلال بناء الدولة القطرية بدلاً عن الدولة العربية الموحدة التي جرت عدة محاولات بشأنها في هذا الصدد، كتجربة الشريف حسين خلال فترة الحكم العربي 1918- 1920، أو من خلال التجربة الثنائية بين مصر وسوريا 1958- 1961 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. لذا فإن تكوين الأحلاف السياسية في العلاقات الدولية الأوروبية، كان يهدف إلى ضمان إرادتها ومجتمعها الاستيطاني، وذلك من خلال تكوين حلف (عام 1792) المقدس بين الصرب والبوشناق والمجر وبلغاريا ونصارى ألبانيا لقتال العثمانيين وإزالة الخلافة، وتقطيع أوصال العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة.
ومن الواضح أن القراءة التحليلية لهذا المعطى التاريخي، يبين إلى أي مدى كان الانسجام الفكري والديني الأوروبي الدافع الأساسي في تكوين الحلف بين تلك القوى لمواجهة الصراع السياسي- العسكري، ولهذا فإن مثل هذه الأمور، كانت تتوافق مع المبادئ الأساسية في التقسيمات السياسية لاتفاقية سايكس- بيكو، التي تتجلى خطورتها في العالم العربي على الشكل الآتي:
1- إيجاد الشروخ الدائمة في استمرار الخلافات العربية- العربية على الحدود المصطنعة، والالتجاء في نهاية المطاف إلى المنظمات الدولية لحل النزاعات.
2- نشر الملحقيات الثقافية، التي تقوم بمهمة رصد الحركات الثقافية والتربوية الوطنية من خلال المتابعات الميدانية عبر البعثات المختلفة التي تدخل إلى العالم العربي بعناوين متعددة.
3- تأثير الغرب السياسي في الحركات الانفصالية على الكيان العربي المصطنع، تارة بدافع نشر الديموقراطية، وأخرى من خلال المناداة بالحقوق وخلافها. مع العلم أن التخلف الذي يسيطر على العالم العربي يعود سببه إلى الواقع السياسي القائم، بالإضافة إلى التبعية للغرب السياسي.
4- إيجاد الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي منعاً من قيام وحدته السياسية، عبر وعد بلفور الذي جاء بعد المرحلة التمهيدية لاتفاقية سايكس- بيكو، ليكون قاعدة للمشروع السياسي الغربي التوسعي.
– بنود اتفاقية سايكس- بيكو
كانت بنود اتفاقية سايكس- بيكو، قد قسمت أملاك الدولة العثمانية بين دول ثلاث على الشكل التالي:
أ-أن يكون لفرنسا الجزء الأكبر من سوريا، وجانب كبير من جنوب الأناضول، ومنطقة الموصل في العراق.
ب- أن يكون لإنكلترا البلاد الواقعة بين الخليج والمنطقة الفرنسية (العراق وشرق الأردن ثم حيفا وعكا).
جـ- إنشاء إدارة دولية في فلسطين بسبب وجود الأماكن المقدسة فيها.
د- حقوق لروسيا في الأناضول والمضايق.
في المقابل، في سنة 1917، كانت إنكلترا قد أعلنت على لسان وزير خارجيتها اللورد بلفور وعداً بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، فيما تلا ذلك في عام 1920، مقررات مؤتمر سان ريمو بما يلي:
أ- جعل منطقة شرقي الأردن من نصيب بريطانيا، كجزء من دائرة الوصاية على فلسطين.
ب- فرض الانتداب الفرنسي على كل من سوريا ولبنان.
جـ- فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين( ).
وفي عام 1918 وبينما كان الشريف حسين يتهيأ للجلوس على عرش إمبراطوريته، كان الجنرال اللنبي قائد القوات المشتركة للحلفاء قد دخل القدس، وأعلن على رؤوس الأشهاد انتهاء الحروب الصليبية. وقال: لم تنته هذه الحروب يوم أعاد صلاح الدين القدس إلى هويتها الإسلامية؛ بل انتهت اليوم عندما أعادها اللنبي إلى هويتها الصليبية، وفعل مثل فعله الجنرال غورو الفرنسي وهو يدخل دمشق، وقال مثل قوله، وهو يقف على قبر صلاح الدين: ها قد عدنا يا صلاح الدين( )..!
• مراحل قيام "إسرائيل"
إن التخطيط اليهودي لقيام الكيان السياسي، والتآمر مع المجتمع الدولي بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن غيره، فضلاً عن انقسام العالم العربي جراء الحركات الثورية المناوئة لها الضالعة بالولاء للشرق والغرب. كانت قد هيأت الظروف للصهاينة بسبب ضعف العالم العربي وتفرقه وتناحره، ويُمكن أن تختصر مراحل قيام "إسرائيل" بخمس مراحل وهي:
1- قيام مؤتمر بازال اليهودي في سويسرا من عام 1897، الذي أقرّ قيام وإنشاء وطن قومي لليهود.
2- وعد وزير الخارجية البريطانية بلفور عام 1917، اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.
3- قرار عصبة الأمم عام 1922، بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ما أعطى لبريطانيا قدرة بالوفاء بوعدها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
4- مؤتمر سايكس- بيكو وتقسيم العالم العربي إلى مناطق استعمارية للدول الكبرى بعد الحرب العالمية.
5- قيام "دولة إسرائيل" عام 1948.
– الارتهان السياسي في العالم العربي
إن الآثار التي ترتبت على اتفاقية سايكس- بيكو، من خلال التجربة السياسية السالفة، كانت قد بينت أن العالم العربي، كان يعاني من فقدان صناعة القرار الوطني جراء السياسات المتبعة، بالإضافة إلى عدم الجزم في القضايا الأساسية والمصيرية، حيث بقيت فيها الملفات على لوائح الانتظار، وفي موقع الارتهان السياسي للواقع الإقليمي والدولي، جراء العديد من الأسباب، ليس أقلها الاستدانة والقروض التي كانت تؤدي إلى فرض السياسات الأجنبية مقابل الدين في الكثير من دول العالم العربي.
ويبدو واضحاً أن الاستقلال السياسي في العالم العربي، كان رهيناً للتجربة السياسية والمواجهة المفترضة في العلاقات الدولية، بدءاً من قيام الكيان الصهيوني "لدولته"، وصولاً إلى الأزمات الداخلية التي شهدتها المنطقة العربية، منذ خمسينيات القرن المنصرم، كحالات ارتدادية لأحداث تاريخية تماهت فيها الدول العربية بالاستقلال السياسي. إلا أن هذه الأوطان، كانت في الظاهر تنادي بالاستقلال أمام أتباعها وفي محيطها الإقليمي، بينما كانت في حقيقتها تخضع للولاء السياسي الخارجي، وترتبط بمعاهدات سرية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية. ما يعني أن هذه الدول كانت ترتهن للقوى التي استعمرتها ردحاً زمنياً. وعليه؛ فإذا كانت اتفاقية سايكس- بيكو قد جرت بين فرنسا وبريطانيا، فإن التأثير السياسي لذلك، كان قد دخل في بنية الحكم وشكل النظام السياسي في العالم العربي، ونسخاً للتجارب الأوروبية في سن الدساتير التي تحاكي دساتيره( ). فيما حاول العالم العربي في سياسته التمسك بمبدأ ويلسون، الذي ركز فيه الرئيس الأميركي على مبدأ الاهتمام بصورة أكبر بمستقبل السلم والأمن في الشرق الأوسط، وكان هذا المبدأ ينص على علنية الاتفاقيات السياسية كأساس لمشروعيتها الدولية. بمعنى آخر شكل مبدأ ويلسون، إدانة صريحة لاتفاقية سايكس- بيكو، التي سبقت إعلانه بسنتين، ولم يكن إلا حلقة متقدمة في العلاقات الدولية، بمواجهة القوى الاستعمارية المتمثلة آنذاك بفرنسا وبريطانيا، بغية التمهيد لخروج أميركا من عزلتها السياسية. فكان للمبدأ المشار إليه ممارسات دبلوماسية، حيث دعا فيها الرئيس الأميركي في بعض بنوده إلى منح القوميات للشعوب التي كانت تخضع لسلطة الدولة العثمانية، مع إعطاء كل الضمانات التي تؤكد حقها في الأمن والتقدم والاستقلال وحقها في تقرير مصيرها( ). في حين كان اليهود الذين استوطنوا فلسطين آنذاك خارج حدودها ولا يشكلون قومية خاصة بهم، فيما كان الشعب الفلسطيني يرزح كغيره من الشعوب العربية تحت نير الأتراك ومن ثم أخضع لاحقاً كغيره لتقسيمات سايكس- بيكو والانتدابات الأوروبية.
– الانقسامات السياسية العربية
كانت النتائج التي آلت إليها الوقائع السياسية، جراء انهزام تركيا في الحرب العالمية الأولى، وما ترتب عليه الحال بعد تجزئة العالم العربي وفقاً لتقسيمات سايكس- بيكو، انقسامات سياسية متعددة في التركة العثمانية، ما جعل الأمة الإسلامية، تنقسم إلى أمتين؛ واحدة عربية والثانية تركية، فضلاً عن تعدد في القوميات التي دخلت في نطاقها السياسي، خاصة بعدما مهدت لذلك دولة الاتحاد والترقي في عام 1908 من الجهة التركية، وما نجم من وقائع ميدانية للثورة العربية الكبرى عام 1916 من الجهة العربية.
إضافة إلى ما سبق ذكره، فإن الواقع التاريخي يبين أن الثورة العربية لم تستطع أن تجمّع ما كان متفرقاً، فاندفع دعاة القومية لترسيخ مفهوم القطرية، بالاعتماد على عنصري اللغة والتاريخ، واستبعاد الدين من مجتمع تكوين الأمة، مع العلم أن فهم العالم العربي والإسلامي، كان يقتضي الإلمام بالدين الإسلامي، لأن الإسلام دخل في كل التفاصيل الحياتية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي عكست الرأي الديني تجاه التقسيم السياسي والاستيلاء على مقدرات المسلمين فيما بين فرنسا وبريطانيا، فيما كانت جمعية الاتحاد والترقي قد مهّدت للحكم، بخطوات سياسية من أجل تغيير واقع الدولة العلية العثمانية، لاسيما بعد تجربتها في تركيا، إذ يمكن تلخيص أهم خطواتها بما يلي:
1- تقسيم العالم الإسلامي الخاضع للدولة العثمانية بين الحلفاء، وفقاً لاتفاقية سايكس- بيكو.
2- الموافقة على وعد بلفور الذي أصدرته بريطانيا بتاريخ 2/11/1917، القاضي بأن تكون فلسطين وطناً قومياً لليهود.
3- تغريب تركيا وتحويلها لدولة علمانية بعد سقوط نظام الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك.
مقابل ذلك فإن التقسيمات السياسية، كانت تكمن في التأسيس الثقافي المستقل لكل قطر عربي بمعزل عن غيره، ما شجع على الحركات الانفصالية، وعدم الدعوة للوحدة السياسية، بل اعتبارها خيالاً ووهماً، ولا تتقاطع مع الوحدة الثقافية القطرية، إلا بالانتماء الديني الذي عرفته المجتمعات على مدار تاريخها السابق.
• الفدرالية( ) والفدراليات العربية
لربما كانت الفدرالية تحاكي الشعور الأثني والطائفي والمذهبي معاً، خاصة فيما عكسته الأزمات العربية المتراكمة خلال التاريخ المعاصر، إذ كان من الضروري البحث عن مخارج لها، وفقاً لنظرتها القاضية بتقسيم وتجزئة الدول التي تعيش في كنفها، في محاولة لفدرلة الحكم بأشكال مختلفة، مغايرة للبناء الوطني الديموقراطي، نحو الدويلات المذهبية والحكم الذاتي، وقد ظهر أثر ذلك بشكل جلي، في الأحداث السياسية والأمنية في لبنان وسوريا والعراق. ولاسيما أن طرح مشروع الفيدرالية في العراق، كان قد أدى إلى حروب أهلية، تتلاقى فيها مع اتفاقية سايكس- بيكو، التي مزقت العالم العربي لقوميات متنافرة، مخضعة إياها لموالاة وتبعية سياسية خارجية، فعانى المجتمع العربي في غالبيته من الوعي السياسي بين أفراده، فيما خضع العالم العربي لاختباراته في معرفة أثر التربية القومية على المجتمع بشكل عام، وعلى وجه الخصوص المجتمع السوري خلال أزمته السياسية ما بعد عام 2010، وعما إذا كان قد استطاع المجتمع السوري أن يجسد إرادته الوطنية وحده بمعزل عن المحيط العربي- الإسلامي؟. وهل كان الوعي الوطني بمستوى التحديات التي شهدتها سوريا؟. ولربما كانت الشواهد التاريخية تفترض وضوح الرؤية للإجابة بكل صراحة عن التجارب السياسية العربية.
إن معالجة الواقع في العالم العربي، كان قد حدد المشكلة التي تعرض لها، والتي تنحصر في الأسس الثلاثة التالية:
1ـ مفهوم الديمقراطية في الأقطار العربية.
2ـ بيان حول مفهوم الفدرالية والأنظمة السياسية.
3. إلغاء سياسة التمييز الطائفي.
وهذه الأمور كانت إحدى إشكالات العالم العربي، ما جعله غير قادر على بناء الوحدة الوطنية لعدة أسباب منها:
– حلم الأكراد بقيام دولتهم على أجزاء من الأراضي السورية والعراقية والإيرانية والتركية.
– محاولة فدرلة النظام السياسي العربي بعد الانقسامات الداخلية جراء الارتباطات بالمحاور الإقليمية والدولية.
– انتشار النفوذ الطائفي في العراق وسوريا ما بعد عام 2010.
– اعتبار الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية نموذجاً مستحدثاً في العالم العربي، والذي هو دون مستوى الدولة، ويشكل ضابطة أمنية للمجتمع الفلسطيني في مناطق نفوذه السياسي والاجتماعي.
– انقسام العالم العربي تجاه القضايا الأساسية في أولوية الصراع السياسي والعسكري والأمني، خاصة ما بعد عام 2016 جراء الأحداث التي شهدتها ليبيا وسوريا والعراق، ما جعل الآراء العربية متباينة حول القضية الفلسطينية والواقع الذي آلت إليه الوقائع الأمنية بين العالم العربي والكيان الصهيوني.
– الجغرافيا السياسية في العالم العربي
إضافة إلى ما سبق الإشارة إليه، فقد كانت الوقائع التاريخية، تظهر مدى التجاهل الأوروبي في تحليله للجغرافية السياسية العربية، وعدم اهتمامه بالحدود المشتركة فيما بين العراق والشام من جهة، ولا بينهما معاً وبين تركيا من جهة أخرى، فبرزت المشكلة الحدودية بين دول المشرق العربي جميعها؛ بعد اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916، في حين اعتبرت النظرة الأوروبية أن هذه المنطقة، مشرعة الأبواب على مصاريعها، ولاسيما أنها كانت عرضة للاحتلالات والغزوات العسكرية من جهاتها الأربع، وكانت سياساتها متنافرة الاتجاهات، ما جعلها مجالاً واسعاً ومرتقباً للصراعات المستقبلية، حول الكثير من القضايا الشائكة والعالقة بين الكيانات السياسية، ليس أقلها بسبب المسألة الحدودية( ) والحاجة إلى المياه.
لم يكن التصور السياسي للمنطقة العربية واضحاً أمام مجتمعاتها، رغم التأثيرات الدينية القائمة على أساس الاعتقاد بالديانة الإسلامية، ولهذا كثيراً ما كانت السلطة العربية تسير على هدي الدول الغربية في غياب شبه كامل للقضية الفلسطينية، رغم التجارب العسكرية الممتدة ما بين 1956 و1967 و1973 و1982 و1996 و2000 و2006، و2008، وما نجم من أحداث متلاحقة تناولت الشأن السياسي والأمني. فيما شكلت المسألة الفلسطينة اختباراً للعالم العربي، وخاصة منه دول مجلس التعاون الخليجي. فكانت أبرز المحطات التي شهدتها المنطقة العربية، الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، والتي شكلت حلقة في هذا المجال، جراء تبرير الفعل السياسي في طرح أمن المجتمعات الطائفية التي انسحبت لاحقاً على العالم العربي، كما هو حال الغيتو الصهيوني ما قبل قيام دولة الكيان على أرض فلسطين، بحيث أصبحت هذه التجربة السياسية معتمدة في الشرق الأوسط، والتي كان يراد منها تشكيل الكانتونات السياسية في ظل غياب شبه كامل لجامعة الدول العربية عن دورها الإقليمي، ليحل محلها طرح البديل والمرتقب، في قيام جامعة دول الشرق الأوسط التي تجمع العالم العربي بدوله الطائفية- الكانتونية وإلى جانبه "إسرائيل".
إن تأثر العالم العربي بالتجربة القومية والاقتصادية، كان مرتبطاً مع الغرب السياسي الذي بقي معزولاً عن القضايا النفسية والتاريخية، التي توجه الشعوب العربية في الأقطار المتعددة، وكانت إحدى هذه القضايا تكمن في تشويه العقائد والمبادئ الدينية الإسلامية من قبل الأنظمة السياسية المرتهنة بقرارها الوطني، ونظرتها التسويغية لاتفاقية سايكس- بيكو. فيما كان الاستعمار السياسي قد عمد إلى تكريس الخلافات العربية فيما بينها، ففرض نفسه حكماً في صراعاتها، ما دفع العالم العربي رغم قدراته الاقتصادية، لأن يتسول القروض من الغرب تارة بهدف التنمية وأخرى لشراء الأسلحة. ولاسيما أن تقسيم العالم العربي إلى دويلات متنافرة، وقيام الدولة القطرية، وفقاً لاتفاقية سايكس- بيكو، كانت تتجلى في تكوين إرادة مجتزأة، حيث تبدت خطورتها بتغييب الذات، وباستهداف هوية الأمتين العربية والإسلامية، فضلاً عن شرعية وجودها العقدي والسياسي والحضاري بالتهديد والإلغاء. فكانت أحد الاختبارات التي تعرض لها العالم العربي، بعد شياع القوميات السياسية في بدايات القرن المنصرم، تكمن في تجفيف ينابيع الأمة العقدية والسياسية والحضارية من مضامينها التحررية، خاصة بعد الحكم التركي الذي استمر جاثماً على العالم العربي باسم الإسلام منذ عام 1516 حتى الحرب العالمية الأولى.
كانت شعوب العالم العربي والإسلامي، تواقة إلى الحرية والاستقلال السياسي، إلا أن الصراع الداخلي كان قد ساهم في إضعاف البنية الاجتماعية السياسية، جراء تعدد المرجعيات السياسية، والحدود المصطنعة، وتبعية الملحقات الثقافية، التي كانت قد أدت إلى دراسة المجتمع العربي وجذوره، فزرعت الشكوك العقدية والسياسة، حيث أدت إلى الحركات الانفصالية، كمقدمة لوجود الكيان الصهيوني داخل العالم العربي، ووفقاً لاتفاقية سايكس- بيكو بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن غيره كقاعدة توسعية. فالاحتلال الصهيوني لفلسطين من خلال التبرير الديني ونشر مزاعمه وفكره ومقولته بـ"شعب الله المختار"، كانت قد ارتكزت على أساسين:
1- اغتصاب الأرض الفلسطينية وجوارها كمقدمة لبناء إمبراطورية داوود بالقوة، وفقاً لاستراتيجيات مرحلية في تحقيق أهدافها.
2- القضاء على أصحاب الأرض بالقتل والتهجير.
من هنا، يمكن متابعة الوقائع والأحداث التي عاشها العالم العربي ما بعد الثورة العربية 1916، والتي كانت قد شهدت خلال السنة الجارية نفسها معاهدة سايكس- بيكو، لاقتسام البلدان العربية، وترقية مصطفى كمال أتاتورك إلى رتبة لواء، ومنحه لقب الباشوية. فيما قامت بريطانيا عام 1917 باحتلال بغداد والقدس، حيث ترافق ذلك مع وعد بلفور، بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. مقابل ذلك كان الحكم العربي قد بدأ منذ عام 1918 بدخول لورانس إلى دمشق مع فيصل بن الحسين، بعد اندثار الخلافة العثمانية من كل البلدان العربية، والتي استمرت حتى عام 1920، حيث أبعدت فرنسا فيصل عن سوريا ولبنان وانتدبتهما، فيما انتدبت بريطانيا فلسطين وشرق الأردن والعراق.
• الاستراتيجيات السياسية لاتفاقية سايكس- بيكو
بات من المعلوم أن العالم العربي، خلال الفترة التي عقبت اتفاقية سايكس- بيكو، كان قد وقع تحت تأثير العائدات البترولية، التي وظفت خارج إطار الصراع العربي- الإسرائيلي، فضلاً عن تأثيرات أخرى لا تقل أهمية عما ذكرنا، وذلك عبر نشر الفكر الديني المستورد من خلال المعاهد الإسلامية الأوروبية، بهدف تسويغ الدين وفقاً لإرادتها السياسية، وذلك عبر إخماد جذوة المقاومة في البناء الوطني المستقل.
لقد شهد العالم العربي بعد اتفاقية سايكس- بيكو، محاولات في ترسيخ المنطق السياسي الأوروبي على المنطقة العربية، بالرغم من المعوقات الاجتماعية والسياسية، جراء فقدان الكيان الصهيوني لشرعيته الوجودية في العالم العربي، واعتباره استعماراً حديثاً. وتظهر هذه المسألة في الإخفاقات التي رافقت العالم العربي خلال تلك المرحلة التاريخية، إذ لم تتفاعل الشعوب العربية مع "التطبيع"، رغم محاولات الأنظمة العربية التي خاضت هذه التجربة في هذا الشأن، فضلاً من أن تبريرات بعض الأنظمة لواقعها السياسي في بناء الاستراتيجية بهدف مواجهة الكيان الصهيوني. فقد كان الواقع التاريخي يبين عن عدم وجود القدرات العسكرية والآليات السياسية الفاعلة التي تعنى بشأن المواجهة، فيما برر بعضها الآخر إخفاقه السياسي وتجربته في الحكم، في شؤون التنمية على كل المستويات، بحجة الضرورات لمواجهة "إسرائيل". فالتعبير عن الخطاب السياسي واللهجة الاستقلالية، كان يشتد في أوقات محددة، وعند المفاصل التاريخية التي تخص تلك الأنظمة وحدها، حيث كانت المجتمعات العربية تنأى عن مراقبتها السياسية لحكوماتها أو للقيام بالمسؤوليات الوطنية الداخلية.
مقابل هذه الوقائع التاريخية، ظهر تنافر الفكر الحزبي في العالم العربي، جراء تباين الأيديولوجيات السياسية والأهداف التي قامت لأجلها، ولاسيما أنها خضعت لاختبارات الأنظمة العربية التاريخية، التي مرت بمحاولة "التطبيع" بعد معاهدة كامب دافيد مع مصر، وتجزئة العالم العربي. وهذا ما أدى لاحقاً إلى الفرز الاجتماعي والطائفي والمذهبي داخل الكيانات السياسية العربية، كعملية تمهيدية للفدراليات غير المعلنة. فيما كانت المعاناة التي شهدتها القضية الفلسطينية تأتي أيضاً من المنظمات الدولية، فحق الاعتراض أو الفيتو داخل مجلس الأمن، كان قد أثار إرباكاً كبيراً للمسألة الفلسطينية، بسبب استخدامه لمصلحة "إسرائيل"، ما قيّد من فاعليته السياسية في العالم العربي، في ظل غياب شبه كامل لجامعة الدول العربية، وأهدافها التي تكمن بالمحافظة على استقلال الدول الأعضاء، وصيانة الأمن العربي( ).
• الخلق الهجين
شكلت السياسة الأميركية في العالم العربي استراتيجية نافذة للمناداة بالحرية، حيث بدأت تلقى قبولاً في أوساط الأطلسي، وتتمدد مظلتها العسكرية نحو الجنوب لتشمل كامل المنطقة العربية من المغرب وحتى البحرين( ). فكانت محوراً معتمداً للسياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط والإسلام، من خلال بناء الاستراتيجيات التي اعتمدتها في عملها السياسي والعسكري لتلك المنطقة.
وفي هذا الصدد نشرت صحيفة النيويورك تايمز الإستراتيجية التي كانت معتمدة في عهد الرئيس جورج دبليو، والتي تماهت مع رأي ناتان شارانسكي( ) في السياسة الخارجية، التي أعجب بها الرئيس الأميركي جورج بوش، حيث شرح فيها شارانسكي نظريته حول "الفوضى الخلاقة" التي دعا فيها أميركا إلى استخدام "الطائفية" في العالم العربي كوسيلة للقضاء على "محاور الشر" وفقاً لزعمه من أجل تحقيق الديمقراطية. إذ إن شارانسكي لم يخف رؤيته الصداميّة والعنصرية؛ فهو كان يعتبر أن الإسلام يهدد "إسرائيل" والعالم الغربي بأكمله، لذا لم يتوان عن فكرة استئصال الحركات الإسلامية الحزبية والسياسية من العالم بعد أن نعتها بالإرهاب، معتبراً أن ذلك لا يتم إلا باستخدام القوة العسكرية من أجل تجفيف المنابع التي تستفيد منها هذه الحركات. ولهذا فإن النظرة الغربية- الأميركية، كانت تعتبر أن معالجة الأسباب المرتبطة بمفهوم الإرهاب، مصدرها سياسات الأنظمة العربية الاستبدادية الفاسدة، وبالتالي فإن مقولة شارانسكي تتوافق مع ما طرحه هانتنغتون، من أن الإسلام عدو حضاري للغرب.
ومن الواضح أن المواجهة للإسلام كانت هي الخطوة السياسية المرتقبة، وهي الحرب العالمية، التي تؤكد أن هدف الولايات المتحدة الأميركية، الانتصار في الحرب على الإسلام الأصولي من خلال زرع الفوضى الطائفية داخل المجتمع العربي( ). بمعنى أن هذه التطلعات تهدف إلى تشكيل المنطقة سياسياً وجغرافياً بـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، عبر القوى المؤثرة في المنطقة العربية، ووفقاً لتجزئة جديدة في تقسيمات اتفاقية سايكس- بيكو، التي تهدف إلى هيمنة القوى العظمى الخارجية على السياسات والاقتصاديات والثروات العربية.
لقد استمر الصراع بين فرنسا وبريطانيا حول مناطق النفوذ، حتى اتفقتا في معاهدة سايكس- بيكو على اقتسام العالم العربي- الإسلامي، وقيام كل منهما في منطقة نفوذهما بالقضاء على الإسلام. فيما شهد التاريخ المعاصر، دوراً للاحتلال الجديد المتمثل في الولايات المتحدة الأميركية، باحتلال أفعانستان والعراق وإدارة الأزمة في الحرب اللبنانية، بالتمهيد لمشروعها المسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، الذي يؤدي إلى الفرقة والتشرذم القومي والوطني. في الوقت الذي أخضع العالم العربي إلى عدة اتجاهات سياسية متنافرة، ما أدى إلى فقدان الانتماء نحو القضايا الأساسية في فترات الأزمات العربية- العربية جراء اختلاف مفاهيم حولها.
من هنا شكل "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، دعوة صريحة لتجزئة المنطقة العربية استكمالاً لاتفاقية سايكس- بيكو، بهدف رسم مستقبل المنطقة العربية، بـ"إعادة هيكلة الشرق الأوسط"، وتقسيم العراق وسوريا والسعودية، إلى دويلات طائفية متنازعة، حيث تحافظ "إسرائيل" فيها على سيطرتها السياسية والعسكرية على جميع الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة، ليكون "السلام" المزعوم من قبلها قائماً على أساس قوة الردع "الإسرائيلية" من جهتها، وتمزق الدول العربية إلى كيانات مصطنعة من جهة أخرى.
إن الخارطة السياسية وفقاً لمفهوم "الشرق الأوسط الجديد"، هي التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو، في استحداث الكيانات الطائفية، إذ إن أحد الأهداف التي تسعى لها الولايات المتحدة الأميركية في هذا المضمار، داخل العالم العربي تكمن بوضع الخطط حول شكل البيئة الإقليمية المناسبة التي تعيش فيها "إسرائيل" بأمن وسلام، وهذا ما يدفع إلى إيجاد التكتلات الطائفية في الكيانات السياسية التي تبرر وجود دولة يهودية مقابلها، تكون لديها القدرة على التعامل مع المنطقة العربية كمرجعية محورية. بالإضافة إلى ذلك فإن الوقائع التاريخية التي شهدها العالم العربي في الفترات السابقة، تبين مدى أهمية المكان الجغرافي والسياسي بالنسبة لبقية العالم الأوروبي الغربي والأميركي. فبناء "مشروع الشرق الأوسط الجديد" يكتسب أولوية استراتيجية، لا تقل شأناً عن التاريخ السالف للعالم العربي، رغم التقنية الحديثة التي شملت كل المستجدات الميدانية والعلمية. فالمنطقة العربية تقع على خطوط الممرات الجوية والبرية والبحرية، ذات الأهمية الكبرى لمصالح الولايات المتحدة الأميركية، وقد شكلت المجال الحيوي والشريان الأساسي للطاقة العالمية عبر التاريخ السالف، بالإضافة إلى ذلك، فإن الدافع لذلك كان المرحلة المقبلة التي تتحضر لها المجتمعات الغربية مجتمعة، جراء دور المنطقة العربية المرتقب، بالرغم من رفض شعوب المنطقة العربية للمشروع الأميركي، وذلك من خلال تعاظم دول الشرق الأقصى، أي الصين، والهند. لذا فإن افتعال الأزمات العربية الداخلية، كان من شأنه تهديم العلاقة العضوية للعالم العربي، كمقدمة لتهشيم أكثر الهويات التاريخية تجذراً وممانعة في تاريخ هذه المنطقة، وهذا يعني أن تهديم المفاهيم الداعية كانت تستهدف الهوية في بعدها القومي والثقافي، بهدف هيمنة الثقافة الواحدة والنظام السياسي.
• الإرث والتركة في العالم العربي
إن الحركات التنظيمية التي نشأت في مواجهة السلطة في العالم العربي، جراء الأحداث التي عصفت به خلال مرحلة ما سمي بـ"الربيع العربي"، والتي انطلقت من مفاهيم تبريرية لفعلها العنفي، لم تكن في واقع الأمر حركات جهادية بالمعنى الديني الإسلامي، أو حركات قومية تنطلق من البعد القومي العربي، بل كانت عبارة عن تبريرات سياسية، بهدف إلغاء الآخر وفقاً لأيديولوجية "الخلافة الإسلامية"، ولآراء متعددة حول مسألة "التكفير".
إن هذا المفهوم، لم يكن له أي جذور شرائعية تاريخية يمكن البناء عليها، وخاصة أنها كانت تصدر عن بعض الفرق الدينية المتزمتة، جراء انتشار قرابة 24 ألف مدرسة فكرية دينية في باكستان والعالم العربي، حيث أفرزت تلك المدارس فكرها السلفي على العالم العربي- الإسلامي، نتيجة لمنظومة فكرية تبريرية تنطلق من مفهوم "الخلافة" والعودة إلى الإسلام الراشدي. فتجارب العالم العربي والإسلامي ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قد أدت إلى تنافر الآراء الفكرية الإسلامية حول الكيان والدولة، وانتشار العديد من الأفكار، حول الوعي السياسي ونشر الإسلام المعتدل النابع من التاريخ.