قبل عام من الآن كان الروائي السوري ياسين رفاعية وحيداً على سريره في أحد مشافي بيروت، حيث يُقيم منذ سنوات طويلة، كانت شقيقة زوجته الشاعرة الراحلة أمل جراح هي الوحيدة التي تعتني به، وتشرف على رعايته إلى أن تماثل للشفاء بعد إجراء عمل جراحي لم يكن الأول.
ربما لا تختلف سيرة رفاعية كثيراً عن حكايات شخوصه في روايته «سوريو جسر الكولا» الصادرة عن (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ بيروت 2013). بل قد يأتي روائي آخر ليكتب معاناة أديب عاش الوحدة والغربة والحزن على فراق وطن وزوجة شاركته أجمل سني حياته.
يتناول العمل الروائي سير عمال سوريين هاجروا من مختلف أنحاء سورية بحثاً عن فرص للعيش في لبنان البلد الوحيد الذي لا يحتاج منهم «فيزا» لدخوله، يفتتح الروائي عمله بسيرة عامل من إحدى قرى ريف سورية الشمالي يدهمه الموت بينما هو ينتظر تحت «جسر الكولا» الشهير في بيروت حافلة ستقله إلى أهله، إلا أنه يستقر جثة هامدة في حاوية للقمامة يلقيه شابان مخموران فيها بعد أن يسرقاه ويتبولا عليه في عتمة الليل.
يأخذك الكاتب من حكاية هذا الرجل العجوز إلى تفاصيل أفراد أسرته وجيرانه، لتجد نفسك مُحاطاً بمآسي عشرات السوريين ممن ضرب القحط أراضيهم، وعجزت مشروعات الحكومة وخططها التنموية الفاشلة في إحياء هذه الأراضي، وإعالة مئات الآلاف من الأسر ومئات القرى التي خلت إلا من النسوة والعجائز وبعض المواشي التي ماتت تباعاً من قلة الماء والكلأ.
شباب سوريون وأكاديميون جامعيون ومزارعون وصغار كسبة، هم اليوم عمالٌ مياومون في لبنان، هربوا من ظروفهم الحياتية الصعبة في ظل ظروف المعيشة القاسية، وعانوا ما عانوه في بلد لم يعرف الاستقرار يوماً، وبدأوا يدفعون ضريبة سياسة بلدهم الأم سورية في خاصرتها الجنوبية الغربية لبنان.
يتنقل الكاتب بين سورية ولبنان ويصوّر حالة الأخوة التي قطعت أواصرها اللعبة السياسية، بين شعبين كانا لوقت قصير يتقاسمان المصير والوجع والحرمان، ويُظهر كيف تكرست العنصرية خلال عقود الوجود السوري في لبنان؟ وبدء مرحلة الانتقام مع انتهاء هذا الوجود باستشهاد الرئيس رفيق الحريري العام 2005. قاتلو السوريين هم مواطنون لبنانيون يدفعهم الألم والأسى للاقتصاص من كل سوري يصادفونه، وكأن السوريين هذا قدرهم، لا يكفيهم ما عانوه من تشريد وقهر في بلدهم نتيجة السياسات الاقتصادية الفاشلة، بل بدأوا يدفعون أثمان سياسات حكوماتهم على الصعيد الخارجي حتى قُتل منهم المئات، واغتصبت عشرات الفتيات انتقاماً لموت شخص لم يعرفنه يوماً أو يسمعن به، فهن مجرد فلاحات في بساتين الخضار والفواكه وحقول البطاطا. لم تكن لهذه الأرواح أي قيمة في موازين السياسيين، فلم تتحرك سورية لإنقاذ مواطنيها، وتركتهم تحت رحمة سكاكين من ثاروا انتقاماً، ولم يكن بوسع الحكومة اللبنانية إيقاف مثل هذه الجرائم.
يتابع الكاتب سياق روايته وصولاً إلى ما تشهده سورية من سفك للدماء وتداعيات سير الأحداث في أرض المعركة على السوريين الذي وقعوا ضحية انقسام جديد في الموقف اللبناني بين مؤيد ومعارض لما يجري هناك خلف الحدود.
لا ينسى رفاعية أن يحتفي بالحب في روايته، فيزج بالشاب خالد الذي يعمل ناطوراً لبناية تعود ملكيتها لرجل غني من أعيان بيروت في قصة عشق غير متكافئة بل إمكانية تحققها هي المستحيل الرابع. عشق الطرف الواحد غير المتكافئ يجعل الشاب خالد أكثر إخلاصاً لعمله، وينتهي به أن يكون «حمّالاً» يحمل ابنة البيك التي يعشقها في سره إلى عريسها بعد أن يطوف بها على المدعوين إلى حفل زفافها، متحسساً أردافها وفخذيها في لا وعيه: «رَكِبتْه كما تركب مصرية جملاً ذا سنامين، الدفء الذي أحس به لحظة حملها كأنه لا يزال يشعر به حتى الآن، رائحة ملابسها الداخلية..».
يورد الكاتب في روايته أرقاماً وتقارير صحافية صادرة عن هيئات رسمية مختلفة، محاولاً إضفاء شيئاً من الواقعية على حكايات تبدو لقارئها في الوهلة الأولى ضرباً من خيال، إلا أنها جاءت مُغايرة للنص الأدبي مما أضعف بنية السرد الروائي.
يُنهي رفاعية روايته بالموت، كما بدأها بالموت، في فصلها الأخير يجمع أبطاله وشخصياته في حافلة، تعتقد للحظة أنه جمع كل السوريين فيها ليطلق عليهم رصاصة الرحمة، ويقتلهم جميعاً حين ينفجر إطار الحافلة المتجة إلى سورية، ولكنها تهوي في الوادي السحيق قبل أن توصلهم إلى بلدهم، ينجو من بينهم طفل رضيع، ربما أراد أن يقول الكاتب بإنقاذه لهذا الطفل: هذه هي سورية، تولد من جديد.
ياسين رفاعية: كاتب وروائي سوري ولد في دمشق العام 1934، عمل في الصحافة والتحرير الأدبي، وفي وزارة الثقافة السوريّة، ثم أسس مع الأديب فؤاد الشايب مجلة المعرفة. وعمل في جريدة الأحد اللبنانيّة، وترأس مكتب صحيفة الرأي العام الكويتية في بيروت. وبعد الغزو الإسرائيلي للبنان غادر إلى لندن، حيث عمل مسؤولاً ثقافياً في مجلة الدستور، ثم انتقل إلى جريدة الشرق الأوسط حتى العام 1996، عاد بعد ذلك إلى بيروت وتفرغ للكتابة. له أكثر من 25 مؤلفاً في الشعر والرواية والقصة.