شهد العالم العربي عموماً والمشرق العربي خصوصاً، انقسامات حادة بفعل عوامل داخلية وخارجية عدة، جعلت منه دويلات متخاصمة في أحيان كثيرة. وذلك يعود بشكل كبير ربما، إلى تغلغل التفكير القبلي الجاهلي الذي لم تستطع الدولة العربية الإسلامية، في مراحل تقدمها العلمي والثقافي من نزعه من النفوس كليّاً. هذا بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية التي تمثلت بالصراعات على الثروات، وذلك من خلال تحكم عقل الغنيمة بالفكر السياسي العربي إلى جانب عقل القبيلة ( ).
نتيجة لهذه العوامل حصل تراجع فكري وعلمي كبير في الحضارة العربية والمشرقية بعد أن كانت منارة العالم، وكانت مهد الفكر ومهد الفلسفة، مهد الأبجدية التي صدرت للعالم، وبدأت مع اكتشافها مرحلة كتابة تاريخ الحضارة الإنسانية.
في المقابل حصل تطور علمي في أوروبا إثر اكتشاف الطاقة ودخول الآلة إلى المصانع، أدّى إلى حصول تحولات جذرية تمثلت في نشوء إمبراطوريات استعمارية جديدة وتحول العالم العربي إلى تابع اقتصادياً وثقافياً وبالتالي سياسياً للدول الغربية.
لقد بدأت الدول الأوروبية والغربية بالعمل على تفتيت الوطن العربي، ومواجهة الوحدة العربية وتعطيلها لأنها تُضرّ بمصالحها الاستعمارية. وذلك من خلال تشجيع التقاتل الداخلي، وزرع الكيان الصهيوني الغاصب، والسيطرة العسكرية ومن ثم التحكم السياسي بالعالم العربي( ).
يستمر المشروع الاستعماري الغربي بتنفيذ مخططه التقسيمي للمنطقة، وخير دليل على ذلك الغزو الأميركي للعراق عام 2003 بحجة محاربة النظام البعثي الاستبدادي، وتخليص الشعب العراقي المقهور من نير الطغيان.
هذا في الظاهر أما ما يضمره الباطن الأميركي فمختلف، يعبر عن أطماع بالثروة النفطية وغيرها من الثروات. ونية تخليص الشعب العراقي من الاضطهاد والطغيان ما هي إلا نية فيها مخادعة؛ فلم يجلب الغزو الأميركي الاستقرار والأمن، وإنما جلب التفجيرات وقتل الأبرياء وأمّن غطاءً للمجموعات التكفيرية الظلامية لتعيث في البلاد فساداً وشراً.
لم يقتصر الأمر على العراق وإنما انطلق إلى مناطق مشرقية أخرى، وخصوصاً سوريا التي تشهد اقتتالاً مدمّراً باسم الدين الذي لا يمكن أن يكون مع قتل الناس وإرهابهم، وإلا تعارض مع وظيفته الأساس وهي الإصلاح ونشر السلام.
أمام كل هذه الأحداث والتحولات التي يشهدها مشرقنا العربي، تأتي فكرة إنشاء مجلس تعاون مشرقي، فما هي طبيعة التعاون المشرقي وما هي أهميته وتأثيره على دول المشرق العربي؟ وهل هو مجرد تقليد لمجلس التعاون الخليجي؟ أم أنه مجلس يتم إنشاؤه ليكون أكثر فاعلية في الدور والأداء؟
أولاًـ في فلسفة التعاون:
أفردت الفلسفات القديمة مباحث عدة في الفلسفة الاجتماعية متحدثة عن أهمية التعاون في حياة الجماعات، كما عند الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) وابن خلدون في كتاب (المقدمة).
رأى الفارابي أن الإنسان محتاج إلى الاجتماع والتعاون، وذلك في سبيل القيام بشؤونه كافة التي يحتاج إليها ولا يمكن له الاستغناء عنها؛ وهو بمفرده لا يستطيع أن يقوم بشؤونه كلها لعجزه عن ذلك( ). وهذا ابن خلدون يقرر ضرورة الاجتماع الإنساني، معتبراً أن الإنسان مدنيّ بالطبع، محدداً ضرورة الاجتماع الإنساني بأمرين أساسيين في حياة الإنسان: الأول تأمين الغذاء، إذ به قوام حياة الإنسان، وبدونه لا يستطيع أن يعيش. وهو لا يمكن أن يحصّله بقدرته وحده؛ إذ "أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه، وهو قوت يوم واحد من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري…"( ) فلا بدّ إذن، من أن تجتمع قدرة الناس لأجل تأمين الغذاء اليومي للفرد.
الأمر الثاني الذي يدعو للاجتماع الإنساني هو التعاون لأجل الدفاع عن النفس، ولكن بمواجهة مَنْ؟ بمواجهة الحيوانات العجم أي المتوحشة؛ "لأن الله سبحانه لمّا ركّب الطباع في الحيوانات كلها، وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان. فقدرة الفرس أعظم بكثير من قدرة الإنسان… وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته"( ).
من هنا، يمكننا تبني مبدأَي ابن خلدون على اعتبارهما ثابتين، ينطبقان على واقعنا؛ إذ إن الغذاء والأمن هما الحاجة الأولى والماسة للمجتمعات العالمية عموماً والعربية والمشرقية خصوصاً، هذه الحاجة التي تعلو على كل حاجة أخرى وتتقدم عليها.
ويمكننا أن نزعم كما يشير الواقع أيضاً، أن الحروب والغزوات المعاصرة ما هي إلا للحصول على الثروات، والسيطرة على مقدرات البلاد التي يغزوها الغازي. كما أن جوهر الصراع العربي ـــ الصهيوني ليس فقط استرداد الأرض وحماية المقدسات، وإنما هناك خلفية اقتصادية متمثلة بأطماع العدو ونيته السيطرة على الثروة المائية التي تعتبر أهم بكثير من الثروة النفطية. وإن الاستيلاء على الثروة المائية في المشرق العربي من الأهداف الدائمة، والقديمة المتجددة للعدو الصهيوني من مياه نهر الليطاني اللبناني التي تحقق للعدو مزايا إستراتيجية تتمثل بالفصل بين لبنان وسوريا، ومزايا سياسية تتمثل بالضغط على الجمهورية اللبنانية للدخول في المفاوضات، ومزايا اقتصادية تتمثل بتوسعة نطاق الأراضي الزراعية في شمال فلسطين المحتلة والتي تفتقر نسبياً إلى المياه؛ ومياه نهر الأردن، وصولاً إلى الفرات، وذلك لضمان قيامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ذلك الشعار الحقيقي الذي لا يمكن للصهاينة التخلي عنه تحت أي ثمن( ).
أما بالنسبة للمبدأ الثاني الذي قرّره ابن خلدون، وهو التعاون لتحقيق الأمن، فهو صحيح في وقتنا الراهن؛ إلا أنه ليس لمواجهة الحيوانات العجم، بل هو ضروري لمواجهة العجم من البشر، الذين هم أشد خطراً من الحيوانات المتوحشة. هذه الفئة المتمثلة بأميركا وإسرائيل اللتين تحملان مشروع تفتيت المنطقة العربية عامة والمشرقية خاصة، لضمان أمن إسرائيل، وبقائها الدولة الأقوى بين دويلات متناحرة. كما تتمثل هذه الفئة بكل من يخدم المشروع الأميركي الإسرائيلي بعلم أم بغير علم، وسواء كان من العرب والمشرقيين أم كان من غيرهم.
إن التعاون مبدأ ضروري بين الأفراد وحتى بين الجماعات، وكلمّا توسعت دائرة الجماعة كانت أكثر قوة ومنعة، وأكثر قدرة على مواجهة المخاطر المحدقة بها من أعدائها المتربصين بها شرّاً.
ثانياًـ في فكرة التعاون المشرقي:
تأتي فكرة التعاون بين دول المشرق العربي في فترة حرجة من تاريخ العالم العربي كله، فترة تتكشّف فيها المخططات الغربية الرامية إلى تقسيم المنطقة وتفتيتها إلى أكبر عدد من الجماعات الإثنية والطائفية المتناحرة فيما بينها من العراق إلى سوريا، إلى مصر وغيرها من الدول العربية. وقد تجلّت بوادر هذه المخططات التقسيمية في استغلال، إن لم يكن تحريك ما يُسمّى بثورات الربيع العربي، والتي هي في واقعها بعيدة نسبيّاً عن مفهوم الثورة، لأن هذا المفهوم يعني تغييراً أساسياً في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به شعب ما في دولة محددة( ). والتغيير الأساسي والشامل يتطلّب مشروعاً متكاملاً، يستند إلى خطة واضحة، ويحمل أهدافاً واضحة، يجري العمل على أساسها لتحقيق البديل السياسي والاجتماعي، لا أن تحصل انتفاضة قبل البحث عن البدائل الأفضل والأمثل. فالجماعات الإسلامية التي استلمت الحكم حديثاً، تحمل فكرة إقامة حكم إسلامي، من دون أن نلحظ لديها آليات هذا الحكم، ومن دون أن نرى نظاماً بنيوياً للحكم، يتضمن عناصر واضحة قابلة للتواؤم مع الحالة المجتمعية الراهنة.
تأتي فكرة التعاون المشرقي في ظل واقع التشرذم والانقلابات والتحولات التي تطال المنطقة بأكملها، لتكون ومضة في زمن يحاول فيه كثر تحويل ما تبقى من نور إلى ظلمة دامسة.
إن التعاون المشرقي المقترح يحمل أبعاداً عدة، اجتماعية وأمنية وسياسية واقتصادية وتربوية، وهو يمكنه إذا ما تحقق أن يعود بالنفع على دول المشرق العربي، لا بل حتى على الدول العربية الأخرى، وذلك على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية.
إن ما يحفّز على إقامة مجلس تعاون مشرقي، كون البيئة المجتمعية في كل دولة من دوله متشابهة في كثير من عناصرها وخصائصها مع بيئات الدول الأخرى، والهموم المجتمعية لدى أفرادها تكاد تكون متشابهة، والأهم أن المصير بينها مشتركٌ؛ فالأخطار المحدقة بها واحدة لا تستثني أياً منها، وذلك لأن عدوّها واحد وهو العدو الصهيوني الذي يشكّل خطراً دائماً عليها جميعاً. وإذا كان مصير هذه الدول واحداً، فبالحري أن يكون مسارها واحداً.
وأطماع العدو الصهيوني ـ على ما ذكرنا سابقاً ـ كثيرة وأهمها الأرض المشرقية؛ فقد كانت الأرض السورية محطّ أنظار اليهود المستوطنين منذ زمن هرتزل، على اعتبارها مكاناً ممكناً لاستقبال المهاجرين الروس، ولوجود أراضٍ خصبة فيها صالحة للزراعة كما في منطقة الجزيرة، إذ عرض المندوب السامي الفرنسي "دو جوفينيل" على "حاييم ويزمن" سفر اليهود المهاجرين إلى منطقة الجزيرة لكونها من أخصب الأراضي الزراعية، كما كانت الأراضي العراقية محطّ أطماع الصهاينة أيضاً لوجود نهر الفرات فيها( )، إضافة إلى الأرض اللبنانية.
إن التعاون المشرقي ضرورة ماسة للدول المشرقية، وذلك في مواجهة العدو الصهيوني الذي تتعاون معظم دول العالم لحمايته، وتثبيت كيانه على أرض غير أرضه.
من المهم القول: إن فكرة التعاون المشرقي إذا ما أتيح لها التحقق، فلن تؤثر على استقلالية أي دولة مشرقية، بل على العكس فهي ستدعّم هذه الاستقلالية وترسخها، لأن الدول المنضوية تحت هذا الإطار السياسي والاجتماعي الجديد ستكون أقوى مما لو كانت منفردة، تواجه الأخطار بمفردها. كما أنه من نافل القول: إذا كانت الأمة المشرقية واحدة لناحية حاجاتها، وهمومها، ومشاكلها، وأهدافها الاستراتيجية، فلا يعود للحدود في ما بينها معنى.
ثالثاًـ في آليات مجلس التعاون المشرقي:
إن فكرة إنشاء مجلس تعاون ليست جديدة، فهناك مجالس تعاون (عدة) على صعيد العالم العربي والعالم، كما أن هناك اتحادات عديدة بين دول أجنبية، إلّا أن فكرة مجلس تعاون مشرقية فكرة جديدة، وبما هي كذلك، يجب أن تحمل في عمقها جديداً لا تقليداً لأفكار سابقة مجرّبة.
إذا أخذنا عالمنا العربي نجد فيه مجلساً محققاً، وهو مجلس التعاون الخليجي المنشأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، وله نشاطاته الخليجية والعربية والدولية، وأدواره التي اتخذها لنفسه، وتميّز بها عن الآخرين. ومن هنا يُطرح السؤال نفسه، وهو هل فكرة التعاون المشرقي مشابهة لمجلس التعاون الخليجي؟ وهل الأدوار ستكون ذاتها؟ والأهداف والاتجاهات ذاتها؟
لا إشكال في أن تتشابه بعض أهداف مجلس التعاون المشرقي، والتي تأتي إطاراً عاماً، مع أهداف مجلس التعاون الخليجي، ومنها:
ـ تحقيق التنسيق والتعاون والتكامل بين دوله بغية الوصول إلى الوحدة بينها.
ـ وضع أنظمة متشابهة في الدول المنتمية إليه على مختلف الأصعدة ومنها: الاقتصادية والمالية، التعليمية والثقافية، الصحية والاجتماعية، التشريعية والإدارية…
إن الأمور السالفة الذكر ضرورية لنجاح مهمة مجلس التعاون المشرقي؛ إذ من الضروري أن تكون هناك سياسات اقتصادية واحدة في دول مجلس التعاون، وأن يكون التعاون الاقتصادي متكاملاً، بشكل يؤدي إلى قيام اقتصاد مشرقي قوي ومتماسك، قادر على مواجهة التقلبات الاقتصادية العالمية التي لا تستطيع أن تواجهها إلا دول ذات اقتصاديات قوية. كما أنه من المهم أن يكون هناك نظام تربويّ واحد، يعتمد على مبدأ إصلاح التعليم، الذي ينبغي أن يسبق أي عملية إصلاح أخرى سياسية أو اجتماعية. وهذا الإصلاح هو من أجلّ الأمور وأصعبها، كما يعبّر الفيلسوف الألماني كنط عن ذلك بقوله: "ثمة اكتشافان إنسانيّان يمكن اعتبارهما أصعب الاكتشافات، فن سياسة الناس وفن تربيتهم". ولذلك أفرد الفيلسوف الإغريقي أفلاطون في فلسفته السياسية ضمن كتاب الجمهورية، فصولاً مهمة في التربية والتعليم، وفي الإصلاح التربوي. وفي معرض حديثه عن الحكم، يتحدث أفلاطون عن عملية تربوية متكاملة، يحصل التدرج فيها للوصول إلى الحكم الذي يكون على رأسه الفلاسفة( ). فإصلاح التربية إذن، إصلاح للأجيال، وبالتالي إصلاح وتحصين للأوطان. كما أنه من الجيد لا بل من الضروري أن يكون هناك تعاون صحي استشفائي بين دول مجلس التعاون المشرقي، يؤدي إلى زيادة مستوى الخدمات الاستشفائية المقدمة للمواطن المشرقي، وذلك من خلال تناقل المعارف والخبرات الجديدة بين دول المجلس.
تتشابه بعض الأهداف إذن، بين مجلس التعاون المشرقي وما سبقه من مجالس كمجلس التعاون الخليجي، إلا أنه لا ينبغي أن يكون مجلس التعاون المشرقي نسخة مطابقة لغيره من المجالس، بل ينبغي أن تكون له بصمته الخاصة، وسياسته التي تكون مشرقة في صفحات تاريخ الأمة.
ينبغي أن يكون مجلس التعاون المشرقي في المقام الأول في الدفاع عن مصالح الأمة المشرقية والعربية، وأن يكون دوره الدور الأكبر في ذلك، وإلا ما نفع إنشاء مجلس تعاون إن بقيت دول المجلس غير قادرة على مواجهة التهديدات الإرهابية المتأسلمة والأطماع الصهيونية؟
إن قيام مجلس تعاون مشرقي يعني تراكم قوى في مواجهة قوة صهيونية، تصب في خدمتها معظم قوى العالم في أوروبا وأميركا. وهنا يطرح سؤال مهم كيف يمكن أن ينشأ مجلس تعاون مشرقي وفي خاصرته دخيل محتل بعيد عن تاريخ المشرق العربي وأصالته؟ كيف يمكن لمجلس التعاون أن يكون محصناً والعدو من داخله؟
إن أبرز هدف ينبغي أن يوضع أمام تأسيس مجلس تعاون مشرقي هو إزالة الورم الخبيث من الجسم المشرقي. وبتحقيق هذا الهدف يكون مجلس التعاون المشرقي قد حقق ذاته، وأثبت أنه ليس مجرد مجلس شكلي وصوري، بل هو مجلس منبثق من الأمة يعبّر عن تطلعاتها، ويعمل على تحقيق مصالحها وأهدافها. وخصوصاً أن هذا الهدف يغيب عن مجالس تعاون أخرى كمجلس التعاون الخليجي، وهذا ما برز مدى أعوام من مسيرة مجلس التعاون الخليجي، الواضح للعيان ابتعاده عن جوهر الصراع مع العدو الصهيوني، وآخر تجليات هذا الأمر اتخاذ مجلس التعاون إجراءات بحق لبنانيين يزعمون أنهم منتسبون للمقاومة، وذلك بهدف ردع المقاومة في لبنان بحجة مشاركتها في الأزمة السورية إلى جانب النظام( ). ثم إن العلاقات مع الكيان الصهيوني أصبحت واضحة للعيان، والمكاتب التجارية والاقتصادية موجودة بين الطرفين منذ مدة.
إن فكرة مجلس تعاون مشرقي فكرة تصبّ في خدمة الأمة المشرقية، وإثبات وجودها أمة فاعلة بين الأمم، ولكي تتحقق هذه الفكرة وتصبح أهدافها ناجزة، على الأمة المشرقية أن تصل إلى أعلى درجات الوعي بذاتها، ليكون لها تاريخها الناصع المشرق، الذي كما يرى الفيلسوف الألماني هيغل "هو مسار تكافح فيه الروح لكي تصل إلى وعي بذاتها… لكي تكون حرة، ومن هنا ليس هو إلا تقدم الوعي بالحرية، وكل مرحلة من مراحل سيره تمثل درجة معينة من درجات الحرية"( ).
الحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح، وهي جوهرها بحسب هيغل الذي رأى أن الشرقيين "لم يتوصّلوا إلى معرفة أن الروح، أو الإنسان بما هو إنسان، حر، ونظراً إلى أنهم لم يعرفوا ذلك فإنهم لم يكونوا أحراراً. وكل ما عرفوه هو أن شخصاً معيناً حر( ).
لو أن هيغل بيننا اليوم، لرأى أن في المشرقيين أحراراً وهم كثر على امتداد تاريخ المشرق الحديث؛ ففي المشرق أبطال قضى منهم الكثير من الشهداء استطاعوا تخليص الأمة من نير العثمانيين، كما تمكّن أبطال الشرق من دحر الفرنسيين عن بلادنا، وأخيراً وليس آخراً استطاع الأبطال المشرقيّون دحر الاحتلال الصهيوني عن جزء كبير من بلادنا، وما زالوا يكبدون هذا العدو الهزيمة تلو الهزيمة. وما كان المشرقيون يفعلون ذلك لولا أنهم يعون ذاتهم تمام الوعي، وبالتالي يعرفون المعنى الكامل للحرية.
أن يكون المشرقي واعياً بذاته تمام الوعي، يعني أن يكون لديه وعي بكونه مشرقياً عربياً والمشرقيون العرب إخوة له، يتشاركون معه في الانتماء لهذه الأرض، لا كونه ابن طائفة يتنازع مع غيره من الطوائف على المصالح والمكتسبات. خصوصاً أن الحلف الأميركي ـــ الإسرائيلي يعمل على تفتيت الأمة إلى جماعات صغيرة متناحرة فيما بينها، وتقسيم دول المنطقة إلى دويلات صغيرة، تكون إسرائيل الأقوى بينها تمهيداً للوصول إلى الحلم الصهيوني بتحقيق إسرائيل الكبرى.
ومجلس التعاون المشرقي، لا يمكن أن يقوم على قاعدة دينية أو طائفية، بل على قاعدة قومية، لأمة يجمعها تاريخ قديم يعود إلى أقدم العصور.
فيما يخصّ دور مجلس التعاون المشرقي، على المجلس أن يكون حاضراً بشكل دائم، لا أن ينعقد كغيره من المجالس العربية بعد أيام من حصول أزمة معينة، ويكون الاجتماع دون فاعلية تذكر، بل عليه أن يكون مستعداً بشكل دائم لمواجهة الأزمات التي تواجه الأمة المشرقية، وأن يتخذ القرارات الناجعة والتي لا تكون شكلية.
إن مجلس التعاون المشرقي مجلس فيه خير الأمة المشرقية، كما فيه منعة لها بوجه المخاطر والمكائد التي يحيكها الأعداء الذين يعيشون وسط الأمة المشرقية. كما أن في مجلس التعاون المشرقي تقدم الأمة المشرقية وتطورها، ومواكبتها للركب الحضاري، وجعلها أمة فاعلة ومؤثرة بين الأمم. فالأمة المشرقية تملك الكثير من الطاقات الفكرية والثقافية القادرة على إحداث التغيير الحضاري، الذي يحول الأمة المشرقية من أمة تابعة إلى أمة محاذية لغيرها.
إن ما يحققه المشرقيون من إنجازات فكرية وعلمية وغيرها من الإنجازات، لكبيرة جداً، ولكنها تكون أكبر وأكبر إذا ما كانت في مشرقنا. وقد آن الأوان لأن تكون هذه الطاقات المشرقية فاعلة هنا في أرضنا ولأمتنا، لا على أرض غيرنا، ولغير أمتنا.
كل هذا ممكن إذا ما أتيح لفكرة مجلس التعاون المشرقي أن تتحقق، لا أن تبقى حلماً تعبر عنه ألسنة المفكرين المشرقيين الواعين لقضايا الأمة المشرقية.