ليس للفنّ التشكيلي منعطف أشدّ وطأة من العين. يأتينا برحلاته المختلفة. وكل رحلةٍ لها عنوانها. الأرض تحضن جبالاً من الخصب والصنوبر، العين فيها تُخاطب الأنامل وريشة تترجم الخطاب وتبدع لوحاتٍ استمدّت مفرداتها من الطبيعة الأم بلغة اللون السهلة الصعبة في آنٍ معاً. بخطٍ واضح أرسم بصمتي الخاصة. قالت رويدة: هذا أسلوبي. هذا ما يميزني بما أرسم. وكانت محقّة. لا نمتلك إلا أن نكون عُزّل.. لا مجال للنقاش في هذا. نحترم الأسلوب المتفرّد. المادة هي الذاكرة، التي قد تكون من عمر الطفولة فتجسّدت بهذا الشكل الصادق. كم هو جميل احتراف ذاكرة العين في التشكيل. تشكيل المفردات اللونية والشكلية والمشهدية. الأخضر طاغٍ. هذا لون الحياة. لون السماء إن شئنا ابتداع سورياليتنا الخاصة في عملٍ لا تقاربه السوريالية بشيء.
ذاكرةٌ للزمان والمكان. رصدٌ جميل للتراث. زخرفة الأوقات التي تنبض برائحة المكان عبر رحلات الذاكرة البعيدة القريبة. استحضار العمق بمشهد. تلوين الغياب بالوضوح فحدثناها:
1– من أنتِ؟ معارضكِ؟
رويدة عبد الحميد فنانة تشكيلية سورية.
أحببت الفن منذ طفولتي واستهوتني الألوان من بين كل الأدوات المدرسية.. عندما دخلت المدرسة اكتشف المعلمون موهبة الرسم لدي وشجعوني عليها.. أملك خطاً جميلاً وأمتلك موهبة الرسم لذلك كانوا يعتمدون عليّ في المدرسة في إعداد مجلات الحائط من رسم وكتابة.. شاركت بمسابقات الشبيبة وأثبتُّ نفسي فيها لكن القدر لم يكتب لي أن أستمر في طريق الفن ودخول كلية الفنون.. تركت واخترت طريقاً آخر وتزوجت واستقرّيت.. لكن بعد عشر سنوات من الإنقطاع عن الفن شعرت أنه يصرخ بداخلي ويريد الخروج عندها سمحت له بالخروج وعاد إليّ مجدداً.. بعدها دخلت مركز مجيب داؤود للفنون التشكيلية بطرطوس، درست فيه سنتين، خلال دراستي بالمركز شاركت بمعارض جماعية، وبعد التخرج تابعت في المشاركات الجماعية وأقمت معرضين
فرديين إلى الآن.
2– من يرى لوحاتك لا يستطيع الفكاك من الطبيعة، لوحاتك ترصد الطبيعة وتفاعل الإنسان فيها.
الطبيعة هي الأم من جهة، وهي الصفاء والهدوء من جهة اخرى، لذلك أحببت تجسيدها بأعمالي. الفنان ابن البيئة التي ينشأ فيها، وأول شيء يحب أن يعبّر عنه هو هذه البيئة المحيطة فيه بكل تفاصيلها، وبما أن الطبيعة هي أمنا فمن الطبيعي أن نتعلق فيها ونعشق التعبير عنها بما نملك من أدوات.
أهم سبب جعلني أتحدث عنها هو الظروف القاسية التي نمرّ بها من قتل ودمار وسفك دماء وافتقادنا للأمان والدفء والهدوء والنقاء، والذي حاولت أن أبحث عنه في الطبيعة فالإنسان عندما يفتقد لشيء يبحث عنه في أي شيء، نحن بالنهاية جزء لايتجزأ من هذه الطبيعة.
3 – رأيت في لوحة العرس الكثير من الإلتقاطات التي رصدتيها بنظرات العيون. تحديداً الأم.
بالنسبة للوحة العرس بعض الأشخاص ينظرون إليها على أنها مجرد مشهد عادي ولكن أنا أجد فيه عمقاً نفسياً كبيراً ولا أنظر إلى الوجوه، بل مايوجد خلف الوجوه
وخاصة وجه العروس ووجه أمها.. فهن ابطال لوحتي. العروس التي تبدو خائفة، قلقة، منقبضة الروح.
من جهة: هي تدخل إلى عالم جديد. بيئة جديدة. مصير مجهول، ومن جهة أخرى ستنسلخ عن أمها وحضنها الدافئ. ستترك أخوتها وتترك كل ذكرياتها وأصدقائها.. إلخ أما بالنسبة للأم فيبدو على وجهها الحزن والقلق وهناك دمعة محبوسة وابتسامة مخنوقة لأمرين:
من جهة ستبتعد ابنتها عن حضنها وكأن أحد يقتطع جزء من هذه الأم، ومن جهة أنها خائفة عليها من سوء الحظ وقسوة القدر.