ماذا نجد لو بسطنا المظهر العربي الحالي على أرض المراجعة والتأمل؟
ربما لن يفضي مسعى كهذا، إلا إلى النظر في لوحة رمادية. يتعذّر الوقوف على تشكيلها بيسر. فلم يكن لحادث تاريخي أن يحظى بتلك الوفرة من الجدل حول ماهيته وهويته ومآلاته المنتظرة، كالحادث المتمادي على مساحة العالم العربي منذ بداية العام 2011.
ولا غلوّ في القول إنّا دخلنا على امتداد ثلاثة أعوام مضت في خضم "جيولوجيا ثقافية سياسية"، لم تجد تعريفاً محدَّداً لها بعد. كل تعريف نُسِب إليها بدا مشوباً باضطراب الفهم. تعريف هو في الأغلب الأعم صادر عن رؤىً وأحكامٍ وتعليلاتٍ تعكس إلى هذا الحد أو ذاك، آراء ومواقع ومصالح وأهواء، وتحيّزات أصحابها…
فالذين ذهبوا إلى توصيفها بـ"ثورات الربيع العربي"، سيكون لهم من الأسباب ما يحملهم على ذلك. والذين مضوا إلى قراءة معاكسة، نظروا إلى تلك "الجيولوجيا"، بما هي من فعل فاعل خارجي، وقالوا إنها امتداد جيواستراتيجي لهيمنة خارجية، تتغيّا تفكيك وإعادة تركيب الإقليم العربي تبعاً لمصالحها. ولهذه القراءة كذلك حظٌّ من الصواب، بما تقدمه من شواهد على أوصاف ونعوت لا تخلو من "منطق" يؤيدها ويسبغ عليها المشروعية.
ثمّة آخرون انبروا إلى ما يتعدى التفسير المألوف للثورات، فرأوا إليها كمصادفة تاريخية نبتت على أرض الضرورة، لكنها فاجأت الكل، وأنتجت لنفسها حيّزاً خارج التوقّع.
هنالك إذاً، مشكلة فهم، ناجمة عن تعدد التفسيرات وعن الاسباب التي تحكم مواقف المفسرين ورغائبهم، وحيث نشير إلى مثل هذا المَشكلِ المعرفي، فلكي ننبّه إلى صعوبة أكيدة في تظهير فهم مشترك ودقيق حتى بين "الثوريين العرب" القدامى منهم والجدد.
على سبيل المثال والإشارة؛ لو أخذنا مدّعى الديمقراطية، كمعيار وقيمة سياسية وأخلاقية مركزية في الحادث العربي المستمر، فلن نكون تحت أي تقدير أمام أطروحة بريئة. وسنجد على الإجمال، أن هذا المدّعى يجري توظيفه نحو مقاصد وأهداف لا تمت لأصله بصلة نسب.
وتوضيح ذلك، أن الدعوة إلى التغيير الديمقراطي، بدعوى التصدّي لتحديات الاستبداد في الحياة السياسية الوطنية، هي دعوة موصولة بمؤثرات جيواستراتيجية، ومحكومة باعتباراتها، وبشطر وازن من شروطها.
ثم إنها دعوى داخلة في صلب "جيولوجيا الأفكار" التي ضربت الثقافة السياسية العربية وقلبتها رأساً على عقب. حتى لقد بدا كما لو أن الغاية من استحضار قيم الثورة الديمقراطية، لم يكن إلا لإجراء تحويلات جوهرية في أنظمة السياسة والأمن، أو الاستيلاء على السلطة بأي ثمن.
من أظهر تجليات الاستقطاب المندرج على خط التوظيف: عزل الأطروحة الديمقراطية والإصلاح السياسي، عن الاختصام مع استراتيجيات الهيمنة بصيغتها النيو – إمبريالية. واللاّفت أن هذا العزل راح يتحول، وفي خلال زمن قياسي، إلى ثقافة سارية لدى نخب فكرية وسياسية واسعة في العالمين العربي والإسلامي.
أما الحصاد المباشر لمثل هذا العزل، فهو حدوث انقلاب في عالم المفاهيم والأفكار سيكون له أثر بيّن على حزمة من المسلّمات، شكلت على مدى احقاب طويلة البنية المعرفية للنضال الوطني والقومي في العالمين العربي والاسلامي. لعل أبرز مظاهرها، تصدُّع معايير الولاءات الوطنية، حتى بالمعنى الذي تأسست قواعده على نصاب الدرس التاريخي للفلسفة السياسية الحديثة.
من داخل هذا المنفسح، راح ينعقد الإشكال بين ضرورتين متلازمتين: تنمية الحياة السياسية الداخلية، والمحافظة على السيادة الوطنية. فلقد أظهر المشهد العربي العام، تناقضاً جدياً عَصَفَ بالضرورتين معاً، وأوجد خللاً في وحدتهما المفترضة، ودفع بهما في اتجاهين متعاكسين:
الأول: اضطراب في التحول الداخلي، أدى إلى وضع حركة التغيير أمام حدّين يتعادلان في القسوة: إما الاستغراق في الفوضى والعنف، وإما المصادرة والاحتواء. وهو ما ألفيناه جلياً في اختبارات مصر وتونس واليمن وليبيا، وناهيك عن سوريا البحرين ولو بوقائع وصور متباينة.
الثاني: احتدام في فضاء الإقليم، بلغ ذروته مع ترتيبات دولية مستأنفة، غايتها إعادة تشكيل مظلّة أمنية استراتيجية، تغطي شبه القارة الشرق أوسطية، وتركز بصفة خاصة على البلدان العربية المحيطة بالدولة اليهودية في فلسطين.
بين هذين الاتجاهين، ستظهر إرهاصات زمن رمادي من علاماته الفارقة، عسر الولادة الطبيعية لمنفسح ديمقراطي عربي، يملك حظَّ الاستقلال عن المداخلات الجيوبوليتيكية والتحرّر من مؤثراتها.
الاختبار الليبي في هذا الزمن جاء نموذجياً وصارخاً: ليأتي التحول في نظام هذا البلد كحاصل مدوًّ لغزو خارجي، بما كان للأمر من تداعيات جعلت إعادة تكوين جماعاته الوطنية أمراً يدنو من المستحيل.
الاختبار السوري ـ وعلى الرغم من تلازم الضرورتين المشار إليهما آنفاً – فقد انطوى منذ البداية على خاصيّة، تقدمه كمثال بيّنٍ على طغيان العامل الجيواستراتيجي لإقصاء التحول الديمقراطي السلمي، وتفعيل خيارات العنف الأعمى…
وفي المختبرين التونسي والمصري سوف تطالعنا شائبتان أخذتا تستحكمان بحراك ما بعد بن علي ومبارك.
الاولى: ولادة سلطة مسكونة بمحمولات إيديولوجية تكتظ بقابليات، العنف والإعراض عن الآخر والعجز عن التكيف مع التنوع السياسي والايديولوجي والديني.
والثانية: وصل المولود الجديد حبل صرّته بالمؤثر الخارجي، – ترشيداً إيديولوجياً ودعماً سياسياً – ظناً منه أن في هذا الوصل ما يشكل بالنسبة إليه عامل أمان يحفظ له نموه وثباته في الحكم.
كانت النتيجة ان الديمقراطية التي اوصلت الايديولوجيين الاسلاميين (حركة الإخوان) الى الحكم في تونس ومصر لم تتجاوز وظيفتها التقنية. جاءت معرَّاةً مما شاع في لغة الإسلام السياسي الإخواني من قيم تتصل بالعدل والتوازن ورحمانية التدافع.
أما في المختبر البحريني فسنكون بإزاء صورة مقلوبة. افلحت الملكية ان تكون حليفاً موضوعياً لما وُصف بـ "ثورات الربيع العربي". واستطاعت بتسديد وتأييد وعناية الحلفاء من ثوريي القومية العربية السابقين ويساريي الاشتراكية الآفلة، وديمقراطيي عرب ما بعد الحداثة.. أن تحكم على شارع عريق بديمقراطيته من خلال إنزاله منازل الطائفية، ثم لتحيل ثورته الى دراما ايديولوجية مطوَّقة بحرس كوني هائل من اضاليل الليبرالية العربية المستحدثة.
ديمقراطية برداء ايديولوجي
لو أن من استنتاج معرفي وجبت ملاحظته في ساحات الاحتدام العربي، فسيكون في الكيفية التي استطاع فيها ايديولوجيو الإخوان احتواء الشارع، ثم تحويل فعالياته إلى طريق سريع للاستيلاء على السلطة.
التجربة المصرية، ولا سيما بعد وصول الإخوان المسلمين إلى رئاسة الدولة، ثم انتزاعها من بين أيديهم بعد أقل من عام، دلّت على أصالة الايديولوجيا ومكانتها في الواقع السياسي. ما يعني في الحصيلة المنطقية، أن ميدان رابعة العدوية الذي تحوّل إلى جغرافيا رمزية لايديولوجيتهم كان أشبه بجواز مرور فعلي مكّنهم في المرة الأولى من العبور ـ إلى فردوس الحكم. وفي الثانية من الاستعمال المقلوب ممراً معاكساً لاستعادته.
المثل التونسي سيفتح الطريق على حالة عيانية مشابهة. وكما صعد الإخوان في مصر ثم سقطوا، قُدّر لحركة النهضة، وهي سليلة الفضاء الايديولوجي نفسه، أن تحقق ما كان بالنسبة إليها ولزعيمها راشد الغنوشي، حلماً بعيد المنال. لكن زمناً قليلاً لم ينصرم حتى استغرق أخوان تونس في مأزق الاحتفاظ بالسلطة، ليعودوا القهقرى إلى لغة لم تسعفهم في تسويغ الجمع بين نقيضين "السلطة والمعارضة"، في منزل واحد.
لقد بدا كما لو أن الشارع يجري وراء الايديولوجيا، ليملأ بواسطتها فراغاً لم يستطع ملأه طليعيو الشارع الأوائل، أولئك الذين دأبوا على إظهار شغفهم بالتغيير، من خلال عوالم افتراضية لم تفتأ حتى تحوّلت إلى حقائق دامغة.
من هذا الوجه لم يكن كل منخرط في المواجهات، – حتى الديمقراطي الليبرالي بصبغته العربية – غافلاً عن الأهداف التي تحيّز لها. فالذي اختار الميدان مسرحاً للعبة الحرية، كان يعي ويدرك ما يصنع، وكانت الغريزة السياسية حاضرة بقوة لديه، لكي يحقق الغاية التي من أجلها خاطر بالمنازلة.
ومثل هذا السلوك هو سمة لازمة للممارسة الايديولوجية، التي تجمع بين العقل والرغبة الجامحة في توظيف الغرائز. فالإيديولوجية قد لا تشعر بمشكلة الحدود بينها وبين العقل، بقدر ما يشعر العقل بتلك المشكلة حين يستقل بنفسه، – كما يلاحظ المفكر ناصيف نصَّار – ذلك أنه ليس من مصلحة الايديولوجيا إزالة الالتباس، الذي يسمح لها بهامش واسع من المناورة والمراوغة تجاه العقل.
في وقائع التحولات العربية، ما يؤكد أن السياسة، هي مركز الجاذبية لكل فاعل ايديولوجي. فمقاصد الايديولوجيا كامنة أساساً في العناية المطلقة بالشأن السياسي، الذي لا يعادله شأن آخر. بل يجوز القول إن تلك المقاصد، شكلت الهندسة المعرفية التي يتدرّع بها كل ناشط في الحقل العام، تحقيقاً لأغراضه السياسية.
وثمّة من يرى أن ما تحوز عليه الأجهزة الايديولوجية من قدرات في احتواء الجماهير وتوظيف انفعالاتها، يمتد إلى النقطة التي يصبح فيها العقل عبداً لمقتضيات السياسة؛ وذلك على نحو تصير فيه الديمقراطية مأكلة للسلطة واغواءاتها.
الحادث العربي الإجمالي لا يفارق سقف هذا التنظير، فخلاصته تشير إلى قدرة الجهاز الايديولوجي بما هو غريزة سياسية عمياء، على التهام كل ما هو أدنى حيلة منه، ولا سيما اولئك الذين لا يملكون سحر الكلمات التي تثير حماسة الحشود وتؤدي الى تفجير البؤر الكامنة في الوجدان العام. ونقصد به عموم البيئة الليبرالية التي وجدت ضالتها في منظمات المجتمع المدني، وراحت ترفع بيرق الديمقراطية على رؤوس الأشهاد..
عند هذه النقطة من زحف الايديولوجيا المدوّي، سوف نسلّم بأن المهمة كانت تاريخية ومعقّدة وشاقّة، ولكنها تتمتّع بقدرات إضافية على المناورة. فسيُظهر لنا المشهد بوضوح هذه المرة أن حركة الإخوان لما حطّت الرحال في مقام السلطة لم تغادر الشارع، ولم تقطع معه صلات الوصل، كما لو كانت تدرك مسبقاً، وبسبب من الشعور المزمن بعقدة النفي، انها تعود إليه وقت الضرورة. وذلك ما حصل بالفعل اليوم في الميدان المصري. فقد آن اوان تلك الضرورة في زمن قياسي: عُزل الرئيس مرسي، وحطّ الاخوان عند رابعة العدوية من جديد وانتصبت بيارق الايديولوجيا اليومية لتغذية الحشود بالعبارات والشعارات. لكن المفارقة هذه المرة أن راية الديمقراطية تآخت مع راية الخلافة. وصدحت حناجر الإسلاميين بالشعارين معاً، وما كان في الأمر ضير ولا حرج.
باحث في الفلسفة السياسية