نحن على مسافة شهرين تقريبا من الذكرى السنوية لاطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. لقد باتت هذه الذكرى بالنسبة للتيار التقدمي والوطني اللبناني، معادلا لذكرى التحرير في 25 أيار بالنسبة للمقاومة الاسلامية والتيار المقاوم بصورة عامة. ويراها البعض مناسبة لا تقل أهمية عن مناسبة الاستقلال الوطني، طالما أن اجبار العدو الصهيوني على الانسحاب من القسم الاكبر من مناطق التي احتلها في عدوان 82 ، هو ما سمح باعادة الاستقلال وسمح باعادة بناء الدولة. وبغض النظر عن الشكل الذي بنيت به بعد اتفاق الطائف، فان التحرير الأول انتصار تاريخي بكل معنى الكلمة، وعليه بني الانتصار التحرير الثاني الذي تم بقيادة المقاومة الاسلامية.
ان الوضع الراهن الكارثي للمنطقة، وخاصة المشرق العربي الذي ينتشر القتال على كامل مساحته تقريبا، يجعل الاحتفال بذكرى اطلاق جبهة المقاومة الوطنية، هما لا يعني الا من بقي من التقدميين اللبنانيين وبعض العرب. بل يراه البعض مشهدا سورياليا، وسط فوضى الدماء المندلعة. ويذهب البعض الى حد اعتباره مجرد طقس يعوض به اليساريون عن ضعف وهامشية دورهم الحالي مختلف الصعد الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية. قد يكون ذلك مفهوما، من الناحية الاعلامية والسياسية، حيث طغى حضور المقاومة الاسلامية وحزب الله في مختلف الميادين المتعلقة بالممارسة الفاعلة لخيار المقاومة، بوجه اسرائيل وبوجه الارهاب التكفيري المتكامل معها. ولكنه لا يصح على المستوى التاريخي والمفهومي. فبحر الصراعات السياسية يشهد باستمرار، مدا وجزرا للقوى والتيارات الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية. ولكل مرحلة ولكل دور شروطا ودلالات و تداعيات مباشرة ومستقبلية.
لم تكن المقاومة الاسلامية، وقبلها المقاومة الوطنية، وقبلهما المقاومة الفلسطينية، سوى حلقة في سلسلة من الانتفاضات والثورات العربية التي ابتدأت منذ مطلع القرن العشرين وما زالت متواصلة حتى الآن. اللافت أن مختلف مناطق العالم شهدت صراعات دامية وثورات وحروبا أهلية طوال الفترة المشار اليها، ولكنها تبدو الآن وقد تجاوزتها نحو مستويات من الصراع أقل عنفا، باستثناء منطقتنا العربية ومنطقة الشرق الأوسط الكبير. حيث تبدو هذه المنطقة ذاهبة الى المزيد من الصدامات والحروب الأهلية والتفسخ الاجتماعي والسياسي. وما يبدو مهما في سلسلة الثورات التي عاشتها المنطقة العربية منذ مطالع القرن العشرين، هو ارتباط كل موجة منها، بطبيعة الصراعات الدولية التي رافقتها، وطبيعة القوى الاجتماعية والسياسية التي نظمتها وقادتها. فلم تكن تلك الثورات مجرد نتيجة حصرية لانفجارالتناقضات الداخلية والاقليمية التي تسببت بها، بل حصيلة مركبة لأثر تلك التناقضات، بتفاعلها مع الصراعات الدولية التي كان يعيشها العالم آنذاك. وهي كذلك اليوم، وستبقى غدا.
عشية انهيار السلطنة العثمانية، كانت الثورة العربية الكبرى، تعبيرا عن رغبة العرب بالخلاص من الاستبداد العثماني من جهة، واستجابة لمخططات الانكليز والفرنسيين الطامعين بتقاسم ارث الرجل المريض، ولكن قياداتها الاقطاعية والبدوية، سهلت تمرير مخططات المستعمرين الأوروبيين. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت ثورات ليبيا وتونس والجزائر وغيرها، ترجمة لطموح التخلص من الاستعمارين البريطاني، وانعكاسا لطموح الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الحلول مكانهما في المنطقة. وعكس تتالي الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة طوال الحرب الباردة، محاولة للقوى الوطنية العربية وطلائعها العسكرية، رد التحدي الخطير الذي شكله قيام الكيان الصهيوني، واستجابة لحاجات الجماهير العربية لحد أدنى من التنمية والعدالة، ولكنه مثل من ناحية أخرى ترجمة محلية للصراع الدولي المندلع في تلك المرحلة بين الأميركيين والأطلسيين من جهة، والاتحاد السوفياتي وحلف وارصو من جهة مقابلة. وكان انقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر فاتحة ذلك المد التحرري القومي العروبي، الحامل لشعارات الحرية والاستقلال السياسي والبناء الاقتصادي ذي السمات الاشتراكية. ولكن النهج العسكريتاري، وحدود مصالح القوى الاجتماعية الداعمة للمشروع التحرري ، وحجم التآمر الذي تعرض له من قبل اسرائيل والرجعية العربية والغرب، وضع سقفا منخفضا للاصلاحات التي انجزت، وانتهت المواجهة في النهاية عن فشل مزدوج لحركة التحرر العربية القومية التوجه، سواء في ما يخص ردع العدوانية الاسرائيلية، أو في ما تعلق بالتنمية والعدالة الاجتماعية. هذا اذا تجاهلنا الكارثة المتعلقة بالحريات العامة والديمقراطية وحقوق الانسان. فشل النظام الرسمي العربي بجناحيه الرجعي والوطني، ومناخ هزيمة حزيران، أفسح في المجال لصعود المقاومة الفلسطينية لتحاول النجاح حيث فشلت الأنظمة العربية المتواطئ منها مع العدو كالأنظمة الرجعية، أو العاجزة عن المواجهة الجدية كالأنظمة الوطنية. ولم تكن تجربة المقاومة الفلسطينية أنجح بكثير من الأنظمة الرسمية، رغم الآمال العريضة التي رافقت انطلاقتها. وقد شكلت علاقاتها المتشعبة مع النظام الرسمي العربي والجناح الخليجي منه على الأخص، اضافة لانهيار الاتحاد السوفياتي، وانتصار الخط الساداتي مصريا، عوامل حاسمة في أخذها الى أوسلو وما نتج عن ذلك من وضع مأزوم للقضية الفلسطينية راهنا.
ولكن ترحيل المقاومة الفلسطينية الى تونس، لم ينه خيار المقاومة ضد العدو الصهيوني، كما كان يأمل قادته وداعميهم في المنطقة والعالم. كل ما في الأمر أن الراية انتقلت الى أيدي المقاومين اللبنانيين، فبدا صعود المقاومة الوطنية اللبنانية وكأنه سباحة ضد التيار. وهكذا كان. سطع نجم ( جمول )، كآخر التماعة للتيار العروبي اليساري التوجه. ومثل الموجة الأخيرة من موجات الثورات العربية ذات الأيديولوجيات التحررية غير الدينية. ولا شك أن ما ساهم في ذلك، جرأة القرار الذي اتخذه بعض قادة الحركة الوطنية، وتوفر الدعم السوري لذلك القرار. ورغم نجاح حركة المقاومة اللبنانية الوطنية في تحرير القسم الأكبر من الاراضي اللبنانية المحتلة، الا أن تسوية الطائف التي جاءت تعكس سلبيات انتقال مركز الثقل في القرار العربي حينها الى الخليج والسعودية تحديدا، وانتقال الوضع الدولي الى مرحلة الآحادية الأميركية، فتمت مكافأة المقاومة بعزلها تماما عن مواقع القرار الوطني. هناك آراء تحمل النظام السوري بصورة مطلقة المسؤولية عن تلك النتيجة السيئة التي كرست النظام الطائفي في لبنان، وحالت دون أي اصلاح حقيقي، متجاهلة الظروف الاقليمية والدولية المستجدة حينها. ولكن أي نظرة موضوعية لتلك الأوضاع، تخلص الى أنه كان من الصعب ادخال الحركة الوطنية القائدة السياسية للمقاومة الوطنية، كشريك في عملية اعادة بناء النظام. فارسيت سلطة الطائف، التي اكتفت عمليا، باعادة بناء النظام القديم، والاكتفاء باستبدال الأرجحية المارونية السياسية، بأرجحية السنية السياسية.
ولكن مرة أخرى، يقدر لخيار المقاومة أن ينهض مجددا، في لبنان والمنطقة، ولكن وفق خلفية أيديولوجية دينية، وليس وطنية أو قومية أو أممية. فمقابل الانهيار شبه التام للصمود العربي بوجه المشروع الأميركي الصهيوني، والذي تم تكريسه في مؤتمر مدريد، برز القطب الايراني كقاعدة دعم للمقاومين العرب الجدد. عندها شهدت المنطقة، ومشرقها خاصة، صعود مقاومة حزب الله لبنانيا وحركة حماس فلسطينيا. وطوال المرحلة التي تلت الغزو الأميركي للعراق تصدرت هاتان المقاومتان تيار المقاومة المسلحة للتحالف الأميركي الصهيوني، وشكلتا شريكا فاعلا في محور الممانعة الى جانب سوريا وايران. ولكن المسار الذي اتخذته الاحداث في المنطقة بعد الربيع العربي، ودخول قوى ومنظمات الاسلام السياسي بقوة على المشهد الاقليمي، بدل الى حد كبير من الاصطفافات. وخرجت حماس من المحور الممانع، مغلبة ولاءها الأيديولوجي على حساب المصلحة العليا للشعب الفلسطيني. وبفعل الانهيار الذي تسببت به حركات الارهاب التكفيري على امتداد المنطقة ، ومشرقها خاصة، ونجاحها الى جانب التوجهات السياسية والاعلامية والميدانية لكل من تركيا وقطر والسعودية بفرض الطابع المذهبي على الصراع السياسي الدائر، بات مصير خيار المقاومة مطروحا مجددا.
بالطبع لا يطرح هذا الخيار من الناحية المبدئية. فتزايد حجم التحديات التي تواجهها المنطقة وتشعبها، وتحول بعضها الى تحديات وجودية، يزيد من ضرورات تعزيز هذا الخيار. ولكن التمزقات العميقة ، الاجتماعية والسياسية والاتنية والمذهبية، التي انفجرت تباعا تجعل من الصعب على قوى المقاومة الراهنة، بطبيعتها الدينية والاجتماعية والسياسية، أن تشكل تيارا توحيديا يلجم دينامية التفكك المندلعة. ويدفع الى التفكير مليا في كيفية اعادة طرح خيار المقاومة وفق توجه فكري وسياسي غير فئوي، ليساهم فعليا في مواجهة المشاريع المعادية، وأخطرها المشروعين الاسرائيلي والعثماني، وفي اخراج المنطقة العربية من مستنقع الحروب الأهلية المتناسلة. كما ساهمت التغيرات الاستراتيجية السابقة في تغير الأشكال التي ترجم من خلالها خيار المقاومة، لا بد أن تؤدي عاجلا أم آجلا التغيرات الهائلة التي طرأت على المشهدين الدولي والاقليمي، الى شكل جديد من صياغة خيار المقاومة فكرا وسياسة وميدانا. وهو موضوع يحتاج الى الكثير من البحث والتفكير والعمل.