خلال خمسين عاماً فقط ( 1967-2017) شهد العالم العربي ستة نكبات حاسمة، وعصف به ما لايقل عن خمسين زلزالاً. ففي الخامس من حزيران 1967، نُكبنا بهزيمة زلزلت الكيانات العربية كلها، وما زلنا نُعاني، حتى اليوم، عقابيلها القاسية.
وفي 13/4/1975، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية لتفتتح الحروب الأهلية العربية. ثم زار الرئيس المصري أنور السادات القدس في 19/11/1977 في خطوة قلبت جميع الثوابت السياسية في المنطقة العربية، ودشنت عصر التصالح مع "إسرائيل" وجاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6/6/1982، ليمثل، بتداعياته وآثاره، ما هو أكبر من زلزال، وأقل قليلاً من نكبة. أما الزلزال الحقيقي فتجسّد في سقوط بغداد في 9/4/2003. وقد تجمعت تلك النكبات، علاوة على نكبات كثيرة أخرى حلّت في الجزائر واليمن والكويت والصومال والسودان، فضلاً عن صعود الإسلام السياسي المقاتل، لتنفجر مرة واحدة ابتداء من شتاء 2010، وهي ما برحت مستمرة حتى اليوم. ولعل تلك النكبات كلها تُفسر، إلى حد بعيد، لماذا صار العرب على هذا النحو من المسكنة والهوان، فقد قضت تلك النكبات، بالتدريج، على محاولات النهوض والتقدم والوحدة والتحرر التي كانت تباشيرها بدأت بالتبرعم في أواخر القرن التاسع عشر، وراحت تتفتح طوال سنوات النصف الأول من القرن العشرين. لكن القرن المنصرم نفسه أقفل أبوابه من غير إحراز أي إنجاز راديكالي حاسم، أكان ذلك في السياسة أو الاجتماع. وها هو العالم العربي بأسره يبدو، بعد خمسين سنة على هزيمة 1967 كأنه ما برح متسربلاً تماماً بالإحباط والانحطاط، ولا يمتلك أي عُدّة ليلتحق بقطار العصر، فهو يقف كالذاهل الحائر المرتجف: أيكون من حَمَلة المنادل مودِّعاً، أم من حَمَلة الحقائب ملتحقاً؟
الفكر الجديد والنقد الراديكالي
أماطت هزيمة حزيران/يونيو 1967 اللثام عن الكثير من الأمور المستورة، وفكت مغاليق الكلام، وأطلقت موجة من النقد الجريء الذي شدد على نقد المجتمع ونقد أنظمة الحكم ونقد الأفكار معاً. فضحت هذه الهزيمة ما كان خافياً في التكوين الاجتماعي للأنظمة السياسية المدحورة، أي تقليديتها وهشاشتها وتخلفها العلمي والمعرفي. ومع أن أفكار الحداثة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحرية المرأة كانت شديدة الحضور في مصر والشام والعراق، إلا أنها، بعد هزيمة 1967 وبعد سقوط العديد من الأقنعة، اكتسبت حيوية فائقة، فراحت فكرة الثورة تغمر كيان الشبيبة العربية بأحلامها الجميلة ووعودها العظيمة، وصار غيفارا يأسر حواس هذه الشبيبة الصاخبة والقلقة. وكانت ثورة الطلاب في باريس (أيار/مايو 1968) تشد الأعصاب، وتُضفي على فكرة الثورة نفسها بهاء وجلالاً. وهكذا بدأت أفكار اليسار الجديد والدعوة إلى التحرر القومي والاجتماعي والجنسي تُدشن وعياً نقدياً جديداً في العالم العربي بأسره.
كانت السياسة تُصنع في القاهرة وبغداد ودمشق، وكانت بيروت المختبر الكاشف لهذه السياسة، وكثيراً ما انعكست في أرجائها المجادلات الفكرية والسياسية والثقافية والفنية. وعبرت هذه المجادلات والنقاشات عن نفسها بفيض من الكتب والدراسات الجديدة التي شملت مختلف جوانب الحياة اليومية في العالم العربي آنذاك. ويمكننا رصد هذا الشأن في ستة حقول أساسية هي: الفكر السياسي، التاريخ، الدين، اليهودية والصهيونية، الفن والأدب، المرأة.
1- الفكر السياسي:
إن أبرز العلامات في هذا الحقل هو تحول بعض الحركات السياسية القومية إلى الماركسية. وإن أسطع مثال على ذلك حركة القوميين العرب التي لم تكن تعير الفكر الماركسي أي احترام حتى منتصف ستينات القرن العشرين. لكن مع وقوع هزيمة 1967 بدأ نقد الناصرية، وشرع بعض المثقفين العرب في إعادة النظر بمقولاتهم السابقة، ووجدوا أن هذه الهزيمة إنما هي هزيمة للناصرية وللفكر القومي الرومانسي وللبرجوازية الصغيرة العربية، وقد آن الآوان لتبدأ "البروليتاريا" العربية رحلة الخروج من شرانقها كي تصبح، هي نفسها، صانعة التاريخ الجديد.
وكان من شأن هذا التحول لدى "حركة القوميين العرب" ظهور منظمات فلسطينية تتبنى الماركسية منهاجاً للتفكير والممارسة السياسية مثل "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" التي انشقت في سنة 1969 على "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" الوارثة التاريخية لحركة القوميين العرب. وانعكس هذا التحول الذي قاده محسن ابراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمة جزئياً على قوى سياسية أخرى في اليمن والخليج العربي وسورية والعراق. ومع أن حزب البعث كان خضع لمثل هذا التحول في المؤتمر القومي السادس (1964) بتأثير من بعثيين ماركسيين أمثال: ياسين الحافظ وحمود الشوفي وحمدي عبدالمجيد، وهؤلاء شددوا على إضفاء محتوى اجتماعي على حركة التحرر الوطني العربية، أي أن كل نضال تحرري يؤدي، بالضرورة، إلى تحويل المجتمع القديم إلى مجتمع جديد أكثر عدالة، إلا أن هذا التحول كان عابراً وانتهى في سنة 1970. وهكذا ظهرت "منظمة العمل الشيوعي" في لبنان سنة 1970، و"الجبهة الشعبية لتحرير البحرين والخليج العربي" و"الجبهة القومية في اليمن" التي تبنت الماركسية في سنة 1969 وتحولت، في مابعد، إلى الحزب الاشتراكي اليمني.
إلى جانب نقد الفكر القومي بشقيه الناصري والبعثي بدأ نقد الماركسية التقليدية، أي اللينينية السوفياتية، وانبثقت في سماء الفكر العربي الجديد أفكار لم تعرفها الثقافة اليسارية طوال نحو خمسة وأربعين عاماً، وهي الحقبة التي كان فيها خالد بكداش الزعيم الذي لا يضاهى للحزب الشيوعي السوري – اللبناني، والمرجع الأول للشيوعيين العرب في المشرق العربي (لبنان، سورية، الأردن، فلسطين، وحتى العراق). وفي هذا الحقل من المعرفة ظهر كتاب "معنى النكبة مجدداً" لقسطنطين زريق (1967)، وكتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" لصادق جلال العظم (1968). وفي ما بعد أصدر العظم كتابه المهم "دراسة نقدية في فكر المقاومة الفلسطينية" (1973)، وصدرت مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" لسعدالله ونوس ورواية "عودة الطائر إلى البحر" لحليم بركات. وفي مصر نشر محمد فريد شكري كتابه "تأملات في الناصرية" (1972)، ونشر طاهر عبدالحكيم "الأقدام العارية" (1974)، وفي ما بعد أصدر منيف الرزاز كتابه النقدي المهم "التجربة المرة" عن تجربته في حزب البعث. على أن أكثر الكتابات راديكالية في نقد اللينينية جاء على يد تونسي ماركسي ينتمي إلى التيار المجالسي، وكان التحق بالثورة الفلسطينية في الأردن هو العفيف الأخضر. فقد نشر مقالة في مجلة "دراسات عربية" (آذار 1973) بعنوان :"كومونة كرونشطاط: الثورة الروسية الثالثة المجهولة" حمّل فيها لينين وتروتسكي معاً المسؤولية عن قمع بحارة بتروغراد وانتفاضتهم على النظام السوفياتي الجديد في سنة 1921. وربما كانت المرة الأولى في العالم العربي الذي يجرؤ فيه ماركسي على نقد لينين. وبهذه المقالة بدأ موسم تحطيم الأيقونات المقدسة، ولم يلبث العفيف الأخضر أن أنزل لينين وكتابه "ما العمل؟" عن عرشيهما حينما نشر كتاباً بعنوان "التنظيم الثوري الحديث" (1974) نقض فيه محتوى كتاب "ما العمل؟"، ووجد أن المركزية اللينينية في الحزب الشيوعي تؤدي إلى الاستبداد في المجتمع.
2- الصهيونية والمسألة اليهودية:
كان لهزيمة 1967 أثر مزدوج في الوعي السياسي لدى العرب والإسرائيليين، فهي تركت آثاراً في الوعي الإسرائيلي، وغيّرت، في الوقت نفسه، الوعي العربي حيال إسرائيل أيضاً. ولعل تأسيس منظمة "ما تسبن" (البوصلة) في إسرائيل، ثم ظهور "الجبهة الحمراء" في سنة 1970 على أيدي مجموعة من العرب واليهود الذين اعتنقوا أفكار الكفاح المسلح يندرج في هذا السياق. وفي الجانب العربي بدأ الاهتمام بالحركة الصهيونية وإسرائيل ينحو نحواً علمياً، فتُرجم، على سبيل المثال، كتاب "المفهوم المادي للمسألة اليهودية" لأبرهام ليون في سنة 1970، وأصدر صادق جلال العظم كتابه "الصهيونية والصراع الطبقي" في سنة 1975، وانبرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية (الإثنان اتخذا من بيروت مقراُ لهما) ومؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية في دمشق إلى التشديد على ترجمة النصوص الاسرائيلية المهمة من العبرية إلى العربية مباشرة. وكانت هزيمة حزيران، في أحد وجوهها، حافزاً مهماً للانتباه إلى قيمة العلم والمعرفة في الصراع العربي – الصهيوني، وبدأ على الفور التفكير في إصدار بعض الموسوعات العلمية وكان من بينها "الموسوعة العسكرية" التي صدرت في سنة 1977، و"موسوعة السياسة" التي صدر الجزء الأول منها في سنة 1979، ثم "الموسوعة الفلسطينية" التي أصدرها عبدالوهاب الكيالي في سنة 1984. وفي أي حال، فإن فكرة الدولة الديمقراطية في فلسطين التي يعيش في أرجائها اليهود والعرب (مسيحيون ومسلمون) عرضتها حركة فتح، أول مرة، في سنة 1968، وجاءت دحضاً للكلام الشائع على خرافة رمي اليهود في البحر.
3- نقد التاريخ:
كان من شأن الحيوية الثقافية التي انطلقت من عقالها بعد حزيران/يونيو 1967 والتي أوقدت جمار المراجعة النقدية في هذا الميدان، أن التاريخ العربي نفسه راح يخضع لهذه المراجعة، وأن شبه القداسة التي تسربل بها هذا التاريخ صارت بحاجة إلى إعادة النظر. وفي معمعات هذا الجدال راحت الشبيبة العربية الجديدة تكتشف حركات المعارضة في الإسلام كالقرامطة والزنج، وتعيد الاعتبار للتفسير التاريخي المادي للوقائع التي عصفت بتاريخنا الذي ما عاد متسربلاً بالمقدس والإلهي، بل صار ميداناً للبحث العلمي المنهجي والصارم. وفي هذا الحقل من المعرفة الجديدة ظهرت أسماء مرموقة كان لكتاباتها أثر مهم في تطور الكتابة التاريخية في ما بعد، مثل بندلي صليبا الجوزي ولا سيما في كتابه " من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام" الذي أعيد اكتشافه بعد هزيمة حزيران، علاوة على عبدالعزيز الدوري وحسين مروة وكتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" وأدونيس في كتابه التأسيسي "الثابت والمتحول".
حاولت الكتابات التاريخية النقدية أن تجيب عن الكثير من الأسئلة المعلّقة، ولا سيما عن الدلالة التاريخية لظهور الإسلام، وعن الفئات الاجتماعية التي ناصرت الإسلام والتي كان الدين الجديد يعبر، في الوقت نفسه، عن مصالحها. وكذلك أرادت تقديم تفسير علمي للحروب التي اندلعت تحت راية الاسلام، بعيداً عن المرويات المعروفة بشأن "حروب الردة" و"الفتوحات" و"الجهاد في سبيل الله". وفي أي حال، كانت الغاية من إعادة النظر في التاريخ الإسلامي لدى بعض الكتاب هي اكتشاف اللحظات الثورية في هذا التاريخ، ثم محاولة إنشاء جسر بين ذلك التاريخ والواقع العربي الذي أعقب النكبة الجديدة.
4- نقد الدين:
من مفارقات التاريخ العربي أن هذه المنطقة التي وُلد فيها الدين لم يُولد فيها نقد الدين. وطالما كانت مسألة الإيمان والإلحاد قضية محرجة للماركسيين العرب في مجتمع شرقي متدين من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. ولذلك قلّما ظهرت، هنا وهناك، كتابات نقدية في المسألة الدينية إلا بعد هزيمة 1967. حتى أن الماركسيين العرب لم يُشتهر أنهم ساهموا، مساهمة معمقة، في هذه المجالات، بل تجنبوا الخوض فيها إلى حد كبير، مع أنهم متهمون بالإلحاد، وبأن شعارهم هو:"الدين أفيون الشعوب".
دشن صادق جلال العظم نقد الدين في سنة 1968 عندما ألقى محاضرة بعنوان:"مأساة إبليس" حاول فيها أن يبرهن على أن تاريخ الفكر العربي يتضمن "فن المأساة" على عكس ما كان البعض يظن أن الآداب العربية تخلو من "المأساة" بالمعنى الإغريقي للكلمة. لكن هذه المحاضرة التي تحولت إلى كتاب في ما بعد بعنوان:"نقد الفكر الديني" أثارت موجة عاتية من الردود المتعاكسة قادها رجال دين ومؤسسات دينية شتى، وأدت إلى مصادرة الكتاب ومحاكمة المؤلف. ومع أن المحكمة اللبنانية المختصة حكمت ببراءة الكاتب، إلا أن وقائع الأحوال كانت تشير إلى مستوى الهلع الذي أصاب المؤسسات الدينية الرسمية وكذلك رجال الدين المرتبطين بها. لكن الإيجابي في تلك الحملة كان تحطيم "التابو" في الحديث عن الدين. ومنذ ذلك الوقت صار نقد الدين أو نقد السماء مقدمة لنقد الأرض، أي نقد الاستبداد العربي ونقد الفقهاء ونقد الفقه الإسلامي المتخلف والراكد. وتجرأ الماركسيون على ترجمة نصوص ماركس عن الدين ونصوص لينين أيضاً، وأصدر عصام الدين حفني ناصف كتابه الجريء جداً "المسيح في مفهوم معاصر" (1979) الذي يعتبر فيه المسيح شخصية أسطورية لا تاريخية. وكان عصام الدين حفني ناصف قد أنزل التاريخ الديني عن مكانته منذ أن نشر كتابيه "موسى وفرعون بين الأسطورية والتاريخية" (1975) و" الأسطورة والوعي" (1976). وحينما أصدر العلامة التقدمي عبدالله العلايلي كتابه الرائع "أين الخطأ؟" في سنة 1978 عمدت المؤسسة الدينية في لبنان إلى سحبه من الأسواق. ولكن هيهات أن تتمكن من سحبه من أفهام النخب العربية التائقة إلى مثل هذه الكتب الحاسمة. وفي هذا الكتاب خالف عبدالله العلايلي ما يسمى "إجماع الفقهاء" ورفض تطبيق الحدود المعروفة مثل قطع يد السارق أو رجم الزاني والزانية، وأباح التصوير والتمثيل وظهور الأنبياء والصحابة في السينما. أما أجرأ ما جاء في هذا الكتاب فهو إباحة زواج المسلمة من مسيحي أو يهودي، وهو أمر محرم تماماً لدى فقهاء المسلمين.
في جانب موازٍ، انتعش نقد الحكايات التراثية والروايات القديمة ذات المصادر الأسطورية أو الخرافية أو الدينية. وظهرت دراسات مقارنة في هذا الميدان الجديد من الثقافة العربية مثل "في الحب والحب العذري" لصادق جلال العظم (1970)، و"أسطورة أوريست والملاحم العربية" للكاتب المصري المعروف لويس عوض (1968)، وتُرجم كتاب "الغصن الذهبي" لجيمس فريزر (1971). وقد ساعد نقد المرويات والأساطير في إعادة كتابة بعض جوانب التاريخ العربي، الأمر الذي أوهن سطوة الرواية الدينية على التاريخ. ومن الجدير الإشارة إلى كتاب "الثالوث المحرم" للمؤلف السوري بوعلي ياسين الذي أحدث حينذاك (1973) أثراً مدوياً، ولا سيما كلامه على المحرمات الثلاث: الدين والجنس والصراع الطبقي.
5- الوعي الجديد:
مع أن كتاب سيغموند فرويد المشهور "تفسير الأحلام" صدر أول مرة، في مصر سنة 1958 (ترجمة العالمان الرائدان مصطفى صفوان ومصطفى زيور وأُعيدت طباعته في سنة 1969)، ومع أن "ثلاث مقالات في الجنس" صدر في سنة 1969، و"الموجز في التحليل النفسي" صدر في سنة 1970، إلا أن الفرويدية كإحدى نظريات المعرفة كانت مرذولة لدى معظم التيارات اليسارية العربية التقليدية. لقد هزت هزيمة 1967 الفكر العربي التقليدي بجميع أجنحته اليسارية والقومية واليمينية. وكان لليسار الجديد الأوروبي والأميركي أثر لا يمكن قياسه تماماً، فقد فتح منافذ جديدة في التفكير لدى الجيل العربي الذي اكتوى بنار تلك الهزيمة. وفي تلك الحقبة اكتشف المثقفون الرابط بين الاستبداد والقمع الجنسي، ولأنهم أرادوا تغيير العالم وتغيير الحياة معاً، فقد أقاموا جسراً بين ماركس ورامبو وفرويد ولم تلبث أصداء الفرويدية – الماركسية أن وصلت إلى العالم العربي، وراح المثقفون العرب يتعرفون إلى اليسار الفرويدي أمثال ولهلم رايش وجيزا روهايم وهربرت ماركوز وإريك فروم وغيرهم. واندفع المترجمون إلى نقل كتابات هؤلاء التي كانت منتشرة جداً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فترجم مطاع صفدي (سوري) كتاب "الحب والحضارة" لهربرت ماركوز في سنة 1970، وترجم محمد عيتاني (لبناني) كتاب "النشاط الجنسي وصراع الطبقات" لرايموت رايش في سنة 1971، وترجم ريمون نشاطي (سوري متمصر) كتاب "هيا إلى الثورة" لجيري روبين في سنة 1971، وترجم مجاهد عبدالمنعم مجاهد (مصري) كتاب "الخوف من الحرية" لإريك فروم في سنة 1972، وترجم محمد عيتاني أيضاً كتاب "الثورة والثورة الجنسية" لولهلم رايش سنة 1972. وكان السؤال الملحاح في أوساط اليسار العربي آنذاك هو: لماذا فشلت الثورة الاجتماعية في المجتمعات الصناعية الغربية؟ وفي سياق الإجابة ترجم جورج طراببيشي (سوري) ثلاثة كتب هي "البديل" لروجيه غارودي سنة 1972، و"الإنسان ذو البعد الواحد" و"الماركسية السوفياتية" لهربرت ماركوز في سنة 1973.
إن هذه الكتب، وغيرها الكثير بالطبع، ساهمت في تكوين ثقافة جديدة في شأن المرأة وحرية المرأة في المجتمعات العربية. ومع أن الكتابات التي ناصرت المرأة ودافعت عن حريتها تعود إلى بدايات القرن العشرين مثل كتابي قاسم أمين: "تحرير المرأة" سنة (1899) و"المرأة الجديدة سنة (1901)، إلا أنها ازدهرت على أيدي فئة من المتعلمات من بنات الارستقراطية العربية في مصر والشام أمثال: هدى شعراوي ودرية شفيق في مصر، وثريا الحافظ وحياة العظم وماري عجمي ونازك العابد بيهم في سورية ولبنان، وساذج نصار في فلسطين. لكن الكتابات الجديدة، اليسارية الفرويدية، قدمت معيناً لا يضاهى للكاتبات من عيار نوال السعداوي التي أصدرت كتابها "المرأة والجنس" في سنة 1971، ثم "الأنثى هي الأصل" في سنة 1974. وكان لهذين الكتابين دوي كبير في أوساط الناس.
6- الأدب والفن:
من البدهي أن تؤثر هزيمة حزيران/يونيو 1967، أول ما تؤثر، في الأدب والفن، فهما الأقرب إلى الوجدان والعاطفة والحس. ولعل نزار قباني الشاعر السوري المشهور، كان أبرز الذين طاولتهم الهزيمة بأشواكها، فراح يتحول من النقد الاجتماعي وشعر الحب إلى السياسة، فأصدر ديوانه "هوامش على دفتر النكسة" الذي اعتبر، آنذاك، نقداً بالغ القسوة لم تتعوده الأنظمة العربية قط. ولمع في سماء الشعر العريي مجموعة من الشعراء الفلسطينيين أبرزهم محمود درويش الذي سيصبح، وبالتدريج، ألمع شاعر عربي على الإطلاق. وأصدر إميل حبيبي "سداسية الأيام الستة" في سنة 1968 لتتحدث عن التئام شمل الشعب الفلسطين لأول مرة منذ نكبة 1948، ولكن تحت الاحتلال. ثم أصدر غسان كنفاني روايتين في أقل من سنتين هما: "أم سعد" سنة (1969)، و"عائد إلى حيفا" سنة 1970. ولم يلبث جبرا ابراهيم جبرا أن أصدر رواية "السفينة" سنة (1970)، وجميع هذه الروايات تدور أحداثها وشخصياتها وغاياتها في الفضاء النقدي الجديد الذي خلقته هذه الهزيمة.
ولا ريب في أن لهزيمة 1967، وصعود أفكار اليسار والكفاح والتحرر الاجتماعي، شأناً كبيراً في ظهور طراز جديد من الغناء والشعر العامي في لبنان ومصر. وهذا الطراز استولى، لسنوات عديدة، على ذائقة جمهور اليسار العربي، وكان أبرز ممثليه الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم وعدلي فخري في مصر، ومارسيل خليفة في لبنان.
لعل من المحال قياس أثر هزيمة 1967 في الأدب العربي تماماً، لكننا قد نتمكن من اكتشاف قيمة هذا الأثر بالمقارنة والمضاهاة. ففي خمسينات القرن العشرين وأوائل ستيناته، أي قبيل الحرب، كانت الشبيبة العربية غارقة في قراءة الأدب الرومانسي العربي والأجنبي، وكانت الروايات المتداولة، على سبيل المثال: "بائعة الخبز" و"البوساء" و"أحدب نوتردام" و"الشيخ والبحر" و"ثلوج كليمنجارو" و"كوخ العم توم" و"موبي ديك" و"ذهب مع الريح" و"آلام فارتر" و"قصة مدينتين" و"جين آير" و" الأم" و"توم سوير"…..إلخ، فضلاً عن "شجرة اللبلاب" و"لقيطة" لمحمد عبدالحليم عبدالله و"نحن لانزرع الشوك" ليوسف السباعي و"الصبي الأعرج" و"الرغيف" لتوفيق يوسف عواد و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس و"في ظلال الزيزفون" و"ماجدولين" لمصطفى لطفي المنفلوطي وغيرها الكثير بالطبع.
إن هزيمة حزيران/يونيو 1967 غيرت الذائقة الأدبية إلى حد كبير، فظهرت روايتا "الكرنك" و"ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ على سبيل المثال لتواكبا نقد الهزيمة على المستوى السياسي والفكري.
عودة الأسطورة
في الخمس عشرة سنة التي أعقبت هزيمة حزيران/يونيو1967، اعتقدنا أن هذه الهزيمة ربما تكون مثل الأسطورة التموزية القديمة: الموت والقيامة معاً، أي مثل قصة المسيح نفسه. وبما أن أسطورة تموز وجدت في بلادنا أولاً، وبما أن المسيح نفسه ولد في هذه البلاد أيضاً، فقد تطلعنا إلى أن تكون هزيمة 1967 موتاً لثقافة وانبعاثاً لثقافة جديدة في الوقت نفسه، موت للاستبداد العربي وقيامة للحرية في هذه البقعة المهمة من العالم. لكن هذا الوعد أخفق ولو موقتاً.
نعم، أخفق الوعد العظيم بالحرية الذي دشنته أفكار النهضة االعربية منذ نحو مئة عام، والذي حمل مشعله جيل ما بعد نكبة فلسطين في سنة 1948. وكان من نتائج هذا الإخفاق أن السلفيات الدينية المقاتلة سجلت أولى انتصاراتها لقد كانت الحرية تعني الانعتاق من سلاطين الأرض ومن فقهاء السماء معاً، أي العودة إلى الطفولة الأولى، وإلى الامتلاك المترع لعالم مدهش وجميل. لكن الاستبداد العربي، بوجهيه السياسي والديني، الذي تسيَّدَ حياتنا منذ هزيمة 1967 فصاعداً، إنما يبرهن، في كل يوم، كم أن حال الثقافة العربية الراهنة بائسة حقاً، ويؤكد، في كل لحظة، أن بقاء هؤلاء الحكام في السلطة هو أكبر دليل على مدى الإهانة التي تلحق، صبحَ مساءَ، بكل مواطن عربي.
************************
ها هو العالم العربي، بعد خمسين سنة على هزيمة 1967، يئن تحت معضلاته الشائكة والجاثمة فوقه كأهرام الجيزة. كأن لاشيء يتغير في هذا المدى المترامي: الأمية بلغت 100 مليون وأكثر، والجوع في الصومال والسودان مسألة اعتيادية، والموت في العراق وسورية واليمن صار مجرد إحصاءات باردة، والقتل بإسم الدين أصبح له أنصار، وتدمير ما بقي لدينا من تاريخ ما عاد يثير الاستهجان.
هذا ما فعلته بنا هزيمة 1967. والعرب اليوم يكادون لا يُجمعون على أي أمر البتة ما عدا جمع النقود، جميعاً، يتفقون على أن أشكال أفواه الشبان تغيرت بعض الشيء في الحقبة المنصرمة، لأن إطباق الفك العلوي على الفك السفلي ما عاد تاماً البتة. وهذا من آثار اللكم والضرب طوال خمسين سنة. وكذلك باتت ظُهور الرجال مقوّسة جراء الصفع على الرقاب ورفس الأقفية بالبسطار حيناً، وحيناً بالقبقاب. وهذه مجرد عينة من فؤوس الخامس من حزيران/يونيو1967، هذه الهزيمة التي فضحت كيف أننا كنا موعودين قبلها بالكرامة مع قليل من الخبز، وكيف أن الحال انقلب بعدها فراحوا يعدوننا، ولا سيما في حقبة البترول، بالكثير من الخبز مع قليل من الكرامة. لكننا اكتشفنا، في ما بعد، أن لا شيء في معجننا: لا خبز ولا كرامة.