83
عرفتُ حفيديّ الكواكبي القاضي سعد زغلول والوزير عبد الرحمن (والد ضحى) منذ ثلث قرن. وعرفت في الوقت نفسه، عشرات الأحفاد والأقرباء لمبدعين في بلاد الشام.
ولكن الحفيدين تميّزا وامتازا عن نظرائهما بما يلي:
1 – جمعا ما تيسّر من أعمال جدّهما أو معلومات عن حياته.
2 – تجاوبا مع كلّ باحث أو صحافي كان بصدد الكتابة عن الكواكبي، وزوّداه بما لديهما من وثائق ومرويات. وأحياناً، كانا يتّصلان بهذا الصحافي وذاك الباحث لتزويده بما لديهما من مخطوطات ومعلومات.
3 – نشرا الكثير من المقالات في الصحف عن سيرة جدهما ومسيرته. وفي حين أصدر الوزير النسخة المنقّحة من «طبائع الاستبداد» مع مقدّمة لها، في الوقت الذي كانت تُتداول النسخة القديمة، أصدر القاضي كتاباً بعنوان «عبد الرحمن الكواكبي – السّيرة الذاتية».
4 – بالمقابل، معظم الذين كتبتُ عن رواد يخصّونهم، كانوا سلبيين. جبران خليل جبران الذي أصدرتُ كتابين عنه رفضتْ اللجنة القيّمة على متحفه السماح لي بالاطّلاع على أوراقه. وشقيق خليل حاوي غضب مني لأني كشفتُ قصائد عامية للخليل ونشرتُها في كتاب. ونسيبة محمد الماغوط وهي كاتبة، حاولت منعي من إصدار كتابي «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي» الذي يتضمّن رواية له وعشرات المقالات، رغم أن ما أعدتُ نشره له، كان منشوراً في الصحف.
والقليلون الذين كانوا إيجابيين، توفّرت فيهم بعض ما توفر للأخوين الحفيدين. فالذي كان يصدر كتباً عن جدّه أو والده أو أخيه، لم يزوّد الآخرين بما كان يمتلكه من مخطوطات ومعلومات، لأنّه كان بصدد نشرها. أما الذي كان يعطي الباحثين والصحافيين صوراً للمخطوطات ويروي لهم المعلومات، فلم يكن صحافياً أو باحثاً.
لذلك، رأيتُ أن أضمّن محاضرتي ما سمعتُه منهما وما قرأتُه لهما عن حياة جدّهما وأعماله، إضافة إلى ما عثرتُ عليه حول سيرته ومسيرته، بفضل المفاتيح التي زوّداني بها، وقد عثرتُ بفضلها على وثائق ثمينة كما سيجيء، وبالمناسبة، فقد كانت لأحدهما، وهو الدكتور عبد الرحمن، مساهمة كبيرة في أعمال جدّه الكاملة، التي أصدرها أولاً الدكتور محمد عماره، وفي الأعمال الأكمل التي حقّقها الدكتور جمال طحان وصدرت عن «مركز دراسات الوحدة العربية».
ولأن قمقم الـ 45 دقيقة يضيق بمارد حياة الكواكبي وأعماله، فإني سأضيء، وباختصار، على العناوين الثلاثة التالية:
1 – ولادته وشهادته.
2 – كتبه: طبائع الاستبداد وأم القرى اللذين تمكّن من إصدارهما، وعناوين سائر الكتب التي صودرت بُعيد رحيله.
3 – دورياته: الشهباء واعتدال الحلبيتان، والعرب القاهرية.
4 – برقيّاته وعرائضه في وثائق الخارجية البريطانية.
وإذا جرى تداخل في مشهد السيرة والمسيرة، فيعود ذلك إلى أنّ الكواكبي كان من فئة المفكّرين العمليين في بلاد الشام الذين ترافقت كتاباتهم مع مواقفهم، أمثال المعلم بطرس البستاني والزعيم أنطون سعاده.
من الولادة الحلبية إلى الشهادة القاهرية:
ولد الكواكبي في حلب في 9 تموز 1855، واستُشهد في القاهرة في 13 حزيران 1902. فهو إذن عاش 47 سنة فقط، ما يصنّفه بين عدد غير قليل من رواد النهضة في بلاد الشام، من مثل مؤلف «الدرر» أديب اسحق (26 سنة)، محرر «مجلة الجنان» سليم بطرس البستاني (38 سنة)، ومؤلف Le Réveil de la nation Arabe «يقظة الأمة العربية» نجيب عازوري (36 سنة)، ومؤلف «النبي» جبران خليل جبران (48 سنة)، ومؤلف «نشوء الأمم» أنطون سعاده (45 سنة)، ومؤسس «الهلال» جرجي زيدان (53 سنة)، ومؤلف «أنا والتنين» سعيد تقي الدين (56 سنة)، ومؤلف «تموزيات» فؤاد سليمان (40 سنة)، ومحرر «الجامعة» فرح أنطون (48 سنة)، ورائد المسرح في العالم العربي مارون النقاش (38 سنة)، ومؤسّسي «الأهرام» سليم تقلا (43 سنة) وبشارة تقلا (51 سنة).
ليس العمر، خصوصاً عند المبدعين، مجموعة روزنامات، بل إنجازات. فما هي أبرز إنجازات عبد الرحمن الكواكبي التي أبدعها خلال عمره القصير (47 سنة) والتي يمكنني الإضاءة عليها في هذا الوقت القصير (45 دقيقة) بدءاً من إنجاز الاستشهاد؟
يشكّ بعض الباحثين الكواكبيين في حقيقة استشهاد الكواكبي. ويتضاعف شكّهم عندما يُتّهم صديقه الخديوي بقتله، في حين أوعز إلى الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» لحظة عَلِم بوفاته، لإقامة حفل تأبيني حاشد له لمدة ثلاثة أيام على نفقته!
شخصياً أميل إلى نظرية المؤامرة انطلاقاً من المعطيات التالية: صحيح أن الخديوي أكرم الكواكبي وأبدى إعجابه بنتاجه، وذلك خلال فترة خلافه مع السلطان عبد الحميد، ولكنه لم يعد معجباً وصديقاً وكريماً بعد حفلة تصالحه مع سيّد قصر يلدز. فقد عطّل جريدة «العرب» بصورة نهائية بعد العدد الثالث لها تنتقد السلطان. وحدث الموت المفاجئ للكواكبي الذي كان يتمتّع بصحة جيدة، بعد رفضه طلب الخديوي مرافقته إلى اسطنبول وطيّ صفحة نقده اللاذع للسلطان. ورفض طلبات السلاطين وحتى وزرائهم، له ثمن كبير خطير. أضف إلى ذلك أن بعض الذين استشارهم الكواكبي حول طلب الخديوي، كإبراهيم سليم النجار ومحمد كرد علي، ونصحوه بعدم تلبية الطلب كي لا يكون مصيره شبيهاً بمصير جمال الدين الأفغاني أي الإقامة الجبرية، اعتبروا حادثة موته مسموماً، استشهاداً، غامزين من قناة الخديوي في تسميمه. ويعزز من حيثيات الاتهام والاستشهاد، دخول لصوص المطبوعات إلى منزل الكواكبي في القاهرة بُعيد رحيله، وسرقة مخطوطاته التي ضمّنها نقداً لرمز الفساد والاستبداد وقتذاك، وكانت شبه جاهزة للصدور في أكثر من كتاب. لذلك اعتبرت أن الكواكبي شهيد، وأن الخديوي قتله ومشى في جنازته.
أم القرى: حين انتقل الكواكبي من حلب إلى القاهرة، اصطحب معه مسودة باكورة كتبه «أم القرى». وسرعان ما صدر الكتاب في العاصمة المصرية. ويمكن تحديد هوية «أم القرى» بأنه كتاب يتضمن خطة لتنقية الدين الإسلامي من الإضافات والاجتهادات الغريبة عنه، في الدرجة الأولى. إضافة إلى أنه ينطوي أيضاً على أفكار إصلاحية تتناول الاجتماع والسياسة. وما يلفت في نهج صياغته، أن مؤلّفه استنطق مجموعة من العلماء ليبثّ آراءه الدينية، في إطار مؤتمر عُقد في مكة، ولم يتصدّر الغلاف الاسم الحقيقي لمؤلّفه، وإنما أحد أسمائه المستعارة «السيد الفراتي».
ونظراً إلى أهمية وخطورة مضمونه، فقد نشر فصوله على حلقات الإمام محمد رشيد رضا في مجلته «المنار» التي كان يُصدرها في القاهرة من غير أن يُفصح عن اسم كاتبها الحقيقي. وخلال ذلك، ورده نبأ وفاة الكواكبي فرثاه في عدديّ أيار/مايو وحزيران/يونيو 1902 تحت عنوان «مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم» وأفصح عن اسمه الحقيقي، وأكّد أنّه كان متوافقاً معه في كل آرائه باستثناء اثنين، أحدهما دعوته إلى «الفصل بين السّلطتين الدينية والسياسية». وهو موضوع خطير كان الكواكبي أول عالم ديني في بلاد الشام يرفع بيرقه. إن فصل الدين عن الدولة أو بالأحرى فصل الدولة عن الدين قد ورد أكثر من مرّة على ألسنة بعض العلماء المتحاورين. وعلى سبيل المثال يقول الأمير للصاحب: «لا يفوتنّك أن مطمح الجمعية منحصر في النهضة الدينية فقط». يضيف: «إذا أراد السّلطان أن يكون خليفة، فلا يتمّ قطعياً، لأن الدين شيء، والملك شيء آخر، والسلطان غير الدولة».
وما دمنا بصدد خلاف رضا مع الكواكبي حول فصل الدين عن الدولة، فلا بأس في فتح هلالين، على ما كتبهُ الكواكبي في «المقطم» في 5 و7 آب/أغسطس 1899 تحت عنوان «الجامعة الإسلامية» وبتوقيع «مسلم حرّ الأفكار»، حيث قال: «ههنا بحثٌ لا بدّ لي أن أطرقه ولو كان قوم يخالفونني فيه، وهو أنه يجب على الخاصّة منا أن يعلّموا العامة التمييز بين الدين الدولة، لأنّ هذا التمييز أصبح من أعظم مقتضيات الزمان والمكان اللذين نحن فيهما». يضيف محدّداً دور الدولة وهدف الدين ومبيّناً الفارق الجوهري بينهما: «إن الغرض المقصود من الدولة، والغاية التي تسعى إليها في زماننا هذا، هي غاية دنيوية محضة، وأعني بها تأمين الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وسنّ الشرائع العادلة لهم وإنفاذها فيهم. وأما الدين، فالغاية المقصودة منه واحدة على اختلاف الزمان والمكان، وهي صلاح في هذه الدنيا حتى يدخلوا جنات النعيم في الآخرة». ذلك أن الدين بنظره هو «الصلة» بين الأفراد الذين يدينون به وبين خالقهم. ولكل إنسان دينه. «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحد».
رد رضا في مجلته «المنار» بتاريخ 5 آب/أغسطس 1899 فقال: «ظهر في المقطم مقالة نسبت إلى (مسلم حرّ الأفكار) لم يتابع به قائله مسلماً ولن يتابعه عليه مسلم، لأنه ناسف لبناء الدين الإسلامي ومقوض لعمود بنائه، وهو زعم أن الدين والدولة أمران متبائنان يجب أن ينفصل أحدهما عن الآخر». واعتبر أن ما نشره الكاتب في المقطم هو «القول الخبيث الذي لم يخطر في بال إبليس».
ردّ الكواكبي على الردِّ، ودائماً في المقطم، فقال: «قيل لي إن حضرته ليس مصرياً، بل هاجر إلى هذا القطر من طرابلس الشام منذ بضعة أعوام. وعهدي أنه لو قال في طرابلس الشام ليس للمسلمين اليوم خليفة ولا إمام، لأطارته أعاصير السخط إلى أعالي الغمام، ثم طوحت به صواعق الانتقام إلى لج البحار». وتصالح الرجلان بعد عامين، وتوافقا حول أشياء كثيرة. ولكن خلافهما حول فصل الدين عن الدولة بقي قائماً كما أكد رضا في رثائه. ولكن الخلاف لم يَحُل دون إعادة نشر الكتاب في «المنار» لأنه حافل بالإبداع، وهذا الإبداع دفع بالكاتبة اليهودية الصهيونية الأكاديمية سيلفيا حاييم إلى نشر دراسة بالإنكليزية عن الكواكبي وكتابه، في مجلّة أورينتو مودرنو أكدت فيها أن الإبداع مصدره كتاب «مستقبل الإسلام» The Future of Islam للكاتب الإنكليزي بلنت W.S. Blunt الصادر في عام 1882 في لندن، وقد «أبدع» الكواكبي في الاقتباس منه، دون أن ينوّه إلى ذلك. وتجاهلت هذه الكاتبة التي درّست في أوكسفورد: حقيقتين وهي تنفي إبداع الكواكبي في موضوع ديني إسلامي، أولهما أن المؤلف شيخ مسلم أمضى سنوات عمره في درس هذا الموضوع، وثانيهما أنه نشر عدة مقالات في الإصلاح الديني الإسلامي في جريدتيه «الشهباء» و«اعتدال» اللتين صدرتا قبل صدور كتاب بلنت.
طبائع الاستبداد: دشّنتُ رحلتي الكواكبية الطويلة بمقال عن كتابه «طبائع الاستبداد»، نشرتُه في جريدة «النهار» البيروتية في عام 1975 حيث كانت الحرب الأهلية في بدايتها، ردّاً على مضرمي نارها. إضافة إلى «النهار» اليومية، حرّرتُ في مجلة «صباح الخير» اللبنانية التي كان يرأس تحريرها الزميل الفكِه غسان أبو حمد الذي ربما سمعتُم صوته من إذاعة مونت كارلو التي راسلها من برلين لفترة طويلة. كنت أواظب على نشر تحقيقات جدية عن رواد النهضة في بلاد الشام، في الدوريتين «صباح الخير» و«النهار». وكان يواظب على التعليقات الساخرة حول علاقتي الحميمة بالأجداد الروّاد. وفور صدور مقالي عن الكواكبي في «النهار» قال لي: «تلفن لك عبد الرحمن الكواكبي، وهذا رقمه». أضاف: «هذه المرة، أنا جادّ على غير عادتي». اتصلتُ، وأنا غير مستبعد المقلب الغسّاني، فردّت السكرتيرة العاملة في إحدى مؤسسات الأمم المتحدة في الرملة البيضاء – بيروت، ثم حوّلتني إلى الدكتور عبد الرحمن الذي كان يعمل هناك بعد نهاية عمله في دمشق كوزير للأوقاف. وفي مكتبه، خلتُني لأوّل لحظة بحضرة مؤلف «طبائع الاستبداد»، لكثرة الشبه بين الجدّ والحفيد. شكرّني على المقال، ولفت نظري إلى أن نسخة «طبائع الاستبداد» التي ارتكزت إليها، هي الطبعة غير المنقّحة، ثم أهداني النسخة المنقّحة التي لم يتسنّ لأنامل سارق مخطوطات جدّه الرشيقة سرقتها، وقد طبعها قبل أن يهديها إلى المتحف الدمشقي. ومما أكده لي في باكورة لقاءاتنا، أن جدّه ألّف هذا الكتاب في حلب، ونشره في القاهرة بعد نشر مقالات منه في جريدة «المؤيد» للشيخ علي يوسف. وهو توّج الكتاب وذيّل المقالات، باسم مستعار «الرحالة ك.».
ونظراً إلى ضيق الوقت، ولأن معظم الحضور قرأ الكتاب الذي طُبع عشرات المرات، أكتفي بالقول إن الكواكبي صاغ فصول كتابه بعبارات قصيرة مباشرة وشبيهة آنذاك بتلك التي استعملها رواد النهضة الأوروبية، مع أنه لم يتقن من اللغات الأجنبيّة إلّا التركية، في حين كان الرواد في العالم العربي، يُكثرون من المرادفات ويكرّرون العبارات ويضخّمون من حجم المقدمات. وعلى صعيد المضمون، هاجم كلّ المستبدّين بدءاً من السّلطان وانتهاء بمرافقي وزرائه وولاته بمنهج علمي مبدع ومقنع، ما دعا الكاتبة اليهودية سيلفيا حاييم إلى نسبة إبداعه إلى النهضوي الإيطالي ألفييري الذي نوه به الكواكبي وبسليم بطرس البستاني وغيرهما، ككتّاب نهضويين استفاد من نتاجهم. والفرق كبير بين الاستفادة والسّرقة، خصوصاً أن من تتهمه بسرقة وصْف داء الاستبداد، وتحديد الدواء، قد «قرأ» الاستبداد قبل أن يقرأ عنه، عبر رصده المستبدين الولاة ومعاونيهم في مدينة حلب، خلال تولّيه المناصب الرفيعة أو إقالته منها بعد توجيه اتهامات مفبركة ضده كالخيانة العظمى، فكانت آراؤه ثمرة تجربة في الدرجة الأولى وقراءة في الدرجة الثانية، ولعل أبرزها، تلك العبارات المختصرة شكلاً والمفيدة مضموناً، التي دعا فيها إلى فصل الدين عن الدولة، وهذه عيّنة منها: «يا قوم هذا دينكم، والدين ما يدين به الفرد، لا ما يدين به الجمع». وتحت عنوان «التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم» يتساءل: «هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في شخص واحد؟ أم تخصّص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان؟ ولا إتقان إلّا بالاختصاص». وفي المبحث 16 وتحت عنوان «حفظ الدين والآداب» يتساءل الكواكبي: «هل السياسة الإسلامية سياسة دينية؟ أم كان ذلك في مبدأ ظهور الإسلام، كالإدارة العرفية عقب الفتح»؟
وفي مكان آخر من الكتاب، ينتقل الكواكبي من طرح الأسئلة إلى تسديد الأجوبة. فيقول في فصل «الاستبداد والترقي»: «الدين ما يدين به الفرد، لا ما يدين به الجمع». يضيف: «يا قوم: أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد. فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين. فهذه أمم أوستريا (النمسا) وأميركا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها؟ فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الإعجام والأجانب! دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضراء، ونتساوى في السراء. دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي: فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء».
أعود في ختام هذا المقطع من المحاضرة، إلى معلومة الدكتور عبد الرحمن الكواكبي التي أكد فيها أن كتاب جده «طبائع الاستبداد» كُتب في حلب وطُبع في القاهرة، التي لم أناقشه فيها، خلال اللقاء الأول لأسباب منها أني لم أكن قد قرأت مقالات جده التي نشرها في «المؤيد» قبل صدور الكتاب، ولكني أقول بعد قراءتها في الجريدة أن الفرق الشكلي اللغوي بينها وبين الفصول الشبيهة لها في الكتاب، يعود إلى أن الكواكبي كتب في حلب المسودة الأولى للكتاب، ثم نقّحه قبل نشره في القاهرة.
صحائف قريش، العظمة لله، الأنساب: إنها عناوين لمخطوطات كتب لم تُطبع. الأول والثاني منها، فُقدا إثر وفاة الكواكبي، ومن المرجّح أن اليد التي دسّت له السمّ في فنجان القهوة، هي التي سرقتهما. أما الثالث «الأنساب» فيؤكد أحد أبناء الشهيد، أسعد الكواكبي، أنه كان في مكتبة محمد رشيد رضا، وقد طالب أخاه رشيد باسترجاعه. ولم يرد رضا المخطوطة ولم ينشرها، ففُقدت.
«الشهباء». في مطلع حياته العملية، تولى عبد الرحمن الكواكبي في مطلع سبعينيات القرن الماضي مسؤولية تحرير الجريدة الرسمية في ولاية حلب «الفرات». وفي عام 1876 قرّر إصدار باكورة دورياته، وبعد عام من المعاملات والتعقيدات، صدر العدد الأول منها في العاشر من أيار 1877.
وعندما بدأتُ رحلتي الكواكبية، بعد مئة عام من صدور «الشهباء»، صعِقتُ، حيث وجدتُ أن مكتبات العالم العربي خالية من أعدادها، وأن الذين كتبوا عنها، ارتكزوا إلى المرويات لا الأعداد.
وتذكرتُ أن قيدوم مؤرخي الصحافة العربية فيليب طرازي أهدى المكتبة الوطنية في بيروت الأعداد الأولى لكلّ الصحف العربية، والمعروفة بمجموعة طرازي. وسرعان ما عثرت على العدد الثاني من «الشهباء» الصادر في 17 أيار 1877. فكتبتُ عنه مقالاً في «النهار» وأهديت نسخة مصورة منه إلى الدكتور عبد الرحمن.
وفي أوائل ثمانينيات القرن الماضي، زارني الدكتور عبد الرحمن قُبيل سفري إلى لندن، وزودني بمعلومة ثمينة كان أحد دبلوماسيي ألمانيا الشرقية زوده بها في دمشق، وهي أن بعض أعداد الشهباء تقيم سعيداً في مكتبة مدينة «هالي» الألمانية.
كان الزميل غسان أبو حمد قد أصبح في برلين الشرقية نتيجة الحرب الأهلية اللبنانية. فتوجهت برفقته إلى «هالي» ووطئنا عتبة مكتبتها التي محتها أقدام الزائرين على مدى عشرات السنين. كان في أرشيف المكتبة تسعة أعداد من أصل الـ 16 عدداً الصادرة من هذه الجريدة. وبالرغم من أني غير ماركسي، فقد وافقت مديرة المكتبة، ليس فقط على تصوير الأعداد، بل وأصرّت على إهدائي الميكروفيلم من غير دفع مارك واحد. ولكي تكون الأعداد بمتناول الجميع، أصدرتُ كتاباً بعنوان «صحافة الكواكبي» ونشرت في قسم الوثائق منه، صور الأعداد التسعة.
والسؤال الآن: لماذا لم يُصدر الكواكبي أكثر من 16 عدداً من باكورة صحفه الثلاث، طيلة عامَيْ 1877 و1878، رغم أن الجريدة أسبوعية؟ والجواب المختصر: فتّش عن المكتوبجي – رقيب الصحف – الذي يقترح التعطيل، والوالي الذي يعطّل، رغم أن مواد كلّ عدد تُراقب قبل النشر. وعلى سبيل المثال: نشر الكواكبي في الصفحة الرابعة من العدد الثاني الخبر التالي: «بلغنا لأن ستة أنفار من مسيحيي عنتاب من طائفة الأرمن القديم أتوا لمحل استكتاب العساكر المتطوعة بقصد أن يكتبوا أنفسهم في جملة المتطوعين، فغبّ السؤال عن أسمائهم طلب منهم تغييرها بأسماء إسلامية، فأبوا ذلك قائلين: إن قصدنا المحاماة عن دولتنا ووطننا، فإن كان لا سبيل لذلك إلا بتغيير أسمائنا، فلا نقبل». وذيّل الكواكبي الخبر بالتعليق النقدي التالي: «كلما ألزمتنا ظروف الأحوال بالتشبث بأسباب علاقات الود والاتحاد بين سائر التبعة العثمانية، تظهر هكذا حركات تقضي بضد ذلك لغايات بعض مآمير لا يكترثون بلوازم الأوقات. فاللازم على أولياء الأمور أن يصدوا هكذا مأمورين عن غاياتهم». ولكن أولياء الأمور صدّوا هكذا صحافيين، فعطلوا الجريدة لمدة ستة أشهر، واستجوبوا صاحبها لمعرفة اسم المراسل الذي نقل له الخبر. ولكن الكواكبي امتنع عن «الإباحة باسم مخبرنا محافظة على ناموس الجرنال». ثم عُطلت «الشهباء» مرة ثانية، إثر صدور العدد العاشر، ومرة ثالثة أُغلقت نهائياً عند صدور العدد 16.
اعتدال: بعد عامين وشهرين من التوقيف النهائي للشهباء، أصدر الكواكبي في حلب، جريدة بديلة باسم «اعتدال». وفي حين كانت صفحات «الشهباء» الأربع بالعربية، أصبحت صفحات «اعتدال» بالعربية والتركية، وبالتساوي. وهذا دليل جديد على نهج التتريك الذي ينفيه بعض الباحثين عن مرحلة عبد الحميد.
والسؤال: لماذا عُطّلت جريدة الكواكبي الثانية نهائياً بعد العدد العاشر؟
حتى الآن، ليس متوفراً الجواب الدقيق المباشر، لأن تسعة أعداد من أصل عشرة مفقودة. ولكن افتتاحية العدد الأول الذي عثرت عليه في مجموعة طرازي، تتضمن جواباً ترجيحياً وهو أن الكواكبي في الأعداد العشرة من اعتدال، لم يكن معتدلاً وفق مفهوم الوالي والمكتوبجي للاعتدال. يقول الكواكبي في مستهل افتتاحية العدد الأول الصادر في 25 تموز 1879: «لما كنا ممن أودع في فطرتهم اعتقاد وجوب خدمة الوطن على كلّ إنسان بما أمكن، اقتضى أن ربت نفوسنا على تحري وسيلة لأداء هذا الواجب، فلم نرَ أشرف وأهمّ وأنفع من نشر ألوية المطبوعات. وبناء على ذلك، كان إصدار جريدة «الشهباء» التي وفّت خدمتها بأمانة وجعلتها تحوز القبول من العموم. غير أنها أصيبت باضطهاد الوالي السابق دولتو كامل باشا فعطّلها ثلاث مرات. ولا نرى حاجة لتبيان أسباب وقوعها تحت هذا التعدي.. على أننا نكتفي بالقول إن حضرة الوالي المشار إليه ماذا يجيب إذا سئل في محكمة الإنسانية عن سبب مقاومته جهده في صدّ هذا المشروع الخيري ومعارضة القائمين به وإضرارهم مادياً وأدبياً؟ هل له من جواب يدفع عنه الحكم الحق بأن السبب ليس إلا ما في فطرته من عداوة الحرية»؟ أضاف في الجزء الثاني من الافتتاحية، إن «اعتدال هي الشهباء من كل حيثية، وقد أخذت على نفسها من قبل ومن بعد القيام بكامل وظائف الجرائد الأهلية من نشر حسنات الإجراءات وإعلان سيئات المأمورين وغرض احتياجات البلاد إلى مسامع أولي الأمر».
مما تقدّم يمكن القول إن «اعتدال» التي لا تختلف عن «الشهباء» إلا بالاسم، قد نشرت في بعض أعدادها سيئات المأمورين، كما فعلت «الشهباء»، فعطلوها، لأنهم لا يقبلون من صاحبها إلا ذكر حسناتهم. ولقد فعل الوالي الجديد ذلك، لاطمئنانه بأن محكمة الإنسانية التي لم تسأل الوالي القديم عن أخطائه وخطاياه، ستفعل الشيء نفسه معه.
العرب: كنت ألتقي بالقاضي سعد زغلول الكواكبي في منزل شقيقة زوجته الكائن في منطقة فردان البيروتية. وفي أحد اللقاءات، قرأ لي معلومة جديدة تضمنتها مسودة مذكرات عمه تعيد النظر في المعلومة القديمة السائدة وهي أن جده أصدر دوريتين فقط. يقول عمه ما حرفيته: «أصدر في حلب جريدتين سياسيتين اسم الأولى (الشهباء) والثانية (اعتدال) وقد عاشتا أشهراً معدودة لنزعتهما الحرة، فوُئدتا وصودرت المطبعة الخصوصية التي كانت تطبعهما. ثم أصدر في القاهرة جريدة ثالثة أسماها (العرب) لم تعش أيضاً سوى أيام قليلة». هنا أصدر القاضي قراراً غير قابل للاستئناف يطلب مني فيه العثور على أعداد «العرب» الثلاثة أو أحدها على الأقل.
سافرتُ إلى القاهرة لتصوير الأعداد فلم أجد أثراً لها. ولكن مجموعة طرازي احتضنت العدد الأول الخالية ترويسته من أي اسم، لأسباب أمنية، ولولا معلومة ابن الكواكبي، لبقي صاحب (العرب) مجهولاً. أهديت القاضي سعد صورة عن العدد الذي حرره جدّه من الغلاف إلى الغلاف، وسألته إذا كان يفضّل أن أكتب مقالاً عن العدد في إحدى الصحف، أو أنشر فصلاً عن «العرب» في الطبعة الثانية من «صحافة الكواكبي»؟ أجاب: بل أفضل شيئاً ثالثاً وهو إصدار كتيب مستقل عن هذه الجريدة المهمة المجهولة. وسألته من جديد: وهل أنت مستعدّ لكتابة مقدمة الكتاب العتيد، كما فعلت مع كتابي السابق «الكواكبي فصل الدين عن الدولة»؟ وكانت المقدمة بعنوان «نديم ثان للكواكبي» وهو يقصدني بذلك، باعتبار أن عبد المسيح انطاكي الحلبي المتمصّر الذي أصدر جريدة «العمران» في القاهرة، كان النديم الأول.
الكواكبي في وثائق الخارجية البريطانية:
كان الكواكبي نموذجاً للكتّاب الملتزمين المجاهدين، لذلك فإن أدبياته التي دبجها يوم تولّى المكتب الخاص للدفاع عن المظلومين في ولاية حلب، في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، تُعتبر من نتاجه الثمين.
إذا كان الشيخ الحلبي كامل الغزي هو الأهم بالنسبة إلى جميع الذين كتبوا ترجمة الشيخ الحلبي عبد الرحمن الكواكبي، باعتبار أنه كان من أصدقائه وشاهداً على الأحداث التي وقعت في ولاية حلب، وكان الكواكبي في طليعة صانعيها وضحاياها… فإن المقطع الخاص بصراع الكواكبي مع الوالي جميل باشا، والذي ورد في سياق المذكرات المعنونة «تاريخ ما أهمله التاريخ من سيرة عبد الرحمن الكواكبي بطل الحرية وفقيد الشرق» هو الأكثر أهمية. وتكمن أهمية ما نشره عضو المجمّع العلمي العربي في مجلة «الحديث» الحلبية عام 1929، أنه تناول أقسى جولة من صراع الكواكبي مع الاستبداد ورموزه، وهي الجولة التي اشترك فيها معظم متنوري حلب آنذاك ومنهم الشيخ الغزي، وقد نالوا الكثير من مظالم الوالي كالسجن والضرب والنفي ومصادرة المنازل والمزارع والمواشي.
ماذا في جعبة الشيخ الغزي حول الكواكبي والوالي؟
كان الوالي جميل باشا مستبداً كسلفه الوالي عارف باشا. وكما عطل الأخير جريدة الكواكبي «الشهباء» 1877، فان جميل باشا بادر إلى تعطيل الجريدة البديلة «اعتدال» 1879. ولكن الكواكبي الذي قاوم عارف باشا حتى تمكّن من عزله، لم يتردّد في مقاومة جميل باشا برغم معرفته بأنه أقوى من سلفه بسبب قيام والده نامق باشا بوظيفة رفيعة في قصر يلدز. كانت مقاومة الكواكبي إعلامية حقوقية، ويؤكد الغزي «أن جميع ما تسطره صحف الآستانة وبيروت في حق الوالي من مقالات الطعن والتنديد مستمد من قلم السيد عبد الرحمن». ويضيف الغزي أن الكواكبي أسس مكتباً «لتسطير اللوائح الاعتراضية وتحرير معروضات المتظلمين من الحكام المقدمة إلى المراجع العليا ومراجعة المحامين وإرشادهم فيما يشكل عليهم من أحكام الأنظمة والقوانين». وكان المكتب – وهو الأول من نوعه في ولاية حلب – أكثر إزعاجاً لجميل باشا من الحملة الصحافية، لأنه أصبح كدار ندوة يأوي إليها جميع أعدائه ومظلوميه فيدلّهم السيد عبد الرحمن على الطرق التي يتوصلون بواسطتها إلى قهره والتخلص من ظلمه، ويشجعهم على رفع شكاواهم إلى المراجع العليا، وهو الذي يتولى عنهم تحرير نسخ تلك الشكاوى المرسلة بالبرق أو مع البريد». يعود الغزي في مكان آخر من مذكراته إلى تأكيد أن «جميع الكتب والرسائل تركية العبارة محررة بقلم السيد الفراتي بلهجة يهتز لها عظماء الدولة وأكابر رجالها وتتأثر منها نفس ذلك السلطان القاهر الذي كان لا يهاب الملوك ولا يحسب لعظمتهم حساباً». ومع ذلك، أو بالأحرى بسبب ذلك، فقد كان «جميل باشا – يقول الغزي – من الولاة المحبوبين عند السلطان عبد الحميد والمحتلين لديه منزلة عالية لا تأخذه في محبته لومة لائم». لذلك، كان يمكن أن يخسر الكواكبي الجولة الأخيرة، لو لم يقع خلاف عميق، في ذلك الوقت، بين الوالي والقنصل البريطاني في حلب. وإذا علمنا أن بريطانيا كانت أقوى دولة في العالم آنذاك، وأن نفوذها في السلطنة العثمانية كان قوياً، أدركنا كم كان حظ الكواكبي وجميع أهالي وأعيان حلب كبيراً. بل إن دخول الإنكليز على خط الخلاف مع الوالي، كان أيضاً من حظ قراء الكواكبي الذين يرغبون في قراءة كل ما خطه يراعُه، بعد أن قرأوا كتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى». ذلك أن الخارجية البريطانية تحتفظ بفواتير الخضار والفاكهة التي كانت ترسلها قنصلياتها بالحقيبة الدبلوماسية، فكيف وأن تلك الفواتير كانت مرفقة بالتقارير والعرائض والبرقيات الخاصة بأي شأن خطير يحدث في حيز القنصلية ويكون للقنصل علاقة به؟
ولنقلب الصفحة، لمعرفة ماذا تحتضن ملفات خارجية بريطانيا العظمى، مما نوه به الشيخ الغزي؟
لم أتوجه إلى مركز التوثيق التابع للخارجية البريطانية من أجل إثبات براءة عبد الرحمن الكواكبي من تهمة العمالة للإنكليز. ذلك أن الكواكبي نفسه قد أثبت براءته من التهمة الخطيرة، في محكمة بيروت. كذلك، لم تتم الرحلة بهدف إثبات براءة الكواكبي من تهمة العمالة للطليان المتمحورة على الحيثية «الوجيهة» التالية وهي أن الكواكبي امتطى باخرة إيطالية خلال عودته من إحدى رحلاته الاستطلاعية في القارة الآسيوية.
لقد أمضيتُ أكثر من شهر في «الكيو غاردن» من أجل الحصول على وثائق خاصة بالكواكبي في مركز التوثيق البريطاني الذي هو الأغنى بين جميع المراكز التابعة لوزارات الخارجية على الإطلاق. ومنذ بداية الرحلة التقميشية، افترضت أن القنصل البريطاني – قنصل الأمس هو سفير اليوم – في حلب لا بد أن يضمّن تقاريره العديد من الأخبار الخاصة بالكواكبي، إضافة إلى بعض أعداد جريدتي «الشهباء» و«اعتدال» اللتين أصدرهما في حلب في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر. أولم يكن للكواكبي قرص في كل عرس حلبي خلال السنوات الممتدة من 1877 تاريخ إصداره العدد الأول من «الشهباء»، إلى 1898 عندما غادر حلب إلى القاهرة؟ أوليست إحدى مهمات القنصل الرئيسية تغطية أخبار قادة المدينة التي تقع قنصليته فيها، بخاصة الذين أمضوا حياتهم في الصراع مع الحكّام؟
ليس من المبالغة القول بأني عرضتُ أكثر من مئة ملف خاص بولاية حلب في تلك الحقبة. بل إني لم أترك ملفاً واحداً يتناول حلب كلياً أو جزئياً، يعتب عليّ.
من المؤسف أن تحتوي نصف الملفات على أمور سخيفة قياساً لعظمة بريطانيا في القرن الماضي حيث شمل نفوذها ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. وعلى سبيل المثال، فالسيدة البريطانية باركر أقامت دعوى ضد أحد الحلبيين بخصوص منزلها الحلبي. هل تصدقون أن تقارير القنصل وأركان حربه، ناهيك عن رسائلها – السيدة باركر – وأوراقها الثبوتية وشهادات الشهود، قد امتدت عشرين سنة، وملأت عشرين ملفاً؟ أشرت إلى ذلك، حتى لا أشير إلى فواتير القنصلية وقصص التراجمة التابعين لها، الشبيهة بالحماية البريطانية، فكأنها نسخة طبق الأصل عن بعضها البعض، فضلاً عن كثرتها وكثرة التفاصيل الممّلة فيها.
النصف الباقي من التقارير، يتناول أموراً سياسية خاصة بولاية حلب التي كانت تضم الشمال السوري برمته بما في ذلك دير الزور وأنطاكية. ولكن معظم هذه التقارير تتمحور على أحداث طائفية وتتناول سلباً أو إيجاباً، الطوائف وقادتها. صحيح أن الكواكبي كان عالماً دينياً، ولكن كتاباته ومواقفه كانت تتخطى حدود الطائفة السنية التي هو منها، لتشمل كل الأديان والمذاهب. وعندما تكون «كلّ» حلب محوراً لجهاد الكواكبي، ووحدة الحلبيين أحد أهدافه الرئيسية، تكون الشقة واسعة بينه وبين القنصلية البريطانية أو أية قنصلية قوية أخرى. فلا سعادة القنصل يكتب عنه إلى وزير خارجيته، أو يرسل بعض أعداد جريدتيه بالحقيبة الدبلوماسية. ولا هو يكتب إلى القنصل أو يسعى إلى مقابلته سراً كما كان يفعل بعض وجهاء حلب آنذاك.
لذلك خلت أطنان الأوراق الدبلوماسية الصادرة من حلب، من أي شيء يتناول الكواكبي وبخاصة «عمالته» للإنكليز! وكان يمكن أن لا تأخذ الوثائق والبرقيات الكواكبية طريقها إلى الحقيبة الدبلوماسية، لولا حاجة القنصل «هندرسون» والملحق العسكري «تروتر» لها، نتيجة الخناقة الطويلة العريضة التي جرت بينهما من جهة وبين الوالي جميل باشا من جهة ثانية. ومن أجل أن يقنع هندرسون وتروتر وزير خارجيتهما بأن الوالي هو المعتدي، عزّزا تقريرهما المسهب – حوالى مئة صفحة – بمجموعة شهادات وشكاوى ضد الوالي، التي حرّر معظمها الكواكبي على حدّ تأكيد الشيخ الغزي.
إن صدام جميل باشا مع أركان القنصلية البريطانية، يختلف تماماً عن خلاف الكواكبي وغيره من قادة حلب، معه. الأول كان نزاعاً على النفوذ. والثاني كان صراعاً بين المستبد والأحرار. صحيح أن ضغط القنصلية البريطانية الذي تزامن مع ضغط الحلبيين، قد أدى إلى عزل الوالي القوي – كان ابن نامق باشا مستشار السلطان عبد الحميد – ، ولكن ذلك قد تمّ بالصدفة، أو على ضوء مصلحة الفريقين. فقد سبق ونكّل الوالي بالكواكبي وغيره. ولكن القنصل لم يحرّك ساكناً، لأنه كان على علاقة جيّدة به.
ليست المساحة المخصّصة لهذه الكلمة بكافية لعرض كلّ أو جلّ ما تضمنه الملف البريطاني. لذلك أكتفي بعرض وتلخيص تقرير واحد والبرقيات الثلاث.
تحت عنوان «وثيقة قدمت إلى السيد هندرسن من مسؤول كبير في ولاية حلب وبخط يده، وقد أعطاها هندرسن إلى الميجور تروتر» استهل الكواكبي تقريره المستفيض بمقدمة فكرية قال فيها: «غني عن البيان أن الهيئة الاجتماعية، في كل زمان لا تستمر إلا بمؤازرة الحكومة، في الوقت الذي لا يستتب الأمر للحكومة إلا بالعدالة. وفي الحالة المعاكسة، فإن تاريخ القرون الغابرة برهن على أن المجتمع يندثر والحكومة تنهار. لذلك فإن الحكومة قد تعرضت لأزمات قوية طاولت أسس السلطنة التي هي الآن على حافة الانهيار. صحيح أن جلالة السلطان يبذل كل جهوده للحيلولة دون وقوع الكارثة، ولكن الإرادة العاطلة والإدارة السيئة لأركان الحكومة عطلتا جهوده».
وأشار الكاتب إلى ما سبق أن نشره في الصحف حول فساد وانحراف حكومة ولاية حلب. هذا الفساد الذي تضاعف فيما بعد نتيجة سلوك الوالي جميل باشا الغريب الأطوار، ما نغّص حياة سكان الولاية. أما أعيان حلب فكانوا الضحية الأولى لتصرفات سعادته الظالمة، وقد تعرضوا للتعذيب حتى الموت أو النفي، وحين رفع بعضهم الشكوى إلى السلطات العليا وحتى السلطان، فإن شكاواهم كانت تصل إلى الوالي بواسطة أصدقائه وحماته، وتكون النتيجة أن أصحاب الشكاوى أصبحوا متهمين حيث عاقبهم الوالي بالاعتقال الكيفي أو الضرب في الشارع. وعندما رأى المواطنون وقوع أعيانهم كالنعاج بين مخالب «الصقر» اعتراهم الخوف، ووجدوا من المفيد الانحناء أمام العاصفة، «بانتظار الخلاص بواسطة العناية الإلهية».
وضرب الكواكبي أمثلة مقرونة بالوقائع والأسماء تثبيتاً لاتهاماته: الدفتردار أمين أفندي، رفض أن يكون أداة فاسدة بيد الوالي، ونقل مظالمه إلى الباب العالي، وكانت النتيجة أنه أقيل من منصبه. أكثر من ذلك، فحين كان متوجهاً ذات عشية لزيارة المفتش السابق للمزارع السلطانية رفعت بك، تعرض للضرب المبرح من قبل زعران الوالي الذين سرقوا ساعته وخاتمه.
مثل آخر؟ جرت خناقة بين مصور فرنسي يمتلك ستوديو في حلب والميجور حافظ أفندي. وذات ليلة توجه بعض الجنود إلى منزل المصور بناء لأوامر الليوتنان كولونيل علي بك المعروف بأنه ألعوبة بيد جميل باشا، وأوسعوه ضرباً. أحيل الأمر على المحكمة. ولكن الدعوى عُلّقت بحجة أن الحادث جرى ليلاً وتعذر بالتالي معرفة المذنبين.
وثمة مثل ثالث لا يخلو من الطرافة. كان في حلب رجل ثري جداً يدعى «كتخده زاده» (هو جد السياسي السوري الراحل رشدي الكيخيا الذي ترأس مجلس النواب أو الوزراء)، تولى لمرحلة طويلة عضوية مجلس الإدارة. جميل باشا تودد إليه يوم كان قائداً للجيش في الولاية وعندما أصبح والياً. إثر وفاته توزعت ثروته على أبنائه الثلاثة وابنتيه. وكعادته، صمم الوالي على نيل جزء من الثروة. ولما رفض الورثة، أوعز إلى أحد رجال الدرك لإقامة دعوى ضد ابنه البكر باكير أغا بتهمة قتل أحد أقربائه. اعتقل المتهم وسُجن، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن دفع للوالي سبعة آلاف ليرة عثمانية. ولم يتورع جميل باشا من القول لأحد أصدقائه بأن بكاءه على الفقيد وتقبله التعازي برحيله كانا بهدف الحصول على بعض ثروته.
ويؤكد الكواكبي في سياق تقريره أن مثالب الوالي أكثر من أن تحصى. لذلك اكتفى بإضافة المثلبة التالية: منذ أن أصبح والياً لحلب، وضع يده على الكثير من الأراضي والمزارع التي تكفي لتأسيس دوقية – دويلة – وكما تناهى إليّ أنه بات يملك بين 70 و80 ألف رأس غنم، وكمية مماثلة من حيوانات أليفة أخرى حيث يفوق ثمنها ثلاثة ملايين ليرة. إن راتبه معروف ومحدود، فمن أين حصل على تلك الأموال المنقولة وغير المنقولة؟ ذلك أن الوالي يمتلك عقارات كثيرة في القسطنطينية وحلب، إضافة إلى الأموال التي أودعها في مصارف أوروبية. ومن المؤكد – يضيف الكواكبي – أنّ كل هذه الثروة قد حاز عليها بالأساليب الملتوية. وبواسطة الثروة والحماية من القصر السلطاني، تمكن من إرهاب المواطنين لدرجة أن أحداً لم يعد يجرؤ على أداء الشهادة ضده إذا جرى تحقيق عنه أو معه. حتى إذا تظاهر الوالي بالثورة على السلطان، فإن الشعب يتردد في مجاراته خوفاً من أن تكون بمنزلة مناورة لمعرفة حقيقة الموقف الشعبي إزاء عبد الحميد.
وختم الكواكبي بما يمكن اعتباره تزكية لما قاله عنه صديقه الشيخ كامل الغزي حيث نوه بصفته وكيلاً لمواطنيه الذين يطالبون بإنقاذهم من ظلم الحاكم العام.
أصل إلى البرقيات. الأولى، أرسلها الكواكبي من حلب بتاريخ 19 يوليو (تموز) 1886 إلى الصدر الأعظم ووزير العدل. روى في هذه البرقية كيف أن الوالي زاره في منزله متوعداً ومهدّداً بسجنه ونفيه إذا استمر في دفاعه عن بيت الكيخيا وإصراره على السفر إلى القسطنطينية من أجل ذلك. وسرعان ما نفذ وعيده حيث زج بالكواكبي وشقيقه في السجن، وصادر منزله مقدمة لإعطائه لأحد خصومه «مع أننا منذ أكثر من مائة عام نشغل المنزل». ولم يتردد في توجيه عبارات مهينة وسوقية إليه، وبالطبع جنّد الوالي عدداً من أعضاء البلدية ورجال الشرطة لتحقيق مأربه.
البرقية الثانية، غير المؤرخة والمرفوعة إلى السلطان تفيد أن الوالي طرد حراس مزرعة الكواكبي، ونهب غلالها، ما أوقعه في دوامة القلق على مصيره الحياتي، خصوصاً «أنه اضطر إلى الاستدانة من أجل دفع أجرة البرقيات».
أما البرقية الثالثة، وهي الأكبر والأهم، فقد رُفعت إلى السلطان والصدر الأعظم – رئيس الحكومة – بتاريخ 20 تموز/يوليو 1886. نوه في مستهلها بمضمون البرقيتين السابقتين حيث حاول الوالي إذلاله ومصادرة منزله. أضاف أنه كان متبرعاً في تدقيق حسابات مستشفى جديد في حلب. وذات يوم، اقتادته فرقة من الشرطة مخفوراً من منزله الكائن في طرف المدينة إلى مبنى المجلس البلدي الكائن في الطرف الآخر وكأنه أحد «كبار المجرمين». لدى وصوله، سأله الوالي عن أوراق المحاسبة، ولما أجابه أنها في المنزل، أعاده إلى منزله مخفوراً وسيراً على الأقدام لجلبها له. عند وصوله إلى المنزل، لم يُسمح له بالدخول وجلب الأوراق المطلوبة، بل أمر بالبقاء خارجاً، حيث تولى البوليس نقل كلّ محتويات مكتبه إلى خارج المنزل، كي يأخذ منها الأوراق. وبالطبع، أعيد إلى البلدية بالطريقة المذلة نفسها. وقال الكواكبي في برقيته إن الوالي لم يتورع عن إذلاله رغم أنه ينتمي إلى «أشراف حلب»، وتعتبره المدينة «أحد أبرز علمائها الدينيين وفقهائها والخطباء». وتساءل في البرقية عن المبرّر الذي دفع بالوالي إلى إذلاله، وهو «البريء والشريف والعالم الديني، على مرأى «من أصدقائه وأعدائه».
أخيراً رضخ السلطان لإرادة الجماعة المحقة والمظلومة، فكلف «صاحب بك» وهو قاضي القضاة المشهود له بالحزم والنزاهة، كي يسافر إلى حلب ويتولى التحقيق ويقترح التدبير المناسب.
وفي أوائل أيلول (سبتمبر) 1886 وصل صاحب بك إلى المدينة الحزينة.
وخلال مباشرته مهمته الصعبة، وقع حادث خطير كاد يمدّد ولاية جميل باشا تسع سنوات أخرى، مع أن بطله استهدف، ليس فقط وضع حدّ لتلك الولاية، بل أولاً قصف عمر الوالي. وخلاصة الحادث أن جميل باشا سحب رخصة المحاماة من المحامي الأرمني الحلبي زيرون لأنه تجرأ على الدفاع عن بعض ضحاياه إضافة إلى وظيفته كمستشار حقوقي للقنصلية الفرنسية في حلب التي كانت أيضاً على خلاف مع الوالي. ولأن قطع الأرزاق من قطع الأعناق، فقد اسودت الدنيا في وجه المحامي زيرون فسحب مسدسه، وكمن للوالي عند منعطف يقع بين منزله ومركز ولايته في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 1886. وحين اقتربت عربة الوالي العائد من مركز عمله إلى منزله، أطلق عليه زيرون ثلاث رصاصات فأخطأه. اعتقل وأودع السجن. ولكن ترجمان السفارة الروسية الذي كان موجوداً قرب مكان الحادث رجّح أن شخصاً آخر أطلق النار. وليس مستبعداً ان يكون الحادث مدبراً من الوالي نفسه حتى يستدر العطف عليه. ومما يعزز هذا الاحتمال، أن جميل باشا رفع رسالة إلى السلطان يقترح عليه فيها تمديد ولايته مرفقة بتكرار ولائه. وسواء كان المحامي زيرون قد أطلق النار، أم أن العملية كانت مفبركة للإيقاع به، فإن نتائجها لم تكن لصالح الوالي لاقترافه غلطة الشاطر التي تعادل الألف غلطة.
فقد بادر إلى اعتقال أبرز وجهاء ومفكري حلب وفي طليعتهم عبد الرحمن الكواكبي، بتهمة تحريض المحامي الأرمني على قتله. إذ سرعان ما هاجت المدينة من ممارسات الوالي التي لا حدود للظلم فيها، وقرر سكانها التوجه إلى مركز البريد والاعتصام هناك حتى يُقال جميل باشا من منصبه. وإذا لم يُستجب طلبهم، فإنهم سيقومون بهجرة جماعية إلى مكان آخر خارج الولاية. كذلك، وقّع النائب العام وكل القضاة في الولاية عريضة، أعلنوا فيها عجزهم عن القيام بوظيفتهم في حال استمرار جميل باشا على رأس الولاية. وإذا رفض طلبهم فإنهم يتمنون على جاويد باشا وزير العدل نقلهم إلى ولاية ثانية. إزاء هذا العصيان السلمي الشامل، صدرت إرادة سنية بنقل جميل باشا من حلب إلى بغداد. وبعد ربع ساعة من إزاحة الكابوس عن صدر مدينة حلب، أفرج صاحب بك عن جميع المعتقلين.
أما لماذا لم يعزل السّلطان عبد الحميد الوالي جميل باشا ويحاكمه ويزجّه في السجن ويسترجع منه الأراضي والمنازل والأموال التي نهبها من الكواكبي وسائر أشراف حلب، فلسبب بسيط وهو أنه كان قدوته في الفساد والاستبداد. فهل لدى المعجبين بالسلطان تفسير أو تبرير غير علكة رفضه بيع كل فلسطين لليهود الذين أنشأوا مئات المستوطنات في عهده الماراتوني الممتد من 1876 إلى صيف 1908.
وبعد، نحن في فرع مكتبة الإسكندرية في القاهرة، نحتفل بعبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية والنزاهة والإسلام الحقيقي. فلنختم بهاتين الطرفتين اللتين حدثتا معي في القاهرة ومكتبة الإسكندرية.
1 – زرت مصر منذ فترة، لنبش أعداد جريدة الكواكبي الثالثة (العرب) التي صدرت في القاهرة عام 1900. استضافني الصديق الدمشقي غسان اللاطي في منزله بمصر الجديدة. فكنت أتوجه صباحاً بالتكسي إلى دار الكتب المصرية التي يقع مبناها على كورنيش النيل، وأعود مساء إلى حيث كان يقيم الصحافي الساخر سليم سركيس ويصدر «مجلة سركيس» منذ قرن. وبقدر ما كان الذهاب إلى المكتبة سهلاً لتوفر التكسيات، كان الإياب صعباً، لندرتها. وذات عشية، استقليت بعد طول انتظار، تكسياً يقوده شيخ، فاستغرقت الرحلة 90 دقيقة لسببين: عجقة السير كما نقول في بيروت، وعظة صاحبنا بعد أن علم أني شامي (أي من بلاد الشام) مسيحي. وقد تمحورت عظته على الحلبي عبد الرحمن الكواكبي المصلح الإسلامي المنفتح الذي كان يحرسه مرافق أرمني. وقاطعته كما تفعل معظم إعلاميات الفضائيات، لا لأقول له بأني أصدرت كتابين عنه والثالث على الطريق، بل لأطرح عليه بعض الأسئلة الاستفهامية المختصرة. ولم ينزعج من مقاطعتي كما هو حال انزعاج ضيوف الإعلاميات الجميلات، ربما لرغبته في إطالة الخطبة. وصلنا. دفعت له الأجرة التي طلبها وكانت أقل مما كان يطلبه نظراؤه. سألته عن اسمه الكريم، واستمهلته دقيقة لأعطيه هدية. ثم أخذت نسخة من أحد كتبي، وكتبت الإهداء على صفحته الداخلية، وسط إعجابه. ولكن إعجابه تحول إلى تعجب، ربما لاعتقاده بأن كتابي يتضمن سيرة المطران يوسف الدبس ومسيرته وليس مسيرة الشيخ الكواكبي وسيرته. وشكرني مرتين: ثانياً على الهدية، وأولاً على استجابتي السريعة لكواكبيته.
2 – في اليوم التالي، امتطيتُ البوسطة على لغة اللبنانيين، وتوجهت إلى الإسكندرية حيث أسس الشوام عشرات الدوريات وفي طليعتها «الأهرام» التي انتقل بها مؤسساها سليم وبشارة تقلا في أواخر القرن التاسع عشر إلى القاهرة. دخلت مكتبة الإسكندرية القديمة – لم تكن المكتبة الجديدة أُنجزت ودشنت – فرأيتُ عشر موظفات، تسع منهن محجبات. بُعيد السلام والكلام، فهمن من لهجتي أني «شامي»، فطلبن من زميلتهن غير المحجبة أن تساعدني. ولأول وهلة ظننت أنهن استنتجن أنني «كافر». وسرعان ما تبخر ظني حين أعلمتني الموظفة السافرة أن أباها «شامي» من بكفيا. وازداد فرحها حين قلت لها إن منزلي في انطلياس يبعد 500 متر عن منزل الأخوين رحباني – فيروز، وإن بسمة الشمس – اسم انطلياس القديم على ذمة الشاعر قبلان مكرزل – تبعد عن بكفيا خمسة كيلومترات. وكان نهاراً جميلاً جرى فيه تبادل أجمل الهدايا. أهديتها كتابي «صحافة الكواكبي» وأهدتني خدماتها المكتبية حين لبت كل طلباتي بدون انزعاج، حيث كحلت عيني بعشرات الكتب والدوريات القديمة.