تطغى ديناميات الأحداث على كامل منطقتنا وعلى مدى بيئتنا الطبيعية وبعض عالمنا العربي. فإذ بالأسئلة تتناسل وتتوالد ويضج بها العقل في محاولة لفهم معمّق لطبيعة الحدث نفسه، خصوصيته، ميزته، أسبابه، تداعياته، نتائجه المباشرة وغير المباشرة، تأثيره على حاضرنا ومستقبلنا وعلاقته بالماضي قريبه وبعيده.
ثمة دينامية عالية وتغيرات متسارعة تفرض وقائع سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية جديدة في كل يوم، وثمة صراع قوي فيه الكثير من التعقيدات والتشابكات والتقاطعات المحلية والاقليمية والدولية، بعضها منسّق، والكثير منها يضرب على غير هدى، ويشكل عنواناً لفوضى وعبثية مطلقة لها طابع تدميري شامل للبنى والهويات والأطر والدول والمؤسسات والعقول.
ما حدث في العراق شكل منعطفاً خطيراً ينذر بأوخم العواقب اذا لم يتم تصحيح المسار والمبادرة الى تجميع كل القوى القومية الشعبية المؤمنة بوحدة العراق والمؤتمنة على التاريخ والحاضر والمستقبل فيه، باعتباره القاعدة الحضارية لبلاد الشام والعراق وعمقاً اجبارياً استراتيجياً وجغرافياً وتاريخياً لكل منطقة الهلال الخصيب. لقد كنا على يقين أن اجتياح العراق العام 2003 شكل هدفاً استراتيجياً لقوى الاستعمار والصهيونية العالمية والغرب المتحالف معهما بالنظر الى الموقع والدور والطبيعة والاقتصاد والطاقة والقدرات التي مثلها ويمثلها العراق عبر التاريخ، وقد حقق الاحتلال الى حدٍ كبير أهدافه في إسقاط هذا الدور والهيمنة على المقدرات ومصادرة الثروات ونهب الخيرات ولا سيما النفط ومصادر الطاقة الأساسية، ساعدها في ذلك وجود حالة من التآكل والانحلال الداخلي والضعف والوهن كنتيجة طبيعية لخضوع العراق ولفترة طويلة لنظام استبدادي مثّل طغياناً هائلاً على شعب العراق نفسه، وكشف العراق من الداخل مما ساعد على سقوط الدولة العراقية بالضربة القاضية إثر الاجتياح الأميركي – الغربي واذ تمكن العراقيون – بنسبة معينة – في السنوات التي تلت الاجتياح في تأسيس مقاومة عسكرية تمكنت من إنزال ضربات قاسية بجيوش الاحتلال هناك، الا أنها لم ترق الى مستوى المقاومة الوطنية العراقية التي يلتف حولها كل الشعب في هيئة رجل واحد للدفاع عن الحق والكيان والوجود والهوية والحرية والوطنية والقومية المضرجة كلها بدماء شعبها وآلام ناسها في ميادين الصراع والقتال.
وعلى المستوى السياسي – ولأسباب مختلفة ومتعددة – لم ينجح العراقيون في بناء سلطة وطنية حقيقية شعبية جامعة كل أطياف الشعب العراقي، وطفت على سطح الحياة السياسية نزعات الهيمنة الطائفية والمذهبية والعشائرية – طبعاً بتشجيع وتدخل أجنبي واضحين – ولكن هذه الحقيقة المرة فرضت نفسها على الواقع العراقي وهي – إضافة الى عوامل التآمر الخارجي – أدت الى انفلات الأوضاع بهذا الشكل غير المسبوق…
أن يسقط ثلث العراق في وقت قياسي يعد بساعات في يد همجية متوحشة ترفع شعارات متصلة بالقرون الوسطى وفكراً الغائياً تدميرياً لمعالم الحضارة والانسانية في بلادنا، فتسقط أجزاء من العراق في فم هذا الأخطبوط الجهنمي لحدثٌ جلل يفرض نفسه تحدياً أساسياً لا بد وبسرعة الى رسم خطوط مواجهته، لأن تداعياته تتجاوز العراق وقد تجاوزته فعلاً الى سوريا ولبنان والأردن والى كل المحيط القومي، بالنظر الى الوحدة الاستراتيجية التي تمثلها المنطقة بأسرها.
وبموازاة الحدث العراقي، تستعر جبهاتُ النار في غزة على أرض فلسطين، وتقوم آلة الحرب الصهيونية بعدوانها المستمر منذ حوالي الأسبوعين، وترتكب اسرائيل جرائمها الوحشية الجبانة بحق شعبنا الفلسطيني الذي يتعرض لعملية ابادة حقيقية، ولغزوة بربرية وحشية تستهدف الحجر والبشر، بهدف فرض حقائق جغرافية جديدة على الأرض، وإضعاف جبهة المقاومة الداخلية لفلسطين – المقاومة بغرض تطويعها وإخضاعها وضرب جذوة الصراع فيها، ولكن، المفارقة أن المقاومة أصبحت أشد بأساً، وأقوى عوداً وأكثر خبرة قتالية، وقد تفاجأ العدو بتنامي قدرات المقاومة على كل الصعد ولا سيما الصاروخية منها، اذ أن رد المقاومة كان رداً صاعقاً وجباراً اذ طالت صواريخ المقاومة عمق فلسطين 1948، وعمق المستعمرات والمستوطنات اليهودية في عمق فلسطين، وبدت كل خطط العدو الدفاعية بما فيها ما يسمى القبة الصاروخية واهية ضعيفة، وغير ذات جدوى في حماية أمن المستوطنين في كل مدن ومناطق فلسطين، وهذه مسألة أساسية واستراتيجية في حرب الوجود التي نخوضها ضد هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين.
والأهمية الاستراتيجية لهذه المعركة في غزة – فلسطين اليوم لها انعكاساتها العميقة على البنية البشرية والنفسية البسيكولوجية العميقة للمستوطنين، باعتبارها تشكل تهديداً أساسياً لمفهوم "الأمن القومي اليهودي" (بين هلالين طبعاً).
وفي الوقت ذاته، تقوم المقاومة في لبنان بفتح جبهة القلمون في سفوح السلسلة الشرقية بين لبنان والشام في ضربة استباقية لأوكار الارهاب وللمسلحين الذين كانوا يعدون خططهم للهجوم في اتجاه مناطق البقاع اللبناني ولا سيما المناطق الشمالية منها، في محاولة لإحداث ثغرة في جدار الحصار من جهة الشام، حيث يقوم الجيش السوري بمحاصرتها وضربها وتفكيك بناها القتالية، ولإحداث فتنة طائفية مذهبية تم الكشف عن خططها… فكانت الضربة الاستباقية لتفاديها ولشل حركة المسلحين الإرهابيين ومنعهم من إعادة ترتيب وتنظيم صفوفهم وتفعيل خططهم القتالية الفتاكة.
خلاصة القول، ثمة حرب تحرير شعبية تخوضها المقاومة من العراق إلى الشام الى الأردن الى لبنان، الى فلسطين، حرب تحرير شعبية ترقى إلى مستوى حرب الوجود ضد أعداء الداخل والخارج معاً، وخصوصية هذه الحرب أنها تمتدّ على كامل الساحة القومية، على كامل الرقعة الجغرافية في المدى السوري، وعلى كامل أرض الهلال السوري الخصيب أي على امتداد الجغرافيا السورية من بلاد ما بين النهرين الى بلاد الشام.
لقد أسقطت حرب الوجود التحريرية الشعبية كل الحدود المصطنعة ما بين هذه الكيانات السياسية الهشّة الضعيفة التي تجر ذيول الخيبات والوهن والانقسامات على أنواعها.
لقد توحّدت سوريا على أرض الصراع، وامتدت معركة المصير القومي على كامل أرضنا القومية في أوضح وأعمق صورة جيو – بوليتيكية، وبالتالي فنتائج هذه المعركة لا يمكن حصرها في رقعة جغرافية، بل أصبح انعكاسها حتمياً على كامل البيئة الطبيعية القومية.
التحديات الآنية جدية وحقيقية وتنذر بالمزيد من الانحلال والتقسيم والضعف والوهن، وبدخولنا نفقاً مظلماً وحالكاً في سواده، اذا لم نتداعَ الى ترميم جبهة المقاومة والممانعة واعادة بناء سريعة في اطار وطني وقومي جامع يتعدى أي اطار ديني أو طائفي أو مذهبي أو اتني جزئي، فتحديات الارهاب والتكفير والتطرف الاجرامي الظلامي، وتحديات الصراع الأساسي مع كيان العدو الاستيطاني الغاصب في فلسطين مع امتداداته الاقليمية والدولية لا يمكن مواجهتها في الميدان إلا من خلال أطر مقاومة وطنية وقومية لها بعد شامل كل معالم الهوية والانتماء الوطني، ولا يمكن ضمان استمرارها الا بالعمل الثقافي الحثيث ذي الطابع التأسيسي للمجتمع والدولة، لكي نستعيد زمام المبادرة… ونحن قادرون على هذا بالفعل، لسبب واحد، ذلك أن هذا المنهج هو منهج المستقبل الحقيقي الواعد ولنا في التاريخ العالمي تجارب وعبر لا بد من استلهام دروسها… كي نربح المستقبل!
حرب الوجود…على مدى الهلال الخصيب…
123
المقالة السابقة