تعتمد الرواية الصهيونية على وعدين ومقولة، الوعد الأول هو الوعد المستند للقاعدة الدينية التوراتية،وهو ما يطلق عليه الوعد الرباني، ويعود لأربعة آلاف سنه مضت ، وذلك عندما منح رب اليهود (يهوه) أرضا لنبيه أبرام (إبراهيم)، على ما جاء في سفر التكوين: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر (النيل) إلى النهر الكبير (الفرات). ونسل إبراهيم في الدعوة الصهيونية المعاصرة هم اليهود المعاصرين الذين لا زالوا يعتقدون بهذا الوعد وصلاحيته الدينية والحقوقية، ويشاركهم في هذا الرأي أتباع المسيحية المتهودة (البيورتانية). ولا زال القادة ألصهيونيون بمن فيهم رئيس الوزراء ألأسبق أرئيل شارون(1) و الحالي، بنيامين نتنياهو، يرددون هذا الرأي، ويحاجّون به. كما يزعم المؤرخون الصهاينة أن اليهود سبق لهم أن مارسوا هذا الحق الإلهي تاريخياً، فقد عاشوا على هذه الأرض، وأقاموا عليها الدول والممالك، وشنوا الحروب وكتبوا الأشعار والملاحم (2)، الأمر الذي يعتريه الكثير من الشك من الناحية التاريخية العلمية، كما أنّه ممزوج بدرجات هائلة من المبالغة.
أماّ الوعد الثاني فهو الوعد المعتمد إلى القاعدة السياسية والصادر عام 1917م عن وزير خارجية بريطانيا، اللورد آرثر بلفور (يهوة القرن العشرين) ، برسالته الموجهة إلى اللورد روتشيلد (إبراهيم الجديد) حيث يقول فيها: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. "وقد سبق هذا الوعد مراسلات بين رئيس المنظمة الصهيونية،الكيميائي البروفسور حاييم وايزمان، وبين الحكومة البريطانية (3)، وهي مراسلات على قدر من الغرابة إذ يرد في نصوصها: إن الحكومة البريطانية ستمنح الشركة القانونية اليهودية سلطة تعطيها الحق في الحصول على أملاك ألدوله في فلسطين وعلى أي أراضي ستؤول للتاج البريطاني، أما السكان الحاليين فأعدادهم قليله جدا وهم معدمون متخلفون (ينقصهم العلم والمعرفة)، وإن تحقيق تقدمهم رهن باستقدام عنصر سكاني جديد لهذه الأرض يتمتع بالعلم والمعرفة والتقدم، بحيث يكون قادراً على إحداث تغيير نوعي في حياة السكان الحاليين، ويدفع بالبلاد نحو النماء والتقدم والتنمية. كل ذلك و كانت فلسطين لا تزال تحت سيطرة الأتراك العثمانيين، ولم تصبح تحت الاحتلال ثم الانتداب البريطاني، ( وهذا يذكر بالمرسوم الملكي الصادر عن الملكة اليزابيث الأولى والتي تمنح فيه شركه الهند الشرقية المحترمة حقوقا في المستعمرات البريطانية في الهند ).
ما تقدم ينسجم مع المقولة التي ذاعت قبل ذلك وتقول أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ونشرها كتاب وأدباء ومثقفون ورحالة إنجليز، كما نشرها الأمريكان البروتستانت الذين جابوا أرض فلسطين وشرق المتوسط منذ منتصف القرن التاسع عشر خاصة. وقد أفرد لها الكاتب الشهير آرثر كوستلر(4) دراسات عدة ، وكان أول من علق عليها ساخرا من مقولة الشعب المختار وعلاقته بنسب إبراهيم ، وذلك في كتابه القبيلة الثالثة عشرة ، كما سخر من الوعد الثاني باعتباره وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
تكمل الرواية الصهيونية على أنها تعبر عن تطور حاجات اليهود الأوروبيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،والتي أدت إلى يقظة الشعب العبري بسبب ظروف الانعزال والانغلاق الاجتماعي والثقافي والنفسي والسلوكي والعيش في الغيتو من جانب وبسبب ظروف القهر والاضطهاد التي عانوا منها في عموم أوروبا (باستثناء بريطانيا) ونظرة المجتمعات الاوروبيه السلبية لهم باعتبارهم مجموعات غريبة و دنيئة تعمل بالربا وتنشر الرذائل ويشوب ولاءها لأوطانها الشك (قضيه دريفوس على سبيل المثال) , الأمر الذي جعل الصهاينة يتداعون إلى عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينه بازل السويسرية عام 1897، وكان في عقد المؤتمر المذكور العلامة الفارقة الأولى والمحاولة الأهم والأكثر جديه لتنظيم يهود العالم من اجل البحث عن مستقبل جديد ومختلف لهم ودوله خاصة لا يضطهدهم فيها احد.
لطالما كانت منطقه شرق المتوسط ذات أهميه قصوى في العالم القديم والحديث على حد سواء, ففي العالم القديم هي الرابط مابين مراكز الحضارة الأولى: حضارات سومر وبابل وأكاد وأسور(أشور) من جهة، وحضارة مصر القديمة من جهة ثانية، ثم ما بين من ورثهما من إمبراطوريات وثقافات فارسيه أو عربيه إسلاميه، اغريقيه أو رومانيه إذ أنها الرابط بين قارات العالم القديم الثلاث اوروربا وآسيا وإفريقيا، الأمر الذي سبب صراعا دائما ما بين الشرق والغرب على ارض هذا الشرق ولا زالت أهميتها قائمه، ولا زالت ارض صراع وإن تغيرت هويات الشرق والغرب المرة تلو المرة.
جعل ظهور المسيحية، ثم وصولها للحكم في عهد الإمبراطور البيزنطي الروماني الشهير قسطنطين ووالدته المؤمنة هيلانه، وذلك في عام 313، من الناصرة والقدس وبيت لحم وموقع عمادة المسيح و جبل التجربة (قرنطل) بالقرب من أريحا، أماكن مقدسة تهوي إليها أفئده المسيحيين في العالم القديم لما لها من قدسية دينية ومكانة روحية ، لا بصفتها الوطنية السياسية، ففيها مهد ولادة المسيح و مدارج طفولته وعليها شاهد العالم عظاته ومعجزاته فهي مملكة الرب و مدينته ومكان الحجيج، وبقي ذلك قائما حتى القرن الخامس الميلادي عندما فقدت بعض من أهميتها إذ تحولت عاصمة المسيحية إلى روما اثر بناء كنيسة الفاتيكان الأولى(5) فوق ضريح القديس بطرس الذي بشر بالمسيحية في روما وتلميذ المسيح الأقرب والذي اعتبره المسيح الصخرة التي عليها تقوم كنيسة الرب.
عصفت الأزمات في أوروبا بالقرن الحادي عشر من فقر ومجاعات وطواعين من جانب، وتنامي أعداد النبلاء والفرسان من جانب آخر مع محدودية الأرض، إذ أصبح في أوروبا نبلاء وفرسان أكثر مما تستطيع الإقطاعيات استيعابه، الأمر الذي أدى إلى حروب دامية، وكان ذلك عقب تنصر أوروبا شبه الكامل(باستثناء الأندلس) ودخول شعوب شمال وشرق أوروبا في الدين المسيحي من جرمان وفايكنغ وسلاف (6) وبروز طاقاتهم الهمجية والقتالية التي لم يجدوا طريقا للتنفيس عنها إلا بالسرقة والغزو وقطع الطرق و ترويع الحياة العامة، فلا بد اذن من إيجاد عدو، وقد تزامن ذلك مع وجود البابا اوربان الثاني الذي كان ينظر بشغف إلى السيطرة على القسطنطينية وإلغاء سيطرة البطريرك المسكوني المقيم فيها (معادله الديني) وتوحيد المسيحية تحت راية الفاتيكان وروما عاصمة الكاثوليكية. وقد وجد البابا اوربان الثاني في استنجاد الإمبراطور البيزنطي بروما على أنها هدية من السماء في الوقت الذي تعاني فيه الامبراطوريه الشرقية من الضعف والترهل وأمراض الشيخوخة والقلق، إثر تمدد وتوسع السلاجقة في آسيا الصغرى والأناضول(7) . هكذا أعلن البابا اوربان الثاني الحرب الفر نجيه الأولى في مجمع كلير مونت 1195 واندفع الأوروبيون إلى الشرق لاستعادة القبر المقدس من أيدي الكفار نبلاء ورعاع ، و هم يرسمون على ملابسهم صليبا احمر ودعيت الحرب بالحرب الصليبية ، ولكن أولى ذبائح هذه الحرب وضحاياها كان من مواطني الامبراطوريه الرومانية الشرقية من المؤمنين بذات الصليب ألا وهم المسيحيون من الروم الارثودوكس الشرقيين الملكيين التابعين للكرسي ألبطريركي المسكوني القسطنطيني البيزنطي المنافس للكرسي البابوي اللاتيني الكاثوليكي، كما لم تنج كنائسهم وأديرتهم من السرقة والنهب والحرق ورهبانهم من القتل والتنكيل, وهذا قبل أن ينال العرب المسلمين شيئاً من ذلك.
دامت هذه الحروب زهاء قرنين من الزمن وانتهت بهزيمة المشروع الغربي برحيل آخر الفرنجة في عهد السلطان الاشرف خليل بن قلاوون، ويرى المؤرخون أنها كانت حروبا قذرة ذات نزعة مادية بحتة، وإن تدثرت بدثار الدين والتقوى ، فلم يكن سعي قادة أوروبا من روحيين: باباوات ورجال دين ، أو زمنيين: من أباطرة وملوك وفرسان ، إلا إلى السيطرة والنهب والبحث عن الثروات أو الأمجاد غير الشريفة وذلك على حساب الشرق كما على حساب الدهماء والرعاع من شعوبهم.
في القرن الخامس عشر تم حسم العالم القديم على قاعدة الشرق خالص للشرقيين وذلك بسقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية على يد محمد الفاتح العثماني سنه 1453م، في حين كان مواطني وعساكر البيزنطيين ينظرون نحو الغرب منتظرين المساعدة العسكرية من البندقية وبيزا وفلورانس وسائر الغرب المسيحي. وكان البطاركة في كاتدرائية آيا صوفيا منشغلون بالنقاش الحاد حول جنس الملائكة ، وأصبح الغرب خالصاً للغربيين بسقوط غرناطة آخر عواصم العرب المسلمين في الأندلس على يد ملوك الكاثوليك فرديناند وإيزابيلا سنة 1492 في حين يتسقط الغرناطيون الأخبار والإشاعات عن قرب وصول الأتراك العثمانيين لفك الحصار عن غرناطة بينما مشايخ وفقهاء المدينة حيارى هل البارود من عمل الشيطان أم الإنسان.
شهد القرن السادس عشر الانقسام المذهبي الأخطر داخل الكنيسة الغربية (الكاثوليكية) وذلك ما بين الكاثوليكية الكنيسة الرسمية والشرعية وما بين المحتجين عليها وعلى سلوك البابا ورجال الدين (البروتستانت) الذين اخذوا من انجلترة دولة حامية لهم متحالفة مع هولندة، وأعادوا الاعتبار للعهد القديم (التوراة اليهودية) على حساب ألأناجيل المسيحية وادعوا أن لا عصمة للبابا وإنما العصمة للكتاب المقدس واندفعوا نحو دراسة اليهودية الأمر الذي دعا كثير من المؤرخين إلى اعتبار البروتستانتية هي اليهودية الجديدة ولكن جمهورها هو من المسيحيين المؤمنين بها (الأغيار)، في حين أن جمهور اليهودية القديمة هو شعب الله المختار فقط, ومنح اليهود كثير من الامتيازات في انجلترة وهولندة وأصبحت قبلة لليهود الباحثين عن حرية.
أعادت البروتستانتية الاعتبار لقداسة القدس على حساب روما(8) وانتشر الإيمان البروتستانتي القائل بأن عودة اليهود لفلسطين ضرورة لا بد منها للعودة الثانية للمسيح المخلص والمنتظر. انتشرت دراسة اللغة العبرية في انجلترة ولدى البروتستانت عموما، وبدأت عمليات إعادة إحيائها، وذلك على حساب اللغة اللاتينية واليونانية القديمة وشحنت أفكار البروتستانت بالمفاهيم التوراتية اليهودية وفي مقدمتها الوعد الرباني وارض الميعاد وشعب الله المختار وضرورة عودة الشعب المختار إلى أرضه الموعودة باعتباره امة وهوية قومية لا دين وإيمان وعقيدة (9) . وانتشرت هواية الحج إلى القدس والترحال في الأرض المقدسة، وقد حاول هؤلاء الرحالة إيجاد صلة بين أي موقع يزورونه بحادثة أو قصة وردت في الكتاب المقدس وسير انبياءة و أبطاله, كان هؤلاء الرحالة أو الحجاج من نبلاء ومثقفين من المؤثرين وأصحاب الشأن في تكوين الثقافة والرأي العام في انجلترة وقد لعبوا دورا هاما ومؤثرا في إحياء العلاقة ما بين اليهود ومن ثم البروتستانت وارض الكتاب المقدس، كما بشرت هذه المجموعات بأن عودة اليهود إلى فلسطين ذات ضرورة، وهي المحرك الفاعل والمهم والضروري الدافع على عودة المسيح وظهوره الثاني.
مما لا شك فيه أن مجموعة من اليهود أو البروتستانت المتهوديين الداعين إلى بث دعاية البعث اليهودي كانت وراء انتشار هذه الأفكار وذلك بصحيفتي التايمز والدايلي تلغراف (10) المملوكتين لعائلة روتشيلد وشركه الهند الشرقية، ومن هؤلاء دبليو. م طومسون المسيحي المتهود ولورنس اوليفانت اليهودي الصميم, وصدرت العديد من الكتب المنشورة عن ذات المصادر وتحمل ذات الأفكار والمضامين والعناوين مثل (فلسطين والتوراة) (ارض إسرائيل) (رحلات إلى ارض الكتاب المقدس) (مملكة داوود) (ارض الاسباط)، وغيرها الكثير و هي جميعها تركز على البعد التوراتي للأسماء والأماكن في حين تصف الفلسطينيين بأنهم رعاة جمال وغنم بشعي المنظر قذرين، باستثناء بعض الوصف لمشاهد أغوات وباشاوات ونسائهم السمينات الكسولات بملابسهن الملونة في قصور الحريم.
عندما بدأت الاكتشافات الجغرافية على أيدي الأسبان والبرتغاليين، سارع الانجليز باللحاق بهم في سباق محموم، إلى أن حسم الصراع بمعركة الطرف الأغر بين الانجليز والأسبان، وخرج الانجليز من جزيرتهم نحو العوالم الجديدة واخذوا يتوسعون بسرعة ما أمكنهم ويجدون في المضطهدين البروتستانت في الدول الكاثوليكية جمهورا جاهزا للسكن في الأراضي الجديدة المكتشفة، كما وجد هؤلاء ملاذا لهم،وعمال وموظفين ومنتجين يعملون لدى الشركات وأصحاب الثروات الجديدة من البروتستانت الإنجليز والهولنديين وبعض الألمان وأهالي مدينه جنيف السويسرية الذين تضخمت ثرواتهم بفضل أفكار منظر البروتستانتية الثاني (بعد مارتن لوثر) جان كالفن حيث تبيح نظرياته الربا، الأمر الذي دعا إلى تطور المؤسسات المصرفية ونموها (البنوك).
أعقب حركة الاكتشافات الجغرافية انتقال بعض إفراد عائلة روتشيلد اليهودية من ألمانيا إلى انجلترة، بعد أن ظهرت الأجواء الجديدة في لندن والامتيازات والتسهيلات و التسامح تجاه احفاد يعقوب التي حصل عليها اليهود في انجلترة ، وما بها من استقرار مالي وفرته النظريات الاقتصادية البروتستانتية و ما يتدفق عليها من ثروات العالم الجديد، سرعان ما أصبحت العائلة الأبرز في ماليا في المجتمع الانجليزي وممولا للحكومة ومشاريعها وللملكة وطموحاتها ومقرضا للنبلاء والسياسيين وربابنة البحار المغامرين، وتسيطر على جزء مهم من الأساطيل التجارية التي تنقل البضائع عبر العالم التي تتمتع بحماية البحرية الانجليزية وعلى تجارة الشاي والتوابل والحرير والقطن وعلى صناعة النسيج.
في عام 1600 تأسست في لندن شركة الهند الشرقية الانجليزية المحترمة على يد عائلة روتشيلد (11) ، وأصدرت الملكة إليزابيث الأولى مرسوم إنشائها الذي صدقه البرلمان فورا ونص على منح الشركة سلطات احتكارية وإدارية واسعة على تجارة الهند وجميع المستعمرات الانجليزية في جنوب شرق آسيا وبانفرادها باحتكار أي معاملات أو نشاط تجاري في الإقليم المذكور، وبهذا جعل المرسوم من القوات الانجليزية والإدارة المدنية أتباعا للشركة التي تحولت إلى حكومة تصدر العملة النقدية وتنظم البريد وتتحكم بالاقتصاد والإدارة . سرعان ما تأسست مجموعة من الشركات التي تحمل ذات الاسم منها شركه الهند الشرقية الهولندية سنة 1602والبرتغالية 1628 وغيرها في فرنسا والنمسا ودول أوروبيه أخرى. أهم فروع الشركة بعد الفرع الانجليزي كان الفرع الهولندي الذين اتحدا وأصبحت شركه الهند الشرقية المتحدة تحكم وتسيطر على الهند والصين واندونيسيا وأجزاء واسعة من آسيا وجنوب إفريقيا وروديسيا وأجزاء شاسعة أخرى من إفريقيا أي ما يزيد على نصف سكان العالم.
تغير اسم شركة الهند الشرقية أكثر من مرة، وتفككت وأعيد تركيبها مرات عدة، ولكن المالك الرئيس في الشركة بقي ثابتا وهو عائلة روتشيلد الذين توسعت أعمالهم عبر فروع الشركة في سائر أوروبا، أدركوا أهمية الرأي العام فأسسوا الصحف ووسائل الإعلام وسيطروا على دور النشر وشركات الطباعة، ومولوا الأحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية والخيرية، وصرفوا المال على الحروب والنزاعات، ومن أوضح الأمثلة على ذلك أنهم مولوا نابليون وأعداءه على حد سواء (مولت عائلة روتشيلد الحروب النابليونية ب 100 مليون جنيه استريني وذلك بدعم نابليون وأعداءه على حد سواء )، وحققوا أرباحا هائلة اثر معركة واترلو بسبب تفوق نظام البريد الخاص بهم وبفضل نظام البريد هذا عرفوا نتيجة المعركة قبل أي أحد آخر، (12) ويذكر أن اللورد روتشيلد ذهب صباح ذلك اليوم بمظهر بائس وثياب رثة لسوق لندن المالي ومعه حقائب مليئة بسندات الأسهم لبيعها، افترض الجمهور أن الهزيمة قد لحقت بالمعسكر الانجليزي وحلفاءه وأن نابليون قد انتصر لذلك فان روتشيلد يريد الخلاص السريع من اسهمة المعرضة للخسارة, فقام الجمهور ببيع اسهمة بأسعار بالغة التدني في حين كان موظفي روتشيلد يقومون بالشراء، في اليوم التالي ظهرت نتيجة الحرب بانتصار انجلترة وتحالفها وهزيمة نابليون النهائية،ارتفعت أسعار الأسهم فوق ما كانت عليه وبذلك حقق روتشيلد أرباحا قدرت في حينه ب 20 مليون جنيه إسترليني خلال 24 ساعة.
قرر جنرال فرنسا الشاب والطموح نابليون بونابرت الابتعاد عن أجواء السياسة الفرنسية المريضة ومؤامراتها ولو إلى حين, ولاحظ أن عصر الاكتشافات الجغرافية قد انقضى، فلم يعد هناك مكانا في العالم لم يكتشف بعد، اتخذ بونابرت قراره بإعادة اكتشاف العالم القديم, وأبحر إلى مصر بعساكره وعلمائه، وفي ذهنه أمجاد الحروب القديمة وأبطالها ومبتعدا بذلك عن باريس وأجوائها المريضة وقاطعا الطريق البري القديم للهند أمام خصوم فرنسا الانجليز والهولنديين.هذه الحملة كان لها أبعادها ومفاعيلها الطويلة المدى والتي فاقت ما كان بذهن نابليون. أدرك الجنرال معايير الأمن القومي لمصر وأن مفتاح أمنها في عكا (فلسطين) ودون السيطرة على عكا تكون مصر مكشوفة استراتيجيا و التالي لا بد له من تأمين مصر باحتلال فلسطين و هذا يعني الاشتباك من جديد مع الدولة العثمانية. زحف نابليون بعساكره على طريق الساحل مدمرا و محرقا و فاتحا إلى أن توقف طويلا أمام أسوار عكا عاجزا أمامها بسبب مناعة تحصيناتها وأمام صمود وعناد الجزار باشا المدعوم بحرا من الأتراك العثمانيين ومن الأسطول الانجليزي, وارتد ناقما مهزوما ولكن بعد أن أدرك ضرورة إنشاء جسم غريب في فلسطين يفصل مصر عن المشرق (13) ، ومن خارج الأسوار أطلق نداءه إلى يهود العالم (بالطبع عبر روتشيلد باعتباره اليهودي الأول) وقد ورد في النص: "إلى الشعب اليهودي العظيم….. ألا عودوا إلى ارض آبائكم… ألا هبوا فها قد سنحت الفرصة التي قد لا تتكرر ثانية من اجل استرداد حقوقكم التي حرمتم منها طيلة إلفي سنة ومن اجل استعادة كيانكم السياسي كأمة…."
عاد نابليون إلى مصر مهزوما ومأزوما ليسلم القيادة سريعا إلى نائبة الجنرال كليبر و يعود إلى فرنسا وبقيت الحملة الفرنسية بعد ذلك قرابة السنتين إلى أن غادر آخر جندي فرنسي مصر في أيلول 1801، وبذلك طويت صفحة الحملة كاحتلال ووجود فيزيائي ولكن آثارها بقيت مستمرة.
استطاع الوالي العثماني محمد علي باشا الألباني إحكام قبضته على مصر بعد مذبحة المماليك، الذين مثلوا القوة العسكرية والسياسية في مصر لقرون ولكنهم في أواخر أيامهم فقدوا شكيمتهم القتالية وترهلت هياكلهم الإدارية ولم تصمد أمام الصدمة العسكرية والعلمية التي أحدثتها الحملة الفرنسية وما قدمت من نماذج متطورة وغريبة في المجالات العسكرية أو الاداريه. الخلاص من المماليك فتح الباب واسعا أمام باشا مصر المستنير والمصاب بالدهشة مما رأى من آثار الحملة الفرنسية وتقدمها ونماذجها العلمية والإدارية والعسكرية. ابتعث محمد علي أعداد غفيرة من الشباب المصري إلى فرنسا لدراسة العلوم الحديثة وفي شتى الميادين العسكرية والصناعية والزراعية والاداريه والعمرانية، وعندما عادوا كان منهم الأطباء ومهندسي الجسور والسدود ومخططي المدن والزراعيين وخبراء الري والإداريين والمحاسبيين والحقوقيين، الأمر الذي جعل مصر قوة لا يستهان بها. أما حفيدة الخديوي إسماعيل فقد استطاع إكمال مسيرة جدة فأصبحت مصر في عهدة من الدول المتقدمة والمستقلة وأن تبعت شكلا للدولة العثمانية، انتشرت دور العلم وتأسست دار العلوم (جامعة) ودواوين الفتوى والتشريع والمحاسبة والموظفين, ولمصر برلمان ووزارة خارجية ومعاهد للفنون الجميلة ودار للأوبرا, ولكن الحدث الأبرز عالميا وتاريخيا كان في المشروع المشترك بين الخديوي المستنير والمسرف وبين المهندس المثقف والعبقري الفرنسي فرديناند دو ليسبس وهو شق قناة السويس الذي فصل قارة آسيا عن إفريقيا وجعل من الهند والصين واندونيسيا وسائر المستعمرات الانجليزية اقرب مما كانت علية إلى أوروبا وأسواقها عندما كانت الأساطيل التجارية تبحر عبر رأس الرجاء الصالح، هذا المشروع أصبح قطب الجذب للقوى الاقتصادية العالمية والقوى الاستعمارية التي أرادت بعد حملة نابليون إعادة اكتشاف العالم القديم بعد أن أتمت اكتشاف العوالم الجديدة.
كان الخديوي إسماعيل ذو طموح تنموي وسياسي استقلالي واسع مع إعجاب كبير بالنموذج الفرنسي-الايطالي، ولكنه كان شديد الإسراف وبالغ الاستعجال مما جعل طموحاته تفوق امكانياتة، ومن اجل الاستمرار في مشاريعه ألطموحه واسرافة الشديد لجأ الخديوي للاستدانة من البنوك الأوروبية، ولم تكن الصدفة هي التي جعلت من بنوك وشركات روتشيلد الأسرع والأسهل في تلبية الحاجات المالية والنقدية للخديوي، فقد شعر ليونيل روتشيلد بما يملك المرابي من حس فائق بذلك وكان يعرف أن الخديوي سيعجز عن السداد وبالتالي سيضطر لبيع أسهم مصر قي شركة قناة السويس والتي كانت أساطيل وسفن روتشيلد المبحرة ذهابا وإيابا عبر القناة زبونها الأول، أما في انجلترة فقد استطاع روتشيلد إقناع أو إلزام الملكة فيكتوريا والبرلمان الانجليزي بتكليف صديقه اليهودي بنجامين دزرائيلي (اللورد بيكونسفيلد فيما بعد ) بتشكيل الحكومة، وهو الذي أمعن في توريط السياسة الانجليزية في مصر وشرق المتوسط (14) وفي دعم ألدوله العثمانية باعتبارها خط الدفاع الأول في مواجهه التمدد الروسي، كما استطاع دزرائيلي الحصول من روتشيلد على قرض لشراء 44% من أسهم شركة قناة السويس لصالح الحكومة (15) برغم معارضة الحكومة والبرلمان, وبذلك أصبحت الحكومة الانجليزية وروتشيلد وشركاته ومصارفه يملكون أكثر من 50% من أسهم شركة قناة السويس. الأمر الذي مهد لاحتلال الإنجليز لمصر عام 1882تحت ذريعة حماية حصصهم واستثماراتهم في شركة قناة السويس, وهكذا تؤمن شركة الهند الشرقية وصاحبها اللورد روتشيلد والحكومة البريطانية شرايينها المالية بالحفاظ على خطوط اتصالها مع مستعمراتها في الهند والصين واندونيسيا وباقي آسيا وتقطع الطريق أمام منافسيها.
وفق منطق الأمن الاستراتيجي المصري والمتبع منذ القدم، كان لا بد من التفكير بحماية قناة السويس من الشرق وهو الأمر الذي راود روتشيلد منذ البدء بتنفيذ مشروع قناة السويس، من هنا ظهرت فكرة إقامة وطن قومي لليهود في سيناء التي أطلقوا عليها في أدبياتهم اسم فلسطين المصرية، وقد تم نشر الكثير من الأدبيات في انجلترة وألمانيا والنمسا بهذا الخصوص، تتحدث عن سيناء ومكانتها اليهودية، وعلاقاتها بالوصايا العشر والفصح اليهودي والمن والسلوى وموائد السماء, إضافة إلى الروايات عن التيه وبطولاته و قصصه وعذاباته كما حصل في المرة الأولى، وأن لا بد لليهود قبل الدخول إلى فلسطين من الضياع مرة أخرى في تلك الصحراء، فهي المطهر والممر الإلزامي لفلسطين ولهذه القصص والنظريات ما يؤيدها في التوراة والأساطير اليهودية. لكن المشروع فشل وتم التخلي عنه بسبب جفاف الصحراء وصعوبة نقل المياه إليها في ذلك الزمن، إضافة إلى عدم الرغبة في إثارة غضب الأتراك العثمانيون الذين يمثلون ضرورة سياسية للانجليز باعتبارهم خط الدفاع الأول أمام التمدد الروسي.
تيودور هرتسل يهودي نمساوي شاب غير متدين (16) (و ربما غير مؤمن) ولا يعرف اللغة العبرية ولم يمارس صلاة أو يتبع أي طقس ديني يهودي، ويقول من كتبوا سيرته من المؤرخين انه كان يرغب بالتحول للمسيحية لولا اشفاقة على والدة. عمل محاميا في فيينا- النمسا , ولم يصب نجاحا في المهنة فتحول للكتابة المسرحية ومراسلة احدي الصحف في شؤون النقد المسرحي، وقد وصف النقاد عملة المسرحي (الغيتو) بأنه عمل متواضع ولا ينم عن موهبة.عانى من مشاكل مالية اعتقد أنة قادر على حلها بزواجه من فتاة تنتمي إلى أسرة ثرية، لكن زواجه الذي أنتج ابنتين وابن فشل فشلا ذريعا بسبب انه كان يعاني من أمراض جنسية مزمنة يبدو انه انتقلت إلى أبناءة الذين عاشوا حياة قلقة ومتعثرة أفضت باثنين منهم للانتحار أما البنت الثالثة فقد تزوجت وأنجبت ابنا ولكنها قضت نهايتها في مستشفى للأمراض العقلية أما ابنها الوحيد الباقي من صلب هرتسل فقد أقدم على الانتحار على غرار أخواله.
بشكل مفاجئ تحول هرتسل من رجل عصري علماني مندمج في الحياة الأوروبية إلى يهودي متحمس يضع على عاتقه البحث عن خلاص اليهود في العالم, وتشير كثير من المصادر انه كلف بذلك من قبل روتشيلد كما يتضح من رسائله للورد روتشيلد (17) والتي تشبه تقارير يرسلها الموظف لرب عملة. في عام 1895 ألف هرتسل كتابة الشهير دولة لليهود باللغة الالمانيه والذي ترجم خطأ فيما بعد بعنوان الدولة اليهودية، إذ طالب في كتابة هذا بدولة خاصة لليهود يعيشون فيها دون اضطهاد أو إكراه في الدين, وقدم اقتراحات افتراضية لمكان قيام الدولة واضعا خيارات واحتمالات في فلسطين أو سيناء أو قبرص أو اوغندة أو الأرجنتين، أثناء ذلك كان هرتسل يجري الاتصالات باليهود عبر العالم لتنظيم عقد مؤتمر يهودي ومناقشة أساليب الخلاص ومنها الدولة المذكورة، أسفرت الاتصالات عن عقد المؤتمر في المدينة السويسرية بازل بعد أن تعذرت إمكانيات عقدة في ميونخ الألمانية كما كان مقررا.تواجد في بازل قرابة 600 يهودي على أن أعضاء المؤتمر الذين يحق لهم التصويت كان 204 عضوا،
في خطاب الافتتاح القصير (18) كان واضحا انحياز هرتسل لفلسطين مكانا لدولة اليهود، إلا انه أبقى الباب مفتوحا أمام خيارات أخرى, فالمؤتمر لم يقطع بمكان وإنما تحدث عن توفر خيارات متعددة منها فلسطين واوغندة والأرجنتين. شكل المؤتمر نقطة البداية والانطلاق للمشروع اليهودي العالمي والذي أصبح يحمل اسم المشروع الصهيوني، وتم في المؤتمر تأسيس الهيئات القيادية ومناقشة أحوال ألجوالي اليهودية وتأسيس صندوق مالي بقيمة 2 مليون جنيه إسترليني وتم انتخاب هرتسل رئيسا للمؤتمر ورئيسا للمنظمة الصهيونية العالمية, وتم تكليف بمهام الاتصال بالعواصم العالمية المقررة وذات النفوذ الدولي من اجل إنجاح المشروع وضمان تأبيدة ورعايته.
ما تؤكد عليه رسائل هرتسل إلى اللورد روتشيلد (19) وبعضها يعود إلى ما قبل عقد المؤتمر الصهيوني الأول ببضع سنين أن لهذا الأخير مصالح في اوغندة تتعلق بمنابع النيل وتجارة الأملاح والعاج وله كذلك مصالح في الأرجنتين حيث مصدر اللحوم الأول، كما في فلسطين لحماية مصالحه في قناة السويس، وهذا الدافع الاقتصادي ألمصلحي هو ما يجعل رجل المال الأول في العالم يوظف اليهودي غير الملتزم بالعمل على مشروع دوله لليهود وعلى عقد مؤتمر بازل. من الجدير ذكره أن اللورد روتشيلد مول شراء أراضي في فلسطين واقامه قرى يهودية عليها (مستوطنات) منها أراضي بالقرب من يافا وأخرى في عتليت وزارها في عام 1895.
توصلت انجلترة إلى تسوية خلافاتها مع روسيا القيصرية، وبالتالي لم تعد ألدوله العثمانية ضرورة من ضروراتها السياسة وتتحاشى إغضابها. كان من الواضح منذ مطلع القرن العشرين أن الدولة العثمانية قد حسمت خياراتها باتجاه التحالف مع ألمانيا ومحورها وقام القيصر الألماني غيلوم بزيارة السلطان عبد الحميد وأكمل ترحالة بزيارة دمشق والقدس, وشرعت الشركات الألمانية بتنفيذ مشاريع ربط اسطنبول بالبصرة والحجاز بالسكك الحديدية. أعاد ذلك الاتفاق الروسي الانجليزي فلسطين إلى واجهه الأولويات كمكان تقوم به الدولة اليهودية وهو بديل مريح ففلسطين تملك من الجاذبية الروحية والدينية ما لا يتوفر لسواها من الخيارات خاصة بكل ما استثمر أدبيا وفكريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
عقد في لندن عام 1907 (20) مؤتمر الدول الاستعمارية حيث برز نجم رئيس الوزراء الانجليزي هنري كامبل بانرمان، بصفته فيلسوف المؤتمر وواضع تقريره النهائي الذي ينص :أن منطقة شرق المتوسط (بلاد الشام والعراق) وشمال إفريقيا (بما فيها مصر ) هي الوريث المحتمل للحضارة الغربية – حضارة الرجل الأبيض- الحضارة اليهومسيحية، وهي منطقة تتسم بالعداء الشديد والبغض للحضارة الاوروبيه ولذلك يرى المؤتمر ضرورة العمل على المسائل التالية:
1- تقسيم هذه المناطق ، ومنع قيام دول مركزية قوية فيها.
2- عدم السماح بنقل التكنولوجيا والمعارف الحديثة لهذه المناطق ومنعها من التقدم والتطور.
3- إثارة النزاعات والعداء بين شعوبها وطوائفها واثنياتها وإشعال الحروب الأهلية بينهم.
4- زرع جسم غريب ومعادي لشعوب المنطقة ومواليا للدول الاستعمارية وفي خدمتها على أن يفصل بين شرق المتوسط وشمال إفريقيا ، وأن يحول دون استقرار المنطقة ويمثل عامل قلق واضطراب وتفرقة.
بالطبع لمن يكن بانرمان بعيدا في طرحه هذا عن أفكار ومصالح اللورد روتشيلد وعن أفكار ومقررات المؤتمرات الصهيونية التي تعاقبت وحسمت أمر مكان دولة اليهود في فلسطين ففي هذا الحل حماية من الشرق لقناة السويس .
هكذا تقترب الصورة التي يحاول هذا البحث تقديمها من الوضوح , و ذلك بأن المشروع الصهيوني من أساسة و الدولة اليهودية التي أقامها فيما بعد على ارض فلسطين ليسا إلا تعبيرا عن التحالف ما بين رأس المال الجشع و المتوحش بلا حدود , و بين القوى الاستعمارية التي تحاكيه جشعا و وحشية , و هو تحالف لا يملك أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية , و لم تكن الأدبيات و الروايات التوراتية و البعاد الدينية الانجيليه (البروتستانتية) و الوعود الربانية إلا مبررا و أداة لتحقيق هذه الأهداف .
1-كارل عيسى صباغ,فلسطين تاريخ شخصي,المؤسسة العربية للدراسات و النشر,2013,ص95
2-j.m.n Jeffries, Palestine:the realty, longmams 1939,p11
3-ipid
4-arthur kostler,promise and fulfillment 1917-1949,macmillan 1949 ,p4