مقدمة
تلقيتُ دعوة كريمة من المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق ومركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي للاشتراك في هذا المؤتمر بعنوان "جماعات العنف التكفيري: الجذور والبنى والعوامل المؤثرة". للوهلة الأولى شعرتُ أن الموضوع بعيد عن دائرة اهتمامي ويتطلب باحثين في الدين وعلم الاجتماع، لكني وبسرعة أعربت عن الموافقة واعداد ورقة للمؤتمر. لماذا وافقت وأنا مَن أمضى اربعين عاماً في الخدمة العسكرية كانت جلها في قيادة الجند والتدريب والعمليات والتحقيقات والانضباط والإدارة؟ وافقت لأني شعرت ان هذه السنوات أكسبتني معرفة لموزاييك المجتمع اللبناني المؤلف من 17 طائفة، فقد تسنى لي لقاء اشخاص من جميع الطوائف للبنانيية والعيش معهم ومزاملة حمل السلاح والعيش في مختلف الظروف. كما كان للمواجهات بين الجيش اللبناني وتنظيم القاعدة في الضنية في مطلع الالفية الثالثة واستمرار هذه المواجهات وصولاً إلى معارك نهر البارد في شمال لبنان العام 2007 تأثير كبير على التوجهات العسكرية والسياسية في لبنان.
كان الانتماء الطائفي والمذهبي يُسهم بتكوين الثقافات إلى جانب الانتماءات الجغرافية والقبلية والعشائرية والجهوية. ما اود ان اقوله تحديداً ان الدين والطائفة لم يكونا المحددين الاساسيين للثقافة الاجتماعية، كما هو الحال اليوم، اذ ثمة متغيرات طرأت في المنطقة ادت إلى هيمنة الفكر الديني لدى كل الطوائف وتراجع الانتماءات الاخرى، وساقها هذا الفكر في مسارات معقدة واوصل البعض إلى سوء فهم للدين وسوء استخدام للمعتقدات الدينية، وصولاً إلى ظهور ما وضع عنواناً لهذا المؤتمر وهو العنف التكفيري. في جانب آخر مضيء استخدمت العقيدة الدينية لأجل تمتين اواصر مجموعة وحشد طاقات اخرى لاجل مواجهة أخطار شتى وفي أحيان كثيرة لتطوير بعض المجتمعات وتنميتها.
الفكر القومي والفكر الديني
في عهد الاستعمار أو الانتداب الفرنسي والبريطاني نشأت فكرة القومية والوطنية في معظم الدول العربية، وفقاً للتقسيمات السياسية التي وضعها الانتدابان الفرنسي والبريطاني. نشأ حزب البعث بأفكار زكي الارسوزي من لواء الاسكندرون وميشال عفلق الدمشقي ونشأت حركة القوميين العرب بأفكار جورج حبش الفلسطيني ومحسن ابراهيم اللبناني وباستلهام جمال عبد الناصر. ترافق ذلك مع نشأة حزبين إسلاميين هما جماعة الاخوان المسلمين في مصر بأفكار حسن البنا وحزب التحرير الإسلامي في فلسطين وبلاد الشام بأفكار تقي الدين النبهاني. لاول مرة في التاريخ تحول الإسلام إلى حزب سياسي فقد كان من قبل، دين الأحزاب السياسية جميعها القومية والوطنية والاشتراكية وحتى الشيوعية اذ ان هذه الاحزاب فصلت الانتماء الديني عن الانتماء السياسي.
الإسلام حزب. أمر جديد وخطير فهمته العامة أن من ينتسب إلى هذا الحزب فهو مسلم، ومَن لا ينتسب اليه فهو ليس مسلماً! واذا كان الحزب دعوياً وليس سياسياً، كما يقال، فهذه مسألة اخطر، أي انه يدعو إلى الإسلام وكأن اهل هذه البلاد ليسوا مسلمين. هذه بعض من عوامل قلق عميقة الجذور في التاريخ العربي والإسلامي وفي الحاضر ايضاً، والتي طالما طرحت اسئلة انطلاقاً من تراكمات تاريخية فقهية، لم تتمكن المؤسسة الدينية الرسمية من تقديم تفسيرات موحدة وقاطعة ومقنعة للشباب المسلم القلق. من هذه الاسئلة المقلقة، هل كان في التاريخ وجود لدولة إسلامية؟
ما خلا فترة المدينة وادارة محمد رسول الله (ص) للناس اختلف المسلمون حول ما اذا كان هناك دولة إسلامية ام لا، لكنهم اكثر ما اجمعوا هو وجودها على عهد الخلفاء الراشدين. لكن عهد الخليفة الثالث عثمان والنهاية المأساوية بمقتله والفتن والحروب الداخلية التي رافقته وتبعته وعصفت بالمسلمين وتعدد الروايات وتناقضها في بعض الأحيان، لم تترك لنا رواية عن ادارة إسلامية مستقرة ونظم واضحة بل ممارسات واقوال الخلفاء ابو بكر الصديق الذي انشغل بحروب الردة، وعمر بن الخطاب الذي انشغل بفتح الشام والعراق والخليفة الرابع علي بن ابي طالب في الفترة القصيرة نسبياً التي تمكن فيها من ادارة شؤون الناس في الكوفة. بعدها تحول الإسلام إلى سلطة وتحولت الخلافة إلى مؤسسة سياسية ثيوقراطية دينية وراثية من دون سند شرعي من القرآن ولا من السنة، على حد ما أثار علي عبد الرازق مطلع القرن الماضي(1). كما تحولت الدولة إلى كيان إمبراطوري ضمّ شعوباً واثنيات وديانات ومذاهب متعددة. بعد ثورات وقلاقل مستمرة خلال فترة الخلافة الاموية القصيرة. انتهت هذه الخلافة بالقضاء على بني امية فيما يشبه التطهير العرقي بالعائلة وحلّ بنو العباس في سلطة لم تختلف كثيراً عن سلطة بني امية.
ما نقصده انه لم تكن في تاريخنا دولة إسلامية نموذجية نستلهم منها أفكاراً، بل كان الإسلام شعاراً ودستوراً لدولة تأخذ منه ما يفيد سلطتها وهي سلطة الخليفة الذي يحكم نظرياً بشريعة الله فيما يطبق عملياً مصالحه السياسية وليس مقتضيات الشريعة. انشأت الخلافة الإسلامية، سواء كانت اموية او عباسية او فاطمية او عثمانية، نظام إمبراطوريات عائلية وراثية يشبه إمبراطوريات العائلات في الغرب الأوروبي مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الكارولنجية. لكن الإسلام، ورغم تخبط السلطات السياسية الحاكمة وتغيراتها، احتفظ بمخزون عقائدي روحي عميق مكّنه من الصمود والبقاء في وجه التحديات السياسية والفكرية والثقافية وكان القرآن، كتاب المسلمين، دستوراً ومرجعاً روحياً وفقهياً وفلسفياً حافظ على الدين واللغة والخطوط العامة الثقافية وشكل مرجعية لجميع المسلمين لم يختلف أحد عليها. هذا المخزون الروحي جرى استخدامه في حالات في الشؤون الداخلية وإدارة شؤون الناس بالعدل وفي التعبئة ضد الاحتلال ومقاومة الغزوات وأخصها غزوات الفرنجة التي اصطلح على تسميتها بالحروب الصليبية، كما أسيء استخدامه في الحروب بين الدول الإسلامية، حرب العباسيين مع الأمويين وحرب الفاطميين على العباسيين وحرب العثمانيين على المماليك والصفويين أو الحروب الداخلية في الخلافات الإسلامية مثل حرب الأمين والمأمون وثورات محمد النفس الزكية والزنج وغيرها. لم يستطع الفقهاء تقديم اليقين الإيماني لجميع المسلمين فدخلت حركات فلسفية وغنوصية، ونشأت مذاهب وفرق تأثرت بالفلسفات اليونانية والهندية والفارسية واختلطت بالمسيحية واليهودية، وتكاثرت الاتهامات بالخروج على الدين، من الخوارج إلى المعتزلة إلى الغلاة إلى الاسماعيلية بفروعها وغيرها. لم تقدم المؤسسة الدينية عبر التاريخ تفسيرات واضحة للتعامل مع هذه الاختلافات وأسهم الفلاسفة من الكندي إلى الغزالي وابن سينا وابن رشد في تحريك العقل داخل الإسلام باتجاهات شتى. جاء ابن تيمية في القرن الرابع عشر ليصدر اول فتاوى بحجم كبير وليكفر قسماً كبيراً من المذاهب الإسلامية(2). توقف الفقه عند ابن تيمية لسبعة قرون شهد فيها الإسلام والمسلمون سباتاً فكرياً وثقافياً وسياسياً عميقاً عبر عنه شاعر عصر الانحطاط ابن الوردي، حين قال:
صدق الشرع ولا تركن إلى رجل يرصد في الليل زحل
جانب السلطان واحذر بطشه لا تعاند من إذا قال فعل
حبك الأوطان عجز ظاهر فاغترب تلق عن الأهل بدل(3)
سقوط الخلافة والمشاريع القومية
مع سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 انطلقت اليقظة الوطنية والقومية والإسلامية، لكنها لم تحمل جوامع مشتركة للمسلمين، رغم التنوير الذي شهدناه من الافغاني ومحمد عبده وغيرهما. في الشرق الاقصى المسلم، اسهمت كتابات ابو الأعلى المودودي وحسن الندوي في خلق تشدد إسلامي كان مطلوباً لمواجهة الاحتلال البريطاني. لم يوافق مسلمو شبه القارة الهندية على طروحات غاندي لوحدة الهند، وانشأوا أول دولة تحمل اسم دولة إسلامية في التاريخ: جمهورية باكستان الإسلامية. لكن هل كانت باكستان دولة إسلامية وهل هي اليوم كذلك؟ هناك خلافات حول هذه الفكرة. انشغل مسلمو القارة الهندية بمواجهة الهندوس ومنافستهم اكثر من انشغالهم في بناء دولة عادلة تشكل نموذجاً للإسلام القائم على التآخي بين الناس والمساواة، فغاب التأثير الإسلامي الملهم والادارة العادلة والراشدة لشؤون المسلمين عن اكبر تجمع إسلامي يضم حالياً نحو 550 مليون مسلماً في باكستان وبنغلادش والهند ما زالوا يعانون من الفقر والتخلف والبطالة وسوء الحاكمية.
سقط مشروع النهضة السورية مع إعدام انطوان سعاده عام 1949، وسقط المشروع القومي العربي بعد هزيمة مصر وسوريا والأردن عام 1967، وانتهى مع رحيل جمال عبد الناصر عام 1970. بعدها سيطرت انظمة حكم عسكرية شبه قومية وعلمانية في مصر وسوريا والعراق، هناك اختلافات حول ما اذا حققت تقدماً للدولة والمجتمع ام لا. وفي النهاية تصدعت هذه الدول او انهارت جراء التدخل الخارجي والانقسامات الداخلية أيضاً. أسهم ذلك التصدع في تصاعد التيارات الدينية وانتشار التدين بين القوميين والوطنيين.
تحوّل كبير: الثورة الإسلامية في إيران
عام 1979 حصل تحول كبير في تاريخ المنطقة وهو نجاح الثورة الإسلامية في إيران. كانت هذه الثورة فعلا ثورة شعبية مثل الثورة البلشفية أو الثورة الفرنسية، وثورة دينية اتخذت من الإسلام ايديولوجيا محركة، وثورة حكمية اتخذت من الامام الخميني قائداً كاريزمياً ذا سطوة واسعة وتبجيل واحترام وثورة سلمية لم يستعمل فيها الثوار السلاح وفصل القضاء وحده في أمر الجائرين. نشأت الجمهورية الإسلامية في إيران بعد باكستان (إذا استثنينا موريتانيا)، وخلافاً لما جرى في باكستان من اعتماد التعددية الحزبية السياسية، نشأ في إيران لاول مرة في التاريخ نظام إسلامي يختلف المراقبون ومن بينهم إيرانيون على درجة اكتماله. قدمت الثورة الإسلامية نموذجاً في الثبات والصمود رغم الحروب والحصارات التي تعرّضت لها والعقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها، فحققت تنمية اقتصادية مشهودة وأصبحت قوة إقليمية ودولية لها اعتبارها وأظهر نظامها السياسي حيوية في تداول السلطة ودرجة عالية من المناعة ضد الانقسامات وسيطرت على مشاكلها وفتحت أبواب الحلول.
على صعيد نظرة الثورة إلى العالم الإسلامي وتأثيراتها، فقد أعلن الإمام الخميني من قبل، واليوم السيد علي خامنئي عن الصحوة الإسلامية وقبلهما ومعهما الراحل السيد محمد حسين فضل الله عما سماه الحالة الإسلامية، لكن السؤال يطرح، إلى أين وصلت هذه الصحوة؟ وكيف أصبحت هذه الحالة في وضعنا الراهن؟
جذور القاعدة
عودة إلى مطلع القرن الماضي عندما تمكّن الملك عبد العزيز، الذي عرف بابن سعود، من توحيد قسم كبير من جزيرة العرب، مستنداً إلى تحالف سياسي بين آل سعود والمؤسسة الدينية الوهابية واتخذ قوة عسكرية دينية عمادها تحالف القبائل مع جيش "اخوان من أطاع الله" المعروف بجيش الاخوان. احتل ابن سعود الحجاز والإحساء وعسير ونجران وجيزان، لكن نشب خلاف مع جيش الإخوان الذين طالبوه باستمرار التوسع نحو بلاد الشام والعراق، كما كان الحال في الدولة السعودية الأولى، فيما كان عبد العزيز يكتفي بالحدود الحالية للدولة. قضى ابن سعود على جيش الاخوان في معركة السبلة العام 1929 وتوتر الحلف القبائلي الديني الوهابي، وانتهى إلى سيطرة آل سعود والقبائل المتحالفة معهم، وخصوصاً في نجد، على السلطة على حساب تراجع المؤسسة الدينية الوهابية. اصطدمت الاسرة السعودية بالوهابية المتشددة Puritan Wahhabism المتمثلة بجيش اخوان من اطاع الله، لكنها لم تقض عليها فكرياً. في هذا البلد الغني بثروة النفط انكمشت الوهابية المتشددة واختمرت ثم تفجرت العام 1979 في حركة جهيمان العتيبي الذي سيطر على الحرم المكي الشريف. بعد القضاء على ثورة جهيمان جسدياً تبين أن هذه العقيدة ما زالت قوية وراسخة في نفوس العديد من الشباب في المملكة، وخصوصاً في نجد. وما إن أطلت تسعينيات القرن الماضي ووطأت ارض الجزيرة اقدام مسيحية في عملية عاصفة الصحراء حين احتشد مئات آلاف الجنود الاميركيين والأوروبيين في جزيرة العرب من أجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، حتى تحرك اسامة بن لادن وأتباعه من الوهابيين المتشددين وغالبية المجاهدين العرب السابقين في افغانستان وأنشأوا تنظيم القاعدة ونجحوا العام 1996 في إنشاء دولة إسلامية في افغانستان أُعلن الراحل الملا عمر فيها أنه خليفة المسلمين.
تصادم إسلامَيْن
اصبحنا امام إسلامَيْن: وهابي متشدد في افغانستان وشيعي إمامي في إيران بالاضافة إلى إسلام السلطة في ممالك الخليج وباقي الأنظمة العربية.
إذا كانت جماعة الاخوان المسلمين أسهمت في قبول المسلمين السنة للثورة الإسلامية الإيرانية، وكانت أول مَن هنّأ الإمام الخميني بانتصار الثورة، فإنها لم تستطع الصمود في وجه الوهابية المتشدّدة الممثلة بالقاعدة ولا امام الدول المنافسة لإيران، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي الذين نظروا إلى إيران بارتياب، وأعربوا عن خشيتهم من تصدير الثورة الإسلامية إلى بلدانهم. تحالف الاخوان المسلمين – إيران ظهر في لبنان وتحديداً في مدينة طرابلس في الشمال عبر حركة التوحيد الإسلامي. إزاء ذلك عززت السعودية وهي الدولة العربية الأغنى والأبرز علاقاتها مع المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية وأعطتها جرعات من الدعم من دون ان تهمل خطر الوهابية المتشددة الممثلة بالقاعدة. أسهمت القدرات المالية الهائلة لدول مجلس التعاون وتمويل شخصيات ثرية وأجهزة استخبارات لتنظيم القاعدة بتغيير الكثير من المعطيات، فشهدنا ما يمكن اعتباره أعمالاً تبشيرية وهابية في الدول الإسلامية. في باكستان مثلاً بلغ عدد المدارس الدينية نحو الفين وهناك آلاف المدارس على مختلف المستويات في معظم البلاد الإسلامية في الهند واندونيسيا وآسيا الوسطى فضلاً عن تركيا والدول العربية وخصوصا مصر كما تأثر الازهر الشريف بالعقيدة الوهابية.
كانت الوهابية المتشددة تستهدف الوجود الصليبي واليهودي في ادبياتها الدينية، ثم اضحت تستهدف المجتمع في ما اصطلح على تسميته بالتكفير والهجرة. شكل اغتيال السادات اول صدام بين الثورة الإسلامية في إيران وإسلام الدولة في مصر. كان السادات استضاف شاه إيران المخلوع في مصر، فيما اطلقت إيران اسم خالد الإسلامبولي الضابط المصري الذي اطلق النار على السادات، على أحد شوارعها وانقطعت العلاقات المصرية الإيرانية ولا تزال. لم يكن مصطلح "النزاع السني الشيعي" قد انطلق بسبب العلاقة القوية بين جماعة الاخوان المسلمين وهي التيار الاساسي في الإسلام السني وبين إيران. في ثمانينيات القرن الماضي شهدت مدينة طرابلس اللبنانية قتالاً عنيفاً بين القوات السورية وبين حركة التوحيد الإسلامي مدعومة من إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية رغم التحالف الإيراني السوري.
شكل الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003 نقطة تحول كبيرة في التعبئة المذهبية وفي يقظة جديدة للوهابية المتشددة بعد ما أطاح الاحتلال الاميركي بالخلافة الإسلامية في افغانستان العام 2001 ووسم تنظيم القاعدة بالإرهاب اثر احداث 11 سبتمبر 2001. تمثلت هذه اليقظة بظهور تنظيمات إرهابية بعقيدة وهابية متشددة تعلن حرباً على الأميركيين والشيعة معاً. استغل الوهابيون نقمة المسلمين السنة من سقوط صدام حسين وإعدامه فجر عيد الأضحى، واستطاعوا تعبئة الرأي العام السني العراقي ضد الشيعة والكرد. ساعد الاميركيون على نمو هذا النزاع بواسطة إدارتهم المريبة للدولة العراقية بعد سقوط نظام البعث بقيادة صدام حسين. لقد شكل الأميركيون صيغة سياسية طائفية تكرست في دستور كتبه بول بريمر الحاكم الاميركي للعراق، وفي حل الجيش العراقي وتسريح الضباط والجنود الذين باتوا من دون عمل ومصدر رزق، فوجدت فيهم المنظمات الإرهابية هدفها المنشود، واستفادت من خبراتهم العسكرية في تشكيل جماعات إرهابية وتنفيذ هجمات وإنشاء جيش أرعب العالم عُرف فيما بعد بجيش الدولة الإسلامية داعش. أقام الأميركيون نظاماً سياسياً يرتكز على أحزاب دينية هي حزب الدعوة والمجلس الاعلى الإسلامي والتيار الصدري عن الشيعة والحزب الإسلامي عن السنة، فيما اعتمد المكون الكردي حزبين غير دينيين للبرزاني والطالباني. أسهمت الادارة الاميركية للعراق بتوسيع نطاق الحرب المذهبية على حساب المقاومة العراقية للاحتلال الاميركي، وسرعان ما تراجعت المقاومة الشديدة التي تجسدت باسقاط طائرات هلكوبتر وتنفيذ كمائن شبه يومية، وحلّت مكانها تفجيرات انتحارية استهدفت الأحياء الشيعية في بغداد كما استهدفت المسيحيين وباقي الاقليات وقابلتها اعمال انتقامية ضد السنة. فشلت الاحزاب الدينية الحاكمة في العراق في وضع حد للنزاع السني الشيعي، وعلى العكس جرى تعميمه تحريضاً وتعبئة في جميع انحاء العالم الإسلامي. استهدف تنظيم القاعدة الشيعة والصوفيين في باكستان كما استهدف الصوفيين في القوقاز. في لبنان أسهم اغتيال رئيس الوزراء السابق الشهيد رفيق الحريري في إشعال النزاع السني الشيعي في هذا البلد الصغير وبدا واضحاً ان الهدف الحقيقي هو ضرب المقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الاسرائيلي وعمادها حزب الله. أدار حزب الله النزاع المفروض بحكمة واضحة رافضاً الانجرار في معارك مذهبية مهما بلغت التضحيات، واعتبر المقاومة ضد اسرائيل اولوية لا يتزحزح عنها.
الأحداث السورية: تدهور خطير
عام 2011 بدأت الاحداث السورية بتغطية اعلامية غير مسبوقة في التاريخ، استهدفت الحكومة السورية برئاسة الرئيس بشار الاسد. فجأة أدارت تركيا العدالة والتنمية ظهرها للعلاقات المتينة والاتفاقات السياسية والأمنية والاقتصادية مع سوريا، وعملت على شق الجيش السوري بإنشاء الجيش السوري الحر مدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبعض دول الخليج. شنت الولايات المتحدة وجامعة الدول العربية حملة سياسية واسعة النطاق ضد سوريا، وصلت إلى اعطائها مهلاً قصيرة لتنفيذ طلبات غير طبيعية، ثم انتهت بتعليق عضويتها في جامعة الدول العربية. بشكل عام جرت شيطنة النظام السوري، وعاش العرب والعالم على وقع انتظارات متكررة بسقوط النظام. لكن النظام لم يسقط. في مطلع عام 2012 صدر القرار الخطير من الدول المعادية للنظام باستدعاء تنظيم القاعدة إلى سوريا من اجل الإسراع بإسقاط النظام، وسرعان ما انتشرت العمليات الانتحارية في المدن السورية، خصوصاً دمشق وحلب وبثت الرعب في البلاد، وتلقت القاعدة دعماً غير محدود، وفتحت لها الحدود التركية السورية، وهي عملياً حدود حلف شمال الاطلسي التي تراقبها القوات الاميركية المنتشرة جنوب غرب تركيا في قاعدة انجرليك. وضع العد العكسي لسقوط النظام عربياً ودولياً وازداد تدفق مقاتلي القاعدة من أتباع الوهابية المتشددة من دون ان تحسب تركيا حساباً لعواقب هذه الخطوة على الشعب السوري وعلى الدول المتلهفة لسقوط النظام ودونما اعتبار للآثار الجانبية المفترضة. اعلنت القاعدة أن أحد اهم اهدافها هو اسقاط المقاومة اللبنانية، ووضعت حزب الله والشيعة هدفاً علنياً لها في الحرب السورية، وانتشرت وحداتها في غرب حمص وعلى الحدود اللبنانية السورية في مواجهة البقاع الشمالي وعكار في الجانب اللبناني، وفي جبال القلمون شرقاً في مواجهة البقاع الشرقي وبالفعل نفذت القاعدة وداعش اثنتي عشرة عملية انتحارية في البقاع وضاحية بيروت الجنوبية أدّت إلى مقتل العشرات وجرح المئات من المدنيين. كان لا بد للمقاومة اللبنانية أن تتدخل لمواجهة خطر القاعدة على الحدود اللبنانية السورية في ظل عدم تمكّن الجيش اللبناني بسبب إمكاناته المحدودة من الانفراد في هذه المهمة، رغم انتشار وحداته على جزء من هذه الجبهة. كان تخوف حزب الله صحيحاً عندما اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية داعش محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار بسبب تهاون الحكومة والقوى السياسية في العراق، وإهمالها في استشراف ذلك الخطر المقبل من حدودها الغربية.
تعرّض حزب الله لحملة اعلامية مركزة بسبب تدخله في سوريا، ارتكزت في احيان كثيرة على البعد المذهبي. اسهم الاعلام وخصوصا الفضائي في إثارة الغرائز والسيطرة على العقول البسيطة وتوجيه الجهد الروحي والمعنوي باتجاهات مذهبية تجلت في اعمال انتحارية نفذها شبان يافعون ضد اهداف مدنية في سوريا ولبنان والعراق بحجة انها شيعية او إيرانية او سنية معارضة لهم. شارك تنظيم الدولة تنظيم القاعدة في الإرهاب وبدا الخلاف بين التنظيمين على السلطة وليس على العقيدة ولا على الاولويات. نشب بينهما قتال عنيف أدى لسقوط نحو اربعة آلاف قتيل تخللته عمليات انتحارية متبادلة بين التنظيمين اللذين يحملان الايديولوجيا الوهابية المتشددة نفسها التي حملها من قبلهم اخوان من أطاع الله وجهيمان العتيبي واسامة بن لادن وابو مصعب الزرقاوي. كشفت العمليات الانتحارية سهولة التعبئة وسهولة إقناع الشباب بالانتحار في قتال مذهبي. وهذا ما يدل على نجاح كبير لحملة التحريض فاق كل التوقعات.
أوصل هذا القتال المذهبي القضية العربية الإسلامية الاولى، فلسطين والقدس، إلى ادنى سلم الاولويات، وبات النزاع المذهبي يحل في المكان الاول، ووصل المسلمون إلى وضع مزرٍ. تصاعد إرهاب داعش والقاعدة وتحول التنظيمان إلى بندقية للإيجار، خصوصاً في حرب داعش ضد الاكراد في سوريا، حيث وضع الاختلاف المذهبي جانباً، وجرى استحضار الاختلاف العرقي وبدأت العمليات الانتحارية والهجمات ضد الاكراد خدمة لأجندة تركية واضحة. في المغرب العربي وغرب افريقيا نما ذلك الإرهاب فهو في ليبيا كان مع جهة وقبيلة ضد جهة أخرى وقبيلة أخرى وفي داخل المذهب نفسه، وفي الجزائر لم يكن مذهبياً انما ضد حكومة اعتبرت علمانية، وفي نيجيريا كانت بوكو حرام تعبئ الشباب ضد المسيحيين وضد الدولة ومؤسساتها ايضاً.
العوامل المؤثرة على نمو الفكر الإرهابي
هناك عوامل كثيرة تؤثر على نشوء الإرهاب، ابرزها هو ما يلي:
اولاً: تراجع الهويات الوطنية لمصلحة الهوية الدينية والهوية المذهبية
تعتبر ايديولوجيا القاعدة وداعش الانتماء الوطني بمثابة الكفر. وهنا نذكر ما قاله عناصر تنظيم القاعدة في بلاد الشام عندما أسروا قائد الكتيبة 30 التي دربها الاميركيون في تركيا: "جيش وطني كافر"(4) وما قاله عدد من قادة داعش والقاعدة: "لا للوطنية".
ينطلق كلا التنظيمين من تفسير ديني أن ارض الله واسعة، وانما المؤمنون اخوة، وان حدود الدول والأوطان هي مصطنعة وصليبية كافرة. تباهت داعش وتباهى معها بعض داعميها، عندما أسقطت سايكس بيكو باجتياح غرب العراق فيما تعرّضت مصر وسوريا عندما اتحدتا في دولة واحدة لمؤامرات إقليمية ودولية لأجل إنهاء الوحدة والعودة إلى الانفصال فهبّت القوى نفسها التي تتباهى اليوم بإسقاط سايكس بيكو لإسقاط هذه الوحدة. رغم ما رافق اجتياح داعش الهمجي من أعمال سبي وسوق نخاسة للأقليات المسيحية والإيزيدية والكردية اعتبرها البعض خطوة جريئة ضد التقسيمات الاستعمارية.
باتت الهوية الدينية والمذهبية هي المحرك الاول لمشاعر وغرائز الشباب، وتراجعت الهوية الوطنية إلى مستوى خطير عندما شهدنا فلسطينيين، يتخلون عن الهوية الوطنية الفلسطينية ويتخذون من الإسلام الدين ثم المذهب هوية لهم ويتوجّهون من الضفة الغربية وغزة واراضي 1948 ليقاتلوا ما اعتبروه عدو الدين في أفغانستان؛ وفيما بعد ما اعتبروه ايضاً عدو المذهب في سوريا تاركين عدو الوطن إسرائيل يفتك بالشعب الفلسطيني ومقدساته. شكل هذا التحول الكبير في الهوية الوطنية لمصلحة الدين والمذهب خطراً كبير، اذ تحول المذهب إلى وطن، وتحول الأخ في المواطنة إلى عدو بسبب اختلاف الدين او المذهب. كان تحرك المراكز السياسية والدينية في العالم العربي والإسلامي محدوداً جداً في التطرق إلى مسألة الهويات، لذلك نجد أن الهوية الوطنية ضعيفة جداً في جزيرة العرب والعراق وسوريا ولبنان وهي قوية في مصر وأضعف في بلاد المغرب العربي. لم تقدّم المؤسسة الدينية الإسلامية إجابات للشباب حول هويتهم الوطنية، وعلاقتها بالإسلام ولم تقدم الانظمة السياسية التي بمعظمها يعتريها الفساد وتعاني من مشكلة حريات وتنمية، اي حلول للشباب وخصوصا العمالة والضمانات الاجتماعية قبل ان تقدم لهم حلولاً لمسألة الهوية. وحدها دول الخليج تمكنت من تجميد هذا التنازع حول الهوية، عن طريق تقديمات اجتماعية اقتصادية لمواطنيها مستفيدة من ثروتها النفطية والغازية. لعل الرفاه الاجتماعي يصرف انتباه الشباب عن مسألة الهوية. لكن على الرغم من ثراء دول الخليج لم تتمكن هذه الدول من الفصل بين الوهابية والوهابية المتشددة، اذ رأينا في حالات عديدة مواطنين من هذه الدول ينضمون إلى القاعدة وداعش، وآخرين اغنياء يدعمون بالمال كلا التنظيمين لأنهما شكلا لهم حلاً روحياً ودينياً.
ثانيا: مناهج التعليم الديني الإسلامي
أسهمت عوامل كثيرة في إضعاف الهوية الوطنية وأخصها التنشئة الثقافية والنظام التربوي. في دراسة جديدة لمركز هيفوس (5) تبين انه في سوريا التي يحكمها حزب البعث وسُمّي بالحزب القائد، كان خمس عدد الطلاب يتوجهون بعد الاعدادية إلى دراسة الشريعة. والمهم هنا أن مَن يفشل في الحصول على معدلات تخوّله الذهاب للأدبي والعلمي يتحول إلى دراسة الشريعة اي ان الطلاب المتخلفين هم من يتولون اليوم قيادة المجتمع دينياً وهذا ما أثر كثيراً على العامة في العالم الإسلامي. اذا كان ذلك قد جرى في سوريا البعثية القومية فلنا أن نتصور ما جرى في باقي الدول، وخصوصاً اطروحات الدكتوراه في بعض جامعات الخليج بعناوين "تكفير الرافضة والنصارى" وأن نتصوّر أيضاً من يقود المجتمع الإسلامي ومن أوصلنا إلى إعلان إنكار كروية الأرض!( 6) وجعل من الإسلام مهزلة مضحكة يتندر بها الغرب.
قيل الكثير عن مناهج التعليم في دول الخليج، لكن في مصر الازهر حصلت مفاجأة مذهلة عندما ظهرت الإعلامية المعروفة لميس الحديدي على شاشة تلفزيون CBC وهي تمسك كتاباً بيدها وتوجّهت للإمام الاكبر شيخ الجامع الازهر، قائلة هذا الكتاب يحلل أكل لحم الكافر، وهو مقرر لطلابنا. لنا أن نتخيّل خطورة هذا المناهج في إعداد جيل مضلل يأخذ بلاده إلى التهلكة. كما صدرت ردود فعل دالة على التفجير الإرهابي الأخير في ابها في المملكة العربية السعودية في 6 آب 2015. قال الكاتب المسرحي السعودي محمد العيثم في تغريدة على تويتر: "لم نر الإرهاب إلا بعد تسييس الدين ليصير الوعظ مهنة العاطلين، ويعتلي المنابر جهلة، وتحيد الثقافة النوعية، هذا كله صنع الإرهاب". كما قال الشاعر السعودي محمد الرطيان: "ابحثوا عن الفكرة التي آمن بها هذا الأحمق، وأقنعته أنه بتفجير المسجد وقتل المصلين وانتحاره سيذهب إلى الجنة.. وحاربوها". ( 7)
غابت الأغنية الوطنية والاناشيد الوطنية وحب الارض والوطن عن ثقافة الشباب في الدول العربية والإسلامية. لم نعد نقرأ أدباً وطنياً الا نادراً. وفي الاساس تراجعت القراءة إلى حد بعيد وغاب الفكر النقدي الثقافي وندرت البرامج الثقافية في التلفزيونات والصفحات في الجرائد وحلت مكانها ثقافة العناوين والتحريض في الفضائيات.
سمح ضعف الهوية الوطنية وسوء التنشئة الدينية والوطنية للأجيال، وسمح التردد والقلق السائدان في العالم الإسلامي للتيار الوهابي المتشدد بتسويق تفسيراته الفقهية المتشددة والتي لا تعتمدها غالبية المسلمين في العالم. استفاد هذا التيار من الإمكانات المالية الهائلة المتاحة له سواء من مصادر رسمية او خاصة بالإضافة إلى التسهيلات الناتجة عن استخدام بعض الدول لتنظيمات تعتنق هذه العقيدة بدفعها للقتال بالوكالة عنها ضد منافسيها مثل المجاهدين الأفغان لمصلحة الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي وداعش لمصلحة تركيا ضد الكرد.
ثالثاً: المواقف السياسية الملتبسة
سلك حزب الله اللبناني وغالبيته الساحقة من الشيعة درب مقاومة الاحتلال الاسرائيلي واستطاع انشاء مقاومة جدية ومنظمة وفاعلة تمكنت عام 2000 من دحر اسرائيل عن لبنان، من دون اية شروط واية مفاوضات او ترتيبات. العام 2006 فاجأ حزب الله العالم بإلحاق الهزيمة بالجيش الاسرائيلي بعد 33 يوماً من الهجمات الجوية والبحرية ومحاولات التوغل البري باءت جميعها بالفشل. أثار انتصار الحزب هلع اسرائيل ومؤيديها واهمهم الولايات المتحدة وخافوا من ان يصبح هذا الحزب مثلاً في مقاومة اسرائيل تعتمده القوى العربية المختلفة. حاز حزب الله بشكل لافت على تأييد ونصرة الشعوب العربية والإسلامية وظهرت صور الامين العام السيد نصر الله في القاهرة وفي عواصم ومدن عربية وإسلامية اخرى. رفض حزب الله كل أشكال الفتنة المذهبية وقدم تنازلات سياسية أبرزها التحالف الانتخابي مع تيار المستقبل والقوات اللبنانية العام 2005 وهما الحزبان الأكثر خصومة وانتقاداً للمقاومة وأكثر المطالبين بنزع سلاح المقاومة. كما رد السيد حسن نصر الله على مقتل أربعة مناصرين للحزب العام 2007 بقوله: لو قتلوا منا الفاً لن ننجر إلى الفتنة.
امام وهج الانتصار الكبير على اسرائيل لم يجد تنظيم القاعدة الذي جذب الشباب في عملية 11 ايلول 2001 أي مدخل للتعرض إلى حزب الله وانتقاده ولم تنجح طروحات الخلاف السني الشيعي التي يثيرها عادة هذا التنظيم.
في مكان آخر في العراق ظهرت تعقيدات في العلاقات السنية الشيعية ادت إلى تصادم خطير، ووفرت مادة لإعداد وتنشئة الإرهابيين. كان الشيعة ينظرون إلى صدام حسين انه دكتاتور وطاغية وجائر، وفي الوقت نفسه يعتبرون اميركا عدواً. تعقد الموقف عندما هاجم العدو الاميركي العدو البعثي صدام. انتصر الاميركي وسقط صدام وأُعدم. هنا بدأت إشكالية سياسية خطيرة: هل يمكن التعامل مع الاميركي أنه منقذ وحليف؟ كيف ينظرون إلى الشخصيات السياسية والاحزاب التي جاءت "على ظهر الدبابات الأميركية"، وتحديداً المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة اللذين اجتمع قادتهما مع رؤساء أميركيين ونسجوا علاقات تحالف مع اميركا وشكلوا حكومات برضى الأميركيين؟ هل هم فعلاً عملاء لأميركا كما كان انطوان لحد عميلاً لإسرائيل؟ أم هم مناضلون ضد جور نظام البعث؟ لم تعالج هذه الاشكالية ولم توضح للجمهور الشيعي، كما أن الجمهور السني في معظم أنحاء العالم نظر إلى قادة الحزبين المذكورين وقادة الحزبين الكرديين جلال الطالباني ومسعود البرزاني أنهم عملاء لأميركا. ثم انه إذا كان الامر ايديولوجيا اي ضد البعث وطرح موضوع اجتثاث البعث فكيف يتم التعامل مع البعث في سوريا؟ اليس لأسباب طائفية كما اعتبرها المتشددون؟ أدى ذلك الغموض إلى تغييب مسؤولية بعض الدول العربية والإسلامية، خصوصاً دول الخليج التي شاركت الأميركيين بغزو العراق والى تحميل مسؤولية الغزو للأكراد وللشيعة الذين تعاونوا مع الاحتلال الاميركي قبل الغزو وبعده.
ما إن بدأت المقاومة ضد الاحتلال الاميركي حتى تحول قسم منها إلى إرهاب ضد الشيعة في احيائهم واسواقهم ومعابدهم ومقدساتهم واحتفالاتهم، وكان أخطرها تفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء الذي أشعل جولة من العنف الطائفي في جميع انحاء العراق. نمت القاعدة والفكر الوهابي المتشدد وحضرت فتاوى ابن تيمية وابن قيم الجوزية في ظل هذه الاشكالية السياسية العميقة حول موقف الشيعة من الاحتلال الأميركي، وعلى وقعها انتقل العراق إلى مرحلة تصادم مذهبي انطلاقا من اتهام السلطة الشيعية الجديدة في العراق بالعمالة لأميركا. لم تقدم هذه السلطة تبريرات مقنعة، ولم تقدم نموذجا مقبولا في ادارة الدولة، ولا في نشر العدل والمساواة، وفرض سلطة القانون، واعادة بناء المؤسسات، الامر الذي ادى إلى انتشار الفساد بشكل لا يُطاق، والى انعدام الخدمات، وتخلف البنى التحتية وتراجع فرص العمل، وزيادة الفقر رغم مدخول النفط. كانت الطامة الكبرى عندما انهار الجيش العراقي في محافظات نينوى والانبار وصلاح الدين والذي يبلغ عدد وحداته هناك 30 الفاً انسحبوا امام الفين من داعش مما كشف إهمالاً كبيراً في بناء المؤسسة العسكرية والامنية، وفقدان العقيدة القتالية والهوية الوطنية والانضباط العسكري. لكن الاخطر كان تدرج الاحتضان الشعبي لداعش في المناطق السنية من اللامبالاة تجاهها إلى تأييدها فور وصولها، ليس حباً بها بل نفوراً من الحكومة. بعدما تمكنت داعش من اسباب القوة في المناطق السنية في العراق تغيّر المزاج السني منها، لكن بعد فوات الاوان.
تطرح هذه الوقائع المداخل التي سلكتها المنظمات الإرهابية الوهابية المتشدّدة والحجج التي اعتمدت عليها في تعبئة الشباب السني وتحريضهم ضد الشيعة كطائفة بسبب ما اعتبروه تبعية قياداتهم واحزابهم للولايات المتحدة والاثر البالغ لذلك في تنشئة وتحريض الإرهابيين. في المقابل وكما ذكرنا فشلت قيادات الشيعة في تقديم تبرير مقنع لا للشيعة ولا للسنة، فعززت تلك المنظمات تعبئتها للإرهابيين وكثرت العمليات الإرهابية الانتحارية ضد المدنيين الشيعة وضد المراكز الحكومية والاكراد والمسيحيين وباقي الاقليات.
هذه إحدى الحالات الملتبسة في الموقف السياسي للشيعة العراقيين تجاه الاحتلال الاميركي في العراق. وهناك حالات اخرى استغلها الوهابيون المتشددون للتحريض المذهبي وأدت إلى نمو كبير في الإرهاب.
رابعا: الشعارات والمصطلحات:
نظراً لنسبة الامية العالية في الدول العربية والإسلامية وتراجع عدد القراء العرب وسيطرة الاعلام المرئي والمسموع، خصوصاً الفضائي على الجمهور العربي والإسلامي، تغيرت وسائل التقرب والتوجه للرأي العام وشاع اعتماد التلفزيون الذي يدخل بالصوت والصورة إلى جميع المنازل.
يرتكز الاعلام التلفزيوني المخصص لتوجيه الرأي العام على عناوين وشعارات أكثر منه على البحث والنقد. وإذا جرى الاسهاب في عرض مسألة سياسية او دينية يكون المضمون موجهاً نحو الغرائز وليس نحو العقول. تحرص بعض التلفزيونات في برامج الحوار السياسي توك شو على اظهار مبارزات اكثر من مناقشات، وتستعمل خطاب التحريض المرتكز على شعارات ومصطلحات تدخل مباشرة إلى ذهن المشاهد. من هنا لا بد من إعارة المصطلح اهمية بالغة نظراً لتأثيره على الرأي العام واسهامه في تعبئة الإرهابيين. قبل البدء بعرض بعض الشعارات والمصطلحات نعرض لمصطلحين كان لهما تأثير كبير في الرأي العام.
الأول: مصطلح الحروب الصليبية الذي يستخدمه معظم المؤرخين. ابان تلك الحروب لم تذكر المصادر العربية ولا الاوروبية كلمة الصليبية ولا الصليبيين. كان العرب يسمّونهم الفرنجة وكان الأوروبيون يسمونهم بالحجاج Pilgrims. اما مصطلح الحروب الصليبية فقد ظهر في القرن الثامن عشر وأطلق على غزوات الفرنجة وذلك لإضفاء طابع ديني وأخلاقي على تلك الحروب، وتشبيه الاستعمار الاوروبي من بريطاني وفرنسي وبرتغالي الذي كان سائداً في ذلك العصر بالحروب الصليبية. كان من نتيجة هذا المصطلح هو إثارة شكوك العرب والمسلمين بالمسيحيين في الشرق وتوجيه تهمة دائمة لهم بالولاء للغرب، في حين كان المسيحيون مستهدفين من حروب الفرنجة مثلما كان المسلمون، وأن الحملة الصليبية الرابعة توجهت تحديداً ضد مسيحيي الشرق. خلق هذا المصطلح هوة بين المسلمين العرب ومسيحيي الشرق، ورغم ذلك لم يغيره أحد وبقي فاعلاً في الثقافة العربية والإسلامية.
مصطلح آخر استعمله الإسرائيليون وهو مستعمرة أي القرى المبنية على أراضي الفلسطينيين المسلوبة في الفترة من الثلاثينات إلى السبعينات من القرن الماضي. كان هذا المصطلح فاعلا في الرأي العام الفرنسي والبريطاني الذي كان هو ايضاً مستعمراً ورأى المستعمرات الاسرائيلية شبيهة بمستعمراته. عام 1970 بعدما بسطت الولايات المتحدة هيمنتها على السياسة الدولية، خصوصا في الشرق الاوسط وباتت الحليف الاول لإسرائيل وتراجع دور فرنسا وبريطانيا، غيّر الاسرائيليون مصطلح مستعمرة وبدأوا باستعمال مستوطنة، وذلك في رسالة للرأي العام الاميركي الذي هو أساساً مستوطن في اميركا بأنهم مثله مستوطنون. وهذا ما سهل الدعاية الاسرائيلية في الولايات المتحدة وسهل الاستيطان اي اغتصاب الارض.
اليكم بعض المصطلحات المستخدمة والتي تثير الجدل والخلافات المذهبية التي يستفيد منها من يقوم بإعداد وتنشئة الإرهابيين.
1- الروافض والنواصب
الرافضة كلمة أطلقت على الشيعة الإمامية بسبب موقف سياسي، والرفض هنا معناه المعارضة في عصرنا الحالي. كانت الرافضة هي المعارضة. ينسب بعض المؤرخين ان اول من أطلق كلمة روافض هو الشيعة الزيدية على الشيعة الامامية. اما النواصب فهي تطلق على من نصب العداء لأهل البيت. بتعميم استعمال هذين المصطلحين يصبح كل الشيعة رافضة أي معارضة، وكل السنة نواصب أي ينصبون العداء لأهل البيت. اذا كان بنو امية قد نصبوا العداء لأهل البيت فقد جاء بنو العباس وقضوا عليهم وأسقطوا دولتهم وانتهت القضية منذ ثلاثة عشر قرناً؟ فلماذا تستحضر اليوم مصطلحات تفرز الطوائف وتعمق الانقسامات. عندما يقال للإرهابي اثناء تنشئته أن الرافضة يتهمونك بأنك تنصب العداء لأهل البيت، وهذا غير صحيح يصدق الإرهابي المبتدئ وتتعمق كراهيته واحقاده. وعندما يتهم الشيعي بالرفض تثار مشاعره وكأنه تلقى إهانة.
2- الفئة الباغية والخوارج والفرقة الناجية
. ثمة مَن يستعمل تعبير الفئة الباغية للدلالة على الإرهابيين فيعيد الصراع السياسي العقائدي القائم اليوم إلى زمن الخلافات والفتن الإسلامية، والتي لم تجد لها حلاً مقبولاً من الجميع منذ أربعة عشر قرناً، فيسهم في استحضار تلك الخلافات إلى هذا الزمن وفي تسعير المشاعر وإثارة الغرائز. ينطبق ذلك على الخوارج وهو مصطلح أول ما عرف هو عن الذين خرجوا عن طاعة الإمام علي بن أبي طالب بعد معركة صفين. لكن ما هي المصلحة في إعادة الأمور أربعة عشر قرناً إلى الخلف؟ أما مصطلح الفرقة الناجية فهو من اخطر المصطلحات حيث تعتبر الفرقة التي تعتبر نفسها أنها الناجية بينما باقي الفرق ذاهبة إلى النار. وهي وحدها تفوز بالجنة. وعند إقناع الشباب بأنهم ينتمون إلى الفرقة الناجية لأنهم ينتمون إلى التنظيمات الإرهابية، يصبح الهجوم على باقي الفرق مشروعاً ويصل الحد إلى القيام بعمليات انتحارية ضد باقي الفرق.
2- جبهة النصرة أم القاعدة؟
ينتشر تنظيم القاعدة في سوريا تحت اسم تنظيم القاعدة في بلاد الشام – جبهة النصرة، ويحرص محمد الجولاني، قائد التنظيم، على تأكيد الولاء والطاعة لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة العالمي. يصدر التنظيم بياناته بعنوان تنظيم القاعدة في بلاد الشام – جبهة النصرة. رغم ذلك يحرص سياسيون وإعلاميون على الاكتفاء بعنوان جبهة النصرة وإغفال القاعدة من العنوان الأساسي؛ وهذا ما يضفي طابعاً وطنياً سورياً معارضاً على هذا التنظيم، فيما هو في الحقيقة جزء من التنظيم العالمي للقاعدة يرتبط بأجندتها في المنطقة. وسوريا بالنسبة إليه ساحة مثل باقي الساحات في العراق واليمن ومصر وغيرها. إن التركيز على مصطلح "النصرة" يُسهم في إخفاء طابع الإرهاب الدولي على هذا التنظيم ويحول منتسبيه الإرهابيين إلى وطنيين بنظر العديد من القوى السياسية.
4- الإرهاب التكفيري
ينتشر استخدام مصطلح الإرهاب التكفيري بشكل واسع. وهو يشمل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش. إن استعمال هذا المصطلح يوحي أن هناك مشكلة عقائدية أو فقهية مع هذين التنظيمين، فيما المشكلة هي سياسية وأمنية. يوصلنا الدخول في الاتهام بالتكفير إلى اتهامات متبادلة. في لبنان مثلاً يتهم بعض قادة تيار المستقبل وقادة المعارضة السورية (8) حزب الله بأنه حزب تكفيري وذهب بعضهم إلى اعتبار حزب الله وداعش وجهين لعملة واحدة (9). وإذا دخل أحد في سجال حول هذا الاتهام يصبح مصطلح "تكفيري" مثار جدل فكري وفقهي فيما عنوان التنظيمين أي القاعدة وداعش يختصران ويدلّان على الإرهاب بشكل تام. إذا توسّعنا باستخدام مصطلح التكفير نتخيّل ردّ فعل الإرهابيين عندما يتلقون هذه التهمة، ويسارع مفكروهم إلى ردّ التهمة بالتكفير المضاد، والمزيد من التحريض واستحضار اختلافات الماضي ووقائع غير مثبتة في التاريخ من أجل تدعيم عقيدة الإرهابي.
نرى أن استعمال مصطلح التكفير يسهم بتشتيت الجهود في المعركة ضد الإرهاب. والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لا نسمّي الأشياء بأسمائها؟ لماذا لا نسمّيهم بأسمائهم داعش والقاعدة؟ وما هو الهدف من إطلاق الصفات والألقاب مثل الإرهاب التكفيري؟
خلاصة
لا شك في أنه في المحصلة العامة يقف تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة في وجه خط المقاومة ضد إسرائيل والمشروع الصهيوني وأن أداءهما يخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. تمكّن هذان التنظيمان والتنظيمات المتفرّعة عنهما من ضرب بنى الدولة والمجتمع في العراق وسوريا وليبيا والصومال وإلى حد ما في اليمن وأفغانستان. كما أنهما يهدّدان استقرار دول مهمة مثل باكستان والمملكة العربية السعودية ومصر والجزائر وينفذان هجمات انتحارية إرهابية في هذه الدول. كثر الحديث عن مكافحة الإرهاب، خصوصاً من الولايات المتحدة التي سعت إلى تبني مجلس الأمن القرار رقم 1373 لمكافحة الإرهاب العام 2001. ومنذ تبني هذا القرار حتى اليوم وبدلاً من القضاء على الإرهاب نراه وقد توسّع وضرب في أنحاء عديدة في العالم وأدى إلى تقويض الاستقرار في الدول المذكورة آنفاً. لم تتحرّك الدول المتضررة من الإرهاب من أجل الاجتماع مع بعضها البعض وتبنّي مواقف سياسية وإجراءات تنسيقية فيما بينها لمكافحة الإرهاب. والأسوأ أنه لم يتم الاتفاق بين الدول المتضررة على تحديد التنظيمات الإرهابية. غرق قادة بعض الدول وأغرقوا شعوبهم في قراءات خاطئة وغريبة حول الإرهاب، إذ إن بعضهم مثلاً يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية الذي يحتل نصف مساحة سوريا ويشكل خطراً كبيراً على النظام أنه من صنع النظام، فيما ذهب بعض آخر إلى اتهام إيران أنها وراء تنظيم داعش، وآخرون إلى اتهام روسيا. أما تنظيم القاعدة الإرهابي فقد منحته بعض القوى أسباباً تخفيفية، وأصبح معارضة سورية وفي بعض الأحيان ثواراً سوريين. سادت النظرة نفسها في العراق حيث اعتبر البعض داعش معارضة عراقية وفي مصر اعتبرت ألوية بيت المقدس في سيناء ومصر أنها معارضة للانقلاب! وفي ليبيا أنها تنظيم قَبَلي جهوي.
لا يمكن مكافحة الإرهاب من دون النظر إلى جذوره ومصطلحاته والمواقف السياسية المحيطة به. كل ذلك لا يلغي التصدي الأمني والعسكري للإرهاب الذي يبقى ضرورة وواجباً من أجل الدفاع عن أمن الدول والمجتمعات وحفظ التراث والعقائد. إن الإهمال الواضح في التطرق بجدية وصراحة لبعض النقاط مثل التي وردت في الفقرات السابقة يؤدي إلى بطء في مكافحة الإرهاب الذي يتميز بالسرعة الخاطفة ولا ينتظر أحداً وينتهز أية فرصة ليضرب. كما أن هذا الإهمال يؤدي إلى عدم تدعيم الانتصارات العسكرية على الإرهاب بانتصارات ثقافية اجتماعية سياسية تسهم في ترسيخ القضاء عليه من داخل نفوس معتنقيه.
مراجع
( 1) علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم. كتاب صدر العام 1925 بُعيد إنهاء الخلافة العثمانية تعرّض مؤلفه لضغط من ملوك العرب لا سيما الملك فؤاد، الذين كانوا يطمحون بلقب الخلافة ومنع الكتاب.
(2) ابن تيمية، فقيه ولد العام 1263 م وتوفى العام 1328م عاصر سقوط الصليبيين وهزيمة المغول ونشوء دولة المماليك عرف بأنه أصدر فتاوى تكفير عدد من المذاهب الإسلامية.
( 3) ابن الوردي شاعر عاش في شمال سوريا في أوائل القرن الرابع عشر في عهد دولة المماليك وعاصر الفقيه ابن تيمية.
(4) رامي عبد الرحمن مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان في مقابلة مع تلفزيون سكاي نيوز عربية. الرابط
https://www. facebook. com/syriahro/videos/10153556957703115
(5) برنامج المعرفة حول المجتمع المدني في غرب آسيا. نشرة لرستم محمود بتاريخ 4 حزيران. الرابط
http://www. hivos. net/Hivos-Knowledge-Programme/Themes/Civil-Society-in-West-Asia/node_8905/node_32493
(6) محاضرة للشيخ بندر الخيبري الرابط: http://akhbaar24. argaam. com/article/detail/203180
(7) جريدة الوطن السعودية عدد 7 آب/ أغسطس 2015.
(8) عضو الائتلاف الوطني للمعارضة السورية ميشال كيلو في حديث إلى جريدة الوطن السعودية 19 آذار/ مارس 2014.
النائب السابق مصطفى علوش في مداخلة في برنامج بموضوعية على شاشة محطة MTV في 27 آب/ أغسطس 2014.
النائب احمد فتفت في حديث إلى جريدة النهار في 27 كانون الاول/ ديسمبر 2013.
(9) رئيس حزب القوات اللبنانية في حديث صحافي بتاريخ 15 شباط فبراير 2015.
النائب السابق محمد عبد الحميد بيضون في حديث إلى جريدة الوطن السعودية في 6 أكتوبر/ تشرين الاول 2014