98
تتجه الأنظار اليوم بشكلٍ حثيثٍ نحو موضوع الإرهاب بتسمياته المتنوّعة وأشكاله المتنافسة على تقديم الأساليب الأبشع في القتل والتّعذيب، وتلفت النّاظر ضروب التّفنّن في تقديم الصّور المتطرّفة التي تُبرز على أنّها مستمَدّة من السّلف أو من عهد النّبوّة. في مقابل إعلامٍ يسوّق لتحالفٍ دوليٍّ من أجل دعم «المتطرّف» من الحركات الإرهابيّة، أو لتخويفٍ من عتاوة تلك الحركات وقدراتها. وذلك دون حضور مشروعٍ متكاملٍ لمحاربتها، مع وقوف الجيشين الشّاميّ والعراقيّ في مواجهة جماعاتها المختلفة التّنظيم الموحّدة في أيديولوجيّتها وغايتها وحركتها، بدون يقينٍ منظورٍ بالخلاص. وهذا من دون إغفال حقيقة الدّعم الخفيّ والعلنيّ لتلك الجماعات مالاً وعديداً، إلى جانب تنامي أفكارها في مواضع متفرّقةٍ من العالم.
في هذا السّياق، تأتي الدّعوة التي أطلقتها مجلّة «تحوّلات» من أجل تشكيل جبهة موحّدة في مواجهة الإرهاب، بوصفها نداءً مختلفاً خارج السّرب،لأنّها تنظر إلى المسألة من وجهة نظرٍ شديدة الاختلاف، فلا ترى الخطر في عمليّة القتل المتوحشة والتّمدّد الأفقي للتّنظيمات الإرهابيّة فحسب، بل في عمليّة إحلال مسالك همجيّة بعيدٍ كلّ البعد عن المفاهيم والقيم التي أطلقتها هذه المنطقة وطوّرتها على مرّ العصور، وفي الإصرار على فرض عقليّةٍ صحراويّةٍ بدويّة وطرق عيشها البدائيّة في مساحةٍ جغرافيّةٍ أطلقت التأريخ والحضارة والثّقافة إلى العالم أجمع.
الميزة في هذه الدّعوة تكمن في كونها لا تعرض المسألة من وجهةٍ سطحيةٍ مشوّهة، أو تتأثّر بالرّأي الإعلاميّ الموجّه، بل تطرح الإشكاليّة انطلاقاً من استقلاليّةٍ فكريّةٍ أساسها وعي العوامل النّفسيّة-الماديّة التي تشكّل وحدة المجتمع، ووعي مصالحه ومصيره، إضافةً إلى الوعي بأنّ تلك العوامل هي الأساس في اختزان تراث الأمّة وتاريخها وحركيّتها.
بناءً عليه، يمكن أن نرى تلك الدّعوة على أنّها حاجة ملحّة في هذه المرحلة، وقد تكون أكثر ألحاحاً من بعض الاستعراضات العسكريّة غير المُجدية، ومن معظم الإضاءات الإعلاميّة التي تركّز على جانب التّخويف والتّرهيب من إحدى المنظّمات الإرهابيّة، والتّخفيف من وطأة المنظّمات الأخرى.
هل للدّعوة الفكريّة الفاعليّة في محاربة الإرهاب؟
قد يخرج مَن يقول، في هذا السّياق، بأنّ في الاقتصار على الجانب الفكريّ دعوة وهميّة، لأنّ الوقت لن يسعف المسار الفكريّ البحت من أجل مواجهة إرهابٍ محوره تغييب العقل والتّكفير. وأصحاب هذا الرأي لا يرون في غير القوّة العسكريّة حلّاً وخلاصاً من تلك الظاهرة، خصوصاً أنّها ظاهرة لا تهدف إلّا إلى القتل.
إلاّ أنّ حجّتنا في ضعف ذلك الرّأي هي أنّ عمليّة القتل لا يمكن أن تنتهي بسهولة باعتبار أنّ دائرة الإرهاب لا تقتصر على مجموعة محدودة من المقاتلين؛ وانتشار المؤمنين بأنّ هذا الفعل، الذي نصفه بالإرهابيّ، هو الحلّ، لا يمكن حصره نظراً إلى تلبّسه بمظهر الدّين؛ وبالتّالي، فإنّ أي مواجهة للإرهاب تصطدم بتصلّب أكثر، وبتعاطفٍ قائمٍ على الأساس الدّينيّ نفسه. هذا من دون إغفال أنّ العامل المادّي يعمد إلى التأثير الأكبر في تسهيل التّنامي اللّوجستيّ والبشريّ للجماعات الإرهابيّة.
لذلك، فإنّ العمل العسكريّ لا يَبرز بوصفه الحلّ النّهائيّ في محاربة الإرهاب. وفي الوقت عينه، يبدو المسار الفكريّ أكثر جدوى وفاعليّة، نظراً لكون الوصول إلى الوعي بحقيقة الإرهاب قد تمنع انجراف الكثيرين إلى الانقياد نحو الفكر التّكفيريّ، وبالتّالي الإرهابيّ.
هذا الأمر لا يقف عند هذا فحسب، بل يمكن الذّهاب فيه إلى أبعد من ذلك. فعمليّة الصّراع الفكريّ تبقى الإطار الذي يُمكن من خلاله أن يعيد المجتمع تصويب خياراته، وفهم مصيره، وبالتّالي فهم طبيعة العوامل الرّوحيّة الماديّة في تشكيل نفسيّته ووحدته، ووعي مصيره.
يبقى في هذا المجال أن نسأل عن الوسيلة التي تدفع إلى تحديد الثّوابت الفكريّة المؤسِّسة لمرحلة المواجهة تلك، وعن طبيعة تلك الجبهة الفكريّة الموحّدة.
كيف تكون الجبهة الفكريّة فاعلة؟
لا بدّ من التّفكير هنا في الأسس التي يجب أن تقوم عليها الجّبهة الفكريّة وكيفيّة نشأتها، وذلك انطلاقاً من كون هذه الدّعوة لا يمكن أن تبقى في إطار الشّعار، وإلاّ ستكون طرحاً من تلك الطّروحات الإعلاميّة العابرة التي تدغدغ المشّاعر آنيّاً، بدون أن تتحوّل إلى حيّزٍ فاعل.
استناداً إلى ذلك، لا بدّ من التّفكير مليّاً في الحوار الفكريّ الدّافع نحو جعل هذا الشّعار يتحوّل إلى حقيقةٍ عمليّة. وعلى هذا الصّعيد، من المهم جدّاً طرح الأسئلة الإشكاليّة على بساط المناقشة الفكريّة المنطقيّة البحت بعيداً من أروقة السّياسة والمستثقفين المموّلين. ومن أجل تأطير هذه المناقشة، يجب إيجاد الحيّز المناسب والمؤثّر في جمهورٍ فاعلٍ إعلاميّاً وثقافيّاً على حدٍّ سواء.
في الوقت نفسه، تبقى مسألة خلق الآليّة التي تجعل من تأسيس الجبهة الفكريّة مشروعاً فاعلاً، وهي الآليّة التي تبقى حاضرةً في الحيز الإعلاميّ، وفق تخطيطٍ منظّمٍ يدرك المشروع الآخر وطبيعة حضوره والخطوات التي يسير عليها في سبيل تحطيم العقل في مجتمعنا، وكذلك هي الآليّة التي تعمل على تعميم المفهوم القائل بأنّ العقل هو الشّرع الأعلى الواجب الاقتداء به، مع تّأكيد امتلاء هذا العقل بالمنطق العلميّ المنهجيّ وبالتّراث الفكريّ الثّقافيّ لهذا المجتمع.
وفي الخلاصة، دعوة من أجل تشكيل جبهةٍ فكريّة لمحاربة الإرهاب ومسلكه في تغييب العقل دعوة تستحقّ العناء، لأنّ من شأنها أن تكفل تحصين مجتمعنا من الانزلاق أكثر في مهاوي الفكر التّكفيريّ ومنطق الإلهاء.