من غير السّهل الدّخول في بنية الشّعر العربيّ الذي يُصنَّف بالحديث دون إلقاء الضّوء على الخصوصيّة الفنّيّة التي يُبنى عليها؛ لا سيّما أنّه ما يزال مثار جدالٍ واسعٍ وحادّ، إلى جانب كونه مبعث الالتباس الشّديد لدى المتلقّي. وانطلاقاً من ذلك، تصبح عمليّة الغوص في هذا النّوع من الشّعر مسيرةً مليئةً بالأسلاك الشّائكة، لكنّها في الوقت عينه عمليّة مغرية، لأنّها الخوض في عالمٍ مجهولٍ مفتوحٍ على احتمالاتٍ لا تحدّ… وفي هذا السّياق، تدخل التّقنية القائمة على حضور الثّنائيّة الدّلاليّة داخل العمل الشّعريّ الحديث، ركيزةً محوريّةً في فهمه وفي استكناه أبعاده. ومن خلال قراءة التّجارب الشّعريّة التي تدور في هذا الإطار، نلاحظ هذا الحضور الكثيف لثنائيّاتٍ تمثّل الحال الكيانيّة التي تسيطر على الشّاعر الحديث، أو بمعنى أوضح تمثّل الهاجس الوجوديّ الذي يطغى على فكره وكيانه بعامّة.
ومن هذا المنطلق تنهض تجربة نعيم تلحوق بوصفها واحدة من التّجارب الشّعريّة الحديثة التي يبرز فيها حضور تلك الثّنائيّات بشكلٍ محوريّ ومتنوّع، إضافةً إلى التّفرّد في كيفيّة استخدامها، لا سيّما في المرحلة الثّانية من مسيرته الشّعريّة، والتي تبتدئ بديوان "أظنّه وحدي" مروراً بدواوينه "يغنّي بوحاً" و"يرقص كفراً" و"لأنّ جسدها"، وصولاً إلى ديوانه الصّادر مؤخّراً تحت عنوان "شهوة القيامة". ومن الملاحَظ أنّ العناوين التي اختارها الشّاعر كانت قائمةً على النّمط الثّنائيّ؛ فالأوّل يدور بين ضميري الغائب والمتكلّم، في حين أنّ الثّاني والثّالث قائمان على المزج بين فعلين متباعدين، بينما الرّابع يظهر الارتباط بين طرفين السّبب والمسبِّب؛ أمّا الأخير بين هذه الدّواوين فيتبدّى منه وجهان من طبيعتين مختلفتين ومتكاملتين في آن، أولهما جسديّ إنسانيّ وثانيهما إعجازيّ مقدّس. فإن كانت الحال هذه في العناوين وحسب، فكيف يتمظهر ذلك في نصوص الشّعريّة بذاتها؟ وكيف يمكننا من خلال استطلاع هذه الثّنائيّات اكتناه طبيعة تجربته؟
I. الوجهة الصّراعيّة لنتاج نعيم تلحوق:
الطّبيعة العامّة لثنائيّاته:
بنظرةٍ عامّة إلى أعمال الشّاعر في المرحلة الثّانية من حياته الشّعريّة، نلاحظ تنوّعاً واضحاً في الثّنائيّات التي نعثر عليها في دواوينه. وإن قمنا بالغوص في تلك الدّواوين، يمكننا أن نختصر طبيعتها الأولى بالوجوديّة. إذ أنّ جميع الثّنائيّات تلتزم الهاجس الوجوديّ الذي يمتلئ به الشّاعر؛ فعلى سبيل المثال، نجد حضوراً مكثّفاً للثّنائيّات ضمن قصيدةٍ بعنوان "حوذيّ الزّمان"، لا سيّما حينما يقول:
"[…] قلْ ماذا تخبّئ أيّها الحوذيّ،
في صدركَ من أخبار؟
حتّى يصادقكَ الطّير،
ويناجيك الرّعد،
ويخشاك الملوك،
فتصادف نفسكَ
وجهاً تائهاً في المرآة،
لا تسأل البحر قربك،
ولا العشبَ بُعدَك، […]"
من خلال هذا المقطع، نستطيع أن نستطلع ثنائيّاتٍ مرتبطةً بالحوذيّ بوصفه قائد المسير، أو الموجِّه في السّفر. من تلك الثّنائيّات: (الوعي/الضّياع)، أي ما يرتبط بحقيقة هذا الحوذيّ وبمهمّته التي تكمن في وعي الطّريق من أجل الإيصال إلى غايةٍ معيّنة، في مقابل وجهه التّائه في المرآة. وتعكس هذه الثّنائيّة هاجساً وجوديّاً يكمن في حضور صراعٍ نفسيٍّ محتدمٍ داخل الشّاعر بين تطلّع الآخر نحو هذا النّموذج بوصفه الموجّه للمسيرة، بينما يعاني في داخله من تشكيكٍ في حقيقة وجهته؛ وهو الأمر الذي ينسحب لا على حياة الشّاعر فحسب، بل على ما يمثّله من تطلّعاتٍ وقيم.
من ناحيةٍ أخرى يمكننا أن نرصد طبيعةً أخرى للثّنائيّات في شعر تلحوق، تتجلّى في ذاتيّتها، أي تمحورها حول ذات الشّاعر وما تمثّله من قيمٍ وأفكار. فالنّصّ الشّعريّ التّلحوقيّ يشهد صراعاً بين الذّات وبين قوّةٍ أخرى طبيعتها مختلفة ترتبط بالآخر-الآخرين، أو بأفكارٍ وقيمٍ معاكسة. ولعلّ المقطع التّالي يعطينا فكرةً أوضح عن ذلك الجانب:
"[…]كنتُ بلا أنتم…
سحر سوادٍ يُعادُ إليّ،
وعطراً أوسعَ من الحبر،
وهامةً تعاند مقلتيّ…"
تبرز الثّنائيّة هنا من خلال الضّمائر التي تنشطر بين المتكلّم المفرد (كنتُ– إلـيّ– مقلتـيّ) والمخاطَب الجمع (أنتم)، حيث تبدو الذّات/ الأنا متّصفةً بالسّحر الذي يدلّ على التّفرّد والعطر الذي يشير إلى الأثر في المحيط والهامة التي تدلّ على المواجهة والفخر، وهي الصّفات التي يملكها حينما يتجرّد من الآخر/ الأنتم الذي يشير إلى الجماعة الحاملة لأفكار موروثةٍ أو عاداتٍ ميّتة، وهي بالتّالي التي تناقض مواصفات أناه. بناءً عليه، تُظهر هذه الثّنائيّة حضور الذّات المحوريّ لدى الشّاعر وفاعليّتها.
ومع كون الذّات تمثّل المحور الذي تقوم عليه ثنائيّات تلحوق الدّلاليّة، إلاّ أنّ خلفيّاتها تحمل أبعاداً ثقافيّةً وحضاريّةً واجتماعيّة واضحة، انطلاقاً من منظورٍ رؤيويٍّ يجعل من الأنا وجهاً من وجوه المحيط الذي تتجذّر فيه، أي نتاجاً لأفكار مجتمعها وثقافته؛ أو يجعل منها تمثيلاً لحالٍ فكريّةٍ وقوميّةٍ متنوّعة الأوجه والمنطلقات. يمكن استشفاف هذا الجانب من خلال مخاطبته للشّهيد محمّد الدّرّة بالقول:
"كسرتُ عمري برمشيكَ،
لماّ سألتُ العُربَ حالكَ،
فقالوا: لا مكان في بالنا لاشتعالكَ، […]"
في المقطع السّابق، نرى بوضوحٍ هذا التّقابل الذي يحضر بين قوّتين: (الانتماء/الخذلان)، إذ أنّ قوّة الانتماء يتجلّى بضمير المخاطب المفرَد المسيطر على الأسطر والذي يوحي بالشّهيد، بينما تتمثَّل قوّة الخذلان في لفظة العُرب وفي ضمير الجمع الذي لحق بها؛ ما يبرز البعد القوميّ لثنائيّاته.
على أنّ طبيعة تلك الثّنائيّات تأخذ بالتّطوّر لتعبّر عن المنطلقات الفكريّة التي يعتنقها الشّاعر، والتي تعبّر عن هاجسٍ عامٍّ يشمل مجتمعاً بأكمله. فها هو يعلن عن ألمه من نفاق البعض في حمل المبادئ التي يؤمن بها:
"لي قضيّة تحمل تاريخاً من المعلّبات
والمكسّرات خمر السّنين،
ولي أحبّة يحملونها في جيوبهم،
متعة الفجر المطلّ على الجبين.
وأنا محظيّ بأصدقاء يغرقونها
بنميمة الحقد الدّفين…"
فالملاحظ يستطيع أن يجد الجموع إلى جانب ضمائر الجمع معبّرةً عن النّفاق وضعف الانتماء، بينما يرى ضمير المتكلّم المفرد ليكون ممثّلاً لكلّ مخلصٍ في انتمائه، وهذا ما يشكّل صراعاً تظهره ثنائيّة (الانتماء/النّفاق).
إضافةً إلى هذا كلّه، لا يمكن إلاّ أن ننظر إلى غائيّة الثّنائيّة لدى نعيم تلحوق، انطلاقاً من كون تلك الغائيّة جزءاً في طبيعتها الصّراعيّة. وفي هذا السّياق، نرى أنّ الغاية التي تسعى إليها ثنائيّاته ترتبط بطبيعتها الأولى الوجوديّة، إذ أن قصيدة الشّاعر تنحو باستمرارٍ منحًى يهدف إلى مواجهة المصير الإنسانيّ الكليّ لرفع قيمة وجود الإنسان فرداً وجماعةً… وعلى هذا الأساس يمكننا قراءة المقطع التّالي:
"تعلّمتُ الطّريق إليكِ، بعدما فارقتني الأنبياء وأحجم عنّي
المتنكّرون بالعلم،
وكفّرني تجّار الرّغيف،
وبايعني القديسيّون والصّدّيقيّون
وباعتني الآلهة عقودها ومزاميرها..
وانتخبتني الملائكة والكهنة وصيّاً على العرش،
وصرتُ أفرح كلّما دقّت الرّيح باب نافذتي وأهوائي، لتصيّرني منكِ إله
العصافير والظّنون."
يمكننا من خلال ما سبق أن نستشفّ حالين تمثّلهما الأفعال التي توزّعت بين الماضية التي دلّت على حاله قبل أن يتعلّم الطّريق إلى المرأة المجهولة، وبين المضارعة التي مثّلت حاله بعد أن تعلّم؛ لتكون الثّنائيّة المتشكّلة هنا هي (الجهل/العلم) المرتبطة ببحضور الذّات وفاعليّتها. فقد شكّلت العوامل والمعاناة التي قدّمتها الأفعال الماضية حالاً مؤهّلةً لمرحلة العلم، بينما دفعت المعرفة نحو تحوّل الشّاعر إلى "إله"، أي إلى رمزٍ للعارف والقادر في الوقت عينه… وهذا كلّه من خلال السّعي للوصول إلى ضمير المخاطَب المؤنَّث، والذي يشير إلى امرأةٍ مجهولةٍ قد تكون رمزاً إلى الذّات. فأن يعلم الشّاعر كيفيّة بلوغ ذاته بعد كلّ ما عاناه وما مرّ به يدلّ على غايةٍ تتعلّق بمصير تلك الذّات وبتحقيق حضورها الفاعل.
استناداً إلى ما تقدّم، يمكننا استنتاج الطبيعة العامّة للثّنائيّات المتبلورة داخل المرحلة الثّانية من شعر نعيم تلحوق، والتي يمكن تلخيصها بكونها ثنائيّات وجوديّة ذّاتيّة تمتلك أبعاداً ثقافيّة وحضاريّة واجتماعيّة، وغايتها مواجهة الذّات لمصيرها من أجل ترقية الوجود الانسانيّ الذي يهجس فيه الشّاعر. لكنّ الباب هنا يُفتح على مصراعيه للتّساؤل حول مدى انسحاب طبيعة هذه الثّنائيّات على ديوانه "شهوة القيامة"، وحول درجة التّنوّع في السّياقات التي تتجلّى فيها ضمن هذه الدّيوان.
II. مسار الثّنائيّات في ديوان "شهوة القيامة":
1- تجسيد حال السّقوط:
بالقراءة المتمعّنة لديوان "شهوة القيامة"، نلاحظ أنّ الثّنائيّات الدّلاليّة قد أخذت حيّزاً مهمّاً في تكوينه؛ إلاّ أنّها تنحو منحًى متدرّجاً في المضامين والأبعاد التي تشتمل عليها. ولعلّ الحال الأولى التي يمكن أن نلحظها في تموضُع ثنائيّات تلحوق هي حال السّقوط، أو حال الضّياع، بما تعنيانه من جوانب سلبيّةٍ في حياة الانسان. أمّا عن أبعاد تلك الحال، فيمكننا أن نجدها في المستويات الاجتماعيّة والثّقافيّة والحضاريّة… وهو الأمر الذي نرصده في الأسطر التّالية:
"إثنان سقطا في امتحان المتاهة،
جسدي،
وأفكار أبي عنّي…
وأنا بين حدّين أغنّي…"
في ما سبق، نرى حضوراً لثنائيّةٍ حادّةٍ تتجلّى في صراعٍ وجوديٍّ يقع بين الأنا التي لم تمتلك إلاّ الجسد، وبين رمز الأب الذي يقدّم الأفكار القديمة حول تلك الأنا؛ وذلك ما يشكّل ثنائيّة (الموروث/المعاصر). غير أنّ الغلبة تبدو واضحةً في هذا الصّراع لمصلحة الأفكار الموروثة على حساب الجسد المعاصر، وهو الأمر الذي أدّى إلى حال السّقوط. وباختصار، فإنّ هذه الحال تبدو من خلال الاستسلام للماضي ولأفكاره البالية. أمّا حضور رمز الأب فيضيف إلى معنى الموروث بعداً آخر يبرز في الخضوع للسّلطة الأبويّة وأفكارها الاستبداديّة التي لا تقبل النّقاش، والتي تسعى إلى فرض أفكار الأب، أو نموذجه، على الجيل التّالي ليكون جيلاً خاوياً فارغاً من أفكاره الخاصّة، ولا يستطيع أن يعيش إلاّ بتفكير "الأب".
على أنّ حال السّقوط لا تتوقّف على ذلك، إذ أنّها ترتبط أيضاً بطبيعة الإنسان وبعواطفه، ففي نظر الشّاعر تبقى العاطفة عاملاً محوريّاً في توصيف الإنسانيّة. على هذا المستوى، يمكن قراءة ما يلي لتوضيح ما نصل إليه:
"العالم مقبرةٌ عظمى،
موتاه أكثر من الموت،
لأنّ قلوبهم أقلّ…"
نجد في الأسطر السّابقة ثنائيّةً قائمةً على (القلب/الموت)، فمن الواضح أنّ العالم صار عبارةً عن مقبرةٍ بسبب تقلّص حجم العاطفة فيه، وذلك يعود إلى أنّ قلوب النّاس قد قلّت فحوّلتهم إلى أموات في نظر الشّاعر. يدخلنا هذا في توصيف لحال السّقوط الأخلاقي التي يعاني منها المجتمع، إذ أنّ البشر تجرّدوا من إنسانيّتهم من خلال تجرّدهم من عاطفتهم، مع ما يشمله ذلك من انتفاءٍ لمعايير الرّحمة والتّعاطف…
يضاف إلى ما سبق، عناصر أخرى تكمل مشهد السّقوط وتكمن في المستوى الفكريّ، أي في الفكر الذي يسيطر على عقول النّاس، لا سيّما الأفكار التي تدعو للاستسلام والانهزاميّة. وفي هذا السّياق نقرأ:
"قال لي [صوت في المنام] بعد الصّوم،
إبقَ راضياً عمّا أنت،
ليطلق سراحكَ الآخرون…"
تكشف الأسطر السّابقة عن معانٍ مرتبطة بمسألة الاستسلام للواقع المفروض، وبعمليّة التّخلّي عن فكرة المواجهة من أجل الخلاص من فساد هذا الواقع. وهذا ما يضعنا أمام ثنائيّة (المواجهة/الاستسلام) التي تضيء الوجه الحقيقيّ للواقع، وتدفع إلى تغييره. في هذا السّياق، تظهر لفظة (الصّوم) لتوحي لنا أبعاداً دينيّةً تعمل على إشاعة أفكار مفادها التّخلّي عن أيّ محاولة للخروج من ذاك الواقع، والتّعويض بانتظار الفرج من الغيب أو من قوى أخرى خارجة عن إطار العالم الواقعي؛ وذلك يبرز بلفظة (الآخرون) التي تبيّن طبيعة التّفكير الإيمانيّ هذه. وبناءً عليه، فإنّ الشّاعر يعدّ هذا تعطيلاً للعقل ولقدرته على تحدّي الأزمات، وهو ما يعني سقوطاً بكلّ ما للكلمة من معنى.
وقريب من هذا المعنى إنّما بثنائيّةٍ مختلفة، نقرأ انتقاداً صريحاً للانحدار الذي وصل إليه العرب اليوم، حيث يجتمع الضّياع الأخلاقيّ والضّياع الفكريّ ليوضح الفراغ الذي يحدّد حال الفشل الذي نقع فيه. فيردّد الشّاعر:
"غضب… غضب…
عروبة أسقطتها أحلام الدّاشرين
خلف المؤمنات،
والمكثرين من الأدعية والموعظات.."
فثنائيّة (الانتماء/الضّياع) تتّضح من خلال التّقابل بين الانتماء للعروبة والشّعارات التي ترافق هذا الانتماء، وبين ضياع تلك الشّعارات بأكملها خلف النّساء وخلف مدّعي الإيمان… انطلاقاً من ذلك، نرى أنّ السّقوط يشمل مَن يصنّفون أنفسهم بـ"العرب"، لأنّهم جماعة لا تقوى على الفعل الحضاريّ أو على الدّفاع عن نفسها.
لكنّ هذا الإطار لا يمثّل، بطبيعة الحال، ديوان "شهوة القيامة" بالكامل، إذ أنّ طرحه النّقديّ هذا لا بدّ أن يُستتبَع بحالاتٍ أخرى على المستوى الثّقافيّة والحضاريّ. فكيف عمل نعيم تلحوق على مواجهة تلك الحال؟
2- حال الرّفض والمواجهة:
يستطيع القارئ أن يدرك بوضوحٍ عدم توقّف الشّاعر عند حدّ توصيف الواقع وما يشتمل عليه من سقوطٍ أخلاقيٍّ وثقافيّ، وإلاّ لكان شعره مجرّد انعكاسٍ للواقع، وبالتّالي مجرّد عمليّة تقمّصٍ للفساد فيه. لكنّه يتخطّى تلك الحدود ليبلغ حالاً أكثر تقدّماً وأكثر فاعليّةً تختصرها صفة الرّفض والمواجهة، والتي تكتمل من خلال توسّل مسارٍ متدرّج المستويات. وانطلاقاً من ذلك، نرى المستوى الأوّل يتبلور على شكل تساؤلاتٍ حول إمكانيّة الخروج من وضعيّة السّقوط تلك، وهو الأمر الذي يظهره لنا الاستفهام الوارد ضمن المونولوج التّالي:
"ماذا فعلتَ بالسّر الذي أخرجنا
لنبصر صحوة، […]"
فالثّنائيّة التي توجّه هذا التّساؤل تبرز في (الصّحوة/الركون)، حيث قدّم السّطران السّابقان استفهاماً حول "السّرّ" الذي يدفع إلى الوعي بحقيقة الواقع وفساده، بينما يستبطن الكلام هنا حضوراً فاعلاً للرّكون إلى الأفكار التي تجمّل هذا الواقع أو تقلب صورته. ولعلّ استخدام الاستفهام هنا يشير إلى أنّ السّؤال درجة أولى درجات المعرفة، ما يعني أنّه يشكّل علامةً من علامات الصّحوة أو الوعي. وهذا ما يبيّن هاجس الشّاعر في دفع المتلقّي إلى مستوى الوعي ذاك، لأنّ بدونه لن يحدث أيّ تقدّم أو تغييرٍ في المجتمع.
ويقود هذا الوعي بالواقع إلى مستوًى آخر من هذه الحال، ألا وهو مستوى الرّفض للفساد المتفشّي في مجتمعنا المعاصر. إذ أنّ هذا الفعل ليس مجرّد موقفٍ عابر، بل هو فعل محوريّ يبيّن القطيعة التّامّة عن المفاهيم السّاقطة التي تحوّلت إلى تفاصيل يوميّة اعتياديّة. وعلى هذا الأساس، يصدر استهجان الشّاعر وتمرّده في قوله:
"حين أغيب،
لا أريد لجثّتي أن تفرّخ،
مرائين ودجّالين بمالا يُعدّْ…
ولا أن يتبادل شهودٌ لعناء
وصيّتي، "
يقدّم لنا هذا المقطع ثنائيّةً من نوعٍ جديد تقع بين المنافقين والدّجّالين الذين يستغلّون الموت لبناء منافعهم الشّخصيّة، وبين الحقيقة أو حقيقة الذّات؛ وهو ما يُختَصَر في قوّتَي (الحقيقة/النّفاق). فالشّاعر يعمل على توجيه نقدٍ حادٍّ لأولئك المستغلّين للمواقف من أجل المكاسب الصّغيرة، وهي حال مستشرية في حياتنا اليوميّة. وقد يغمز أيضاً هنا من قناة المزوّرين للتّاريخ وشخصيّاته في سبيل طموحاتٍ ضيّقة، أو مناحٍ أيديولوجيّةٍ آنيّة.
إلاّ أنّ هذا الرّفض لا يبقى ضمن هذا الإطار فحسب، إذ يمكننا أن نجد خروجاً على جوانب أخرى من الحياة المعاصرة في مجتمعنا. فالشاعر يبيّن إيمانه بخصوصيّة التّجربة الحضاريّة للذّات في عصرنا، وما تعانيه من الضّغوطات والقيود التي تُفرَض عليها. وفي هذا الإطار، يقول الشّاعر:
"كلّ شيءٍ بي يركض إليكِ،
لأتعافى من سكرة التّقليد، "
نجد هنا حضوراً جليّاً لثنائيّة (التّجدّد/التّقليد)، نستطيع اكتشافها من خلال لفظة "التّقليد" بما تظهره لنا من أبعادٍ تتعلّق بمحاكاة القديم، أو بمحاكاة النّموذج الحضاريّ الأرقى؛ وفي الحالين، نلحظ جموداً وانعدام قدرةٍ على الإنتاج. في حين أنّ لفظة "يركض" توحي بالحركة المتسارعة التي تسعى إلى الخروج من وضعية السّكون، وبالتّالي الدّخول في وضعيّةٍ متجدّدة.
لكنّ عمليّتي الوعي والرّفض اللتين رصدناهما في ما سبق، تبقيان خطوتين قاصرتين إن لم تُتبَعا بخطوةٍ ثالثةٍ تعمل على استكمال توصيف هذه الحال لدى الشّاعر. لذلك نستطيع أن نرى حضوراً لمستوًى آخر من مستويات حال الرّفض هذه، وأعني مستوى المواجهة بغض النّظر عن النّتيجة التي يمكن أن نتلقاها من جرّائها. وفي هذا السّياق، نجد عامل التّحدّي حاضراً بشكلٍ محوريٍّ في ديوان "شهوة القيامة". ولعلّ هذا ما نستشفّه في ما يلي:
"أكثر من عنادٍ هناك،
سطرٌ يصف وجه الأرض،
ويعرّج على السّماء،
تلحظ أنّكَ ستستقبل أحداً،
أكبر من الموت،
وأبهى من الحرّيّة…"
يرى القارئ في هذا الموضع تلك القوّة التي تواجه أيّ نوعٍ من أنواع الهزيمة. ويتّضح من خلال العنوان الذي وُضعَ للقصيدة "شجر النّهايات" أنّ القوّة تمثّلت بالشّجر الذي يمتدّ على شكل سطرٍ بين من السّماء إلى الأرض ليقهر الموت، وليقدّم لنا نموذجاً متفرّداً قد تفوّق على الهزيمة. وعليه، فإن ثنائيّة (الشّموخ/الهزيمة) هي التي تتحكّم بالمشهد لتبيّن عنصر التّحدّي الذي يمكن أن يُعدَّ بحدّ ذاته انتصاراً، وهو الأمر الذي ينطبق على الشّعوب التي تتمكّن من هزيمة المعتدين عليها بقوّة ثباتها وتجذّرها في قيمها وتمسّكها بالإصرار على كتابة مستقبلها.
على أنّ ما يطالعنا في هذا المجال، بناءً على إدراكنا لمفهومي السّقوط والرّفض لدى الشّاعر، هو الكيفيّة التي يمكن من خلالها متابعة المسار الرّؤيويّ للدّيوان. وهذا ما يوضحه لنا الشّاعر نفسه بقوله:
"أنا هو…
المغنّي الوحيد،
أبحث عن سرٍّ خلف السّرّ…
لأستنطق عدمي…"
يمكن لقارئ المقطع السّابق أن يجد صراعاً في إطار ثنائيّة (الخلود/العدم)، فمن المواضح هنا أنّ الشّاعر يتّخذ دور الفاعل المحوريّ الذي يسعى إلى اكتشاف الحقيقة التي ترقّيه إلى مرتبة الخلود. وهو بالتّالي يتحوّل إلى باحثٍ يعمل على التّوصّل إلى الطّريقة التي تمكّنه من الخروج عن العالم الواقع في السّقوط، لا بل ومجابهته ليبلغ القيم الجديدة التي ينشدها. لكن هل توصّل تلحوق في ديوانه إلى ذلك السّبيل؟
3- حال القيامة:
تطالعنا هذه الحال منذ التفاتنا إلى عنوان الدّيوان "شهوة القيامة"، وهو عنوان يطلق فكرةً صراعيّةً تحمل ثنائيّة (الموت/الحياة)، وبالتّالي فإنّ الدّيوان بشكلٍ عامٍّ ينضوي في إطار هذه الثّنائيّة التي تنطلق من مرحلة الموت إلى مرحلة الحياة، خصوصاً أنّ العنوان الذي يتضمّن حضور القوّة الطّبيعيّة التي تدفع نحو القيامة والنّهوض من خلال لفظة "شهوة". وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم نزعة الشّاعر للدّخول في مسارٍ "قياميّ" يؤدّي به إلى بلوغ الحياة الحقيقيّة التي ينشد قيمها.
يتّخذ المسار "القياميّ" هذا مفهوم الشّهوة منطلقاً له في الدّيوان، وذلك استناداً إلى أنّ الشّهوة تشكّل حضوراً لحرارة الحياة التي تبعد عن قيم الموت والسّقوط. لذلك نعثر على الذّات تقوم بمناجاة الشّهوة التي تعطيها الأمل بالقيامة، في ما يلي:
"بعيداً، أبحث عنها،
أجدها قرب عمري،
تنبش اللّظى من رموشي…"
فالثّنائيّة هنا تبدو من خلال عبارة "تنبش اللّظى" التي تحمل في طيّاتها قوّتين متضادتين تظهر الأولى في فعل النّبش الذي يدلّ على حال الدّفن، أي أنّه يعطينا إيحاءً بأسبقيّة حال الموت، أو بأنّها الحال الأوّليّة في المقطع. في حين أنّ حضور "اللّظى" يشير إلى حرارة الحياة التي تكمن في داخل الذّات، والتي تهيّئ هذه الذّات لبلوغ حال القيامة، وهو الأمر الذي يشكّل القوّة الثّانية. وبذلك تكون الثّنائيّة المسيطرة هنا هي (الموت/النّار).
إلاّ أنّ رمز "النّار" لا يتّخذ البعد السّابق فحسب، بل يتجاوزه ليتحوّل إلى رمزٍ للتّضحية أو لعمليّة الفداء، بحيث تكون عتبةً للخلاص. وفي هذا السّياق يطالعنا قول الشّاعر:
"لكنّ النّار أوشكت صدري،
وأنا في عبِّ جنانك،"
نرى بوضوحٍ انقضاض النّار على الصّدر بما يعطي صورةً توحي بالموت، غير أنّه موت إراديّ اختياريّ يظهر من خلال حضور الذّات (أنا) في عمق الجنان، أي دخول الذّات بشكلٍ طوعيٍّ إلى المكان المنشود. وهذا ما يدلّ على ارتباط جانبين متعاكسين يشكّلان ثنائيّة (الموت/الحياة) التي تربط طرفيها بإردايّة الفعل بحيث يتحوّل الموت إلى تضحية.
وفي جلاءٍ لهذه الفكرة، تحضر التّضحية في موضع آخر من الدّيوان، مبيّنةً الرّغبة العارمة في توسّل هذا الفعل سبيلاً نحو القيامة، فنقرأ:
"إزرعيني في حضنكِ شتلةً،
دون ماء،
فأنا ما اخترتُ السّبيل عطشاً،
كنتُ أدرك أنّكِ النّار،
التي تبري الشّوك ورداً،
وكنتُ أغطّيكِ بمائي…
فتدلّلي ما شئتِ،
واحرقي عمري بنارك،"
تتدرّج الصّورة في هذه الأسطر، ابتداءً من إرادة الشّاعر في أن يجعل من نفسه نبتةً في حضن الآخر المؤنّث، بمعنى أنّه يعمل على أن يكون نابتاً من خلالها، وهو ما يدلّ على عمليّة نهوض. إلاّ أنّ هذا لا يتمّ إلاّ من خلال فعلٍ سابقٍ، يوضحه الشّاعر باستكمال المشهد الذي يبيّن أنّه اختار الطّريق التي تؤدّي إليها، مع أنّه علم أنّها النّار، وبالتّالي فإنّ وصوله إليها يعني دخوله في النّار، أو اختيار التّضحية، من أجل أن يتحوّل إلى نبتة، أو إلى مظهرٍ من مظاهر الحياة. ومن الواضح أنّ هذه الصّورة تتكوّن ضمن ثنائيّة (التّضحية/الولادة)، حيث أنّ الفعل الأوّل يؤدّي إلى الثّاني، وينتفي التّناقض أو الاختلاف بين القوّتين.
ولعلّ صورة التّكامل تلك هي التي حدّت بالشّاعر نعيم تلحوق إلى إعلان توقه لبلوغ الحال الانبعاثيّة مهما كان ثمن التّضحية قاسياً، الأمر الذي نجده في قوله:
"أحبّكِ لأنّكِ باب النّهاية،
ولأنّ القيامة معكِ بدايات…"
نلاحظ في ما سبق الدّخول في سياق الثّنائيّة نفسها، وأعني (التّضحية/الانبعاث)، حيث نجد أنّه يقبل عليـ(ها) مع أنّها تودي به إلى النّهاية، غير أنّه سرعان ما يستكمل الفكرة ليقول بأنّ القيامة التي سيصل إليها ليست بدايةً وحسب، بل بدايات أو حيوات جديدة. على أنّ المشهد الشّعريّ هذا يحيلنا إلى أبعادٍ أسطوريّةٍ تضفي على فكرته وجهاً من العظمة، فهي تشكّل مشهداً تمّوزيّاً، تعيدنا إلى النّموذج الأوّل من نماذج أساطير الانبعاث، وأعني رمز "دوموزي أبسو" الذي يعني "الابن البارّ للمياه العذبة". أمّا عن مضمون أسطورته، فهي تتكلّم عن تضحيّة "دوموزي" بالنّزول إلى العالم السّفلي من أجل إنقاذ حبيبته "عشتار". ومن الواضح أنّ الشّاعر قد استفاد من هذه الأسطورة ليوظّفها في سبيل الغاية التي ينشدها، وهي تحقيق الانبعاث الحضاريّ للمجتمع الذي يمثّله.
واستناداً إلى حضور هذه الأسطورة، تحضر قصيدة "ماء" لتقدّم لنا رمزاً انبعاثيّاً أو قياميّاً، ولكن بوجهٍ متفرّدٍ عن غيره ممَّن استعانوا بهذا الرّمز. وقد جاء فيها:
"ماءٌ، لأنّ ظلّنا شاردٌ وغريب،
يخاف السّيلَ من خطفِ رهجته…
ماءٌ، ليتّفق التّرابُ
فينقذَ النّار من طين سمعته…"
يبرز الماء في القصيدة بوصفه قوّةً تقف في وجه الحضور المزيّف والضّعيف الذي مثّله (الظّلّ الشّارد والغريب) والخائف من أن يكون ضحيّة الماء، وبوصفه قوّةً تفعل لتجعل التّراب متماسكاً بحيث يحمل نار الحياة والارتقاء في داخله بعيداً عن وضاعة حال الطّين الاعتياديّة، بمعنى أنّه ماءٌ يمنح الحياة ويرفع من قيمتها ويجعل من الإنسان كائناً سامياً بالفعل. وهنا تتبلور ثنائيّة (الموت/الحياة) ليكون الماء هو العامل الذي ينقل البشر من حال الظّلّ (الموت) إلى حال النّار (الحياة)، الأمر الذي يشكّل الدّور الملقى على رمز الماء في الأساطير الانبعاثيّة بمعظمها بوصفه رمزاً للخصوبة الإنسانيّة والزّراعيّة، وتمثيلاً لدور إله الخصب "تمّوز"، وهو التّواؤم الذي حدث لدى شعوب الهلال الخصيب القديمة.
في خلاصةٍ لما تقدّم نرى أنّ الشّاعر تلبّس المسار الانبعاثيّ الذي ابتدأ بتلمّس حرارة الحياة الحاضرة في قلب المجتمع، ثمّ انتقل ليدخل في عمليّة التّضحية الراقية التي تؤدّي إلى بلوغ حال القيامة في حياة هذا المجتمع أو الأمّة، أو حتّى البشر… ولعلّ هذا ما شكّل السّبيل الوحيد الذي يؤدّي إلى سيادة قيم الحياة الجديدة التي يمثّلها الشّاعر، وهو ما عبّر عنه قائلاً:
"سألتُ عمري عمّا يؤول
إليه مصيري
وكيف تسأل عمّا اشتكيت…
فجاءني الصّوت يحمل حبراً،
ويصرخ عنّي، الآن، الآن،
أنتَ ابتديت".
4- الخاتمة:
في محصّلةٍ لما تمّ بحثه سابقاً، يمكننا أن نرى المدار الذي تدور فيه الثّنائيّات الدّلاليّة لدى نعيم تلحوق، إذ أنّ البحث في المرحلة الثّانية من مسيرته الشّعريّة بيّن لنا أنّ الثّنائيّات اتّسمت لديه بالنّزعة الوجوديّة الذّاتيّة التي أخذت أبعاداً حضاريّةً وثقافيّةً واجتماعيّة، وبتعبيرٍ أوضح شكّلت تلك الثّنائيّات محوراً للبحث في الهمّ الوجوديّ للانسان والمتعلّق بالخطر الأخلاقيّ الذي يتهدّد الذّات ويعمل على تهديم القيم الانسانيّة العليا، وهذه القيم هي التي ترفع الحياة وترقّيها على المستويات الحضاريّة والثّقافيّة والاجتماعيّة. من هذا المنطلق نرى أنّ النّصّ الشّعريّ التّلحوقيّ يدخل في عمليّة صراعٍ شاملةٍ لتحقيق قيم الحياة الجديدة.
إلاّ أنّ تطرّقنا لديوانه "شهوة القيامة" تحيلنا إلى وجهةٍ متفرّدةٍ ضمن إطار الطّبيعة العامّة لثنائّيات تلحوق، فهي تندرج داخل مسارٍ متدّرجٍ ينتظم في حالاتٍ ثلاث: الأولى تجسّد حال السّقوط التي يقع فيها المجتمع المعاصر، والثّانيّة تقدّم لنا حال الرّفض والمواجهة التي ترتبط بوعي عوامل الفساد وعدم الاستسلام لها، أمّا الحال الثّالثة فتتعلّق بفعل القيامة الذي يشكّل الغاية الأخيرة الكامنة في عمليّةٍ انبعاثيّةٍ لقيم المجتمع العليا، أو للقيم الانسانيّة العليا التي تقود الحياة الجديدة.
وبناءً على هذا الرّصد لمسار الثّنائيّات داخل "شهوة القيامة"، نلاحظ أنّها لا تخرج عن طبيعة الثّنائيّات في شعر تلحوق، لكنّها تتّخذ مساراً تمّوزيّاً خاصّاً يستقي دلالاته من الرّموز الأسطوريّة التي تتعلّق بعمليّة الخصب والانبعاث، وفي هذا السّياق نجد إشارات رمزيّةً من مثال: الماء، النّار… لتقدّم إحالاتٍ نحو البعد "القياميّ" الذي تشتمل عليه الثّنائيّة الدّلاليّة في هذا الدّيوان، والتي يمكن اختصارها في ثنائيّتَي (الموت/الحياة) و(التّضحية/الولادة).
استناداً إلى ذلك كلّه، نجد أنّ ديوان "شهوة القيامة" شكّل استكمالاً لسلسلة الدّواوين التي أصدرها الشّاعر في المرحلة الثّانية من شعره التي تتّخذ بنيةً عضويّةً موحّدة ضمن السّياق التّالي: "أظنّه وحدي يغنّي بوحاً يرقص كفراً لأنّ جسدها شهوة القيامة". فيعطينا هذا السّياق دلالةً انبعاثيّةً تنطلق من وعي الذّات بالآخر الذي يحمل في طيّاته حراكاً غريباً من أجل جسد "القضيّة" أو "الأرض" أو "الأمّة" والذي شكّل بحدّ ذاته مساراً للقيامة أو الانبعاث. ولذلك يمكننا أن نرى أنّ الدّيوان الأخير يختزن عنصر الأمل ضمن صفحاته، لكونه يضيء لنا المسار التّمّوزيّ الذي يوصل نحو الخلاص أو تحقيق الحياة الجديدة.
إلاّ أنّ مسألة البحث في شعر نعيم تلحوق تبقى بحاجةٍ إلى الكثير من الإضاءة على جوانب أخرى من المستويات الدّلاليّة والفنّيّة. ولعلّ من أبرز هذه الجوانب، هو الذي تطرحه هذه الدّراسة والمتعلّق ببحث الرّموز في نتاجه والأبعاد التي تحيل إليها.
ختاماً، نقول بأنّ التّجربة الشّعريّة لدى نعيم تلحوق ما تزال بعيدةً عن الاستهلاك النّقديّ، كما لا تزال تفاصيلها الفنّية والرّؤيويّة بحاجةٍ إلى الاستقراء والتّعمّق، على أمل أن تكون هذه الدّراسة البسيطة فاتحةً لدراساتٍ أكثر توسّعاً وتنوّعاً في مجالات بحثها لمشروعٍ شعريٍّ متفرّدٍ وراءٍ في الآن عينه.
نعيم تلحوق: لأنّ جسدها. بيروت، دارفكر للأبحاث والنّشر، الطّبعة الأولى، 2012، ص16.
نعيم تلحوق: لأنّ جسدها. ص62- 63.
نعيم تلحوق: يغنّي بوحاً. بيروت، إتّحاد الكتّاب اللّبنانيّين، الطّبعة الأولى، 2005، ص58.
نعيم تلحوق: يغنّي بوحاً. ص79- 80.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. بيروت، دار الفرات للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، 2013، ص13.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص42.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص 72.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص18.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص14.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص49- 50.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص19.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص83- 84.
يمكن مراجعة مؤلّفي التّالي حول مفهوم الأسطورة:
– لؤي زيتوني: مفهوم الأسطورة ورمزيّتها الأدبيّة. بيروت، دار فكر للدّراسات والنّشر، الطّبعة الأولى، 2009، ص72- 73.
كما يمكن مراجعة:
– يوسف الحوراني: البنية الذّهنيّة الحضاريّة في الشّرق المتوسّطيّ الآسيويّ القديم. بيروت، دار النّهار، الطّبعة الأولى، 1978، ص 214- 215.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص38.
نعيم تلحوق: شهوة القيامة. ص36- 37.