"يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدا
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
إلى الشرق البعيد
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدا"
خليل حاوي
أما قبل:
مات خليل حاوي حالما، ان ذاك الشرق سيلتحم بأضلع النسر الذي آمن به جسر عبور إلى الوحدة والحرية والاستقلال. شرق جديد، سيد، قوي، يحمل الى العالم رسالته الخاصة في الحق والخير والجمال.
مات خليل حاوي مدركاً، انما الشرق جهة حيث تشرق النهضة فكراً وصناعة وغلالا، وليس الشرق مشروعاً جيوبوليتكياً فرضه الغرب السيد على أمة طال سباتها تحت ظلال الحدود الوهمية. مات خليل حاوي والأمة تزداد قسمة وشرذمة وتشظّياً. مات بطعنة معنوية في عقله قبل ان يموت قلبه حزناً على بيروت تحت أقدام الغزاة.
أما بعد:
أصبح مصطلح الشرق وإخوانه: الشرق الاوسط، الشرق الاوسط الجديد، الشرق الاوسط الموسع والشرق الاوسط الكبير، مستخدما بشكل كثيف في يومياتنا الفكرية والاعلامية من دون التدقيق في ماهيته ومضمونه. فاختلط علينا المفهوم ما بين الدلالة الجغرافية والدلالات السياسية المرافقة، بما تحمل هذه الاخيرة من مشاريع ابتعدت كثيراً عن الاستخدام الجغرافي الطبيعي والبريء.
فالشرق بالجغرافية هو جهة، تحدد نسبة الى مكان. حيث تختلف الجهة باختلاف المكان. سوريا مثلا هي شرق بالنسبة لاوروبا ولكنها غرب بالنسبة الى الصين. فالمكان بهذا المعنى يحدد الاتجاه وليس العكس. وعلى هذا الاساس نسوق الملاحظتين التاليتين:
– الملاحظة الأولى: إن الإصرار على استخدام تعبير الشرق أو الشرق الاوسط بدلاً من منطقة سوريا الطبيعية، يعني بدلالاته ان الغرب هو المركز وبالتالي ان سوريا الطبيعية هي هامش وتابعة لهذا المركز. وهذه نظرة استعلائية على ما يعتبره الغرب دونه حضاريا. بل هي رؤية سياسية وثقافية بامتياز راكم عليها الغرب كل مشاريعه اللاحقة.
– الملاحظة الثانية: يبني الغرب تصوره للشرق الاوسط على انها منطقة توقف فيها التاريخ وانعدمت فيها الذاكرة، وهي منطقة ليست لها قدرة على الحياة أو الوحدة إلا إذا ضخ فيها الغرب مقومات ذاتية من لدنه. فعلى المجتمع الشرقي والشعب الشرقي ان يستجيبا لقيم وثقافة الوافد مقابل ان يتخلى عن تاريخه وثقافته وقيمه.
الإطار الجغرافي:
أطلق تعبير الشرق الاوسط بداية للاشارة الى الدول والحضارات المتواجدة في غرب آسيا وشمال أفريقيا. وحسب المراجع الجغرافية المعتمدة عالمياً تشتمل على:
– أولاً: منطقة الاناضول [تركيا].
– ثانياً: شبه الجزيرة العربية [البحرين، السعودية، الكويت، اليمن، عمان، الإمارات العربية المتحدة، قطر].
– ثالثاً: الهلال الخصيب [العراق، الأردن، سوريا، فلسطين، لبنان] وقبرص في البحر الأبيض المتوسط.
– رابعاً: الهضبة الإيرانية [إيران]
– خامساً: شمال أفريقيا [مصر] .
بالواقع يجب التمييز بين المصطلحات السائدة في الغرب. فالشرق الاوسط او الشرق الادنى المحددة دوله أعلاه، كان معتمداً من قبل الاستعمار القديم خاصة لدى الاوروبيين. اما الشرق الاوسط الكبير او الموسّع فهو تعبير حديث التداول، اعتمد من قبل الادارات الاميركية في أكثر من عهد. ويختلف من حيث الرقعة الجغرافية والدول التي يشتملها. اضافة الى المناطق الخمسة الواردة في المصطلح الاول، اضيفت ثلاث مناطق جديدة هي على التوالي:
– سادساً: منطقة القوقاز [أرمينيا، أذربيجان، جورجيا].
– سابعاً: آسيا الوسطى [كازخستان، أوزباكستان، تركمانستان، طاجيكستان، قرغيزستان].
– ثامناً: القرن الأفريقي [جيبوتي، أريتيريا، الصومال].
كما أضيفت إلى الهضبة الإيرانية كل من أفغانستان وباكستان. ومددت شمال أفريقيا لتشمل [الجزائر، السودان، موريتانيا، ليبيا، المغرب وتونس].
الاطار التاريخي والسياسي:
ارتبط هذا المصطلح الجغرافي بالمشاريع الجيوبوليتيكية لأوروبا في المرحلة الأولى، ثم بمشروع الولايات المتحدة الاميركية كنظام سائد على مستوى العالم. ومن الطبيعي ان نلقي الضوء على المراحل التاريخية التي مرّ بها استعمال هذا المصطلح خاصة في السنوات الاخيرة.
ربما تكون المرة الاولى الذي استعمل فيه مفهوم الشرق بمعنىً ملتبس، اختلط فيه الجغرافي بالسياسي، اثناء ما يسمى بالحروب الصليبية. ورغم تحفظنا على التسمية لهذه الحروب التي سميت أيضاً بحروب الفرنجة. غير ان الهدف كان الشرق بما يذخر من غنى على المستوى الحضاري مادياً وروحياً.
فحروب الفرنجة التي شُنّت تحت عنوان ايديولوجي، تحرير مهد المسيح من الكفار، كانت بالواقع تضمر أهدافاً مغايرة لما هو معلن. فالسدة البابوية التي كانت تسعى الى الوحدة المسيحية في اوروبا ساهمت بشكل كبير في جعل الإمارات المتناحرة والمتقاتلة بينها، ان تتجمع تحت لواء مشروع ديني موحد، والتوجه نحو الشرق لتحقيق أهداف مادية، هي نهب كنوز هذا الشرق وخيراته. وقد ترافق ذلك مع طموحات بعض الامارات الاوروبية، وعلى رأسها الامارات الايطالية بالتمدد وتوسيع رقعة اعمالها التجارية في غرب آسيا. طبعاً لم تكن هي الاسباب الوحيدة لقيام الحروب الصليبية وانما هناك اسباب ذاتية داخلية، واسباب تتعلق بنزعة الفروسية والقتال في تلك المرحلة. الا انه ما يهمنا استخدام تعبير الشرق كمشروع استعماري .
في مرحلة لاحقة نسجت اوروبا مشاريعها الجيوبوليتيكية على المنوال السابق نفسه. فغليوم الثاني امبراطور بروسيا عنون مشروعه التمددي «الاندفاع نحو الشرق» وترجم هذا العنوان بمشروع ربط بغداد بالعاصمة برلين، عبر ما عرف بخط سكة حديد برلين – بغداد .
لم تشذ بريطانيا وفرنسا عن هذه القاعدة، بل رسّخت كل منها هذا المصطلح عبر استخدامه في استهدافاتها حتى التفصيلية منها. فكان الصراع الدائر بينها في الاساس على المستعمرات الشرقية، والوصول الى اسواق الهند الصينية عبر ما اسماه الانكليز بالشرق الادنى. فعندما استطاع الاسطول الانكليزي بقيادة الاميرال نلسون تدمير الاسطول الفرنسي في ابو قير عام 1796 الذي كان يقوده نابليون من على السفينة «أوريون». أحكمت الامبراطورية الانكليزية سيطرتها على البحر الابيض المتوسط وعلى الطريق البرية في الشرق المعروفة بطريق الحرير. في المراحل اللاحقة ظل مفهوم الشرق الاوسط سائداً في الحرب العالمية الاولى وما بعدها. فالجيش السوري اللبناني كان يأخذ اسم جيش الشرق. والاذاعة التي كانت تبث من بيروت هي اذاعة الشرق، والمراسلات الانكليزية وكذلك الفرنسية كانت تستخدم المصطلح نفسه فيما يتعلق بالمصالح والشركات الاستعمارية المتواجدة في هذه المنطقة.
الا ان أخطر مشروعين ارتبطاً بهذه التسمية هما: الشرق الاوسط الجديد، والشرق الاوسط الكبير اللذين بيّنا حدودهما الجغرافية في الفقرات السابقة. ورغم الفوارق الجغرافية والمصادر التي أنشأتهما، غير أنهما يصبان في خانة واحدة. فالمشروعان يتماهيان في الاهداف الاساسية. حفظ أمن «اسرائيل» وتقسيم المنطقة المحيطة الى دول او امارات طائفية واتنية متنازعة تبرر وجود الدولة اليهودية القائمة على الميثولوجيا الدينية في المرحلة الاولى، ومن ثم جعلها الشرطي العالمي القادر على ادارة الصراع بين الامارات المستحدثة بغية استكمال عملية النهب المنظم لثروات الشعوب وخيراتها .
أصدر شمعون بيريز عام1993 كتابه «الشرق الاوسط الجديد» على أثر مؤتمر مدريد للسلام الذي توزع في ما بعد إلى لجان متخصصة، عقدت سلسلة من المؤتمرات الفرعية تناولت الامن والاقتصاد والموارد الطبيعية والتنمية البشرية والتكنولوجيا وغيرها. جاء هذا الكتاب ليحمل وجهة النظر «الاسرائيلية» بهذه المواضيع، وكأن مؤتمر مدريد قد جاء استجابة لما تريد «اسرائيل» من العرب و الدول الراعية، وليس مؤتمراً للسلام فقط. فالكتاب يدعو إلى قيام سوق مشتركة في الشرق الاوسط شاملاً «اسرائيل» كعضو أساسي فيه. طالباً من العرب التخلي عن ماضيهم العدائي تجاه الدولة اليهودية، بل وأكثر من ذلك دعوتهم إلى نسيان تاريخهم والانقطاع عن ذاكرتهم عبر تحويل الجامعة العربية إلى جامعة دول الشرق الاوسط، لان الإسرائيليين وحسب تعبيره لن يتحولوا إلى عرب. لقد تجلى الهدف من المشروع، عندما طلب الوفد الإسرائيلي في اجتماع اللجنة الاقتصادية في الدار البيضاء عام 1994، طلب وبكل وقاحة ان تتخلى مصر عن زعامة العالم العربي لانها فشلت وإيكال هذه الزعامة إلى «اسرائيل».
ربما يكون مشروع الشرق الاوسط الجديد هو ثمرة نقاش بين القيادة الاسرائيلية واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الاميركية. او ربما استوحاه «المحافظون الجدد» في سياق مشروعهم للسيطرة على العالم. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومة الدول الاشتراكية كانت العدة قد جهّزت لاستكمال تطويق الصين وخنقها قبل تحولها الى مارد اقتصادي ومارد عسكري في ما بعد. وعلى قاعدة نظرية «الفرد ماهان» التي تم استخدمتها مع الاتحاد السوفياتي، التي تقول بتطويق الدولة البحرية للدولة البرية واسقاطها من الداخل. فأغرقت الادارة الاميركية بسلسلة من الدراسات التي تعالج كيفية تنفيذ هذا المشروع. ورغم التطابق او التوافق في ما خص المسرحين الاستراتيجيين الشمالي والجنوبي، الا ان المسرح الوسيط ظل موضع نقاش حتى أرسي الأمر على اعتماد نظرية «شيمون بيريز» مع بعض التعديلات على المدى الجغرافي ليطاول المسرح الاستراتيجي الوسيط للولايات المتحدة والذي يمتد من حدود الصين حتى مداخل جبل طارق. هذا المسرح الوسيط اخذ اسم الشرق الاوسط الكبير. تبنى المحافظون الجدد نظرية سيادة الولايات المتحدة على العالم وبوشر العمل على تحقيقها مع مجيء جورج بوش الابن، بالاعتماد على القوة العسكرية المباشرة خاصة بعد احداث 11 أيلول. فكانت الحرب على أفغانستان والعراق والحرب الاسرائيلية على لبنان 2006. فشلت الولايات المتحدة في تحقيق اهدافها عسكرياً وسياسياً في الحروب التي خاضتها. ومع انتهاء عهد جورج بوش، وضعت وزيرة خارجيته «كونداليزا رايس» مجموعة من التوصيات للادارة القادمة في مقال نشرته «الفورين أفيرز»، ومنها وجوب التحول الى الحرب الناعمة بدلا من القوة الصلبة لتحقيق الاهداف المرسومة لاميركا. وبمجيء باراك أوباما الذي أخذ بتوصيات رايس معتمداً على مشروع «برنارد لويس» القاضي بتقسيم الدول القائمة الى دول مذهبية واتنية. هذا المشروع حاز على موافقة كل من «هنري كيسنجر» و «زبينغيو بريجنسكي» ورسم خرائطه مايكل بيترز.
إن ما يحصل الآن في المنطقة، هو حصيلة تنفيذ المشروع الاميركي عبر خطط الفوضى البناءة والحرب الناعمة، التي أنتجت شتاءً عربياً ملوناً بالدم. على أيدي من صنّعتهم وكالة الاستخبارات الاميركية الممولة من النفط العربي.
ختاماً نقول، إننا عرضنا بشكل موجز لتحول مصطلح الشرق الاوسط من الناحيتين السياسية والتاريخية وقد يؤدي هذا التحول الى تحوّل في الجغرافية، اذا لم تقم وحدة متماسكة بين قوى المقاومة والممانعة على امتداد الجغرافية المستهدفة.