مجلة شعرية في الزمن الميت؟ زمن الحروب والهزائم والانتكاسات والخيبات السياسية والاجتماعية والثقافية؟ مجلة شعرية في الزمن اللاثقافي؟ في الزمن اللاشعري؟ إنها المفارقة المدهشة. المفارقة الأخرى التي تُولد على هامشٍ ضيقٍ محدود لا يتسع لنبضٍ واحد أو لعين مفتوحة واحدة أو لكلمة واحدة. المفارقة المدهشة تأخذ شكل المغامرة المضاعفة.
مغامرة السؤال المنبثق على مسافة تكتظ بالأجوبة. بالأجوبة التي تصوغ زمنها النهائي المغلق. مغامرة السؤال الملعون ليبقى سؤالاً ملعوناً. سؤالاً شعرياً وإنسانياً معلَّقاً على خارطة لا تنتهي من طقوس القيلولة والارتدادات والاستسلامات الأبدية. لحظة مضادة تحاصرها ذاكرات معدنية. لكنها تبقى، اللحظة المضادة، من قطرة تنزف رقيقة على الخزائن المعدنية. خزائن الرمل. سؤال من بين الأسئلة، السؤال الشعري. سؤال من كل الأسئلة. لكنه يُلقى كما تلقى الدهشة، ربما، بلا عتاد أو محمول ثقيل منها، وربما، أيضاً بلا مشروع ثقافي (أو سياسي شامل)، كأنما يبقى نقاؤه كسؤال نقي ومطهّر، وربما بلا نظام متماسك (أيديولوجي أو دوغماتي أو غيبي)، فلا يحصره غير فضائه الشاسع، غير فضائه الجسدي النابض.
وهل هنا يكمن الخطر؟ أن تأتي "تحولات" بلا "رؤيا" مسبقة، أو بلا بنية "ثقافية" أو فكرية أو ذهنية تضبط أفقها وتوجهاتها، لتُطل النصوص الشعرية عارية عارية إلا من لحظاتها الخاصة؟ وهل هنا يكمن الخطر كذلك، أن تنكسر هذه النصوص على تاريخيتها أو على مفاهيمها "الأولية" التي تدعو إلى توجيه تياراتها حتى التقنين؟ وماذا نقول عن كل الشعارات والمفاهيم والنظريات التي سبقت نصوصنا الشعرية وغير الشعرية، فوقعت هي في غربة وأوقعت النصوص في غربة أعمق وأشد. وما الذي بقي من مجمل ما اقتُرح أو فُرض على امتداد المراحل السابقة، وما كانت النتائج في المستويات المختلفة: الشعرية والأدبية والسياسية، بعد كل هذه الحروب؟ بل ماذا بقي من كل ما ارتفع بعد كل هذه الحروب؟ بل ماذا بقي من كل تلك المشاريع "الثقافية" التي تهاوت عند أول هزة حقيقية وسقطت عند أول احتكاك بالواقع؟ وهل نسمح لأنفسنا بالقول إن استعجال طرح المشاريع والمفاهيم المسقطة على الواقع الثقافي، أوقعها بنوع من الاقتلاع أدى إلى هذا التشتت الخطير الذي نشهده في مجتمعنا؟ وأوقعها بنوع من "التعالي" عجَّل في مجيء الهزيمة الكبرى؟ لن نقول إننا بتنا في نقطة الصفر. ولكن يحق لنا أن نسأل: من أين يأتي السؤال الثقافي الإبداعي والسياسي والاجتماعي؟ من ضمن النص، أو من خارجه؟ من ضمن المفهوم المجرد (التجريبي الخالص)، أم من ضمن المعيش؟ ما هو الثابت وما هو المتحول في المفاهيم؟ بل من يُحدد "الثابت" ومن يحدد "المتحول"؟ الحزب؟ الطائفة؟ الأيديولوجيا؟ العشيرة؟ الدين؟ أو ليست كل هذه التحديدات أنواعاً قسرية تخضع أولاً وأخيراً لسلطة تاريخية ولتقلبات خارجية ومعينة؟ وكيف لا يقع المثقف في "السلطة"، حين يهجس في هذا النوع من المصادر للتاريخ ولظواهره الثقافية والإبداعية؟ وهل ينبغي أن نقع حيث وقع سوانا حين أراد إكساب تاريخية مفهومية جاهزة للنص، فأوقع النص في لا تاريخية تعيسة. وهل ينبغي أن نفرز اللحظات الإبداعية عن مدلولها الداخلي والكلي، بفرض تأويلات طائفية أو سياسية أو أيديولوجية، لتقع هذه اللحظات في التأويل الأحادي والجزئي؟ وهل ينبغي أن نقع في أيديولوجيا تختار نصوصها قسرياً، في حين تحتاج هذه الأيديولوجيا (كمعطيات سابقة)، لمن يتحقق من فاعليتها وأصالتها (بما هي افتراض يرتبط بواقع معين)؟ أو ليس هذا هو الخطأ الأساسي: افتراض أواليّات صالحة لكل زمان ومكان. ولكل تعبير وظاهرة ونوع، أو افتراض مجموعة أواليّات عشوائية يلهث وراءها الساعون إلى دوغماتية ما ويتقلبون في متنافراتها ومتناكراتها باسم "التجاوز" أو "التخطي" أو حتى القلق؟ وهنا أيضاً يحق لنا أن نسأل: من يلحق الآخر: النص أم الأيديولوجيا؟ (نطرح مثل هذه الأفكار الجاهزة باسم رفض الجاهز). وهنا بالتحديد الفخ المنصوب: الصوت الواحد. النبرة الواحدة. وفي النهاية الموت الواحد.
على هذا الأساس تأتي "تحولات" لتُبقي الأسئلة مفتوحة على احتمالاتها اللانهائية، وعلى مجهولها الدائم ومستقبلها القادم. على هذا الأساس ترى إلى طليعية غير مُقننة وغير مُسيَّجة بذاكرة دوغماتية أو مدرسية، وغير ممصوصة ومُيبسة في قنوات ثابتة ومحدودة سلفاً، تستمد حيويتها من اختباريات متعددة حتى التناقض، هذه الاختباريات التي تجعل من ديناميتها الجماعية كسراً لسلطة الصوت الثقافي الواحد ومحاولة لتجديد ملامح ما يضيء في الموروث الشعري العربي القديم والحديث في لقاء، أبهى ما فيه أنه سر إلى الافتراق.
افتراق دائمان في حركة تتسع إلى الشعري في فضائه الشاسع، وفي تجاربه الأكثر حميمية واختلافاً: من بناء القصيدة المغلقة إلى الشعر المتحرر إلى النص المفتوح إلى الاغتذاء من "الكتابة" المتداخلة في نصية تاريخية تتجاوز الأنواع. كما تقترح نفسها مجالاً لمجمل النبرات الشعرية الحية التي تعبر عنها الأنفاس الشابة والجديدة والراسخة في لبنان وفي العالم العربي. "تحولات"، في ما لا تدعيه أي في ما تتجنبه من شعارات وإسقاطات وشروط اعتسافية، تُقْبلُ بنصوص تحمل مفاتيحها "النقدية" وغير النقدية معها. تحملها فيها. في داخلها. و"تحولات" في ذلك لم "تصنعْ" نصوصها، بل تصنع نصوصها. وهي لم تسبق نصوصها، كما لم تسبقها نصوصها، وإنما تجيء نصوصها معها، من دون ذاكرة فضفاضة أو شعارات أو ادعاءات أو جلبة أصداء. "تحولات" تصدر لتبقى دائماً مُقبلة. لتبقى دائماً ناقصة. قلقة. لا تسعى إلى تكريس أحدٍ ولا تريد أن يسعى أحد إلى تكريسها. ولا تحلم بأي زمن اجتماعي أو فولكلوري يُدخلها قيلولة "المتكلمين"، ولا في نهاية المكرسين، كما أنها ترفض أن تتحول "سلطة" ما أو موقعاً ثقافياً مغلقاً، أو تحزباً أو تعصباً. إنها المجال المفتوح على الضمير الشعري العربي وغير العربي المختلف. وعلى الحساسيات الشعرية العربية المتفتحة والمتجددة والهاجسة بشعر يكون من بين الإشارات الأولى التي تدل على تململ إنساني ووجودي وإبداعي لبناني وعربي.
و"تحولات" تصدر في بيروت، لتصل إلى حيث يجب أن تصل، ويصل إليها من يجب أن يصل إليها، تحلم بعبور الأرض المفتوحة على كل المدن والدساكر العربية، لتحقق حلمها الشعري الخاص. حلمها المستقل. حلمها الطالع كنبتة خضراء من بين أنقاض الهزائم والحروب.