لعل اسم "تحولات" كان اسماً استشرافياً لما ينتظر المنطقة من تحولات، كان بالتأكيد الصديق سركيس ابو زيد يطمح بأن تكون تحولات إيجابية، سواء على مستوى البنى الفكرية ـ الثقافية، السياسية، الإجتماعية، الاقتصادية والمعرفية، أو على مستوى التدخل في تشكيل المواطن العربي بما يؤهله لحمل هذا المشروع المستقبلي الطموح والاستشرافي، لكن المشروع الصهيوـ أميركي كان ربما أذكى وأسرع، ولعله كان الأقدر على صياغة التحولات باتجاهات معاكسة تماماً.
ربما تقع مسؤولية ذلك على عجز النخب الفكرية والسياسية، وبشكل أخص على الأطر الحزبية التي كان مقدراً لها أن تكون استشرافية الرؤية، فتشكل أداة فاعلة في صياغة التحولات المطلوبة أو المأمولة، لانه بغض النظر عن النيات، فلا تحوّل من غير جهد وإرادة يترجمان فعلاً ميدانياً على ارض الواقع.
والتحول لا يمكن أن يحصل بمعزل عن مجتمع واع وإرادة ثورية حقة، تتنكبها النخب الفكرية والثقافية والسياسية، فتقرأ الواقع وتصيغ التحولات وتنزل الى الواقع لإسقاط تلك الرؤى الفكرية والسياسية برنامجاً نضالياً تعمل على إنجازه، ما أردت قوله هو أن الجهد الفكري النظري (على أهميته) لا قيمة له ما لم يقرن بالفعل الثوري التغييري، لأن الواقع لا يتغيّر من تلقاء ذاته، فهو بحاجة الى الأداة، والأداة الأولية هي المعرفة التي تصيغ وعياً مدركاً للواقع كمقدمة لتغييره، فالمثقف الثوري يبقى منفصلاً عن الواقع ما لم يكن مناضلاً على الأرض، يتدخل في صياغة الواقع كما تدخل في صياغة الرؤى.
ربما لا تتسع المناسبة لتقديم قراءة نقدية لتجربة الأطر السياسية التي اعتقدنا يوماً ان على كتفها ستنهض مهمة التغيير، خابت استشرافاتنا لدرجة اننا بتنا نعيش في عصر داعش، لقد عشت التجربة على مدى أربعة عقود بكل مراراتها كما عاشها الصديق سركيس منذ ان ولدت "تحولات"، ولطالما نظر بعضنا الى ما يخططه الغرب الاستعماري لمنطقتنا بخفة واستهزاء، او بجهل ولامبالاة، أو بعنجهية الانفتاح، نجح الغرب وفشلنا، وتعاطى كلنا او ربما جلنا، (لا سيما من يدّعي الثقافة منا)، مع عملية الاستشراق التي مارسها الغرب كحالة تأسيسية لإعادة إنتاج استعماره الفكري والثقافي والاقتصادي بخفة وعدم جدية، ربما كان المفكر ادوارد سعيد من بين قلة ممن سلطوا الضوء على هذا الاستشراق بوصفة حالة تأسيسية لأستعمار متعدد الأوجه اخطره الاستعمار الثقافي.
فضيلة "تحولات" أنها لم تيأس وهي تطفئ شمعتها الأربعين، وهو عمر النضج الفكري الذي يؤهلها لاستئناف معركتها من قلب الإحباط، لذلك فهي ما زالت تشهر سلاح كلمتها استناداً الى المقولة التاريخية "في البدء كانت الكلمة"، وما زالت مصرّة على إضاءة شمعة بدلاً من أن تلعن الظلام.
“تحولات” أربعون شمعة في مقاتلة الظلام!
105
المقالة السابقة