المقدمة
ان البحث في شخصية الشيخ محمّد بن الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي الجبعي العاملي، المعروف بالشيخ البهائي (953هـ 1546م – 1031هـ 1624م). تقتضي بلورة دوره الاجتماعي والسياسي في ظل الدولة الصفوية( )، وعرض سيرته الشخصية وتاريخ دراسته، وأسفاره التي كانت جاذباً لتأملاته وحركته العلمية وآثاره الفنية، فضلاً عن البحث في علومه الدينية والأدبية والعلمية، ورؤيته الفكرية في فقه الحديث، ورأيه في نظرية المرجعية الدينية، ودلالاته الصوفية، التي برزت في آثاره الهندسية والفكرية والعقلية، رغم التحولات الدينية والمذهبية التي رافقت مرحلة حياته جراء انتشار الفوضى والفتن الداخلية ( ). خاصة في ظل أول ملوك هذه الدولة، إسماعيل ابن الشيخ حيدر بن صدر الدين بن صفي الدين( )، (المولود 892هـ – 1487م)، والذي حكم خلال 907 هـ – 1501 م، إلى حين وفاته 930 هـ – 1523م، حيث امتد ملكه على آذربيجان( ) (907 هـ – 1502م)، ومن ثم دخل عاصمتها آنذاك، مدينة تبريز.
ان الاضطهاد الديني والقمع الاجتماعي الذي رافق تلك المرحلة التاريخية جراء سيطرة الأتراك على الساحل السوري، كانت دافعاً لهجرة بعض رجال الدين، سواء من كرك نوح( ) أو من جبل عامل إلى إيران. ومن الذين هاجروا، الشيخ حسين بن عبد الصمد، والد الشيخ البهائي ومعه عائلته، لتستقر في بلاد إيران.
1- ولادة الشيخ البهائي ونشأته
ولد الشيخ البهائي في السابع والعشرين من شهر ذي الحجّة من عام 953 هـ بمدينة بعلبك من البقاع، فيما روى جعفر المهاجر انه ولد في إيعات( )، أي في ضواحي المدينة المذكورة، ولا يزال حتى تاريخه، هنالك بعض الشواهد لآثار بيته فيها، فيما تتواتر الأخبار عن ذلك، حول ولادة الشيخ البهائي في بلدة يونين( ) البقاعية شمال مدينة بعلبك، وتبعد هذه البلدة عن مركز المدينة حوالي خمسة عشر كيلو مترا. ومن الواضح أن محور تلك الروايات، يؤكد على أن ولادته كانت في محيط مدينة بعلبك، ويذكر انه كان في السابعة من عمره حين هاجر مع أبيه إلى إيران، حيث عاش عامة عمره فيها، فيما هناك رواية أخرى، تفيد عن ولادته في مدينة قزوين غرب طهران، وكان ذلك، يوم الخميس 17 من شهر محرم عام 948 أو 949 أو 951هـ( )، إلا أن المعروف بالتواتر الخبري أن ولادته كانت قبل هجرة أهله، خاصة لجهة أثر البيت حتى تاريخه.
2- دراسته
درس الشيخ البهائي المراحل الأوّلية للعلوم الدينية الإسلامية على يد والده، ومن ثمّ سافر لاحقاً إلى مدينة أصفهان لتحصيل العلوم( )، فكان تارة تلميذاً وأخرى معلماً( )، وترك آثاره الدينية والعلمية والأدبية شاهدة على حضوره العلمي والفكري، إذ يمكن الركون إليها للدلالة عليه( ). ونتيجة لقدراته العلمية والأدبية التي ذاع صيتها في البلاد، حظي باحترام شاه إيران عباس الصفوي، الذي عيَّنه في منصب شيخ الإسلام في الدولة الصفوية خلفاً للشيخ علي الأفشار، حيث وفر له هذا المركز الإمكانيات الواسعة التي انتفع منها في خدمة حركته الدينية والفكرية.
وتجدر الإشارة، إلى انه كان قد درس الشيخ البهائي في بداية أمره، على يد والده الشيخ حسين عبد الصمد، الذي كان له كبير الأثر على شخصيته، فكان المعلم والموجّه له خلال الفترة الأولى من حياته، والمثال المحتذى به، خاصة أن الوالد، كان من علماء جبل عامل المعروفين، وقد تميز بعلمه وأخلاقه، فكان فقيهاً ومتكلماً وشاعراً، حيث عكس ذلك في شخصية ولده، كما عرف عنه صناعة الألغاز المشهورة التي خاطب بها ولده البهائي. فيما كانت دراسة البهائي متنقلة في أكثر من مكان، حيث كان يتنقل عند كبار العلماء من جهابذة الفكر في مدينة قزوين، التي كانت آنذاك عاصمة إيران، ومن أساتذته: عبدالله شهاب الدين حسين اليزدي، الشهير بالملاّ عبدالله، وهو من أساتذة علم المنطق والحكمة، إلى جانب الحكيم عماد الدين محمود، أحد أشهر أطباء إيران في عصره، وهو الطبيب الخاص للشاه طهماسب. وقد درس أيضاً عند علي المدرسي آخذاً عنه علم الرياضة، أي علم الجبر، وعند ملاّ فضل القاضي أو القايني المدرّس، أخذاً عنه علم الرياضة والكلام والفلسفة، والمير مرتضى، وأحمد النّهمي الكيلاني، كما وقرأ عليه الرياضيات والحكمة .
لم تقتصر معرفته عند هذا الحد، بل كانت ضالته التي يلاحقها عند أساتذة من خارج إيران، ومعظمهم كانوا من الحواضر الإسلامية التي زارها. فدرس في حلب عند الشيخ عمر العُرضي، كما روى عنه الشيخ محمد بن محمد بن أبي اللطف المقدسي الشافعي. كما كان قد دَرّسَ في بداية حياته في هرات، سنة 983هـ – 1575م، وكان عمره في ذلك الوقت ثلاثين سنة، ثم درّس في مدينة قزوين، ولاحقاً في أصفهان، وكل الأماكن التي ذهب إليها.
3- أسفاره وعلومه الدينية والأدبية والعلمية
عرف عن الشيخ البهائي، حبه للسفر الطويل والمستمر، خاصة أن دوافعه لذلك، كانت رغبته بالسياحة والمشاهدة، وإغناء التجارب والعلوم والمستحدثات لديه، فيما كان دافعه الآخر للسفر الابتعاد عن أماكن إقامته إفساحاً في المجال أمام غيره، بسبب حسد الآخرين له جراء موقعه ودوره في الدولة، ومقامه ومنزلته عند السلاطين. فقضى بالتجوال والسفر متنقلاً من مكان إلى آخر مدة 30 سنة من حياته، بين المدن والأقطار المختلفة. وكان أول سفر له، من مدينة بعلبك إلى مدينة أصفهان، ومن ثم إلى الأعتاب المقدسة في العراق والحجاز لزيارتها، وحج إلى بيت الله الحرام. وسافر أيضاً إلى مدينة مشهد بصحبة شاه عباس الكبير سيراً على الأقدام.
لم تكن أسفاره تنحى الجانب الديني فحسب، بل كانت بقصد الإلمام بالمعرفة، وقد سافر إلى مصر فألف كتابه المشهور بـ «الكشكول». كما قرر السفر إلى الروم، والشام، وبيت المقدس، بعد عودته من مصر، ومن ثم لاحقاً إلى الشام فتوجه منها إلى مدينة حلب، وزار القدس ودمشق وتبريز وأصفهان والحجاز وكرك نوح وبعلبك وغيرها، وفي آخر أيام حياته عاد إلى مدينة أصفهان وأقام فيها عدداً من السنيس.
ومن الواضح، وفقاً لما تناقله المؤرخون والمحدّثون والعارفون بخفايا الشيخ، أنّه لم تغرّه مباهج الدنيا ومغرياتها، ولا المناصب الدنيوية التي جرّبها، التي لم يستمر فيها طويلاً، بل كان همّه أن يكون لديه حرية التفكر والتأمل والبحث عن ضالته المنشودة، لذا كانت رحلاته قد فتحت أمامه آفاقاً واسعة واطلاعاً ومعرفة وثقافة وعلماً.
وتجدر الإشارة، إلى أن مذكرات الشيخ البهائي حول أسفاره كانت قليلة، وقد كتبت على بعض الصفحات من كتبه بشكل شذرات، فعرف عنه من خلالها، أنه كان يتجوّل في أسفاره متنكراً بأزياء السياح والملابس الاعتيادية، كي لا يتعرف احد عليه. كما روى ذلك كبار الشخصيات في حلب والشام ممن رأوه، وعندما كان الشيخ يشترك في بعض المجالس الحوارية ويتفوه ببعض الكلمات التي تفيد عن المعنى والدلالة المقصودة، كانت فوراً تظهر عليه منزلته العلمية والفكرية، وتبين مقدرته في معالجة الشؤون الدينية والعلمية والشعرية، إلا أنه كان يغادر مكان إقامته حينما يتعرف عليه الأفاضل والعلماء كي لا يعرفه عامة الناس. كما وأنه كان قد روّج في أسفاره الطويلة، العلم والمعرفة وسعى إلى تشييد العديد من الأعمال العمرانية والمباني الضخمة التذكارية، في كبريات المدن الإسلامية، ومن بينها مرقد الإمام علي بن أبي طالب في النجف. ونشر الشعر العربي والفارسي( )، مع العلم أن اللغة الفارسية ذات الأصول الفهلوية، ليست على وزن التفاعيل العربية المعروفة، بل هي على النظم الذي نصادفه في الأوستا( )، وهو الذي يقوم على عدد من المقاطع الصوتية. ونستدل على ذلك من خلال الأغاني الشعبية والأهازيج، وقد حافظ الشعب الإيراني على تراثه الأدبي العريق في قدمه، وذلك ما انصرف عنه الشعر الفصيح كلية، وهو النمط الذي أخذ به الشعر الفارسي الإسلامي منذ نشأته، واستمسك به حرصاً عليه، فكان ذلك الشعر عروضياً عمودياً مستعاراً من العرب، وليس غريباً ذلك عن الشيخ البهائي، الذي ترك أثره وأوزانه العربية على الشعر الفارسي، خاصة بعد انتشار الشعر الإسلامي الفارسي، لذا فإن نظرة عابرة في إنشاداته تؤيد مثل هذا الإدعاء باعتبار انه كتب شعره باللغة الفارسية( ).
كان البهائي، أول من نظم الشعر الفارسي على بحر الخبب، كما انه نظم كثيراً من شعره العربي على طريقة "الدوبيت" أو ما عرف بــ"الرباعيات"، حيث أسدى خدمة إلى الثقافتين: العربية والفارسية بتطوير النظم في كل منهما، باعتماده، في كل منهما، وزنا من أوزان الأخرى. فشعره كان له دلالات عرفانية ودينية وإيمانية، تناولت العقيدة الدينية، فمدح صاحب الأمر والزمان، الإمام محمد بن الحسن المهدي، فيما كانت مادة موضوعاته الزهد والموعظة في الحياة للاعتبار، والوصف لعظمة الله وجلاله، إلى جانب المديح. بالإضافة إلى الشكوى والحنين التي تنمّ عن العاطفة الوجدانية، فلم تغب عن ذهن البهائي القضايا العامة والنقد الاجتماعي، والمحاكاة الرثائية، والغزلية، والخمريات التي كانت في عمقها قراءة في العرفانيات، إلى جانب الألغاز والأحاجي. إلى جانب ذلك فقد تناول في المجال الأدبي القصة، التي ظهرت في شعره العربي. ونظراً لشهرته وعلمه، فقد نشرت كتب عدة لمؤلفين مجهولين ونسبت إليه، كما هو الحال في "أسرار البلاغة" و"المخلاة" و"فالنامة".
4- رؤية الشيخ البهائي في فقه الحديث
شكّل فقه الحديث عند الشيخ البهائي، مرحلة متقدمة في معالجة القضايا المقصودة منه، خاصة أنه علم يقصد منه فهم الحديث الشريف، وقراءة في الفهم الصحيح للسنة النبوية الشريفة، وقد استحوذت هذه المسألة على اهتمام علماء الإسلام بهذا العلم الشريف خلال الحقبات التاريخية المتعاقبة، ومن جملة أولئك العلماء، الشيخ البهائي الذي تناول ذلك بطريقته التي تبين مدى قدرته وأسلوبه الذي يوحي أنه كان مضطلعاً بأسس هذا العلم، وعليه يمكن ملاحظة ذلك من خلال كتاباته. فمراحل فهم الحديث عند الشيخ البهائي دفعت إلى فهم الظاهر، وفهم المقصود منها. وقد استخدم لفهم الظاهر: علم الصرف، وعلم النحو( )، وعلم المعاني، وعلم البيان( ). فيما اعتمد في فهم المقصود على القرائن المتصلة بعلم الكلام، مثل: التلميح، والتعليل، والسؤال، وتفسير الراوي، وسياق الكلام.
لقد عالج الشيخ البهائي القرائن المنفصلة، معتبراً أن هذه القرينة هي التي تفيد عن تخصيص ما، أو تقييد محدد، وقد استخدم في سبيل ذلك الآيات القرآنية الكريمة لبيان مداليل الأحاديث الشريفة. ويمكن ملاحظة ذلك في حال تعارض الحديث مع غيره، إذ يحمل أحدهما على الجواز أو الاستحباب أو الكراهة أو الضرورة أو التخيير أو التقية. فيما استخدم بعض العلوم الأخرى لتأكيد نظريته وترسيخ المفاهيم الدينية، مثل: الطب والحساب والنجوم، بغية تفسير الأحاديث الشريفة ومقاصدها، ولم يغب عن باله الموانع التي كانت موجودة في فهم الحديث سواء منها: فهم الظاهر، أو فهم المقصود.
اعتبر الشيخ البهائي، أن موانع فهم الظاهر من الحديث الشريف، تكمن في الإشراك اللفظي، وتحوّل معاني اللغة، خاصة جراء تعدد المعنى الذي يفيد عن الجانب اللغوي من جهة، ومن جهة أخرى عن الجانب الاصطلاحي، فضلاً عن عدم الانتباه لحروف الجر، وعدم التعرّف على التصحيف والإدراج والتقطيع غير الصحيح( ).
وعليه فإن موانع فهم المقصود من الأحاديث تكمن في: عدم التتبع الكامل، وجمود النص، وبساطة المعنى، إلى جانب وقوف الحديث عند المنهج الإخباري، وعدم الانتباه إلى وحدة السياق العام منه. فيما شكلت أبحاثه في فقه الحديث، تجربته لفهم الظاهر والمقصود. إذ يمكن مشاهدة ذلك بشكل عام في مؤلفاته التالية: الحبل المتين، ومشرق الشمسين، والأربعون حديثاً، والحديقة الهلالية، ومفتاح الفلاح.
ويبدو أن رؤيته هذه، قد كانت في محاكاة العصر، وجراء تأثره بكبار العلماء البارزين، أمثال: الشهيد الثاني، والشيخ حسين (والد الشيخ البهائي)، والمحقق الكركي الشهيد الأول، والعلامة الحلي، خاصة أنه كان يعتبر نفسه مديناً لهؤلاء العلماء الكبار.
ومن الجدير بالذكر، أن "الرسالة الاعتقادية" التي تركها الشيخ البهائي، كانت عبارة عن خلاصة قصيرة للمنهج الذي سار عليه في حياته، بعيداً عن التعصب المذهبي الذي غلب على عصره، وهي تختلف عن الكتب المذهبية والعقدية الأخرى عند السنة والشيعة، فهي جامعة لكل المعتقدات الشيعية الإمامية، وما يلتقون به مع غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى من المسلمين وما يختلفون به عنهم.
لقد بوب الشيخ البهائي في كتابه، "الوجيز في الدراية" كمقدمة لكتابه "الحبل المتين"، وأهم ما في كتاب "الوجيز في الدراية" أنه عرف بالمصطلحات التي استخدمت في الحبل المتين: "علم الدراية" و"الحديث" و"الخبر" و"السنة" و"السند" و"المستفيض" و"الغريب" و"المعنعن" و"المطلق" و"المضمر" و"العالي"، و"الحديث المتواتر"، و"المرسل" و"المنقطع" و"المسلسل"، و"الشاذ"، و"المسند" و"المعضل" و"الآحاد"، و"الصحيح" و"الحسن" و"القوي"، و"الموثق"، و"الضعيف" و"المقبول" الخ.. كما تحدث عن صفات الراوي، ثم شرح المصطلحات التي تستخدم للجرح، وتحدث عن آداب كتابة الحديث.
ومن المفيد ذكره في هذا المجال، أن الشيخ زين الدين، هو أول من نقل علم الدراية من كتب العامة وطريقتهم إلى كتب الخاصة، وقد ألف فيه "الرسالة المشهورة" ثم شرحها، وقيل إنه أول من صنف من الإمامية في دراية الحديث، ثم تبعه في هذا الجانب بعده تلميذه الشيخ حسين ابن عبد الصمد الحارثي، وبعده ولده الشيخ البهائي، وروى السيد الصدر في تأسيس الشيعة: ان أول من دوّن علم دراية الحديث، هو أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، فيما كان الشيخ البهائي هو أول من كتب رسالة عملية فقهية غير استدلالية.
5- رأي البهائي من نظرية المرجعية الدينية
كان رأي علماء الدين من الدولة الصفوية متبايناً، وحيال ذلك لقي الشيخ الكركي معارضة شديدة من قبل بعضهم جراء تحالفه مع الصفويين: كالشهيد الثاني والاردبيلي والشيخ إبراهيم القطيفي والملا محمد أمين الاسترابادي والملا محمد طاهر القمي، بسبب نظرية (النيابة العامة)، التي لم تكن بعد، قد تطورت لتكون بديلاً يحل محل نظرية: (الإمامة الإلهية)، فقد كانت محدودة وتقتصر على الفتيا وتنفيذ بعض الأمور الاجتماعية والاقتصادية والعبادية. مقابل ذلك فقد عالج هذا الأمر الشهيد الثاني في مجال إقامة صلاة الجمعة ووجوبها دون الحاجة إلى استئذان الإمام في عصر الغيبة إذا ما توفرت شروطها، فيما انتقد المحقق الكركي على تردده بإيابها واكتفائه بالقول بجوازها مع الفقيه. مكتفياً بالقول بنظرية: (النيابة العامة) في مجال القضاء الشرعي والحدود اللازم تطبيقها، معتبراً ان الفقيه يقوم مقام الإمام. لكنه لم يبح للفقيه استلام الخمس، وخاصة منه سهم الإمام، ولم يتحدث عن الجهاد أو إقامة الدولة في عصر الغيبة. فيما كان الواقع السياسي قد دفعه لأن يتعاون مع الدولة العثمانية فاستلم إدارة المدرسة النورية في مدينة بعلبك، وذهب بعد ذلك إلى اسطنبول عام 951، وكان له موقفه الرافض للدولة الصفوية. أما الاردبيلي، فقد قال بنظرية (النيابة العامة)، وجواز القتل والجرح في إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا إذن من الإمام، كما وأنه أجاز إقامة المجتهد للحدود، ولم يكن يؤمن بالنيابة العامة إلى حد إقامة الدولة في عصر الغيبة، وقد رفض الذهاب إلى إيران بالرغم من إلحاح سلاطينها عليه وتعظيمهم له ودعوتهم إياه.
أمام هذا الواقع السياسي والاجتماعي، كان للشيخ البهائي رأيه من ذلك، فهو لم يكن يعتقد بشرعية الدولة الصفوية وبصلاحية الفقيه لتطبيق الحدود في عصر الغيبة بصورة مطلقة، بحيث تؤدي إلى الجرح أو القتل على الرغم من مشاركته فيها بمنصب شيخ الإسلام. وحيال ذلك، كان الفكر السياسي الديني يتأرجح بين نظرية: (التقية والانتظار)، و(النيابة العامة)، فيما كان يبني موقفه على فلسفة غيبة الإمام الثاني عشر، وعدم استطاعة أي مجتمع من إقامة الحكم بدلاً عنه، بسبب استمرار عوامل العجز والضعف، وقصور اليد عنها في عصر الغيبة.
6- الدلالات الصوفية في آثار الشيخ البهائي
ينسب المؤرخون في التاريخ الصفوي والناس إليه، هندسة غالبية المباني الدينية التي تم بناؤها في زمن الشاه عباس الكبير وتصميمها، حيث أبدى الشيخ البهائي في تركته الفنية، فهماً خاصاً جسدته العمارة الإسلامية، التي شيدها في أكثر من مكان، فتعاطى مع الأشكال الهندسية التي أشرف على بنائها في المقامات الدينية والأماكن العامة، بواقع روحي من خلال بناء القبب والأقواس التي احتوت على فضاءات واسعة في البهو الديني، والتي تدل على معنى التصوف، والارتقاء بالروح للعروج بها إلى الملكوت الأعلى.
والتصوف في الدين الإسلامي، شكل ظاهرة روحية متفاعلة مع رسالة النبوة، واقتضى ذلك من المتصوف أن يعيش بنمطية الوحي القرآني، ليتعرف على مكنون الرسالة الإلهية. فالمعراج النبوي الذي تعرف به الرسول على الأسرار الإلهية، يظل النموذج الأول الذي حاول بلوغه جميع المتصوفين واحداً بعد الآخر. فالتصوف، هو شهادة لا تنكر، وهذا كان قد أدّى إلى اعتراض ساطع عن الإسلام الروحاني ضد كل نزعة حاولت حصر الإسلام بالشريعة وظاهر النص. وفي هذا السياق كان الشيخ البهائي، قد توصل في تفاصيل البناء، إلى محاكاة روحانية حصّلها عبر تجسيد نزعته التي عرفت باسم "العرفان"، مما أدى لوجود ثنائية الرؤى في الآثار البنائية، عكست الشريعة الدينية والواقع الحياتي معاً. فظهرت تلك التجربة كحقيقة أساسية لحياة وعقيدة الصوفية، أو قل، ليكون الكلام أدق وأتم، بدت آثاره تلك، ذات أبعاد ثلاثية (بدلاً من الثنائية)، المكونة من الشريعة، (النص الظاهر للوحي)، والطريقة (السبيل الصوفي)، والحقيقة (الحقيقة الروحانية كإنجاز شخصي)( )، هو بالذات ما سعى إليه الشيخ البهائي من خلال آثاره الهندسية، ويستدل على ذلك من مجمل الكتابات الصوفية التي تركها، فأظهرت تركته حالة العرفان لديه، وطرحت مداليلها في ثنائية الحقيقة والشريعة من خلال فلسفته التي تبدت في مفهوم الإسلام الروحاني. وظهرت آثاره على شكل اشارات مستلهمة من الفلسفة الإسلامية وتكوينها الفكري، الذي كان محاولة متقدمة في قراءة آثار العلماء والمفكرين على اختلاف مشاربهم، سواء ممن عاصر الشيخ البهائي أو ممن سبقه، وقد تبدت هذه المسألة عند العديد منهم، كما هو الحال عند الحّلاج( ).
ومما ينبغي التنويه به، أن رؤية الفن الإسلامي، كانت تعتمد في ذلك على التجريد، وبالتالي فهي تختلف عن الرؤى الإنسانية الأخرى بنقطتين أساسيتين.
– أولاً: بسبب طبيعة تصورها للإنسان وموقفه من الله، والكون، والحياة، وأخيه الإنسان.
– ثانياً: طريقة تسجيلها "للقطات" البشرية التي تختارها للتعبير الفني( ).
ومن المفيد ذكره في هذا المجال، أن دراسة رأس القبة المدبب والقوس في عمارة الشيخ البهائي، تشير إلى دلالة دينية محددة تفيد عن معنى التوحيد، وقد ظهرت هذه الدلالات الفلسفية في بناء مقام الإمام علي بن أبي طالب والسنيس، حيث دلّ عمله ذلك على حالة العرفان الروحي الكامن لديه، مقابل وجود دلالة أخرى في فضاء القبب، حاضنة للجانب الروحي، مقابل الجانب المادي. إلا أن الشيخ البهائي في هذا البناء لم يتناول الفلسفة المثالية الجوفاء التي تنكر العالم المادي المحسوس، إذ يبدو أن إشارات ذلك في تلك الأبنية، كانت انعكاساً طبيعياً لمتن القرآن الكريم، في إشارة إلى بنية الكون والمقابلات ما بين السلب والإيجاب. فالعقيدة في جوهر الإنسان هي التي تكشف له عن علاقته بالله والكون والحياة لأنها الروح المهتدية. ولهذا فإن الفن الإسلامي في هذا السياق، كان قد شكل رؤيته الخاصة التي تختلف عما عرفته الحضارات الأخرى، باعتبار أنه كان إدراكاً لتصورات دينية تعتمد في عمقها على الجانب السلوكي، وليس على الجانب الأسطوري الذي له علاقة بشخصيات أسطورية خيالية لا تمتّ إلى الواقع بصلة، فكان تأثير ذلك، قد أخذ منحاه في خلفية الشيخ البهائي، وأعماله التي اعتمدت على تفعيل الجانب الروحي، وتناسق الأبعاد في الفضاءات الفنية من دون اختلال في المشهد، حيث بدا ذلك أكثر واقعية من حقيقته الظاهرية التي تراها العين المجردة. كما أبدى الشيخ البهائي في تلك الفضاءات توأمة بين العقل والروح والجسد من دون انقطاع عن حقائق الوجود العليا، فبدت مشاعر الموالفة لديه في الحب تنقسم بين مستويين: الحب لله، والحب للإنسان، كما بلورت الانحناءات المتداخلة في الأقواس الصراع الدائر منذ الأزل بين القيم والوجود من جهة، والقيود المتعددة في الحياة الدنيا من جهة أخرى. أما شكل الانحناءة في التصميم العمراني عند الشيخ البهائي، فقد كانت عبارة عن ترابط الموضوع ببعضه البعض، وابراز مدى محدودية نطاق الأرض الضيق له من خلال حدوده المحصورة في الحياة الدنيا، المنقطعة عن حقيقة الأزل.
مقابل ذلك فقد شكل التصوف والعرفان حالة رمزية في شعر وآثار الشيخ البهائي، وكان من الطبيعي، أن يتعلق الجانب الظاهر منه مباشرة في الدين، حيث نهل عرفانه من آثار فكر الإمام علي بن أبي طالب، فضلاً عن مجموعة الأدعية الدينية الموجودة في كتاب "الصحيفة السجادية" المنسوب للإمام علي بن الحسين. فقد كانت هذه الآثار عبارة عن مناجاة وجدانية عميقة، كونت الارتباط الروحي عند الشيخ البهائي، خاصة أنه كان يلجأ إلى تعليم تلامذته "مناجاة المحبين" للإمام السجاد، التي تدل على العرفان الذي تجلّى في شعره الفارسي، أكثر من تجلّيه في شعره العربي، فضلاً عن آثار البناء الذي أعطاه تلك اللمحات العرفانية الروحانية باتساع فضاءاته.
7- دلالاته العقلية حول العلي الأعلى
كانت الدولة الصفوية بالنسبة للشيخ البهائي، منبره الذي تحرك منه في أكثر من اتجاه، بعد قرون عدة من الضيق والشدة التي قاساها الشيعة على يد الخلفاء السنة، [حيث] تمّكنت الإمامية أخيراً من الانتصار في بلاد فارس من خلال حكم الصفوية القوي في القرن السادس عشر الميلادي، فكان لذلك أثره في حركته الفكرية التي عكستها بعض كتاباته كردود فعل على الواقع الذي كان سائداً، حيث بدت تلك الكتابات محاكاة عقلانية بطابع وجداني، إذ غلب عليها الدلالات الصوفية من خلال أعمدتها، التي اعتبر فيها أن أصل كل الخير هو الاعتماد على الله والانقياد لأمره والرضا بمرضاته، وأصل الحكمة هو الخشية من الله والمخافة من سطوته وسياطه والوجل من مظاهر عدله وقضائه.
اعتبر البهائي أن رأس الدين، هو الإقرار بما نزل من عند الله، واتباع ما شرِّع في محكم كتابه، وأصل العزة هو قناعة العبد بما رزق به، والاكتفاء بما قدر له، وأصل الحب هو إقبال العبد إلى المحبوب، والإعراض عما سواه، ولا يكون مراده إلاّ ما أراد مولاه، بالإضافة إلى أن أصل الذكر عنده، القيام على ذكر المذكور، ونسيان ما دونه، فضلاً من أن رأس التوكل هو اقتراف العبد واكتسابه في الدنيا واعتصامه بالله وانحصار النظر إلى فضل مولاه إذ إليه يرجع أمور العبد في منقلبه ومثواه، كما وأن رأس الانقطاع هو التوجه إلى شطر الله والورود عليه والنظر إليه.
إن مثل هذا الإقرار الذهني والعملي، يبين عن الانقطاع التام إلى الخالق، وتجسيد الفعل الإلهي على الواقع الإنساني، بالتوجه والإخلاص بصدق كل الجوارح، والارتباط بتعاليم الله تعالى، التي من شأنها الارتقاء بالإنسان إلى الأعلى، وعدم الركون إلى هوى النفس التي تشكل مانعاً في المعرفة والارتقاء للانزواء بها إلى عبادة الذات La Culte de moi .
إن كتابة الشيخ البهائي بهذا المضمار، وخاصة في "مشرق الشمسين"، تبين عن مدى فعل كاتبه في التفاصيل والجزئيات، التي تهدف إلى إيضاح النصوص القرآنية، من خلال السنة النبوية الشريفة، وترابط الحديث المنسوب إلى رسوله والأئمة، مما أوجد ملائمة في دلالات الشيخ البهائي العقلية.
8- وفاة الشيخ البهائي
ورد في بعض الروايات التاريخية التي تناولت حياة الشيخ البهائي، وبعض المنشورات المكتوبة بخط اليد، أن المنية كانت قد وافته في مدينة اصفهان، في عام 1030 أو 1031 هجرية، فيما يرى الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي أن وفاته قد كانت سنة 1035 هجريّة، خلافاً لرأي غالبية المؤرخين، ونُقل جثمانه من أصفهان إلى مشهد عملاً بوصيّته، حيث دُفن في داره القريبة من الحضرة الرضوية المشرفة لمقام الإمام علي بن موسى الرضا.
9- الخاتمة
إن ما ورد في هذه الصفحات من معالجة موضوعية لسيرة الشيخ البهائي، ومدى انعكاس سيرته الذاتية على الأبعاد الفكرية، هي عملية واضحة المعالم في بيان الدلالات العقلية والصوفية والهندسية، من خلال الكتابات والآثار التي تركها في كتبه التي جاءت في اللغتين العربية والفارسية.
وتجدر الإشارة إلى أن الدولة الصفوية، كانت تتبنى المذهب السني الحنفي، كأغلب المسلمين في إيران، ولكن مع توسُّع الصراع بمواجهة الدولة العثمانية، اتخذ الشاه إسماعيل الصفوي المذهب الجعفري الشيعي كمذهب لدولته، بالإضافة إلى اعتبار اللغة الفارسية لغة رسمية، وفي ظل هذا الواقع السياسي والاجتماعي، كان الشيخ البهائي أحد أبرز أركان الدولة الصفوية، إلى جانب ما تركته آثاره الفكرية من تفاعل اجتماعي في العراق سواء في كربلاء أو النجف الأشرف. بالإضافة إلى وجود مراقد أئمة من أهل البيت، وقد شرع في زمانه الاهتمام بالفنون والعمران والآداب التي كانت الأرض الخصبة للشيخ البهائي.