في موقع الويكبيديا "الموسوعة الحرة"، يعرّفون "القضية الفلسطينية" بأنها مصطلح يشير إلى "الخلاف السياسي والتاريخي والمشكلة الإنسانية في فلسطين بدءاً من العام 1897 تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول..". هذا الشرح يأتي في أشهر موسوعة يعود إليها الناس والباحثون وحتى الجهلة، وبالتالي فإن اختصار قضية فلسطين على أنها مجرد خلاف سياسي أو مشكلة إنسانية وأيضاً محاولة ربطها في أماكن أخرى من الموسوعة نفسها بالأديان، لهو مؤشر على ما وصلت إليه هذه القضية التي صار يعبر عنها بشتى الألفاظ عدا العبارة التي تحمل حقيقة هذا الصراع وهي أن أرضاً مغتصبة تسمّى فلسطين قام فيها بالقوة أكبر كيان سرطاني في العالم وذلك في أفظع عملية اغتصاب للحق القومي تُجرى بالعنف والعنصرية والقتل العلني تحت شتى الذرائع!
بالعودة إلى بدايات العشرينيات وإثر اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 ومن ثم ولادة ابنها الشرعي وعد بلفور سنة 1917، فإن تركيز الباحثين على دقة المصطلحات أخذ مكانته من أهمية القضية، ولم يكن بالإمكان الاستسهال بالمصطلح أو اللفظ كما هو الحال اليوم، حيث تحوّلت في شروحات ومواقف أنطون سعاده الباحث الأكثر اهتماماً بفلسطين، إلى مصطلح "المسألة" ولم يكن ذلك تخفيفاً من شأنها لأن سعاده اعتبرها المسألة المحورية الأهم بالنسبة للقضية السورية التي تضم مختلف المسائل الأخرى المعنية بوجود الأمة ومن لواء اسكندرون وكيليكية وسيناء والأحواز وقبرص، كلها مسائل تشكل مجتمعة أو فرادى جزءاً من قضية مركزية هي القضية السورية، حسب مصطلحات الفكر السوري القومي الاجتماعي.. في ذلك الوقت، كانت فلسطين هي المقياس الذي يشرح أخلاقية الباحثين والأحزاب والشعراء، وبالتالي كان لا بد من كل الإمكانات والأفراد أن يأخذوا براءة ذمة من المسألة الأهم والأشهر لأنها جوهر الصراع والقول الفصل في تقرير مصير المنطقة كلها، وهنا خرجت إلى الضوء مقولة حرب الوجود نظراً للأهمية الاستراتيجية التي شكلتها فلسطين في الذاكرة والأدبيات والجغرافيا، ونحن هنا نشير بشكل أساسي إلى الفكر القومي الاجتماعي الذي تطوّع مقاتلوه بتوجيه من المفكر سعاده من أجل القتال في فلسطين والدفاع عنها..
بالانتقال إلى مفاصل أخرى تختص بالكتابة والإبداع، فإن نشوء الأدب المقاوم مترافقاً مع أعمال المقاومة كفعل على الأرض، تحول إلى مسألة وطنية وأخلاقية إنسانية لا تعفي أحداً من دفع ضريبتها المعنوية أو المادية، وربما كان أشرف الناس وأصدقهم تاريخاً وممارسة، أولئك الذين هرعوا إلى المعركة في حروب الفلسطينيين والسوريين ضد إسرائيل ولم يعودوا من الجبهة إلا شهداء، ففلسطين كانت الكفّارة التي يهون لأجل عينيها كل شيء حتى غفران تاريخ الأشخاص وعثراتهم أو سقطاتهم في السلوك السياسي أو غيره. لكن المشهد اليوم مختلف للأسف، ففلسطين لم تعد هي القضية المحورية والمركزية في ممارسات الناس والمؤسسات ولم تعد من الخطوط الحمر التي يحرّم تجاوزها من قبل الدول التي راحت تبني العلاقات الطبيعية في العلن وليس في السر مع الكيان السرطاني الذي قطف في العديد من المراحل ثماراً لم يكن يحلم بها في الماضي، وكان ذلك نتيجة طبيعية لتحول مفهوم الصراع من الوجهة القومية إلى الوجهة الدينية والطائفية بين دول تتبع هذا المذهب الإسلامي أو ذاك، وبالتالي كان اليهود في معركة المسلمين مع بعضهم أبناء عمّ يمكن التحالف معهم والتفاوض ومدّ العلاقات في السر والعلن من أجل اغتيال الأخ المفترض في الدين والذي يتبع طائفة ثانية وأهم مثال على ذلك هو صراع الشيعة والسنة اليوم!
بكل بساطة، نجت "إسرائيل" اليوم من مصطلح "المسألة والقضية" وأصبحت دولة شقيقة في العلاقات السياسية المرحلية والاستراتيجية حتى بالنسبة لفئات دينية تحالفت معها من أجل اغتيال فئات أخرى من الدين نفسه، وبعد أن كانت المشكلة في أن نقول "القضية الفلسطينية" أم "المسألة الفلسطينية"، أصبحت مصيبتنا اليوم تتعلّق بوجود فلسطين من الأساس، وأصبحت سورية الجنوبية تُطرح في حلول لمشاريع خطيرة تقضي بتوطين الفلسطينيين في الأردن وإعطائهم الوطن البديل في الصحراء عوضاً عن أراضي 1967 التي أصبح مجرد ذكرها في التفاوض مدعاةً للسخرية عند الساسة الإسرائيليين. نعم، لقد تغيّر المشهد، ولم تبق فلسطين بقيمتها التاريخية التي كانت تقدّمها فيه "المسألة" و"القضية"، موجودة نهائياً حتى في أذهان الجيل خارج الإقليم الفلسطيني على نحو خاص، حيث من الممكن أن تحافظ التربية التي يلقاها الفلسطيني على علاقته بأرضه حتى ولو بعد مئات السنين، لكن الأمر بالنسبة للأخوة في بقية الأماكن السورية البعيدة والنائية عن التماس مع الارض السليبة، يختلف تماماً فهم في أقل وصف غارقون في الصراعات الداخلية وفي الحروب الطائفية والإثنية والمجازر والغزوات، ذلك الأفق المظلم كان من شأنه إلغاء وجود فلسطين "القضية والمسألة" عن الواجهة نهائياً تقريباً، ليتحول ذكرها إلى ما يشبه مفتاح العودة الذي يحمله معهم العجائز الفلسطينيون الذين اعتقدوا في سنة 1948 وسنة 1967 أنهم سيعودون بعد أيام إلى أرض الديار فاستمر نزوحهم حتى اليوم!
من الناحية الثقافية، تتحمل بعض العقائد التي سادت فترات طويلة على طول المشهد العربي وكان لها خيارات التحكم بالبرامج الثقافية والتربوية، الكثير من مسؤولية إسقاط المعنى الجوهري لقدسية القضية، وذلك بسبب عدم الاشتغال على الهوية القومية بشكل علمي ودقيق، وفي الوقت نفسه توضيح مفهوم العلاقة مع الدين والطائفة بالنسبة لأجيال تعلمت أن تمارس التقسيم على مقاعدها المدرسية عندما كان كل أتباع طائفة يأخذون دروس الدين منعزلين عن الفئات الأخرى! هكذا تم تفريغ مصطلح القضية من معناه الحقيقي ليتحول المصطلح القضية إلى شعار ولوغو مرسوم ومكرر بشكل سطحي في الكليشيهات التي تتبناها كثير من الأحزاب العربية التي أغرقت في الارتجال والمراهنة على العروبة التي لم يكن من شأنها الدفاع عن فلسطين، لأنها بكل بساطة خارج دائرة الخطر القومي لسورية، الأم الشرعية لهذه القضية! تلك الحقائق أخّرت في موضوع الوعي وأتاحت لإسرائيل الانتصار في الكثير من معارك المواجهة اللاحقة، وخاصة في المعركة الثقافية وموضوع التعلق بالقضية، حيث بعد تجريد المصطلح من قيمته الوطنية والأخلاقية، صار بكل بساطة مدعاة لليأس والتندّر للأسف!
مسألة محورية جوهرية يمكن أن تضيء على تطورت المسألة أو القضية الفلسطينية في اتجاهها الجوهري، وهي أن الأمة ستتخلى عن الكثير من أراضيها العزيزة بعامل الضعف المادي والمعنوي، لكنها في حالات الحيوية ستستعيد كل أطرافها المقطعة، وبالتالي فإن تطورات القضية لا يمكن أن تُحسم إلا من خلال مشروع حداثوي شامل وكبير يتناول سوريا الطبيعية وهي الأم الشرعية لفلسطين، ويكون موجهاً إلى المنتجين جميعاً في هذه الأرض غلالاً وصناعةً وفكراً، فمعركة استعادة مصطلح فلسطين في "القضية والمسألة" على حد سواء يحتاج إلى إعادة نظر في كل المسلمات والأفكار التي اعتقدنا أنها غير قابلة للجدل، لأن السؤال بكل بساطة يتمحور بكيفية جعل ابن أبعد قرية في سوريا الطبيعية يعمل على قاعدة أن فلسطين بيته وعنوان عزته وكرامته ومستقبل أطفاله! ما يدلّل على صحة هذا التحليل هو السبي البابلي الشهير الذي قام به القائد نبوخذ نصّر الذي قدم من أقصى الشمال الشرقي في العراق أو سوريا الشرقية، إلى فلسطين حيث أنهى وجود المملكة السرطانية بالقوة وسحب أتباعها بالسلاسل إلى بابل.. هذا الأمر لم يكن ليتم إلا في فترات الحيوية الكبيرة للأمة وفي حالات القوة والانتعاش والوعي، وبالتالي فإن ثقافة نبوخذ نصر كانت تحتم عليه بشكل قسري إنهاء ذلك الكيان في فلسطين نظراً لوعيه أن المسألة وجودية ولا تحتمل التأجيل أو التسوية لأنها ليست خلافاً عابراً أو سياسياً كما ورد في "ويكبيديا" أو "الموسوعة الحرة" على شبكة الانترنت!
النبوءات المتخيلة والمتوقعة للمسألة الفلسطينية مستقبلاً لا تبشر بالخير للأسف، هذه الأرض التي لم تعد تحتاج الدراسات والأبحاث بل البرامج والعمل الميداني على أرض الواقع، ستصبح مثل أخواتها من القضايا أو المسائل السورية، قضايا تصعد أو تغيب عن الواجهة تبعاً لنفير الحرب على هذه الجبهة أو تلك، مع أن الحسم النهائي لا يمكن أن يتم إلا بما سميناه المشروع المتكامل المعني بحيوية الأمة ككل، تلك الحيوية التي تتطابق بشكل ما مع طائر الفينيق، حيث من شأنها أن تستعيد أوصالها المقطّعة كلما رفرف هذا الطائر إيذاناً بالتحليق نحو الفضاء، وكلما سكن ولم يحرك جناحيه كما يفترض، كان ذلك دليلاً على التقهقر والانكسار والضعف!